خَبَرًا أَوْ نَحْوَهُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ مِثْلَ الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: ١، ٢] والمص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١، ٢].
الثَّانِيَ عَشَرَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ أَفْعَالٌ فَإِنَّ حُرُوفَ المص كِتَابٌ فِعْلُ أَلَمَّ بِمَعْنَى نَزَلَ فَالْمُرَادُ الم ذلِكَ الْكِتابُ أَيْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ، وَيُبْطِلُ كَلَامَهُ أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ بِصِيَغِ الْأَفْعَالِ عَلَى
أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي جَمِيعِهَا نَحْوَ كهيعص والمص والر وَلَوْلَا غَرَابَةُ هَذَا الْقَوْلِ لَكَانَ حَرِيًّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ تَنْدَرِجُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الرَّاجِعَةُ إِلَى أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَقْصُودَةٍ بِأَسْمَائِهَا لِأَغْرَاضٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ وَفِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ:
الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِالْقَلَمِ تَنْوِيهًا بِهَا لِأَنَّ مُسَمَّيَاتِهَا تَأَلَّفَتْ مِنْهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَأُصُولُ التَّخَاطُبِ وَالْعُلُومِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدْ وَهَنَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُقْسَمًا بِهَا لَذُكِرَ حَرْفُ الْقَسَمِ إِذْ لَا يُحْذَفُ إِلَّا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَبِأَنَّهَا قَدْ وَرَدَ بَعْدَهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَسَمٌ نَحْوَ: ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: ١] وحم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: ١]، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَقَدِ اسْتَكْرَهُوا الْجَمْعَ بَيْنَ قَسَمَيْنِ عَلَى مُقْسَمٍ وَاحِدٍ حَتَّى قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْل: ١، ٢] أَنَّ الْوَاوَ الثَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تَضُمُّ الْأَسْمَاءَ لِلْأَسْمَاءِ أَيْ وَاوَ الْعَطْفِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ اخْتِصَاصَ الْحَذْفِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَنَّ كَرَاهِيَةَ جمع قسمَيْنِ تَنْفَع بِجَعْلِ الْوَاوِ التَّالِيَةِ لَهَاتِهِ الْفَوَاتِحِ وَاوَ الْعَطْفِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ قَسَمَيْنِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْفَتَى الْ حَارِثُ لَا النَّكْسُ وَلَا الْخَامِلُ
الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّهَجِّي مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فِي التَّهْجِيَةِ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِيقَاظًا لِنَظَرِهِمْ فِي أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمَتْلُوَّ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تُحُدُّوا بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ هُوَ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَيْنِ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ كَأَنَّهُ يُغْرِيهِمْ بِمُحَاوَلَةِ الْمُعَارَضَةِ وَيَسْتَأْنِسُ لِأَنْفُسِهِمْ بِالشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ بِتَهَجِّي الْحُرُوفِ وَمُعَالَجَةِ النُّطْقِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِمُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَقَاطِيعَ اللُّغَةِ، فَيُلَقِّنُهَا كَتَهَجِّي الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ تَعَلُّمِهِمْ بِالْكِتَابِ حَتَّى يَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ عَجْزًا لَا مَعْذِرَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» وَهَذَا الْقَوْلُ من الْقُوَّة والخلافة بِالْقَبُولِ بِمَنْزِلَةٍ، وَقُلْتُ وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَتَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ لِوُقُوعِهَا فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مَقْصُودَةٍ بِالْإِعْجَازِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣]
فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٤]، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِعَانَةِ بِالنَّصْرِ وَالْوِقَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي حُرُمَاتِهِ فِي غَيْرِ أَحْوَالِ الِاضْطِرَارِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فَهُوَ يَجْعَلُهُمْ بِمحل عنايته.
[١٩٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٠] إِلَخْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِقِتَالِ عَدُوِّهِمْ وَكَانَ الْعَدُوُّ أَوْفَرَ مِنْهُمْ عُدَّةَ حَرْبٍ أَيْقَظَهُمْ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ لَا خُصُوصَ الْمُقَاتِلِينَ.
وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ. مَعَ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ- تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ يُقَصِّرُونَ فِي الْإِتْيَانِ عَلَى مُنْتَهَى الِاسْتِعْدَادِ لِعَدُوٍّ قَوِيٍّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَثِقَةً بِهِ، وَمُلِئَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ النَّصْرَ وَأَخِيرًا بِقَوْلِهِ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ نُبِّهُوا عَلَى أَنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لَهُمْ بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُمْ أَخْذَ الْعُدَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِبَذْلِ الْوُسْعِ لِوَسَائِلِ النَّصْرِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابٌ نَاطَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ فِي الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا، فَتَطَلُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ دُونَ أَسْبَابِهَا غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ مَعَ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا كَيْ لَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة: ٢٤] فَالْمُسْلِمُونَ إِذَا بَذَلُوا وُسْعَهُمْ، وَلَمْ يُفَرِّطُوا فِي شَيْءٍ ثُمَّ ارْتَبَكُوا فِي أَمْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَاللَّهُ نَاصِرُهُمْ، وَمُؤَيِّدُهُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَحْصِيلِهِ وَلَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ هم أَذِلَّةٌ، إِذْ هم يؤمئذ جُمْلَةُ الْمُسْلِمِينَ وَإِذْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ، فَأَمَّا أَقْوَامٌ يُتْلِفُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَيُفِيتُونَ الْفُرَصَ وَقْتَ الْأَمْنِ فَلَا يَسْتَعِدُّونَ لِشَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ بِتَفْرِيطِهِمْ، وَلَعَلَّهُ يَتَدَارَكُهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى اسْتِبْقَاءِ الدِّينِ.
وَالْإِنْفَاقُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَة: ٣].

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ حَسَدٌ على زَوَال النبوءة مِنْهُمْ، وَانْقِرَاضِ الْمُلْكِ مِنْهُمْ، بِتَهْدِيدِهِمْ وَبِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ لَا عَجَبَ أَن تنْتَقل النبوءة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعَرَبِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ شَرِيعَةٌ مُقَارِنَةٌ لِلسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ.
واللَّهُمَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَاصٌّ بِنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ يَا اللَّهُ. وَلَمَّا كَثُرَ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَهُ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ يُرِيدُونَ أَنَّ لِحَاقَ الْمِيمِ بِاسْمِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّعَاءِ صَارَ غَنِيًّا عَنْ جَلْبِ حَرْفِ النِّدَاءِ اخْتِصَارًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمِيمَ تُفِيدُ النِّدَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِيمَ عَلَّامَةُ تَنْوِينٍ فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولِ مِنْهَا كَلِمَةُ (اللَّهُمَّ) مِنْ عِبْرَانِيَّةٍ أَوْ قَحْطَانِيَّةٍ وأنّ أَصْلهَا لَا هم مُرَادِفُ إِلَهٍ.
وَيدل على هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ نَطَقُوا بِهِ هَكَذَا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
كَدَعْوَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الْكَبِيرُ
وَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ كَذَلِكَ مَعَ النِّدَاءِ كَقَوْلِ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ:
إِنِّي إِذا مَا حدت أَلَمَّا أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ كَثِيرًا. وَقَالَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ: إِنَّ الْمِيمَ عِوَضٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمَحْذُوفِ وَإِنَّهُ تَعْوِيضٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ: وَإِنَّ مَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ شُذُوذٌ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ اللَّهُمَّ مُخْتَزَلٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَجُمْلَةٍ أَصْلُهَا «يَا اللَّهُ أُمَّ» أَيْ أَقْبِلْ عَلَيْنَا بِخَيْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
الْمُمْتَحَنَةِ شَرْطَ إِرْجَاعِ مَنْ يَأْتِي الْمُشْرِكِينَ هَارِبًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَدَا النِّسَاءِ، وَهِيَ آيَةُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: ١٠] الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ يَتِيمٌ، وَغَطَفَانُ أَسْلَمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، إِذْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ بَعْدَ سَنَةِ خَمْسٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ عِنْدَ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لأنّها افتتحت بيا أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَا كَانَ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَكِّيَّ بِإِطْلَاقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ صَدْرُهَا بِمَكَّةَ وَسَائِرُهَا بِالْمَدِينَةِ. وَالْحَقُّ أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ دُخُولِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْخِطَابِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَلَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَدَنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَفِيهَا آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالتَّيَمُّمُ شرع يَوْم غزَاة الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ النِّسَاءِ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَطَالَتْ مُدَّةُ نُزُولِهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا مُفَصَّلَةٌ تَقَدَّمَتْ مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، فَمُعْظَمُ مَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ شَرَائِعُ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي مُعْظَمِ نَوَاحِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ نُظُمِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْحُكْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نُزُولِ سَائِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَبَيْنَ نُزُولِ آيَةِ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ أُمِرُوا بِإِلْحَاقِهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي فِيهَا الْآيَةُ الْأُولَى. وَوَرَدَتْ فِي السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى آيَةَ الشِّتَاءِ، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ آيَةَ الصَّيْفِ. وَيَتَعَيَّنُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النِّسَاء: ٧٥] يَعْنِي مَكَّةَ. وَفِيهَا آيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاء:
٥٨] نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الشَّيْبِيِّ، صَاحِبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى تَحْقِيرِ دِينِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا
عَظِيمًا- فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا»
إِلَخْ،

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢٧]

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
عُطِفَ تَشْرِيعٌ عَلَى إِيمَانٍ وَحِكْمَةٍ وَعِظَةٍ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَدَثَ حِينَ نُزُولِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. فَذَكَرَ حُكْمَهُ عَقِبَهَا مَعْطُوفًا. وَهَذَا الِاسْتِفْتَاءُ حَصَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] إِلَخْ. وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قَالَتْ: يَا بن أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالَهَا وَجَمَالَهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. وَأَنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ: فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ من أجل رغبتهم عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهَ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَالْمُرَادُ: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣]. وَأَخَصُّ الْأَحْكَامِ بِالنِّسَاءِ: أَحْكَام وَلَا يتهنّ، وَأَحْكَام مُعَاشَرَتِهِنَّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا مِيرَاثَ النِّسَاءِ إِذْ لَا خُطُورَ لَهُ بِالْبَالِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَعْدٌ بِاسْتِيفَاءِ الْإِجَابَةِ عَنِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ
تَبْشِيرِ السَّائِلِ الْمُتَحَيِّرِ بِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ طِلْبَتَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ.
عَبَّاسٍ، وَمُجاهد، وَالْحسن، فَمن شَرْطِيَّةٌ وَتَرْكُ الْحُكْمِ مُجْمَلٌ بَيَانُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخَرَ. وَتَحْتَ هَذَا حَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْتِزَامُ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ كَفِعْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تُقَامُ فِي أَرْضِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ مَحَاكِمَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الِالْتِزَامَ أَشَدُّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ. وَأَعْظَمُ مِنْهُ إِلْزَامُ النَّاسِ بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَهُوَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَبَعْضُهَا قَدْ يَلْزَمُهُ لَازِمُ الرِّدَّةِ إِنْ دَلَّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَخْطِئَةٍ لِحُكْمِ اللَّهِ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ فَقِيلَ عُبِّرَ بِالْكُفْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا قَالَتْ زَوْجَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ «أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ» أَيِ الزِّنَى، أَيْ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عبّاس. وَقَالَ طَاوُوس «هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَلَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْإِيمَانِ». وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْهَوَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَاطِعًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا تَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ وَحَكَمُوا بِمُقْتَضَى تَأْوِيلِهَا وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي شَأْنِ الْحَاكِمين. وأمّا رضى الْمُتَحَاكِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ فَقَدْ مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: ٦٥] الْآيَةَ وَبَيَّنَّا وُجُوهَهُ، وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فِي سُورَةِ النُّورِ [٤٨- ٥٠].
وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْرِ هُنَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِهَذَا الْإِثْمِ الْعَظِيمِ
الْمُعَبَّرِ عَنْهُ مَجَازًا بِالْكُفْرِ، أَوْ فِي بُلُوغِهِمْ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْكُفْرُ الَّذِي انْضَمَّ إِلَيْهِ الْجَوْرُ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّلَةِ هُنَا أَوْ بِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذْ وَقَعَا مَنْفِيَّيْنِ هُوَ الِاتِّصَافُ بِنَقِيضِهِمَا، أَيْ وَمَنْ حَكَمَ
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣]. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرَّعْد: ٧]، أَيْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِنْذَارِ فِي كِتَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ حَاصِلٌ بِكَوْنِهِ إِنْذَارًا مُفَصَّلًا بَلِيغًا دَالًّا عَلَى أَنَّ الْمُنْذِرَ بِهِ مَا اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ
عَلَيْهِمْ بِمَا يُبَيِّنُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: ٤٨- ٥١]، أَيْ فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ يَنْزِلُ فِي قِرْطَاسٍ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ.
وَقَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٣]. نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ يُقِيمُ آيَاتٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ تِلْقَاءِ اخْتِيَارِهِ بِدُونِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُعْجِزَةِ مِثْلَ مَا سَمَّى بَعْضَ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: ١٢]، فَذَلِكَ أَمْرٌ أُنُفٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَقْتَرِحْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَدْ أَعْطَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَقَامِ اقْتِرَاحٍ مِنَ الْمُعْرِضِينَ، مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ بِسَهْمٍ رَشَقَهُ فِي الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي وَعَدَتْ بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٨].
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَةِ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ يَعْقُبُهَا الِاسْتِئْصَالُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهُمْ لِعِنَادِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
إِلَّا أَنَّ مَا فَسَّرْتُهَا بِهِ أَوْلَى لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَاهَا إِعَادَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي سَبَقَتْهَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّوَقُّفُ فِي وَجْهِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِمُقْتَضَى السُّؤَالِ حَسْبَمَا توقّف فِيهِ التفتازانيّ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ».
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُكَابِرُ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ عِنْدَهُ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا اقْتَرَحُوهُ.
وَإِعَادَةُ لَفْظِ آيَةٌ بِالتَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ
وَاسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ وَلِتَمَامِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْعَاجِزِ أَنْ يَتَرَيَّثَ وَأَنْ يَخْشَى غَائِلَةَ الْمُعَاقَبِ، فَالْمُرَادُ سَرِيعُ الْعِقَابِ فِي يَوْمِ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَرِيعَهُ مِنَ الْآنِ حَتَّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنَى: كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، إِذْ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ (سَرِيعِ الْعقَاب) على موكّد وَاحِدٍ، وَتَعْزِيزِ وَصْفِ (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ إِنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ لِأَنَّ (الرَّحِيمَ) يُؤَكِّدُ مَعْنَى (الْغَفُورِ) : لِيُطَمْئِنَ أَهْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِيَسْتَدْعِيَ أَهْلَ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُوفِ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنَ «الْكَشَّافِ» مَخْطُوطَةً مَوْضُوعًا عَلَى الدَّالِ عَلَامَةُ شَدٍّ، وَلَسْتُ عَلَى تَمَامِ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ كَمَا هُوَ فِي نسخ «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْبَغَوِيِّ»، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي أَبْيَاتٍ مَوْضُوعَةٍ فِي قِصَّةِ قَوْمِ عَادٍ فِي كُتُبِ الْقِصَصِ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» وَفِي «مُرُوجِ الذَّهَبِ» لِلْمَسْعُودِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَدْرُونٍ عَلَى قَصِيدَةِ ابْنِ عَبْدُونٍ
الْأَنْدَلُسِيُّ بِدُونِ هَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ). وَ (الْهَبَاءُ) - بِالْمَدِّ فِي آخِرِهِ مَضْبُوطًا بِخَطِّ الْهَمَذَانِيِّ فِي نُسْخَةِ حَاشِيَتِهِ عَلَى «الْكَشَّافِ»، وَفِي نُسْخَةِ «الْكَشَّافِ» الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي «تَفْسِيرَيِ» الْبَغَوِيِّ وَالْخَازِنِ، وَفِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ قَلَمِيَّةٍ مِنَ «الْكَشَّافِ» بِأَلْفٍ دُونَ مَدٍّ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ الْهَاءِ، وَلَمْ أَرَ ذِكْرَ صُدَاءَ وَالْهَبَاءِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ.
وَعُطِفَ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ: وَآباؤُكُمْ لِأَنَّ مِنْ آبَائِهِمْ مَنْ وَضَعَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ، فَالْوَاضِعُونَ وَضَعُوا وَسَمَّوْا، وَالْمُقَلِّدُونَ سَمَّوْا وَلَمْ يَضَعُوا، وَاشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا.
وسَمَّيْتُمُوها مَعْنَاهُ: ذَكَّرْتُمُوهَا بِأَلْسِنَتِكُمْ، كَمَا يُقَالُ: سَمِّ الله، أَي ذَاكر اسْمَهُ، فَيَكُونُ سَمَّى بِمَعْنَى ذَكَرَ لَفْظَ الِاسْمِ، وَالْأَلْفَاظُ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمَدْلُولَاتِهَا، وَأَصْلُ اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١]، وَقَالَ لَبِيدٌ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا أَيْ لَفْظُهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْمِيَةِ فِي الْآيَةِ وَضْعَ الِاسْمِ لِلْمُسَمَّى، كَمَا يُقَالُ:
سَمَّيْتُ وَلَدِي كَذَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ وَكَثِيرًا مِنْ آبَائِهِمْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْآبَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ انْتَحَلُوا الشِّرْكَ وَاتَّخَذُوهُ دِينًا وَعَلَّمُوهُ أَبْنَاءَهُمْ وَقَوْمَهُمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يُذْكَرْ لِفِعْلِ «سَمَّيْتُمْ» مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا مُتَعَلِّقٌ، بَلِ اقْتُصِرَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَذُكِّرَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي فعلي يسكن و (تغشى) : بِاعْتِبَار كَون مَا صدق الْمَعَادِ، وَهُوَ النَّفْسُ الْوَاحِدَةُ، ذَكَرًا، وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَغَشَّاها، وَالْمَرْفُوعُ فِي حَمَلَتْ. وَ (مَرَّتْ) : بِاعْتِبَار كَون مَا صدق الْمَعَادَ وَهُوَ زَوْجُهَا أُنْثَى، وَهُوَ عَكْسٌ بَدِيعٌ فِي نَقْلِ تَرْتِيبِ الضَّمَائِرِ.
وَوَصْفُ الْحِمْلِ بِ خَفِيفاً إِدْمَاجٌ ثَانٍ، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ فِي مَبْدَئِهِ لَا تَجِدُ مِنْهُ الْحَامِلُ أَلَمًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا حَمْلًا خَاصًّا، وَلَكِنَّهُ الْخَبَرُ عَنْ كُلِّ حَمْلٍ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّوْجَيْنِ جِنْسُهُمَا، فَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالَةٍ تَحْصُلُ مِنْهَا عِبْرَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ عِبْرَةُ تَطَوُّرِ الْحمل كَيفَ يبتدىء خَفِيفًا كَالْعَدَمِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَثْقُلَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» «قَالَ:
مَالِكٌ وَكَذَلِكَ (أَيْ كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْمُخَوَّفِ وَالْمَرِيضِ الْمُخَوَّفِ»
) : الْحَامِلُ فِي أَوَّلِ حَمْلِهَا بِشْرٌ وَسُرُورٌ وَلَيْسَ بِمَرَضٍ وَلَا خَوْفٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: ٧١] وَقَالَ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
وَحَقِيقَةُ الْمُرُورِ: الِاجْتِيَازُ، وَيُسْتَعَارُ لِلتَّغَافُلِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لِلشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يُونُس: ٧٢] أَيْ: نَسِيَ دُعَاءَنَا، وَأَعْرَضَ عَنَ شُكْرِنَا لِأَنَّ الْمَارَّ بِالشَّيْءِ لَا يَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا يُسَائِلُهُ، وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٧٢].
وَقَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يُوسُف: ١٠٥].
فَمَعْنَى فَمَرَّتْ بِهِ لَمْ تَتَفَطَّنْ لَهُ، وَلَمْ تُفَكِّرْ فِي شَأْنِهِ، وَكُلُّ هَذَا حِكَايَةٌ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ.
وَالْإِثْقَالُ ثِقَلُ الْحِمْلِ وَكُلْفَتُهُ، يُقَالُ أَثْقَلَتِ الْحَامِلُ فَهِيَ مُثْقَلٌ وَأَثْقَلَ الْمَرِيضُ فَهُوَ مُثْقَلٌ، وَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ مِثْلُ أَوْرَقَ الشَّجَرُ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ أَقْرَبَتِ الْحَامِلُ فَهِيَ مقرب إِذا أقرب إِبَّانُ وَضْعِهَا.
وَقَدْ سَلَكَ فِي وَصْفِ تَكْوِينِ النَّسْلِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ: لِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ
الْأَطْوَارِ، الدَّالَّةِ عَلَى دَقِيقِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِلُطْفِهِ بِالْإِنْسَانِ.
وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّغْبَةَ فِي الْجِهَادِ كَانَ الْمَذْكُورُ مَعَ اسْتِئْذَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي الْآيَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا دُونَ أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الِاسْتِئْذَانُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، فَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي أَنْ يُجَاهِدُوا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ دُونَ اسْتِئْذَانٍ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَتَكَلَّفُوا فِي إِقَامَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مُعْتَرِضَةٌ لِفَائِدَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢، ٣] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
[٤٥]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٥]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ تَبْرِئَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ:
بِبَيَانِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَنْفِي رَجَاءَهُمْ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ، فَلِذَلِكَ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لَهُ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما الْقَصْرُ. وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ يُفِيدُ مُفَادَ خَبَرَيْنِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ وَنَفْيِ ضِدِّهِ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ هُنَا دَالَّةً بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مُفَادَيْهَا عَلَى تَأْكِيدِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
[التَّوْبَة: ٤٤] وَقَدْ كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَقْدِيمِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ التَّنْوِيهُ بِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ، وَالتَّنْوِيهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِطْنَابِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا لِظُهُورِهِ مِمَّا قَبْلَهُ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا [التَّوْبَة: ٤٤] وَالتَّقْدِيرُ:
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا.
وَالشَّأْنُ: الْعَمَلُ الْمُهِمُّ وَالْحَالُ الْمُهِمُّ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى شِدَّةِ التَّلَبُّسِ.
وَضَمِيرُ (مِنْهُ) إِمَّا عَائِدٌ إِلَى (شَأْنٍ)، أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنَ الشَّأْنِ قُرْآنًا فَتَكُونُ (مِنْ) مُبَيِّنَةً لِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، أَيْ تَتْلُو مِنْ أَجْلِ الشَّأْنِ قُرْآنًا. وَعطف وَما تَتْلُوا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، فَإِنَّ التِّلَاوَة أهم شؤون الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَإِمَّا عَائِدٌ إِلَى قُرْآنٍ، أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، فَتَكُونُ مِنْهُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُؤَخَّرٍ لِتَحْصِيلِ التَّشْوِيقِ إِلَيْهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَوَاوُ (تَتْلُو) لَامُ الْكَلِمَة، وَالْفِعْل مُحْتَمل لِضَمِيرٍ مُفْرَدٍ لِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَكُونُ الْكَلَامُ قد ابتدئ بشؤون النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَثُنِّيَ بِمَا هُوَ من شؤونه بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَثَلَّثَ بِمَا هُوَ من شؤون الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهِ شَامِلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ شَأْنٍ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تَعْمَلُونَ فَلَا يَبْقَى مُرَادًا مِنْهُ إِلَّا مَا يَعْمَلُهُ بَقِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ.
وَوَقَعَ النَّفْيُ مَرَّتَيْنِ بِحَرْفِ (مَا) وَمَرَّةً أُخْرَى بِحَرْفِ (لَا) لِأَنَّ حَرْفَ (مَا) أَصْلُهُ أَنْ يُخْلِصَ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، فَقَصَدَ أَوَّلًا اسْتِحْضَارَ الْحَالِ الْعَظِيمِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ قِرَاءَتِهِ الْقُرْآنَ، وَلَمَّا نُفِيَ عَمَلُ الْأُمَّةِ جِيءَ بِالْحَرْفِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ تَخْلِيصُهُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ لِلتَّثْنِيَةِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا.
وَيُعْلَمُ مِنْ قَرِينَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ بِوَاسِطَةِ النَّكِرَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَالْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَمَا يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ وَالْإِعْجَازِ. وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ صِيَغِ الْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا إِلَّا كُنَّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ وَيَحْصُلُ وَسَيَحْصُلُ سَوَاءٌ فِي عِلْمِ
وَكَذَلِكَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ نَاشِرَةً شَعْرَهَا خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، فَعَبَّرَهَا بِالْحُمَّى تَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، وَرُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ، وَأَنَّ فِيهَا عَمُودًا، وَأَنَّ فِيهِ عُرْوَةً، وَأَنَّهُ أَخَذَ بِتِلْكَ الْعُرْوَةِ فَارْتَقَى إِلَى أَعْلَى العمود، فعبّره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ آخِذًا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّ الرَّوْضَةَ هِيَ الْجَنَّةُ، فَقَدْ تَطَابَقَ التَّمْثِيلُ النَّوْمِيُّ مَعَ التَّمْثِيلِ الْمُتَعَارَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٥٦]، وَفِي
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ».
وَسَيَأْتِي تَأْوِيلُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة يُوسُف: ١٠٠].
[٥]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٥]
قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَالنِّدَاءُ مَعَ حُضُورِ الْمُخَاطَبِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ إِحْضَارِ الذِّهْنِ اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ.
وبُنَيَّ- بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ- تَصْغِيرُ ابْنٍ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَصْلُهُ بُنَيْوِي أَوْ بُنَيْيِي عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ لَامَ ابْنٍ الْمُلْتَزَمَ عَدَمُ ظُهُورِهَا هِيَ وَاوٌ أَمْ يَاءٌ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا أُدْغِمَتْ فِيهَا يَاءُ التَّصْغِيرِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً لِتَقَارُبِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، أَوْ لِتَمَاثُلِهِمَا فَصَارَ (بُنَيِّي). وَقَدِ اجْتَمَعَ ثَلَاثُ يَاءَاتٍ فَلَزِمَ حَذْفُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لُزُومًا وَأُلْقِيَتِ الْكَسْرَةُ

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١٨]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَا عَمِلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَثَارَ هَذَا التَّمْثِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِهِمْ، فَيَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَوْ بِبَالِ مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْأَلَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا مِنَ الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ عِتْقِ رِقَابٍ، وَقِرَى ضُيُوفٍ، وَحِمَالَةِ دِيَاتٍ، وَفِدَاءِ أُسَارَى، وَاعْتِمَارٍ، وَرِفَادَةِ الْحَجِيجِ، فَهَلْ يَجِدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ؟ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ تَطَلَّبَتْ نُفُوسُهُمْ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُجُودِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَبَيْنَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فُضُرِبَ هَذَا الْمَثَلُ لِبَيَانِ مَا يكْشف جَمِيع احتمالات.
وَالْمَثَلُ: الْحَالَةُ الْعَجِيبَةُ، أَيْ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعَجِيبَةُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَرَمَادٍ الْخَ.
فَالْمَعْنَى: حَالُ أَعْمَالِهِمْ، بِقَرِينَةِ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ مَهْمَا أُطْلِقَ مَثَلُ كَذَا إِلَّا وَالْمُرَادُ حَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ أَحْوَالِهِ يُفَسِّرُهَا الْكَلَامُ، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْمُلْتَزَمِ فِي الْكَلَامِ.
فَقَوْلُهُ: أَعْمالُهُمْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وكَرَمادٍ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ
الْأَوَّلِ.
وَلَمَّا جُعِلَ الْخَبَرُ عَنْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَعْمالُهُمْ آلَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ مَثَلَ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَرَمَادٍ.
شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمُ الْمُتَجَمِّعَةُ الْعَدِيدَةُ بِرَمَادٍ مُكَدَّسٍ فَإِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيَاحُ بِالرَّمَادِ انْتَثَرَ وَتَفَرَّقَ تَفَرُّقًا لَا يُرْجَى مَعَهُ اجْتِمَاعُهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ اضْمِحْلَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ بَعْدَ تَجَمُّعِهِ، وَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مَعْقُولَةٌ.
والْعُمُرِ: مُدَّةُ الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُمُرِ، وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ، أَيْ عُمُرَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها [سُورَة الرّوم: ٩]. فَإِضَافَةُ أَرْذَلِ إِلَى الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَرْذَلِ حَقِيقَةً هُوَ حَالُ الْإِنْسَانِ فِي عُمُرِهِ لَا نَفْسَ الْعُمُرِ. فَأَرْذَلُ الْعُمُرِ هُوَ حَالُ هَرَمِ الْبَدَنِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ، وَهُوَ حَالٌ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ. وَأَمَّا نَفْسُ مُدَّةِ الْعُمُرِ فَهِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِرَذَالَةٍ وَلَا شَرَفٍ.
وَالْهَرَمُ لَا يَنْضَبِطُ حُصُولُهُ بِعَدَدٍ مِنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ والبلدان وَالصِّحَّة والاعتدال عَلَى تَفَاوُتِ الْأَمْزِجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَهَذِهِ الرَّذَالَةُ رَذَالَةٌ فِي الصِّحَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِحَالَةِ النَّفْسِ، فَهِيَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَتُسَمَّى أَرْذَلَ الْعُمُرِ فِيهِمَا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَلَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى (كَيْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّيْرُورَةِ بِالْعِلَّةِ اسْتِعَارَةً تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا غَايَةَ لِلْمَرْءِ فِي ذَلِكَ التَّعْمِيرِ تَعْرِيضًا بِالنَّاسِ، إِذْ يَرْغَبُونَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِقْصَارِ مِنْ تِلْكَ الرَّغْبَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِيَصِيرَ غَيْرَ قَابِلٍ لِعِلْمِ مَا لَمْ يُعلمهُ لِأَنَّهُ يبطىء قَبُولَهُ لِلْعِلْمِ. وَرُبَّمَا لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَتَلَقَّاهُ ثُمَّ يُسْرِعُ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ حَالَةَ انْحِطَاطِ عِلْمِهِ
لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَبِيهًا بِالْعَجْمَاوَاتِ.
وَاسْتِعَارَةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى مَعْنَى الْعَاقِبَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّخْطِئَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: [١٧٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ قَرِيبًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥].
وَتَنْكِيرُ عِلْمٍ تَنْكِيرُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، أَيْ لِيَزُولَ مِنْهُ قَبُولُ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مَا قَالُوهُ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ اعْتِقَادَ قَائِلِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَنُطْقَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ يَمْنَعُ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي دِينِهِمْ.
وَإِلْقَاءُ هَذَا الْكَلَامِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَأَدَاةِ الْعُمُومِ جَعَلَهُ تَذْيِيلًا لِمَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ تَفَنُّنِهِمْ فِي أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ.
فَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ مَا مَنَعَ جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِلَّا ذَلِكَ التَّوَهُّمُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤]. وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ هُودٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣- ٣٤]، وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٥٤]، وَعَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاء: ١٨٦]، وَحُكِيَ عَنْ قوم فِرْعَوْن فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا
[الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧]. وَقَالَ فِي قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: ٢].
وَإِذ شَمِلَ الْعُمُومُ كَفَّارَ قُرَيْشٍ أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ الْآيَةَ، فَاخْتَصَّ اللَّهُ رَسُوله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ أَصْلِهَا اخْتِصَاصًا لَمْ يُلَقِّنْهُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الشُّبْهَةَ بِاسْتِنْصَارِ اللَّهِ تَعَالَى على أقوامهم فَقَالَ عَنْ نُوحٍ قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٨].
وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لِأَنَّ ذَلِكَ سُؤَالٌ يرجع إِلَى تَبْلِيغ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَيْسَتْ فَائِدَتُهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ لَهَا بِلَامِ التَّبْيِينِ.
وَتَنْكِيرُ عُقْدَةً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ عُقْدَةً شَدِيدَةً.
ومِنْ لِسانِي صفة لعقدة. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عُقْدَةَ لِسَانِي، بِالْإِضَافَةِ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهَا عُقْدَةٌ شَدِيدَةٌ.
وَفِعْلُ يَفْقَهُوا مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاصِلِ عَقِبَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النُّور: ٣٠] أَيْ أَنْ نَقُلْ لَهُمْ غُضُّوا يَغُضُّوا، أَيْ شَأْنُهُمُ الِامْتِثَالُ. وَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ.
وَالْوَزِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل، من وزار عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، مِثْلُ حَكِيمٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْمَعُونَةُ، وَالْمُؤَازَرَةُ كَذَلِكَ، وَالْكُلُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، أَيِ الْظَّهْرِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ أَزِيرًا بِالْهَمْزَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَلَبُوا هَمْزَتَهُ وَاوًا حَمْلًا عَلَى مُوَازِرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُمْ:
مُوَازِرٌ وَيُوَازِرُ بِالْوَاوِ نَطَقُوا بِنَظِيرِهِ فِي الْمَعْنَى بِالْوَاوِ بِدُونِ مُوجِبٍ لِلْقَلْبِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النَّظِيرِ فِي النُّطْقِ، أَيِ اعْتِيَادِ النُّطْقِ بِهَمْزَتِهِ وَاوًا، أَيِ اجْعَلْ مُعِينًا مِنْ أَهْلِي.
وَخَصَّ هَارُونَ لِفَرْطِ ثِقَتِهِ بِهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ فَصِيحَ اللِّسَانِ مِقْوَالًا، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ مَظِنَّةُ
النُّصْحِ لَهُ، وَكَوْنُهُ أَخَاهُ أَقْوَى فِي الْمُنَاصَحَةِ، وَكَوْنُهُ الْأَخَ الْخَاصَّ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ بِأَصَالَةِ الرَّأْيِ.
وَجُمْلَةُ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي فعلي اشْدُدْ، وأَشْرِكْهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ اجْعَلْ لِي وَزِيراً. سَأَلَ اللَّهَ
وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَسْلَمَ وَبَايَعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتِقِيلُهُ بَيْعَتَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» فَجَعَلَهُ خَبَثًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ثَابِتًا
. وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ لَا يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فَيَنْقَطِعَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَلَا يُمِيرُونَنَا فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ
[الْحَج: ١٥] الْآيَاتِ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، مِنْهُمْ: عُيَيْنَةُ بن حِصْنٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَالُوا: نَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ فَإِنْ أَصَبْنَا خَيْرًا عَرَفْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَبْنَا غَيْرَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَهَذَا كُله ناشىء عَنِ الْجَهْلِ وَتَخْلِيطِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالْأَسْبَابِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَجَعْلِ الْمُقَارَنَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ كَالْمَعْلُومَاتِ اللُّزُومِيَّةِ. وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الضَّلَالَةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا. وَلَنِعْمَ الْمُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَطَلُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا.
وَحَرْفُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَجَانِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُرْتَفِعًا كَحَرْفِ الْجَبَلِ وَالْوَادِي أَمْ كَانَ مُسْتَوِيًا كَحَرْفِ الطَّرِيقِ. وَيُطْلَقُ الْحَرْفُ عَلَى طَرَفِ الْجَيْشِ وَيُجْمَعُ عَلَى طِرَفٍ بِوَزْنِ عِنَبٍ قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَلَا نَظِيرَ لَهُ سِوَى طَلٍّ وَطِلَلٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَرَدِّدِ فِي عَمَلِهِ، يُرِيدُ تَجْرِبَةَ عَاقِبَتِهِ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي عَلَى حَرْفِ جَبَلٍ أَوْ حَرْفِ وَاد فَهُوَ متهيّىء لِأَنْ يَزِلَّ عَنْهُ إِلَى أَسْفَلِهِ فَيَنْقَلِبَ، أَيْ يَنْكَبَّ.
وَأَمَّا قَضِيَّةُ (هِيتٍ) الْمُخَنَّثِ أَوِ الْمَخْصِيِّ (١) وَنهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ فَتِلْكَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ تَعَلَّقَتْ بِحَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهِ. وَهِيَ وَصْفُهُ النِّسَاءَ لِلرِّجَالِ فَتَقَصَّى عَلَى أَمْثَالِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ مَا سَمِعَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ بِخَفْضِ غَيْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ.
وَالطِّفْلِ مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَلِذَلِكَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحجّ: ٥] أَيْ أَطْفَالًا.
وَمَعْنَى: لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ خُلُوِّ بَالِهِمْ مِنْ شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ مَا قَبْلَ سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي عِدَادِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْعَمُّ وَالْخَالُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُسَاوَاتِهِمَا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: هُمَا مُسَاوِيَانِ لِمَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمَحَارِمِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَثَلُ ابْنِ الْفَرَسِ وَابْنِ جُزَيٍّ عَنْهُ الْمَنْعَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ بِالْمَنْعِ وَعَلَّلَ التَّفْرِقَةَ بِأَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ قَدْ يَصِفَانِ الْمَرْأَةَ لِأَبْنَائِهِمَا وَأَبْنَاؤُهُمَا غَيْرُ مَحَارِمَ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ وَاهٍ لِأَنَّ وَازِعَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مَنْ وَصْفِ الْمَرْأَةِ.
_________
(١) أخرج حَدِيثه فِي «الْمُوَطَّأ» وَكتب السّنة، وَهُوَ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيت أم سَلمَة فَدخل عَلَيْهَا هيت- بِكَسْر الْهَاء- المخنث فَقَالَ لعبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي أخي أم سَلمَة لأَبِيهَا: يَا عبد الله إِن فتح الله عَلَيْكُم الطَّائِف غَدا فَإِنِّي أدلك على بادية بنت غيلَان فَإِنَّهَا تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان وَزَاد فِي الْوَصْف وَأنْشد شَعِيرًا فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أرى هَذَا يعرف مَا هَاهُنَا: لَا يدْخل عليكن»
. وَكَانَ هيت هَذَا مولى لعبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي.
رَوَى أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» بِسَنَدِهِ إِلَى خُرَيْمِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ. فَقَالَ: قُلْ لَا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرَقُ الْأَبْيَاتِ السَّبْعَةَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُفْضِضِ اللَّهُ فَاكَ».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ».
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ»
. وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ كَثِيرٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ النُّورِ الْقَوْلَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَيِ الشِّعْرِ. وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ».
وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي مَعَانِي الشِّعْرِ وَحَالِ الشَّاعِرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُعْنَوْنَ بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ الشِّعْرِ تَحْبِيبٌ لِفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَلَاغَتِهَا وَهُوَ آيِلٌ إِلَى غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالشَّتْمِ وَالْهِجَاءِ.
هُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِنُكْتَةِ هَذَا الْإِيمَاءِ.
فَالْجَزَاءُ فَضْلٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تَبِعَةَ الْعِصْيَانِ فَأَمَّا الْجَزَاءُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ الْمَوْلَى، وَغُفْرَانُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُؤَاخَذُوا بِمَا عَمِلُوهُ وَبِأَنَّ إِقْلَاعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَقْتَضِي التَّجَاوُزَ عَنِ الْمَاضِي لَكِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْفَضْلِ.
وَانْتَصَبَ أَحْسَنَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ فِعْلِ لَنَجْزِيَنَّهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ جَزَاءً أَحْسَنَ.
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ عِظَمِ الْجَزَاءِ كُلِّهِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ عَنْ جَمِيعِ صَالِحَاتِهِمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ صَالِحَاتِهِمْ. وَشَمِلَ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَيُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِه الْآيَة.
[٨- ٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
لَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنُ فَاذَّةً مِنْ أَحْوَالِ عَلَائِقِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَيَّنَ وَاجِبَهُمْ فِيهَا الْمُنَاسِبَ لِإِيمَانِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَاقَةُ النَّسَبِ فَالنَّسَبُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُؤْمِنِ
يَسْتَدْعِي الْإِحْسَانَ وَطِيبَ الْمُعَاشَرَةِ وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَسْتَدْعِي الْمُنَاوَاةَ وَالْمُغَاضَبَةَ وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ وَمُشْفِقِينَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِ دِينِهِمْ فَهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ لِيُقْلِعُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مُعَامَلَةِ أَنْسِبَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهَا نَسَبَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبٍ فَيَكُونُ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي يُشْرَعُ لَهُ.
وَحَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضِيَّتَانِ دَعَتَا إِلَى تَفْصِيلِ هَذَا الْحُكْمِ.
رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ
ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
وَبَيَانُ تَأْوِيلِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِهْمَالُهُمُ النَّظَرَ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَالتَّذَكُّرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَر بِالْعقلِ.
[٥]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٥]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السَّجْدَة: ٤]، أَيْ: خَلَقَ تِلْكَ الْخَلَائِقِ مُدَبِّرًا أَمْرَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، وَقَوْلُهُ مِنَ السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُدَبِّرُ أَوْ صِفَةٌ لِلْأَمْرِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَرْفَيِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ شُمُولُ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْعَالَمَيْنَ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ تَدْبِيرًا شَامِلًا لَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَفَادَ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ شُمُولَ التَّدْبِيرِ لِأُمُورِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالتَّدْبِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّفْكِيرُ فِي إِصْدَارِ فِعْلٍ مُتْقَنٍ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ: آخِرِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ النَّظَرُ فِي اسْتِقَامَةِ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً. وَهُوَ إِذَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ تَمَامُ الْإِتْقَانِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَأَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
والْأَمْرَ: الشَّأْنُ لِلْأَشْيَاءِ وَنِظَامِهَا وَمَا بِهِ تَقَوُّمُهَا. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمُورِ كُلِّهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَجَمِيعُ مَا نُقِلَ عَنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرَ يَرْجِعُ إِلَى بَعْضِ هَذَا الْعُمُومِ.
وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَضَمِيرُ يَعْرُجُ عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ مُفِيدَةٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُدَبَّرَةَ تَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْعُرُوجُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَصِيرِ إِلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ دُونَ شَائِبَةِ تَأْثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ كَمَا فِي أَحْوَالٍ
وبخاصة مَا قَابَلَهُ بِهِ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنَ التَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِتَذْكِيرِهِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ فِي الزُّخْرُفِ وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [٢٣] الَخْ، أَيْ وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ الَّذِي كَذَّبَكَ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيضُ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ عَادَوْهُ بِتَذْكِيرِهِمْ عَاقِبَةَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الَّتِي كذّب أَهلهَا برسلهم وَأَغْرَاهُمْ بِذَلِكَ زُعَمَاؤُهُمْ.
وَالْمُتْرَفُونَ: الَّذِينَ أُعْطُوا التَّرَفَ، وَالتَّرَفُ: النَّعِيمُ وَسَعَةُ الْعَيْشِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ بِتَقْدِيرِ: أَنَّ اللَّهَ أَتْرَفَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَة الْمُؤْمِنُونَ [٣٣].
وَفِي بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ تَعْرِيضٌ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا وَيُقْلِعُونَ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُ تَقْدِيرُهُ: أَتْرَفَتْهُمُ النِّعْمَةُ، أَيْ أَبْطَرَتْهُمْ.
وإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ حِكَايَةٌ لِلْقَوْلِ بِالْمَعْنَى: أَيْ قَالَ مُتْرَفُو كُلِّ قَرْيَةٍ لِرَسُولِهِمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ كَافِرُونَ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّوْزِيعُ عَلَى آحَادِ الْجَمْعِ.
وَقَوْلُهُمْ: أُرْسِلْتُمْ بِهِ تَهَكُّمٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: كافِرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] أَوِ الْمَعْنَى: إِنَّا بِمَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّكُمْ أرسلتم بِهِ.
[٣٥، ٣٦]
[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
قَفَّوْا عَلَى صَرِيحِ كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِكَلَامٍ كَنَّوْا بِهِ عَن إبِْطَال حقية الْإِسْلَامِ بِدَلِيلٍ سِفُسْطَائِيٍّ فَجَعَلُوا كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ حَظٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَضَمِيرُ وَقالُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: ٣١] الَخْ. وَهَذَا مِنْ تَمْوِيهِ الْحَقَائِقِ بِمَا يَحُفُّ
آلِهَتِكُمْ، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ فِي الشُّرُوعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الشُّرُوعُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى آلِهَتِهِمْ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ شَكِّهِمْ فِي صِحَّةِ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا شَيْءٌ أَرَادَهُ لِغَرَضٍ أَيْ لَيْسَ صَادِقًا وَلَكِنَّهُ مَصْنُوعٌ مُرَادٌ مِنْهُ مَقْصِدٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ دُبِّرَ بِلَيْلٍ، فَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ، أَيْ هَذَا القَوْل وَهُوَ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ مِثْلِهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ شَيْءٌ مُصْطَنَعٌ مُبْتَدَعٌ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ. وَفِي قَوْله: هَذَا تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ. وَنَفِيُ السَّمَاعِ هُنَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاتِّهَامِ بِالْكَذِبِ.
والْمِلَّةِ: الدِّينُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٠]، وَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٧، ٣٨].
والْآخِرَةِ: تَأْنِيثُ الْآخِرُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَقَرَّرَتْ فِيهَا أَمْثَالُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت: ٢٠].
وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَيَانًا لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِشَارَةِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ سَمِعْنا. وَالْمَعْنَى: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ فَلَا نَعْتَدُّ بِهِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ دِينَ النَّصَارَى، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ فَالْمُشْرِكُونَ اسْتَشْهَدُوا عَلَى بُطْلَانِ تَوْحِيدِ الْإِلَهِ بِأَنَّ دِينَ النَّصَارَى الَّذِي ظهر قَبْلَ الْإِسْلَامِ
وَمَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تَجِبُ بِالظَّنِّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لَا وُجُوبَ اعْتِقَادٍ.
وَتَنْكِيرُ رُسُلًا مُفِيدٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ وَشَأْنُهُمْ عَظِيمٌ. وَعَطْفُ وَما كانَ لِرَسُولٍ إِلَخْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ يُفِيدُ اسْتِقْلَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنًى عَظِيمٍ حَقِيقٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَيُكْتَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَوْقِعِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى.
وَالْآيَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ بِهِ خَارِقَ الْعَادَةِ لِيَجْعَلَهُ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِآيَةٍ: هُوَ تَحَدِّيهِ قَوْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ يُعَيِّنُهَا مِثْلَ قَوْلٍ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: ٧٣] وَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ٣٠] الْآيَةَ.
وَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٤٩] وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣].
فَالْبَاءُ فِي بِآيَةٍ بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ أَنْ يَأْتِيَ وَأَمَّا الْبَاءُ فِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْ أَسْبَابٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَاب إِلَّا بِسَبَب إِذن اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ وَالتَّعِلَّاتِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الرَّسُولِ آيَةً ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالْحَقِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِخَلْقِ آيَةٍ وَظُهُورِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْأَمْرُ: الْقَضَاءُ وَالتَّقْدِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] وَقَوْلُهُ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [الْمَائِدَة: ٥٢] وَهُوَ الْحَدَثُ الْقَاهِرُ لِلنَّاسِ كَمَا فِي
فَضَمِيرُ: أَحْرَزُوا، لِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَضَمِيرُ: جَمَّعُوا، لِلْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩].
وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّبِيلِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْمُمْتَدَّةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَقَدْ مُثِّلَتْ حَالَةُ الَّذِينَ يَعْشُونَ عَن ذكر الرحمان وَحَالُ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِحَالِ مَنِ اسْتَهْدَى قَوْمًا لِيَدُلُّوهُ عَلَى طَرِيقٍ مُوصِلٍ لِبُغْيَتِهِ فَضَلَّلُوهُ وَصَرَفُوهُ عَنِ السَّبِيلِ وَأَسْلَكُوهُ فِي فَيَافِي التِّيهِ غِشًّا وَخَدِيعَةً، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ طَلِبَتَهُ.
فَجُمْلَةُ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُمْ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْله فَهُوَ [الزخرف: ٣٦] وَالرَّابِطُ وَاوُ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِهِمْ إِلَى السَّبِيلِ.
وَالِاهْتِدَاءُ: الْعِلْمُ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَقْصُود.
[٣٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٨]
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ التَّسَبُّبَ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَاسْتِعْمَالُ حَتَّى فِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَلَيْسَتْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى دَوَامِ الصَّدِّ عَنِ السَّبِيلِ وَحُسْبَانِ الْآخَرِينَ الِاهْتِدَاءَ إِلَى فَنَاءِ الْقَرِينَيْنِ، إِذْ قَدْ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ فَيَنْقَطِعَ الصَّدُّ وَالْحُسْبَانُ فَلَا تَغْتَرَّ بِتَوَهُّمِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُفَارَقُ حَتَّى فِي جَمِيعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَر جاآنا بِأَلِفِ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى عَائِدًا عَلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان وَقَرِينِهِ، أَيْ شَيْطَانِهِ، وَأُفْرِدَ ضَمِيرُ قالَ لِرُجُوعِهِ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان خَاصَّةً، أَيْ قَالَ الْكَافِرُ مُتَنَدِّمًا عَلَى مَا فَرَّطَ مِنِ اتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ وَائْتِمَارِهِ بِأَمْرِهِ.
وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ [الْقَمَر: ٤٣] إِلَخْ إِلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ رُجُوعًا إِلَى الْأُسْلُوبِ الْجَارِي مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [الْقَمَر: ٢] بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الْإِنْذَارِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: ٤٣].
وَالكَّلَامُ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالنِّذَارَةِ لِلْمُشْرِكِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تُحَدِّثُهُمْ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ حَالَهُمْ وَحَالَ الْأُمَمِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ قِصَصُهَا مُتَسَاوِيَةً، أَيْ نَحْنُ مُنْتَصِرُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ.
وجَمِيعٌ اسْمٌ لِلجَّمَاعَةِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي خبر عمر مَعَ عَليّ وَعَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَضِيَّةِ مَا تَرَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ فَدَكَ، قَالَ لَهُمَا: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ»، وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا
وَالْمَعْنَى: بَلْ أَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُغَالِبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَنَّهُمْ غالبونهم لِأَنَّهُمْ جَمِيعٌ لَا يُغْلَبُونَ.
وَمُنْتَصِرٌ: وَصْفُ جَمِيعٌ، جَاءَ بِالْإِفْرَادِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ جَمِيعٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا.
وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا هُوَ ظَنُّهُمْ وَاغْتِرَارُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ». فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ.
وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ هَذَا الْغُرُورَ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَا الْاِسْتِخْفَافُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ لِيَشْغِلَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ بِالْيَدِّ وَيُقْصِرَهُمْ عَلَى تَطَاوُلِهِمْ عَلَيْهِ بِالْأَلْسِنَةِ حَتَّى تَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَحَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْاِنْتِصَارِ بِأَنْصَارِ اللَّهِ.
مَوْضِعَ الْحَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لِأَنَّ اللُّحُوقَ هُوَ مَعْنَى الِاتِّصَالِ.
وَمَوْضِعُ جُمْلَةِ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ يَصِيرُونَ مِثْلَهُمْ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ أَيْضًا رَمَزٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَعَرَّبُونَ لِفَهْمِ الدِّينِ وَالنُّطْقِ بِالْقُرْآنِ فَكَمْ مِنْ مَعَانٍ جَلِيلَةٍ حَوَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ سَكَتَ عَنْهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ.
وَهَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْبِيَّةٌ بِأَنَّ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَبْلُغُ أُمَمًا لَيْسُوا مِنَ الْعَرَبِ وَهُمْ فَارِسُ، وَالْأَرْمَنُ، وَالْأَكْرَادُ، وَالْبَرْبَرُ، وَالسُّودَانُ، وَالرُّومُ، وَالتُّرْكُ، وَالتَّتَارُ، وَالْمَغُولُ، وَالصِّينُ، وَالْهُنُودُ، وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ صِنْفِ الْإِخْبَارِ بِالْمُغِيبَاتِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ رِسَالَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَالنَّفْيُ بِ (لَمَّا) يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُسْتَمِرُّ الِانْتِفَاءِ إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤]، أَيْ وَسَيَدْخُلُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَالْمَعْنَى: أَنَّ آخَرِينَ هُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَحِقُوا بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ وَسَيَدْخُلُونَ فِي أَزْمَانٍ أُخْرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالثُّرِيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ من هَؤُلَاءِ»
إِيمَاء إِلَى مِثَالٍ مِمَّا يَشْمَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي جَوَابِ سُؤَالِ السَّائِلِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْمُرَادِ بِ آخَرِينَ فِي قَوْمِ سَلْمَانَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُمُ التَّابِعُونَ. وَعَنْ مُجَاهِدِ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِلَهِيِّ لِانْتِشَارِ هَذَا الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. فَإِنَّ الْعَزِيزُ لَا يَغْلِبُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ. والْحَكِيمُ تَأْتِي أَفْعَالُهُ عَنْ قدر مُحكم.
[٤]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٤]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(٢٥)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَقَالَاتِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ نُوحٍ فَهِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدَّرَ النَّصْرَ لِنُوحٍ وَالْعِقَابَ لِمَنْ عَصَوْهُ مِنْ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ نُوحٌ اسْتِئْصَالَهُمْ فَإِغْرَاقُ قَوْمِ نُوحٍ مَعْلُومٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قُصِدَ إِعْلَامُهُ بِسَبَبِهِ.
وَالْغَرَضُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ بِهَا التَّعْجِيلُ بِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّا يُمَاثِلُ مَا لَاقَاهُ نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ
[إِبْرَاهِيم: ٤٢].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِجُمْلَةِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: ٢٤] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُوَجَّهِ إِلَى نُوحٍ بِتَقْدِيرِ: وَقُلْنَا لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا، وَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي تَحَقُّقِ الْوَعْدِ لِنُوحٍ بِإِغْرَاقِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأُدْخِلُوا نَارًا.
وَقُدِّمَ مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا مِنْ أَجْلِ مَجْمُوعِ خَطِيئَاتِهِمْ لَا لِمُجَرَّدِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ نُوحٍ الَّتِي سَتُذْكَرُ عَقِبَ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ عِبَادَهُ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَذَابُهُمْ إِلَى مَا بَعْدَ دَعْوَةِ نُوحٍ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَمَسَرَّةً لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ وَتَعْجِيلًا لِمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ.
وَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ، وَ (مَا) مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَجَمْعُ الْخَطِيئَاتِ مُرَادٌ بِهَا الْإِشْرَاكُ، وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ، وَأَذَاهُ، وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِالطُّوفَانِ، وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْفَوَاحِشِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَطِيئاتِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ خَطِيئَةٍ بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ خَطاياهُمْ جَمْعُ خَطِيَّةٍ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مُدْغَمَةً فِيهَا الْيَاءُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنْ هَمْزَةٍ لِلتَّخْفِيفِ.
وَفِي قَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ لِأَنَّ بَيْنَ النَّارِ وَالْغَرَقِ الْمُشْعِرِ بِالْمَاءِ تَضَادًّا.
وَتَفْرِيعُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ
هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ هَذَا دَأْبُ الْمُشْرِكِينَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يُقَرَّعُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جِيءَ مِنْهُ. يُقَالُ: انْقَلَبَ الْمُسَافِرُ إِلَى أَهْلِهِ وَفِي دُعَاءِ السَّفَرِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ». وَأَصْلُهُ مُسْتَعَارٌ مَنْ قَلْبِ الثَّوْبِ، إِذَا صَرَفَهُ من وَجه إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، يُقَالُ: قَلَبَ الشَّيْءَ، إِذَا أَرْجَعَهُ.
وَأَهْلُ الرَّجُلِ: زَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَذُكِرَ الْأَهْلُ هُنَا لِأَنَّهُمْ يَنْبَسِطُ إِلَيْهِمْ بِالْحَدِيثِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِلى أَهْلِهِمُ دُونَ: إِلَى بُيُوتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: وَإِذَا رَجَعَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَخَلَصُوا مَعَ أَهْلِهِمْ تَحَدَّثُوا أَحَادِيثَ الْفُكَاهَةِ مَعَهُمْ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمِّهِمْ.
وَتَكْرِيرُ فِعْلِ: انْقَلَبُوا بِقَوْلِهِ: انْقَلَبُوا فَكِهِينَ مِنَ النَّسْجِ الْجَزْلِ فِي الْكَلَامِ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ فَكِهُوا، أَوْ إِذا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ كَانُوا فَاكِهِينَ.
وَذَلِكَ لِمَا فِي إِعَادَةِ الْفِعْلِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ، أَيْ فَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حرف الْجَرّ المفادة مِنْهُ الْفَائِدَةُ مثله قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ
بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَام كَقَوْلِك الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ اهـ.
وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ.


الصفحة التالية
Icon