حِينَ أَلْقَتْ بِقُبَاءِ بَرْكِهَا وَاسْتَمَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلِ
أَيْ عَبْدُ الْأَشْهَلِ. وَقَول أبي فؤاد:
يَدْرِينَ حَنْدَلَ حَائِرٌ لِجَنُوبِهَا فَكَأَنَّمَا تُذْكَى سَنَابِكُهَا الْحُبَا
أَرَادَ الْحُبَاحِبَ. وَقَالَ الْأَخْطَلُ:
أَمْسَتْ مَنَاهَا بِأَرْضٍ مَا يُبَلَّغُهَا بِصَاحِبِ الْهَمِّ إِلَّا الْجَسْرَةُ الْأُجُدُ
أَرَادَ مَنَازِلَهَا. وَوَقَعَ ( «طِرَازِ الْمُجَالِسِ» - الْمَجْلِسِ) (١) لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مَعَ التَّوْرِيَةِ كَقَوْلِ ابْنِ مَكَانِسَ:
لَمْ أَنْسَ بَدْرًا زَارَنِي لَيْلَةً مُسْتَوْفِزًا مَطْلَعًا لِلْخَطَرِ
فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا قُلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْ
أَرَادَ بَعْضَ كَلِمَةِ مَرْحَبًا وَقَدْ أَكْثَرْتُ مِنْ شَوَاهِدِهِ تَوْسِعَةً فِي مَوَاقِعِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْغَرِيبِ وَلَسْتُ أُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ حَمْلِ حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَعَ التَّوْرِيَةِ بِجَعْلِ مَرَّ مِنَ الْمُرُورِ.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى أَحْوَالٍ مِنْ تَزْكِيَةِ الْقَلْبِ، وَجَعَلَهَا فِي «الْفُتُوحَاتِ» فِي الْبَابِ الثَّانِي إِيمَاءً إِلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جُمْلَةَ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَلَى تَكْرَارِ الْحُرُوفِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعُونَ حَرْفًا وَالثَّمَانِيَةُ هُنَا هِيَ حَقِيقَةُ الْبِضْعِ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالْكَشْفِ فَيَكُونُ عَدَدُ الْحُرُوفِ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»
فَهَذِهِ الْحُرُوفُ هِيَ شُعَبُ الْإِيمَانِ، وَلَا يَكْمُلُ لِأَحَدٍ أَسْرَارَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي سُوَرِهَا. وَكَيْفَ يَزْعُمُ زَاعِمٌ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي مَعَانٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ مَعَ ثُبُوتِ تَلَقِّي السَّامِعِينَ لَهَا بِالتَّسْلِيمِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَانِدٍ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهَا مَعْنًى مَعْرُوفًا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ لَسَأَلَ السَّائِلُونَ وَتَوَرَّكَ الْمُعَانِدُونَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ حم فُصِّلَتْ وص وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ قُلْتُ وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا فَقَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدُواُُ
_________
(١) نسبه إِلَيْهِ الْمبرد فِي «الْكَامِل» ص ٢٤٥. وسيبويه فِي «كِتَابه» ص ٥٧ جُزْء ٢ وتبعهما الْمُفَسِّرُونَ.

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩٤]

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فُصِلَتْ عَنْ سَوَابِقِهَا لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعْمِيمَ الْأَمْكِنَةِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ كَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَسَاءَلُ عَمَّا يُمَاثِلُ الْبِقَاعَ الْحَرَامَ وَهُوَ الْأَزْمِنَةُ الْحَرَامُ أَعْنِي الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الَّتِي يُتَوَقَّعُ حَظْرُ الْقِتَالِ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا تَشْرِيعًا نَازِلًا عَلَى غَيْرِ حَادِثَةٍ فَهُوَ اسْتِكْمَالٌ وَاسْتِفْصَالٌ لِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُهِمِّ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا عَلَى سَبَبٍ كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامِ الْقَضِيَّةِ لَمَّا قَصَدُوا مَكَّةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ مُعْتَمِرِينَ خَشَوْا أَلَّا يَفِيَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِدُخُولِ مَكَّةَ أَوْ أَنْ يَغْدُرُوهُمْ وَيَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِالْقِتَالِ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ وَهُمْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَإِنْ دَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ الشَّهْرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَوْ مَا
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ: أَنَهَيْتَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَالَ:
نَعَمْ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
أَيْ إِنِ اسْتَحَلُّوا قِتَالَكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَاتِلُوهُمْ أَيْ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ قِتَالَ الْمُدَافَعَةِ، فَإِطْلَاقُ الشَّهْرِ هُنَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَاضِحُ التَّقْدِيرِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ وَصْفِهِ بِالْحَرَامِ، وَالتَّقْدِيرُ حُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَتَكْرِيرُ لَفْظِ الشَّهْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ التَّعَدُّدُ بَلِ التَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ جِهَةِ إِبْطَالِ حُرْمَتِهِ أَيِ انْتِهَاكُهُمْ حُرْمَتَهُ تُسَوِّغُ لَكُمُ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، أَنَّ قُرَيْشًا صَدَّتْهُمْ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الرُّجُوعَ عَامَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي دَخَلْتُمْ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الَّذِي صُدِدْتُمْ فِيهِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: «يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ».
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالشَّهْرِ الْحَرامِ لِلتَّعْوِيضِ كَقَوْلِهِمْ: صَاعًا بِصَاعٍ وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَهْرَانِ بَلِ الْمُرَادُ انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ وَهُمَا انْتِهَاكَانِ.
الْأُسْلُوبِ. وَالْمَعْنَى: يُدْعَوْنَ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرِ فِي مَعَانِيهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيَأْبَوْنَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابِ اللَّهِ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا غُيِّرَ اللَّفْظُ تَفَنُّنًا وَتَنْوِيهًا بِالْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، أَيْ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِهِمْ لِيَتَأَمَّلُوا مِنْهُ، فَيَعْلَمُوا تَبْشِيرَهُ بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَتَلْمِيحَهُ إِلَى صِفَاتِهِ.
رُوِيَ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مِدْرَاسَ الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ- قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- قَالَا: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةَ فَهَلُمُّوا إِلَيْهَا، فَأَبَيَا،
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ (ثُمَّ) عَاطِفَةُ جُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عَلَى جملَة يُدْعَوْنَ فالمعطوفة هُنَا فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فَدَلَّتْ (ثُمَّ) عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُسْتَمِرٌّ فِي أَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ تَبْعُدُ عَنْ زَمَانِ الدَّعْوَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُعْرِضُ غَضَبًا، أَوْ لِعِظَمِ الْمُفَاجَأَةِ بِالْأَمْرِ غَيْرِ الْمُتَرَقَّبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ رُشْدُهُ، وَيُرَاجِعُ نَفْسَهُ، فَيَرْجِعُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ إِثْرَ الدَّعْوَةِ دُونَ تَرَاخٍ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ.
فَدُخُولُ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَوَلَّوْنَ إِثْرَ الدَّعْوَةِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَتَوَلَّوْنَ بَعْدَ أَنْ أُوتُوا الْكِتَابَ وَنَقَلُوهُ، فَإِذَا دُعُوا إِلَى كِتَابِهِمْ تَوَلَّوْا. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتَوَلَّوْنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ ابْن عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
وَالتَّوَلِّي مَجَازٌ عَنِ النُّفُورِ وَالْإِبَاءِ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ إِذِ التَّوَلِّي هُوَ الْإِعْرَاضُ، وَلَمَّا كَانَتْ حَالًا لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ فَكَانَتْ دَالَّةً عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ، مِنْهُمُ الْمُفَادُ أَيْضًا مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِسَبَبِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً،
وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَحْرِمُ الْمَرْأَةَ حُظُوظًا كَثِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ»
. وَ (مِنْ) لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَدْخُلُونَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ- عَلَى الْبناء للنائب.
[١٢٥، ١٢٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٢٥ إِلَى ١٢٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاء: ١٢٤] الَّذِي مَا صدقه الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ، فَلَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَهُ بِتَفْضِيلِ دِينِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى التَّمْيِيزِ. وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَامِ الطَّاعَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْكِنَايَاتِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَفِيهِ مَا كَانَ بِهِ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَفِي الْقُرْآنِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠]. وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَقَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: ١٥]، وَيَقُولُونَ: أَخَذَ بِسَاقِهِ، أَيْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِإِمْسَاكِ الرُّعَاةِ الْأَنْعَامَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»
وَيَقُولُونَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الْقِيَادَ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ الزِّمَامَ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
يَقُولُ أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ وَيَقُولُونَ: يَدِي رَهْنٌ لِفُلَانٍ. وَأَرَادَ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ بَيَان لهَذَا عَنَّا، قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَقَوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢].
ذَلِكَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، أَيِ الْمُحِقِّ، بَلْ هُوَ هُنَا مِثْلُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ (حَفِظَ وَرَقَبَ) وَنَحْوُهُمَا، أَيْ وَكَانُوا حَفَظَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُرَّاسًا لَهُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ وَيَحْمِلُونَ أَتْبَاعَهُ عَلَى حَقِّ فَهْمِهِ وَحَقِّ الْعَمَلِ بِهِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِجُمْلَةِ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ الْمُتَفَرِّعَةِ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، إِذِ الْحَفِيظُ عَلَى الشَّيْءِ الْأَمِينُ حَقُّ الْأَمَانَةِ لَا يَخْشَى أَحَدًا فِي الْقِيَامِ بِوَجْهِ أَمَانَتِهِ وَلَكِنَّهُ يَخْشَى الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ
لِيَهُودِ زَمَانَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَمَّا حُكِيَ عَنْ فِعْلِ سَلَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِخَلَفِهِمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَرِضَةٌ وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ فَهِيَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: فَلَا تَخْشَوُا النّاس. والتّفريع ناشىء عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِحْفَاظِ يَظْهَرُ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ رَضُوا أَمْ سَخِطُوا، وَفِي قَصْرِ الِاعْتِدَادِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١].
وَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى خَشْيَةِ النَّاسِ هُنَا أَنْ تُخَالَفَ أَحْكَامُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ اللَّهِ لِإِرْضَاءِ أَهْوِيَةِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا عُقِّبَتْ بِهِ تِلْكَ الْعِظَاتُ الْجَلِيلَةُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمَقْصُودُ الْيَهُودُ وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ صُنْعِهِمْ.
وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْفَرِيقَ الْخَاصَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَخْفَوْا بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِثْلَ حُكْمِ الرَّجْمِ فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِمَا جَحَدُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْكُفْرِ مِنْ قَبْلُ فَإِذَا لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَذَلِكَ مِنْ آثَارِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ.
وَفُصِلَ فِعْلُ قُلْ فَلَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ فَجَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ آيَةً عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ إِلَّا إِذَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ. فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ انْتِفَاءُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى إِجَابَةَ مُقْتَرَحِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَوْ شَاءَ لَزَادَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ.
فَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْجَوَابِ إِثْبَاتٌ لِلرَّدِّ بِالدَّلِيلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ،- أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَفَعَلَهُ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ إِلَى مقترحهم يدلّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَذَلِكَ مِنْ ظُلْمَةِ عُقُولِهِمْ، فَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ.
فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ هَذَا الرَّدُّ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: ٨] فَإِنَّ ذَلِكَ نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَتِهِمْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِبْقَاؤُهُمْ، وَهَذَا نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ الْآيَاتِ دَلَائِلَ مُنَاسِبَةً لِلْغَرَضِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةَ تَدُلُّ عَقْلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ النَّتِيجَةَ هِيَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَاقِعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهُ فِي الِاعْتِبَارِ فَلِذَلِكَ نَجِدُ الْقُرْآنَ يَذْكُرُ الْحُجَجَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، كَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَإِخْرَاجِ
فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: ١٦٤] تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ، بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ، فَتكون بِشَارَة للأمّة بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ:
الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ.
وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِمَا يخلف بِهِ شَيْء، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أَيْ عِوَضَهُ، يُقَالُ: خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ.
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) على لوجه الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩]- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: ٧٤]- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٩]. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَم الَّتِي قبلهَا لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ.
عَلَيْكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
فَالرِّجْسُ هُوَ الشَّيْءُ الْخَبِيثُ، أُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى خُبْثِ الْبَاطِنِ، أَيْ فَسَادِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥]- وَقَوْلِهِ- كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٥]. وَالْمَعْنَى أَصَابَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ بِالْفَسَادِ لِكُفْرِهِمْ فَلَا يَقْبَلُونَ الْخَيْرَ وَلَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الرِّجْسَ هُنَا بِاللَّعْنَةِ، وَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الرِّجْسَ هُنَا بِالْعَذَابِ، فَيَكُونُ فِعْلُ: وَقَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، إِشْعَارًا بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الرِّجْسَ بِالسَّخَطِ، وَفَسَّرَ الْغَضَبَ بِالْعَذَابِ، عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَثَرُ الْغَضَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ هُودٌ بِذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِوَحْيٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مِنْ حِينِ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، إِذْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْحُجَّةَ فَإِنَّ عَدَمَ رُجُوعِهِمْ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ خُبْثَ قُلُوبِهِمْ مُتَمَكِّنٌ لَا يَزُولُ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُمْ إِيمَانٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنُوحٍ: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ١٣٦].
وَغَضَبُ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ: الْإِبْعَادُ وَالْعُقُوبَةُ وَالتَّحْقِيرُ، وَهِيَ آثَارُ الْغَضَبِ فِي الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْغَضَبِ: انْفِعَالٌ تَنْشَأُ عَنْهُ كَرَاهِيَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَإِبْعَادُهُ وَإِضْرَارُهُ.
وَتَأْخِيرُ الْغَضَبِ عَنِ الرِّجْسِ لِأَنَّ الرِّجْسَ، وَهُوَ خُبْثُ نُفُوسِهِمْ، قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُمْ عَلَى خُبْثٍ بِحَيْثُ كَانَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الضَّلَالِ أَمْرًا جِبِلِّيًّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ. فَوُقُوعُ الرِّجْسِ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ حَاصِلٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ قَوْلِ
هود. واقترانه ب قَدْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ: مِثْلُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَتَقْدِيمُ: عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى فَاعِلِ الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْجِيلِ ذِكْرِ الْمَغْضُوبِ وَالْغَاضِبِ، إِيقَاظًا لِبَصَائِرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَجْرُورَيْنِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ فَنَاسَبَ إِيلَاؤُهُمَا إِيَّاهُ، وَلَوْ ذُكِرَا بَعْدَ الْفَاعِلِ
(١٩٠)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهَا الْكَلَامُ إِلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مِنَ الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف:
١٧٢] الْآيَةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: ١٨٨] لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقُولَ قُصِدَ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ وَصْفِ الرِّسَالَةِ وَعِلْمِ الرَّسُولِ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْآخَرُ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ عُقُولِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَإِشْرَاكِ آبَائِهِمْ.
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ جَرَيَانُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: ١٨٨] وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي خَلَقَكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالتَّذْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ هَذَا الْكَلَامِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَقَدْ صَدَّرَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ النَّوْعِ الْمُبْتَدَأِ بِخَلْقِ أَصله وَهُوَ ءادم وَزَوْجُهُ حَوَّاءُ تَمْهِيدًا لِلْمَقْصُودِ.
وَتَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِاسْمِ الْجَمْعِ، فِي مِثْلِهِ، فِي الِاسْتِعْمَالِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ، أَيْ جُمْلَةُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، أَيْ خَلَقَ مَجْمُوعَ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ آدَمَ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ جَمِيعُ الْبَشَرِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْجَمِيعِيَّ أَيْ خَلَقَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ الْأَبُ، أَيْ أَبُو كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: ٣٩].
وَلَفْظُ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَحْدَهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ فِي كِلَا الْخَلْقَيْنِ امْتِنَانًا، وَفِي كليهمَا اعْتِبَارا واتعاضا.
وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ جَعَلُوا الْأَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْفَخْرُ، وَالْبَيْضَاوِيُّ

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٣]

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
اسْتَأْذَنَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ وَأَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ، إِذْ كَانَ ظَاهِرُ حَالِهِمُ الْإِيمَانَ، وَعِلْمًا بِأَنَّ الْمُعْتَذِرِينَ إِذَا أُلْجِئُوا إِلَى الْخُرُوجِ لَا يُغْنُونَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَة: ٤٧] فعاتب الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ أَذِنَ لَهُمْ،
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ [مُحَمَّد: ٣٠].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهُ غَرَضٌ أُنُفٌ.
وَافْتِتَاحُ الْعِتَابِ بِالْإِعْلَامِ بِالْعَفْوِ إِكْرَامٌ عَظِيمٌ، وَلَطَافَةٌ شَرِيفَةٌ، فَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِالْعِتَابِ. وَفِي هَذَا الِافْتِتَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ خِفَّةِ مُوجِبِ الْعِتَابِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَتَسْمِيَةُ الصَّفْحِ عَنْ ذَلِكَ عَفْوًا نَاظِرٌ إِلَى مَغْزَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ.
وَأُلْقِيَ إِلَيْهِ الْعِتَابُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مَا أَذِنَ لَهُمْ إِلَّا لِسَبَبٍ تَأَوَّلَهُ وَرَجَا مِنْهُ الصَّلَاحَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِحَيْثُ يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ فِي اسْتِعْمَالِ السُّؤَالِ مِنْ سَائِلٍ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَهَذَا مِنْ صِيَغِ التَّلَطُّفِ فِي الْإِنْكَارِ أَوِ اللَّوْمِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُنْكِرُ نَفْسَهُ كَالسَّائِلِ عَنِ الْعِلَّةِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ تَرْكَ الْإِذْنِ كَانَ أَجْدَرَ بِتَبْيِينِ حَالِهِمْ، وَهُوَ غَرَضٌ آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَذِنْتَ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ.
وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ مَعَ الِاهْتِمَامِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ تَشْنِيعًا لِتَعْلِيقِ الِافْتِرَاءِ بِهِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَذِنَ لِظُهُورِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ بذلك الْجعل.
[٦٠]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٦٠]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ [يُونُس: ٥٩]، فَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَمَا لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ لِيَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلِذَلِكَ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ (هُمْ) مُضَافًا إِلَيْهِ الظَّنُّ إِمَّا ضَمِيرِ خِطَابٍ أَوْ غَيْبَةٍ. فَيُقَالُ: وَمَا ظَنُّكُمْ أَوْ وَمَا ظَنُّهُمْ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ بِالصِّلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّرْدِيدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِيمَا حَرَّمُوهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَرِينَ عَلَيْهِ قَدِ انْحَصَرَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُفْتَرِينَ إِذْ لَا مَسَاغَ لَهُمْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ فَقَدْ صَارَ الِافْتِرَاءُ حَالَهُمُ الْمُخْتَصَّ بِهِمْ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِعِلَّةِ التَّعْجِيبِ مِنْ ظَنِّهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولَا الظَّنِّ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ مَا ظَنُّهُمْ بِحَالِهِمْ وَبِجَزَائِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَذِبًا، وَلَكِنَّهُ عُرِّفَ لِتَفْظِيعِ أَمْرِهِ، أَيْ هُوَ الْكَذِبُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ الْمُسْتَقْبَحِ فِي الْعُقُولِ.
ويَوْمَ الْقِيامَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ الظَّنُّ، أَيْ مَا هُوَ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ إِذَا رَأَوُا الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ مَاذَا يَكُونُ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ لَاقُونِ، وَهَذَا تَهْوِيلٌ.
يُفِيدُ عَدَمَ اعْتِدَادِهِمْ بِالْأَحْلَامِ، فَإِنَّ الْأَحْلَامَ فِي الْبَيْتِ هِيَ مِرَائِي النَّوْمِ.
وَلَكِنَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْحِجْرِ أَنَّهُ أَتَاهُ آتٍ فَأَمَرَهُ بِحَفْرِ بِئْرِ زَمْزَمَ فَوَصَفَ لَهُ مَكَانَهَا، وَكَانَتْ جُرْهُمْ سَدَمُوهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ: «رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ فَوَقَفَ بِالْأَبْطُحِ ثُمَّ صَرَخَ: يَا آلَ غَدَرَ اخْرُجُوا إِلَى مُصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ» فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ عَقِبَهَا بِثَلَاثِ لَيَالٍ.
وَقَدْ عُدَّتِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةُ فِي أُصُولِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَهِيَ مِنْ تُرَاثِهَا عَنْ حِكْمَةِ الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ مِثْلَ الْحَنِيفِيَّةِ. وَبَالَغَ فِي تَقْرِيبِهَا بِالْأُصُولِ النَّفْسِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ الْحَكِيمُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي هَيَاكِلِ النُّورِ وَحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ، وَأَبُو عَلِيٍّ بن سِينَا فِي الْإِشَارَاتِ بِمَا حَاصِلُهُ: وَأَصْلُهُ: أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ (وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ) هِيَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي مَقَرُّهَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ، فَهِيَ قَابِلَةٌ لِاكْتِشَافِ الْكَائِنَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي هَذَا الْقَبُولِ، وَأَنَّهَا تُودَعُ فِي جِسْمِ الْجَنِينِ عِنْدَ اكْتِمَالِ طَوْرِ الْمُضْغَةِ، وَأَنَّ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ آثَارًا مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ يَنْتَقِشُ بَعْضُهَا بِمَدَارِكِ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي لَوْحِ حِسِّهِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ عَنِ الِانْتِقَاشِ شَاغِلَانِ: أَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ خَارِجِيٌّ، وَالْآخَرُ بَاطِنِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ، وَقُوَى النَّفْسِ مُتَجَاذِبَةٌ مُتَنَازِعَةٌ فَإِذَا اشْتَدَّ بَعْضُهَا ضَعُفَ الْبَعْضُ الْآخَرُ كَمَا إِذَا هَاجَ الْغَضَبُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ، فَكَذَلِكَ إِنْ تَجَرَّدَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ لِلْعَمَلِ شُغِلَ عَنِ الْحِسِّ الظَّاهِرِ، وَالنَّوْمُ شَاغِلٌ لِلْحِسِّ، فَإِذَا قَلَّتْ شَوَاغِلُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ فَقَدْ تَتَخَلَّصُ النَّفْسُ عَنْ شَغْلِ مُخَيِّلَاتِهَا، فَتَطَّلِعُ عَلَى أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ، فَتَكُونُ الْمَنَامَاتُ الصَّادِقَةُ.
وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ حَالَةٌ يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ زَكَتْ نُفُوسُهُمْ فَتَتَّصِلُ نُفُوسُهُمْ بِتَعَلُّقَاتٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَاتٍ مِنْ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ فَتَنْكَشِفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الْمُغَيَّبَةُ بِالزَّمَانِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَوِ الْمُغَيَّبَةُ بِالْمَكَانِ قَبْلَ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا اطِّلَاعًا عَادِيًّا، وَلذَلِك
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِيدٍ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَدَلَ
عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَخَابُوا، إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لِمِثْلِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا.
وَالِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [سُورَة الْأَنْفَال: ١٩].
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَعَاظِمُ الشَّدِيدُ التَّكَبُّرِ.
وَالْعَنِيدُ الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ. وَتَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٩]. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَعَاظِمُونَ، فَوَصْفُ جَبَّارٍ خُلُقٌ نَفْسَانِيٌّ، وَوَصْفُ عَنِيدٍ مِنْ أَثَرِ وَصْفِ جَبَّارٍ لِأَنَّ الْعَنِيدَ الْمُكَابِرَ الْمُعَارِضَ لِلْحُجَّةِ.
وَبَيْنَ خافَ وَعِيدِ وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ صِفَةٌ لِ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَيْ خَابَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ ذَلِكَ حَظُّهُ مِنَ الْعِقَابِ بَلْ وَرَاءَهُ عِقَابُ الْآخِرَةِ.
وَالْوَرَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَحِلُّ بِهِ مِنْ بَعْدُ، فَاسْتُعِيرَ لِذَلِكَ بِجَامِعِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحُصُولِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ الْمَرْءِ لَا يَشْعُرُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سُورَة الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ وَلَوْ ظفر بهم لَا فتك سَفِينَتَهُمْ، وَقَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبٌ
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَرَاءِ عَلَى مَعْنَى مِنْ بَعْدِ فَاسْتِعْمَالٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَيْسَ عَيْنَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ تَنْتَظِرُهُ، أَيْ فَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
أَفْرَادِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَاجَاتِ الْأَمْزِجَةِ إِلَى الِاسْتِشْفَاءِ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَحْمَلُ مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا. ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلا فبرىء»
. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُودِهِ فِي الْعَسَلِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ أَخِي السَّائِلِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مُعَارِضُ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ، فَإِنَّ خَبَرَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعَسَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَاقٍ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ.
وَمِنْ لَطِيفِ النَّوَادِرِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْلِ فِي الْآيَةِ عَلِيٌّ وَآلِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ: إِنَّمَا النَّحْلُ بَنُو هَاشِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهِمُ الْعِلْمُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم، فَضَحِك الْمهْدي وحدّث بِهِ الْمَنْصُور فاتّخذوه أُضْحُوكَةً مِنْ أَضَاحِيكِهِمْ.
قُلْتُ: الرَّجُلُ الَّذِي أَجَابَ الرَّافِضِيَّ هُوَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ بِشَّارٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مِثْلُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُمَاثِلَتَيْنِ لَهَا. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَاخْتِيرَ وَصْفُ التَّفَكُّرِ هُنَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَتْهُ الْآيَةُ فِي نِظَامِ النَّحْلِ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ دَقِيقٍ، وَنظر عميق.
وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْمُسْتَبْعَدُ أَوِ الْمُحَالُ.
وَالْقَبِيلُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ هُمْ قَبِيلٌ خَاصٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِفَرِيقٍ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ.
وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ.
وَإِنَّمَا عُدِّيَ تَرْقى فِي السَّماءِ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرُّقِيَّ تَدَرُّجٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَمَنْ يَصْعَدُ فِي الْمِرْقَاةِ وَالسُّلَّمِ.
ثُمَّ تَفَنَّنُوا فِي الِاقْتِرَاحِ فَسَأَلُوهُ إِنْ رَقَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِكِتَابٍ يَنْزِلُ من السَّمَاء يقرؤونه، فِيهِ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ.
وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا كَامِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُوا قَدْ أَلْحَدُوا بِتَنْجِيمِ الْقُرْآنِ، تَوَهُّمًا بِأَنَّ تَنْجِيمَهُ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ التَّنْجِيمَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي التَّأَمُّلَ وَالتَّصَنُّعَ فِي تَأْلِيفِهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ بَيَانُ حِكْمَةِ تَنْجِيمِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرُقِيِّكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّبْيِينِ. عَلَى أَنَّ «رُقِيَّكَ» مَفْعُولُ نُؤْمِنَ مِثْلُ قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَيَكُونُ ادِّعَاءُ الرُّقِيِّ مَنْفِيًّا عَنْهُ التَّصْدِيقُ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ. وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعِلَّةِ وَمَفْعُولُ نُؤْمِنَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ لِأَجْلِ رُقِيِّكَ هِيَ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُ لَوْ رَقَى فِي السَّمَاءِ لَكَذَّبُوا أَعْيُنَهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يَرَوْنَهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ مِنْهُمْ وَتَهَكُّمٌ.
وَلَمَّا كَانَ اقْتِرَاحُهُمُ اقْتِرَاحَ مُلَاجَّةٍ وَعِنَادٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ كَلَامِهِمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَ رَبِّي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَمَا
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٥، ٤٦].
وَالذَّهَابُ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَهَابٌ خَاصٌّ، قَدْ فَهِمَهُ مُوسَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْإِخْبَارِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ لَهُ، أَوْ صَرَّحَ لَهُ بِهِ وَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ التّعليل الْوَاقِع بعده ينبىء بِهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَلُحَتْ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابٌ خَاصٌّ، وَهُوَ إِبْلَاغُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِ من تَغْيِيره عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَلَمَّا عَلِمَ مُوسَى ذَلِكَ لَمْ يُبَادِرْ بِالْمُرَاجَعَةِ فِي الْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ، بَلْ تَلَقَّى الْأَمْرَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ، بِمَا يؤول إِلَى رَبَاطَةِ جَأْشِهِ وَخَلْقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى تَبْلِيغِهِ، وَإِعْطَائِهِ فَصَاحَةَ الْقَوْلِ لِلْإِسْرَاعِ بِالْإِقْنَاعِ بِالْحُجَّةِ.
وَحُكِيَ جَوَابُ مُوسَى عَنْ كَلَامِ الرَّبِّ بِفِعْلِ الْقَوْلِ غَيْرِ مَعْطُوفٍ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَرَتَّبَ مُوسَى الْأَشْيَاءَ الْمَسْئُولَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْوَاقِعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَضٍ لِلْعَدْلِ عَنْهُ.
فَالشَّرْحُ، حَقِيقَتُهُ: تَقْطِيعُ ظَاهِرِ شَيْءٍ لَيِّنٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِزَالَةِ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ خَوَاطِرَ تُكَدِّرُهُ أَوْ تُوجِبُ تَرَدُّدَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى عَمَلٍ مَا تَشْبِيهًا بِتَشْرِيحِ اللَّحْمِ بِجَامِعِ التَّوْسِعَةِ.
وَالْقَلْبُ: يُرَادُ بِهِ فِي كَلَامِهِمُ وَالْعقل. فَالْمَعْنَى: أَزِلْ عَنْ فِكْرِي الْخَوْفَ وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَعْتَرِضُ الْإِنْسَانَ مِنْ عَقَبَاتٍ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِإِقْدَامِهِ وَعَزَامَتِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعُسْرِ، فَسَأَلَ تَيْسِيرَ أَمْرِهِ، أَيْ إِزَالَةَ الْمَوَانِعِ الْحَافَّةِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ.
وَ (قَدَّمَتْ) بِمَعْنَى: أَسْلَفَتْ. جَعَلَ كُفْرَهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَى دَار الْجَزَاء قبل أَنْ يَصِلَ هُوَ إِلَيْهَا فوحده يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاضِرًا يَنْتَظِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حاضِراً
[الْكَهْف: ٤٩].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَذَابِ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَعُطِفَ عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل مصدر، أَيْ وَبِانْتِفَاءِ ظُلْمِ اللَّهِ الْعَبِيدَ، أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ مُسَبَّبٌ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَصَاحِبُهُ حَقِيقٌ بِهِ لِأَنَّهُ جَزَاء فَسَاده وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ فِيمَا أَذَاقَهُ.
وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا نَفْيَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظُلْمٌ أَمر شَدِيد فيصغت لَهُ زِنَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَكَذَلِكَ الْتُزِمَتْ فِي ذِكْرِهِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اعْتَادَ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةً لِلنَّفْيِ لَا لِلْمَنْفِيِّ وَهُوَ بعيد.
[١١]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١)
هَذَا وَصْفُ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الَّذِينَ يُقَابِلُونَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالْإِنْذَارَ بِالسَّاعَةِ مُقَابَلَةَ غَيْرِ الْمُطْمَئِنِّ بِصِدْقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا الْمُعْرِضِ عَنْهَا إِعْرَاضًا تَامًّا وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِضِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ دِينِهِمُ الْقَدِيمِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ. فَهُمْ يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ
أَيْ بِالطَّغْوَى وَهِيَ الطُّغْيَانُ فَذَكَرَ ضَمِيرَ ثَمُودَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ لِمُحَسِّنِ الْمُزَاوَجَةِ (١).
وَمِنْ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نَظَرِ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ إِلَى مَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِظْهَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَسَدِهَا. وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَكَلَامُ فُقَهَائِهِمْ فِي هَذَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِهِمْ قَوْلُ خَلِيلٍ فِي «التَّوْضِيحِ» عِنْدَ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَعَوْرَةُ الْحُرَّةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ (٢) : أَمَّا الْكَافِرَةُ فَكَالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ الرِّجَالِ اتِّفَاقًا اهـ.
وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لَا تَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ «الْمِنْهَاجِ» الْبَيْضَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ فِي «التَّفْسِيرِ». وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لَا تَتَوَرَّعُ عَنْ أَنْ تَصِفَ لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمَةَ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ: «أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ
_________
(١) وَقد تقع الْإِضَافَة إِلَى مثل هَذَا الضَّمِير بِدُونِ مزاوجة، فَيكون ذكر الضَّمِير مُسْتَغْنى عَنهُ وَلَا دَاعِي إِلَيْهِ فَيكون بِمَنْزِلَة اعْتِمَاد فِي الْكَلَام كَمَا فِي قَول عَامر بن جُوَيْن الطَّائِي:
فَلَا مزنة ودقت ودقها وَلَا أَرض أبقل إبقالها
أَي ودقت ودقا وأبقلت إبقالا. وَمِنْه قَول بعض بني نمير:
رمى قلبه الْبَرْق الملألئ رميه فهيّج أسقاما فَبَاتَ يهيم
أنْشدهُ الشَّيْخ الْجد سَيِّدي مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور فِي «شَرحه»
على «الْبردَة» نقلا عَن ابْن مَرْزُوق فِي الْبَيْت الثَّانِي من أَبْيَات الْبردَة.
(٢) هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحَاج الْعَبدَرِي الْمَالِكِي الفاسي الْمُتَوفَّى سنة/ ٧٣٧/ هـ. لَهُ كتاب «الْمدْخل إِلَى تَتِمَّة الْأَعْمَال».
كَانَ الشِّعْرُ كَذِبًا لَا قَرِينَةَ عَلَى مُرَادِ صَاحِبِهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَانَ كَذِبًا مُعْتَذَرًا عَنْهُ فَكَانَ غَيْرَ مَحْمُودٍ.
وَفِي هَذَا إِبْدَاءٌ لِلْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ حَالِ الشُّعَرَاءِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُصَانِعُ وَلَا يَأْتِي بِمَا يُضَلِّلُ الْأَفْهَامَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ أَنْشَدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَوْلَهُ:
فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ شِعْرًا:
مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إِلَى أَنْ قَالَ:
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ (١)
فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ.
وَقَدْ كُنِّيَ بِاتِّبَاعِ الْغَاوِينَ إِيَّاهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ غَاوِينَ، وَأُفِيدَ بِتَفْظِيعِ تَمْثِيلِهِمْ بِالْإِبِلِ الْهَائِمَةِ تَشْوِيهُ حَالَتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الشِّعْرِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ إِنَاطَةُ الْخَبَرِ بِالْمُشْتَقِّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ بِعَيْنِ الْغَضِّ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ... مِنْ عُمُومِ الشُّعَرَاءِ، أَيْ مِنْ حُكْمِ ذَمِّهِمْ. وَبِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَذْمُومِينَ هُمْ شُعَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الشِّعْرُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
_________
(١) الْجَوْسَقِ: الْقصر، كَانَ أهل البطالة والخلاعة يأوون إِلَى الْقُصُور المتروكة.
جاهَدَ بِقَسِيمٍ لِمَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ بَلِ الْجِهَادُ مِنْ عَوَارِضِ مَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ.
وَالْجِهَادُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَهَدَ كَمَنَعَ، إِذَا جَدَّ فِي عَمَلِهِ وَتَكَلَّفَ فِيهِ تَعَبًا، وَلِذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي نَصْرِ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشَاقِّ وَالْأَذَى اللَّاحِقَةِ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَنَبْذِ دِينِ الشِّرْكِ حَيْثُ تَصَدَّى الْمُشْرِكُونَ لِأَذَاهُمْ. فَإِطْلَاقُ الْجِهَادِ هُنَا هُوَ مِثْلُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي [العنكبوت: ٨]، وَمِثْلُ إِطْلَاقِهِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَفَلَ من إِحْدَى غزاوته «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
. وَهَذَا الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جِهَادُ الْقِتَالِ فِي مَكَّةَ.
وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ أَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لِيَتَأَتَّى لَهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْجِهَادِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ قِتَالُ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، وَيَكُونُ ذكره هُنَا لإعداد نُفُوسِ الْمُسلمين لما سيلجأون إِلَيْهِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرُّوا إِلَيْهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الْفَتْح: ١٦] ومناسبة التَّعَرُّض لَهُ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت: ٥] تَضَمَّنَ تَرَقُّبًا لِوَعْدِ نَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ جِهَادٍ شَدِيدٍ وَهُوَ مَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ يُدَافِعُ صَدَّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ دِفَاعًا عَنْ دِينِ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا بِهِ نَصْرُهُمْ وَسَلَامَةُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَسَاسُ سُلْطَانِهِمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَهِيَ عَجُوزٌ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: «مرْحَبًا بابنة نبيء ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ»
. وَلَيْسَ لِذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْعَرَبُ كُلُّهُمْ أَوِ الَّذِينَ شَمِلَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ وَصْفُ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ وَقْتِ تَحَقُّقِ قَوْمِيَّتِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ: تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ الْأَقْوَامِ إِلَى نَذِيرٍ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ هُدًى وَأَثَارَةُ هِمَمِهِمْ لِاغْتِبَاطِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَتَقَبَّلُوا الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ السَّبْقُ فِي الشَّرْعِ الْأَخِيرِ كَمَا كَانَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّبْقُ بِبَعْضِ الِاهْتِدَاءِ وَمُمَارَسَةِ الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَقَدِ اهْتَمَّ بَعْضُ أَهْلِ الْأَحْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ بِتَطَلُّبِ الدِّينِ الْحَقِّ فَتَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْ عَرَبِ الْيمن، وتنصّرت طَيء وَكَلْبٌ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَتَتَّبَعَ الْحَنِيفِيَّةَ نَفَرٌ مِثْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَطَلُّبًا لِلْكَمَالِ وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ بِذَلِكَ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَ الرِّسَالَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا يُنَافِي عُمُومَ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، لِأَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا كَوْنَ مَا بَعْدَهَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ دُونَ انْحِصَارِ بَاعِثِ الْفِعْلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِد قد تكون لَهُ بَوَاعِثُ كَثِيرَةٌ، وَأَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ عَدِيدَةٍ، وَدَلَائِلُ عُمُومِ الرِّسَالَةِ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ بَعْدَ أَنْ ضَلُّوا، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ فِي شَرْعِهِ مِثْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ ضَلَّ بِالْخُلُوِّ عَنْ شَرْعٍ كَالْعَرَبِ. وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ عَنْ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَعَنْ فِعْلِ أَتاهُمْ وَمُفِيتٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ عُمُومِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
فَدَلَائِلُهَا كَثِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذِه الْآيَة. و (لعلّ) مُسْتَعَارَةٌ تَمْثِيلًا لِإِرَادَةِ اهْتِدَائِهِمْ وَالْحِرْصِ على حُصُوله.
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: «وَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (أَسَرَّ) مِنَ الْأَضْدَادِ».
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ عَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْأَضْدَادِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا
وَفِي كِتَابِ «الْأَضْدَادِ» لِأَبِي الطَّيِّبِ الْحَلَبِيِّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا أَثِقُ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْقُرْآن وَلَا بقول الْفَرَزْدَقِ وَالْفَرَزْدَقُ كَثِيرُ التَّخْلِيطِ فِي شِعْرِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ عَنِ التَّوَّزِيِّ أَنَّ غَيْرَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْشَدَ بَيْتَ الْفَرَزْدَقِ وَالَّذِي جَرَّ عَلَى تَفْسِيرِ «أَسَرُّوا» بِمَعْنَى أَظْهَرُوا هُنَا هُوَ مَا يَقْتَضِي إِعْلَانَهُمْ بِالنَّدَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: ٣١]. وَفِي
آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٢٧] الْآيَةَ.
وَالنَّدَامَةُ: التَّحَسُّرُ مِنْ عَمَلٍ فَاتَ تَدَارُكُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [[الْمَائِدَة]] [٣١].
وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [٣٣].
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ [سبأ: ٣١]. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى إِذْ جَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا. وَجَوَاب (لَو) الْمَحْذُوف جَوَاب للشرطين.
والْأَغْلالَ: جمع غلّ بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ دَائِرَة من حَدِيد أَو جلد على سَعَة الرَّقَبَة تُوضَع فِي رَقَبَةِ الْمَأْسُورِ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ إِلَيْهَا بِسِلْسِلَةٍ أَوْ سَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ أَوْ حَبْلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ. وَجَعْلُ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ شِعَارٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى مَا يُحَاوِلُونَ الْفِرَارَ وَالِانْفِلَاتَ مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي الرَّعْدِ [٥]. والَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالْإِتْيَانُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَكَوْنُهُ مَوْصُولًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا،
وَجَعَلُوا حَالَهُ سِحْرًا وَكَذِبًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ زَعَمُوا مَا لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ- مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا أَوْ كَوْنِهِ يُعِيدُ الْمَوْتَى أَحْيَاءً- سِحْرًا إِذْ كَانُوا يَأْلَفُونَ مِنَ السِّحْرِ أَقْوَالًا غَيْرَ مَفْهُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢]. وَزَعَمُوا مَا يَفْهَمُونَهُ وَيُحِيلُونَهُ مِثْلَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبًا. وَبَيَّنُوا ذَلِكَ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨].
فَجُمْلَةُ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَيْ حَيْثُ عَدُّوهُ مُبَاهِتًا لَهُمْ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْأَخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ.
وَالْهَمْزَةُ للاستفهام الإنكاري التعجيبي وَلِذَلِكَ أَتْبَعُوهُ بِمَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِمْ:
ساحِرٌ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ شَعْوَذَةِ السَّاحِرِ.
وعُجابٌ: وَصْفُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَثِيرًا لِأَنَّ وَزْنَ فُعَالٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِثْلَ: طُوَالٌ، بِمَعْنَى الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ، وَكُرَامٌ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ الْكَرَمِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كَرِيمٍ، وَقَدِ ابْتَدَأُوا الْإِنْكَارَ بِأَوَّلِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَإِنَّ أُصُولَ كُفْرِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الْإِشْرَاكُ، وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة.
[٦- ٧]
[سُورَة ص (٣٨) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
الِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ وَالْمَشْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ الشَّارِعَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ: ذَهَبَ بِفِعْلِ كَذَا، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبَهَانِيِّ:
السُّورَةِ [٤] أَنَّ مِنْ صُوَرِ مُجَادَلَتِهِمْ فِي الْآيَاتِ إِظْهَارَهُمْ عَدَمَ الِاقْتِنَاعِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ آيَاتٍ كَمَا يُرِيدُونَ لِقَصْدِهِمْ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْقَضَى تَفْصِيلُ الْإِبْطَالِ لِضَلَالِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ ثُمَّ بِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ شَأْنُهُ إِلَّا شَأْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ أَنْ لَا يَأْتُوا بِالْآيَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اسْتِجَابَةً لِرَغَائِبِ مُعَانِدِيهِمْ وَلَكِنَّهَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَأِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ تَنْتَصِبُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعَانِدِينَ.
فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَخْ فَهُوَ كَمُقَدَّمَةٍ لِلْمَقْصُودِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُفِيدُ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ رَدِّ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام:
٩١] وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] فَدُمِغَتْ مَزَاعِمُهُمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ تَكَرُّرِ بِعْثَةِ الرُّسُلَ فِي الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ.
وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَ الله بهم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ إِذْ لَا كَمَالَ فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ، وَالَّذِينَ أَعْلَمَهُ بِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِمْ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَوَرَدَ ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ بِتَعْيِينٍ أَوْ بِدُونِ تَعْيِينٍ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيئًا اسْمُهُ عَبُّودٌ عَبْدًا
أَسْوَدَ»

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ: حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيِّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ نَبِيِّ (١) عَبْسٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ نَبِيئًا لَسَعَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ»
. وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يُحْصُونَ عَدَدَهُمْ لِتَبَاعُدِ أَزْمَانِهِمْ وَتَكَاثُرِ أُمَمِهِمْ وَتَقَاصِي أَقْطَارِهِمْ مِمَّا لَا تُحِيطُ بِهِ عُلُومُ النَّاسِ وَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهُ أَقْلَامُ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَخْبَارُ الْقَصَّاصِينَ وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهِمْ وَبَعْضِ أُمَمِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَحْصِيلِ الْعِبْرَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
_________
(١) فِي المطبوعة (بني).
وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ نُقَيِّضْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ شَيْطاناً فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مُقَيَّضٌ لِإِضْلَالِهِ، أَيْ هُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ.
وَفُرِّعَ عَنْ نُقَيِّضْ قَوْلُهُ: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ لِأَن التقيض كَانَ لِأَجْلِ مُقَارَنَتِهِ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي جَرَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «نَيْلِ الِابْتِهَاجِ بِتَطْرِيزِ الدِّيبَاجِ» فِي تَرْجَمَةِ الْحَفِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ حَضَرْتُهُ فَقَرَأَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فَقَالَ: قرىء يَعْشُو بِالرَّفْعِ ونُقَيِّضْ بِالْجَزْمِ (١). وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِكَلَامٍ مَا فَهِمْتُهُ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي النُّسْخَةِ خَلَلًا وَذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ. فَاهْتَدَيْتُ إِلَى تَمَامِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّ جَزْمَ نُقَيِّضْ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهَا بِالشَّرْطِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا كَانُوا يُعَامِلُونَ الْمَوْصُولَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ لَفْظَ الشَّرْطِ بِذَلِكَ فَمَا يُشْبِهُ لَفْظُهُ لَفْظَ الشَّرْطِ أَوْلَى بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَوَافَقَ وَفَرِحَ لَمَّا أَنَّ الْإِنْصَافَ كَانَ طَبْعَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَطَالَبُونِي بِإِثْبَاتِ مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَقُلْتُ: نَصُّهُمْ عَلَى دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ فِي نَحْوِ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ،
فَنَازَعُونِي فِي ذَلِكَ وَكُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِحِفْظِ التَّسْهِيلِ فَقُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ «وَقَدْ يَجْزِمُهُ مُسَبِّبٌ عَنْ صِلَةِ الَّذِي تَشْبِيهًا بِجَوَابِ الشَّرْطِ وَأَنْشَدْتُ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ
فَجَاءَ الشَّاهِدُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ. قَالَ: وَكُنْتُ فِي طَرَفٍ الْحَلْقَةِ، فَصَاحَ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَالَ:
يَا أَخِي مَا بَغَيْنَا، لَعَلَّكَ ابْنُ مَرْزُوقٍ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُكُمْ»
انْتَهَى مِنِ «اغتنام الفرصة». اهـ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ فَكَانَ قَرِينًا مُقَارَنَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَلْ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا قَرِينًا لَهُ. وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى
_________
(١) هَذِه الْقِرَاءَة تنْسب إِلَى زيد بن عَليّ إِمَام الزيدية. [.....]
كَمَا مَثَّلَ عِيسَى غَلَبَ الْإِسْلَامَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَيُشبه الْمُؤْمِنُونَ الْأَولونَ بِحَبَّاتِ الزَّرْعِ الَّتِي يَبْذُرُهَا فِي الْأَرْضِ مِثْلِ: أَبِي بَكْرٍ
وَخَدِيجَةَ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ، وَالشَّطْءُ: مَنْ أَيَّدُوا الْمُسْلِمِينَ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ نَفَرٌ قَلِيلٌ ثُمَّ قَوَّاهُ اللَّهُ بِمَنْ ضَامَنَ مَعَهُ كَمَا يُقَوِّي الطَّاقَةَ الْأَوْلَى مِنَ الزَّرْعِ مَا يَحْتَفُّ بِهَا مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا حَتَّى يُعْجِبَ الزُّرَّاعَ. وَقَوْلُهُ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ تَحْسِينٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لِيُفِيدَ تَحْسِينَ الْمُشَبَّهِ.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ تَمْثِيلُهُمْ بِالزَّرْعِ الْمَوْصُوفِ مِنْ نَمَائِهِمْ وَتَرَقِّيهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا فَمَثَّلْ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَبُو عُرْوَةَ الزُّبَيْرِيُّ (١) : كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَذَكَرُوا عِنْدَهُ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ:
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقُلْتُ: رَحِمَ اللَّهُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَرَضِيَ عَنْهُ مَا أَدَقَّ اسْتِنْبَاطَهُ.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
أَعْقَبَ تَنْوِيهَ شَأْنِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِوَعْدِهِمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهَا الْأَثَرُ الْمَتِينُ فِي نَشْرِ وَنَصْرِ هَذَا الدِّينِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلْبَيَانِ كَقَوْلِهِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: ٣٠]
_________
(١) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: من ولد الزبير، قلت لَعَلَّه سعيد بن عمر الزبيرِي الْمدنِي من أَصْحَاب مَالك، تَرْجمهُ فِي المدارك وَلم يذكر كنيته.
حَقِيقَتِهِ، وَيَكُونُ مِنَ الْمُحَسِّنِ الْبَدِيعِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ «سَوْقَ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ». وَسَمَّاهُ أَهْلُ الْأَدَبِ مِنْ قَبْلِهِ بِ «تَجَاهُلِ الْعَارِفِ». وَعَدَلَ السَّكَّاكِيُّ عَنْ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ وَقَالَ لِوُقُوعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] وَهُوَ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ كَمَا فِي قَوْلِ لَيْلَى ابْنَةِ طَرِيفٍ الْخَارِجِيَّةِ تَرْثِي أَخَاهَا الْوَلِيدَ بْنَ طريف الشَّيْبَانِيّ:
أَبَا شجر الخابور مَا لَك مُورِقًا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
الشَّاهِدُ فِي قَوْلِهَا: كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ إِلَخ.
والتوبيخ عَن تَخْطِئَتِهِمْ فِي عَدَمِ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ كُفَّارَهُمْ خَيْرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمَاضِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْ قِصَصِهِمْ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ خَاصِّيَّةٌ تَرْبَأُ بِهِمْ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ الْكُفَّارَ الْمَاضِينَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ فِي عَدَمِ اكْتِرَاثِكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقَيْنِ لَا تَخْلَوْنَ عَنْ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الَّذِي طَمْأَنَكُمْ مِنْ أَن يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُمْ.
وأَمْ لِلْإِضْرَابِ الْاِنْتِقَالِيِّ. وَمَا يُقَدَّرُ بَعْدَهَا مِنِ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْإِنْكَارِ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَا لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ حَتَّى تَكُونُوا آمَنِينَ مِنَ الْعِقَابِ.
وَضَمِيرُ كُفَّارُكُمْ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْكُفَّارُ، فَإِضَافَةُ لَفْظِ (كُفَّارٍ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْمُضَافَ صِنْفٌ مِنْ جِنْسِ مَنْ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْ
الْبَيَانِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: الْكُفَّارُ مِنْكُمْ خَيْرٌ مِنَ الْكُفَّارِ السَّالِفِينَ، أَيْ أَأَنْتُمُ الْكُفَّارُ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَخْيَرِيَّةِ انْتِفَاءُ الْكُفْرِ، أَيْ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ الْاِنْتِقَامُ الْإِلَهِيُّ وَادِّعَاءُ فَارِقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ.
وَالْبَرَاءَةُ: الْخَلَاصُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَضُرُّ أَوْ يَشُقُّ أَوْ يُكَلِّفُ كُلْفَةً. وَالْمُرَادُ هُنَا:
الْخَلَاصُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ.
والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَزَبُورٌ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، أَيْ بَرَاءَةٌ كُتِبَتْ فِي كُتُبِ اللَّهِ السَّالِفَةِ.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣١] وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٤].
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ لَيْسَتْ نِعْمَةُ إِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ قَاصِرَةً عَلَى رَفْعِ النَّقَائِصِ عَنْهُمْ وَعَلَى تَحْلِيَتِهِمْ بِكَمَالِ عِلْمِ آيَاتِ اللَّهِ وَزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَلْ هِيَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَتْ مُنْقِذَةً لَهُمْ مِنْ ضَلَالٍ مُبِينٍ كَانُوا فِيهِ وَهُوَ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا كَانَ ضَلَالًا مُبِينًا لِأَنَّهُ أَفْحَشُ ضَلَالٍ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى شَنَاعَتِهِ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ، أَيْ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ إِلَى أَفْضَلِ الْهُدَى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ نَفَرُوا إِسْلَامَهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ مُهْمَلَةٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا. وَقَدْ سَدَّ مَسَدَّهَا فِعْلُ (كَانَ) كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ، أَيِ الَّتِي تُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ وإِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا اللَّامُ الَّتِي أَصْلُهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِخَبَرِ (إِنَّ) إِذِ الْأَصْلُ: وَإِنَّهُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّامِ مَعَ الْمُخَفَّفَةِ وَاجِبٌ غَالِبًا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِالنَّافِيةِ، إِلَّا إِذَا أَمن اللّبْس.
[٣]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٣]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَآخَرِينَ عَطْفًا على الْأُمِّيِّينَ [الْجُمُعَة: ٢] لِأَنَّ آخَرِينَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ لِمَا يُقَابِلُهُ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ غَيْرِ الْعَرَب وَالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ غَيْرِ الْعَرَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا يُعْطَفَ وَآخَرِينَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ
بَعَثَ مجرور القي وَلَا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ كَذَلِكَ.
فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ من قَوْله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ [الْجُمُعَة: ٢] وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتْلُو عَلَى آخَرِينَ وَإِذَا كَانَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ تِلَاوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ إِلَّا تِلَاوَةَ تَبْلِيغٍ لِمَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ.
لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَعَدَمُ إِعَادَةِ لَا مَعَ قَوْلِهِ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَارٍ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي التَّأْكِيدِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وُدًّا بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَهَا غَيْرُهُمَا بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ اسْمٌ عَجَمِيٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِسَانُ الْعَرَب كَيفَ شاؤا.
[٢٤]
[سُورَة نوح (٧١) : آيَة ٢٤]
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً.
عَطْفٌ عَلَى وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح: ٢٣]، أَيْ أَضَلُّوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ تَقَالِيدِ الشِّرْكِ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ مَا آمَنَ مَعَ نُوحٍ إِلَّا قَلِيلٌ.
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتِمَّةَ كَلَامِ نُوحٍ مُتَّصِلَةً بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ السَّابِقِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةَ جُزْءِ جُمْلَةٍ مَقُولَةٍ لفعل قالَ [نوح: ٢١] عَلَى جُزْئِهَا الَّذِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْمَفَاعِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَقُولُ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ قِفَا نَبْكِ. خَتَمَ نُوحٌ شَكْوَاهُ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الضَّالِّينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنْ يَزِيدَهُمُ اللَّهُ ضَلَالًا.
وَلَا يُرِيبُكَ عَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّ مَنْعَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ وَجِيهٍ وَالْقُرْآنُ طَافِحٌ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: ٢١] بَلْ هُوَ حِكَايَةُ كَلَامٍ آخَرَ لَهُ صَدْرٌ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ مَقُولَةِ قَوْلٍ عَلَى جُمْلَةِ مَقُولَةِ قَوْلٍ آخَرَ، أَيْ نَائِبَةٍ عَنْ فِعْلِ قَالَ كَمَا تَقُولُ: قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
قفانبك وَ:
أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي وَقَدْ نَحَا هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يَأْبَوْنَ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِ الظَّالِمِينَ: قَوْمُهُ الَّذِينَ عَصَوْهُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ التَّعْبِيرَ عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى قَوْمِي مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: ٥] فَعَدَلَ عَنْ
إِلَى هُنَا مَزِيدَ اتِّضَاحٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْعِنَايَةَ بِتَوْضِيحِهِ، سِوَى أَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ أَوْرَدَ كَلِمَةً مُجْمَلَةً فَقَالَ: «وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْ نِيطَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْوَيْلَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ سَاغَ أَنْ يَقُولَ: فَالْيَوْمَ عَلَى حِكَايَةِ مَا يُقَالُ اهـ.
وإِذا
فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُسْتَعْمَلٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَة: ٩٢] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: ٨٣].
وَالْمَقْصُود من ذِكْرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِدَةٍ، أَعْقَبَ بِمَا فِيهِ صِفَةٌ لِعَاقِبَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا لِيَعْلَمُوا جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا.
وَإِصْدَارُ ذَلِكَ الْمَقَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّشْمِيتِ كَمَا اقْتَضَتْهُ خُلَاصَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَالِافْتِتَاحُ بِ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِصُورَةِ الْكَلَامِ الْمُؤَكَّدِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ الْمُرَادِ إِعْلَانُهُ لِيَتَوَجَّهَ بِذَلِكَ الِافْتِتَاحِ جَمِيعُ السَّامِعِينَ إِلَى اسْتِمَاعِهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ مُهِمٌّ. وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَخَاصَّةً صَنَادِيدُهُمْ.
وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخِبَابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ وَهَذِهِ الصِّلَةِ: الَّذِينَ أَجْرَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَن مَا أخبر بِهِ عَنْهُمْ هُوَ إِجْرَامٌ، وَلِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: ٣٦].
وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ، وَأَعْظِمْ بالإجرام الْكفْر وَيُؤذن تَرْكِيبُ «كَانُوا يَضْحَكُونَ»
بِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ فِي الْمَاضِي، وَصَوْغُ يَضْحَكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ دَيْدَنٌ لَهُمْ.


الصفحة التالية
Icon