أَنَّ الْخَطَّ تَعَلَّمُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ وَالْحِيرَةِ، وَقِصَّةُ الْمُتَلَمِّسِ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ تُذَكِّرُنَا بِذَلِكَ إِذْ كَانَ الَّذِي قَرَأَ لَهُ الصَّحِيفَةَ غُلَامٌ مِنْ أُغَيْلِمَةِ الْحَيْرَةِ. وَلَقَدْ كَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ نَازِحَةِ الْقَحْطَانِيِّينَ، قَدْ تَنَاسَوُا الْكِتَابَةَ إِذْ كَانُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَفُرُوسِيَّةٍ وَحُرُوبٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ مِنَ الْأَسْرَى يُفْتَدَى
بِأَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ غِلْمَانِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْكِتَابَةَ فَتَعَلَّمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَتِ الشِّفَاءُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّةُ تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَهِيَ عَلَّمَتْهَا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُوجَدُ فِي أَسَاطِيرِ الْعَرَبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْكِتَابَةَ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ فِي جِوَارِهِمْ فَقَدْ ذَكَرُوا قِصَّةً وَهِيَ أَنَّ الْمَحْضَ بْنَ جَنْدَلٍ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَلِكًا كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَبْنَاءٍ وَهُمْ:
أَبْجَدُ، وَهَوَّزُ، وَحُطِّي، وَكَلَمُنُ، وَسَعْفَصُ، وَقَرَشْتُ، فَجَعَلَ أَبْنَاءَهُ مُلُوكًا عَلَى بِلَادِ مَدْيَنَ وَمَا حَوْلَهَا فَجَعَلَ أَبْجَدَ بِمَكَّة وَجعل هوزا وحطيا بِالطَّائِفِ وَنَجْدٍ، وَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ بمدين، وَأَن كلمنا كَانَ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ وَهُوَ مِنَ الَّذِينَ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ (١) قَالُوا فَكَانَتْ حُرُوفُ الْهِجَاءِ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ ثُمَّ أَلْحَقُوا بهَا ثخذ وضغط فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِصَّةَ مَصْنُوعَةً لِتَلْقِينِ الْأَطْفَالِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بِطَرِيقَةٍ سَهْلَةٍ تُنَاسِبُ عُقُولَهُمْ وَتَقْتَضِي أَنَّ حُرُوفَ ثَخَذْ وَضَغَظْ لَمْ تَكُنْ فِي مُعْجَمِ أَهْلِ مَدْيَنَ فَأَلْحَقَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ، وَحَقًّا إِنَّهَا مِنَ الْحُرُوفِ غَيْرِ الْكَثِيرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا الْمَوْجُودَةِ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُبْعِدُهُ عَدَمُ وُجُودِ جَمِيعِ الْحُرُوفِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ بَلِ الْمَوْجُودُ نِصْفُهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ».
الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا حُرُوفٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْبِيهُ السَّامِعِ مِثْلَ النِّدَاءِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّنْبِيهُ فِي قَوْلك يافتى لِإِيقَاظِ ذِهْنِ السَّامِعِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا يَقُولُ فِي إِنْشَادِ أَشْهَرِ الْقَصَائِدِ لَا وَبَلْ لَا، قَالَ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّ الْحَكِيمَ إِذَا
_________
(١) الظلة: السحابة وَقد أَصَابَتْهُم صواعق فَذكرُوا أَن حَارِثَة ابْنة كلمن قَالَت ترثي أَبَاهَا:
كلمن هدم ركني... هلكه وسط الْمحلة
سيد الْقَوْم أَتَاهُ ال... حتف نَارا وسط ظله
كونت نَارا وأضحت... دَار قومِي مضمحلة
ومسحة التوليد ظَاهِرَة على هاته الأبيات.
عَنِ الِاخْتِيَارِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِاخْتِيَارِكُمْ.
وَالتَّهْلُكَةُ بِضَمِّ اللَّامِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمَ مَصْدَرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ
فِي الْمَصَادِرِ وَزْنُ التَّفْعُلَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا فِي الْمَصَادِرِ التَّفْعِلَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ مَصْدَرُ مُضَاعَفِ الْعَيْنِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ كَزَكَّى وَغَطَّى، أَوِ الْمَهْمُوزُ اللَّامِ كَجَزَّأَ وَهَيَّأَ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ لَهُ نَظِيرَيْنِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ أَضَرَّ وَأَسَرَّ بِمَعْنَى الضُّرِّ وَالسُّرُورِ، وَفِي الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ التَّنْضُبَةَ وَالتَّتْفُلَةَ (الْأَوَّلُ اسْمُ شَجَرٍ، وَالثَّانِي وَلَدُ الثَّعْلَبِ).
وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» أَنَّ الْخَلِيلَ قَرَأَهَا (التَّهْلِكَةِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَا أَحْسِبُ الْخَلِيلَ قَرَأَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي الْمَشْهُورِ وَلَا الشَّاذِّ فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَلَعَلَّ الْخَلِيلَ نَطَقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ فَلَمْ يَضْبُطْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ حَقَّ الضَّبْطِ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِحَرْفٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِتْلَافِ النَّفْسِ أَوِ الْقَوْمِ عَنْ تَحَقُّقِ الْهَلَاكِ بِدُونِ أَنْ يُجْتَنَى مِنْهُ الْمَقْصُودُ.
وَعَطَفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِنْفَاقِ وَإِلَى سَبَبِ الْأَمْرِ بِهِ فَإِنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْخُرُوجَ بِدُونِ عُدَّةٍ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ لِلْهَلَاكِ كَمَا قِيلَ:
كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ
فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ، وَلِأَنَّ اعْتِقَادَ كِفَايَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَنَصْرِ دِينِهِ فِي هَزِمِ الْأَعْدَاءِ اعْتِقَادٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ كَالَّذِي يُلْقِي بِنَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ وَيَقُولُ سَيُنْجِينِي اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا النَّهْيُ قَدْ أَفَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْإِيجَازِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي مَعْنَى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَخَافُوا الْعَيْلَةَ وَإِنْ لم إلّا يكز سهم أَو مشقص فَأْتِ بِهِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ أَنَّ أَنْفِقُوا أَمْرٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ، والتهلكة: الْإِسْرَافُ فِيهَا أَوِ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّ إِطْلَاقَ التَّهْلُكَةِ عَلَى السَّرَفِ بَعِيدٌ وَعَلَى الْبُخْلِ أَبْعَدُ.
الْمُرَادِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْخَيْرِ فِي تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى اكْتِفَاءٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: ٨١] أَيْ وَالْبَرْدَ.
وَكَانَ الْخَيْرُ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ أَصَالَةً وَالشَّرُّ مُقْتَضًى بِالْعَرَضِ قَالَ الْجَلَالُ الدِّوَانِيُّ فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ هَيَاكِلِ النُّورِ:
«وَخُصَّ الْخَيْرُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَرَجِّي الْمُسْلِمِينَ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
خَيْرَهُمْ شَرٌّ لِضِدِّهِمْ كَمَا قِيلَ:
مَصَائِبُ قوم عِنْد يَوْم فَوَائِدُ أَيِ «الْخَيْرُ مُقْتَضَى الذَّات والشرّ مقتضي بِالْعَرَضِ وَصَادِرٌ بِالتَّبَعِ لِمَا أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَضَمَّنُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِشَرٍّ قَلِيلٍ، فَلَوْ تُرِكَتْ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةُ لِذَلِكَ الشَّرِّ الْقَلِيلِ، لَصَارَ تَرْكُهَا شَرًّا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَدَرَ ذَلِكَ الْخَيْرُ لَزِمَهُ حُصُولُ ذَلِكَ الشَّرِّ»
.
وَحَقِيقَةُ «تُولِجُ» تُدْخِلُ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِتَعَاقُبِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ، وَلِازْدِيَادِ مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ وَعَكْسِهِ فِي الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ عَدَا أَيَّامِ الِاعْتِدَالِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَحَظَاتٌ قَلِيلَةٌ ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا لَكِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُدْرَكُ فِي أَوَّلِهَا فَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، وَفِي الظَّاهِرِ هِيَ يَوْمَانِ فِي كُلِّ نِصْفِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْعَوَامُّ وَأَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْخَوَاصُّ وَمَا يَفْهَمُهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الْإِيلَاجَ يَشْمَلُ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ وَالْفُصُولَ الَّتِي يُدْرِكُهَا سَائِرُ الْعَوَامِّ».
وَفِي هَذَا رَمْزٌ إِلَى مَا حَدَثَ فِي الْعَالَمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ وَالْإِشْرَاكِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ كَدِينِ مُوسَى، وَإِلَى مَا حَدَثَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِبْطَالِ الضَّلَالَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، لِيَكُونَ الِانْتِهَاءُ بِقَوْلِهِ:
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّعْرِيضِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ الْآيَةَ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الرَّمْزِ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَخْ.
وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ كَخُرُوجِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمُضْغَةِ، وَمِنْ مُحِّ الْبَيْضَةِ. وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِي عَكْسِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَطَائِفَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ. ثُمَّ أَحْوَالُ الْيَهُودِ، لِكَثْرَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَائِحُهُمْ، وَأَحْكَامُ الْجِهَادِ لِدَفْعِ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَحْكَامُ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمَسَاوِيهِمْ، وَوُجُوبُ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَإِبْطَالُ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ مَوَاعِظُ، وَتَرْغِيبٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْحَسَدِ، وَعَنْ تَمَنِّي مَا لِلْغَيْرِ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا مَنْ حُرِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، أَوْ بِحُكْمِ الْفِطْرَةِ. وَالتَّرْغِيبُ فِي التَّوَسُّطِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِصْلَاحِ. وَبَثُّ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
[١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
جَاءَ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ: لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ. فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ،- إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ- وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، إِذْ قَالَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي اتَّقُوا رَبَّكُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ.
وَعَبَّرَ بِ (رَبَّكُمْ)، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى
الْمُهُورِ الَّتِي
تَدْفَعُونَهَا لَهُنَّ، فَلَا تُوَفُّوهُنَّ مُهُورَ أَمْثَالِهِنَّ، وَالْكُلُّ يُعَدُّ مَكْتُوبًا لَهُنَّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجِيءُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. مَقْصُودَيْنِ عَلَى حَدِّ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، وَهُوَ تَكْمِيلٌ وَإِدْمَاجٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ كَانَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ الْمُسْتَضْعَفُونَ وَالْمُسْتَضْعَفَاتُ، وَلَكِنَّ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ تَغْلِيبٌ، وَكَذَلِكَ الْوِلْدَانُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ مَنْ فِي حِجْرِهِمْ مِنَ الصِّغَارِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُومُوا عَطْفٌ عَلَى يَتامَى النِّساءِ، أَيْ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْقِيَامِ لِلْيَتَامَى بِالْعَدْلِ. وَمَعْنَى الْقِيَامِ لَهُم التَّدْبِير لشؤونهم، وَذَلِكَ يَشْمَلُ يتامى النِّسَاء.
[١٢٨- ١٣٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٢٨ إِلَى ١٣٠]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
عَطْفٌ لِبَقِيَّةِ إِفْتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: ٣٤] الْآيَةَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَذَلِكَ حُكْمُ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَمَا هَنَا حُكْمُ الِانْفِصَالِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ ذُكِرَ فِيهِ نُشُوزُ الْمَرْأَةِ،
وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (أَنْ). وَالْمَصْدَرُ فِي مِثْلِ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ مَعْنَى حَرْفِ الْبَاءِ الَّذِي هُوَ التَّعْوِيضُ، أَيْ كَتَبْنَا تَعْوِيضَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، أَيِ النَّفْسُ الْمَقْتُولَةُ
بِالنَّفْسِ الْقَاتِلَةِ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مُسَاوَاةَ الْقِصَاصِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) هُنَا، لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ هَذِهِ الْجُمَلِ وَلَكِنِ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْهَا وَهُوَ الْعِوَضِيَّةُ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ (أَنَّ).
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِالرَّفْعِ-. وَذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ (أَنَّ) خَبَرَهَا فَيُعْتَبَرُ الْعَطْفُ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ.
وَالنَّفْسُ: الذَّاتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٤]. وَالْأُذن- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَبِضَمِّ الذَّالِ أَيْضًا-. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْأُولَى نَفْسُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي وَالْعَيْنَ إِلَخْ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالنَّفْسِ وَنَظَائِرِهِ الْأَرْبَعَةِ بَاءُ الْعِوَضِ، وَمَدْخُولَاتُ الْبَاءِ كُلُّهَا أَخْبَارُ (أَنَّ)، وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَحْذُوفٌ، هُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَيُقَدَّرُ: أَنَّ النَّفْسَ الْمَقْتُولَةَ تُعَوَّضُ بِنَفْسِ الْقَاتِلِ وَالْعَيْنَ الْمُتْلَفَةَ تُعَوَّضُ بِعَيْنِ الْمُتْلِفِ، أَيْ بِإِتْلَافِهَا وَهَكَذَا النَّفْسُ مُتْلَفَةٌ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفُ مَجْدُوعٌ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ مَصْلُومَةٌ بِالْأُذُنِ.
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ دَاخِلَةٌ عَلَى عُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَمَجْرُورَاتُ الْبَاءِ الْخَمْسَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْجَانِي. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْإِصْبَعِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَكُونُ غَالِبًا عِنْدَ الْمُضَارَبَةِ بِقَصْدِ قَطْعِ الرَّقَبَةِ، فَقَدْ يَنْبُو السَّيْفُ عَنْ قَطْعِ الرَّأْسِ فَيُصِيبُ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ سِنٍّ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمُصَاوَلَةِ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُقَابِلُ الصَّائِلَ، قَالَ الْحُرَيْشُ بْنُ هِلَالٍ:
آيَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ إِجَابَتِكُمْ لِمَا سَأَلْتُمْ. وَيَكُونُ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ [الْأَنْعَام: ٣٩] الْآيَةَ وَاضِحَ الْمُنَاسِبَةِ، أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِي عَوَالِمِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فَإِنْ نَظرنَا إِلَيْهِ مُسْتقِلّا بِنَصِّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا نِيطَ بِهِ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَأَوَّلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ أَنَّ ضَمِيرَيْ رَبِّهِمْ ويُحْشَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى دَابَّةٍ وطائِرٍ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى جَمَاعَاتِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ لِوُقُوعِهِمَا فِي حَيِّزِ حَرْفِ (مِنْ) الْمُفِيدَةِ لِلْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَتَسَاءَلُ النَّاظِرُ عَنْ ذَلِكَ وَهُمَا ضَمِيرَانِ مَوْضُوعَانِ لِلْعُقَلَاءِ. وَقَدْ تَأَوَّلُوا لِوُقُوعِ الضَّمِيرَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ جَاءَ بَعْدَهُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمَا عَائِدَانِ إِلَى أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَمَ كُلَّهَا مَحْشُورَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي آخِرُهَا ضَمِيرٌ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُ جُمْلَةِ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ وَالِاسْتِطْرَادِ مُجَابَهَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
فَإِذَا وَقَعَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ كَانَ الْأَمْرُ مُشْكِلًا. فَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ (الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: الْجَمَّاءِ) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ».
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَأَبُو دَاوُود الطَّيَالِسِيُّ فِي «مُسْنَدَيْهِمَا» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ أَوْ عَنْزَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا، قُلْتُ: لَا، قَالَ:
لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَهَذَا مُقْتَضٍ إِثْبَاتَ حَشْرِ الدَّوَابِّ لِيَوْمِ الْحِسَابِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ خَفِيَّ الْحِكْمَةِ إِذْ مِنَ الْمُحَقَّقِ انْتِفَاءُ تَكْلِيفِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ تَبَعًا لِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهَا. وَكَانَ مَوْقِعُهَا جَلِيَّ الْمُنَاسِبَةِ بِمَا قَالَهُ
(٧٢)
الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ: أَيْ فعجّل الله استيصال عَادٍ وَنَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِ، فَالْمُعَقَّبُ بِهِ هُوَ قَطْعُ دَابِرِ عَادٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ هَكَذَا: فَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا- إِلَخْ- وَنَجَّيْنَا هُودًا إِلَخْ، وَلَكِنْ جَرَى النَّظْمُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعْجِيلِ الْإِخْبَارِ بِنَجَاةِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ٦٤] فِي قِصَّةِ نُوحٍ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مَعَهُ. وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمْ من آمن بِهِ مَنْ قَوْمِهِ، فَالْمَعِيَّةُ هِيَ الْمُصَاحِبَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُودًا وَمَنْ مَعَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الْعَذَابُ بِعَادٍ، وَإِنَّهُ تُوُفِّيَ هُنَالِكَ وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ وَلَا أَحْسَبُ هَذَا ثَابِتًا لِأَنَّ مَكَّةَ إِنَّمَا بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ بَيْنَ عَادٍ وَإِبْرَاهِيمَ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّهُ حَكَى عَنْ شُعَيْبٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩] فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَادًا وَثَمُودًا كَانُوا بَعِيدِينَ مِنْ زَمَنِ شُعَيْبٍ وَأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ غَيْرُ بَعِيدِينَ، وَالْبُعْدُ مُرَادٌ بِهِ بُعْدُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ أَمْكِنَةَ الْجَمِيعِ مُتَقَارِبَةٌ، وَكَانَ لُوطٌ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا نُعَيِّنَ كَيْفِيَّةَ إِنْجَاءِ هُودٍ وَمَنْ مَعَهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنِ الْعَذَابِ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ قبر هود بحضر موت
وَهَذَا أَقْرَبُ.
وَقَوْلُهُ: بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْبَاءُ فِيهِ للسّببيّة، وتنكير بِرَحْمَةٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ وَصَفُهَا بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ:
فَأَنْجَيْنَاهُ وَرَحِمْنَاهُ، فَكَانَتِ الرَّحْمَةُ مُصَاحِبَةً لَهُمْ إِذْ كَانُوا بِمَحَلِّ اللُّطْفِ وَالرِّفْقِ حَيْثُمَا حَلُّوا إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَمَوْقِعُ (مِنَّا) - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ- مَوْقِعٌ رَشِيقٌ جِدًّا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
جَعَلَا لَهُ شِرْكًا فِيهِ: لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ
الصِّلَةُ مِنْ فَسَادِ ذَلِكَ الْجَعْلِ، وَظُلْمِ جَاعِلِهِ، وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْمَجْعُولِ شَرِيكًا لِمَا جُعِلَ لَهُ، وَكُفْرَانِ نِعْمَةِ ذَلِكَ الْجَاعِلِ، إِذْ شَكَرَ لِمَنْ لَمْ يُعْطِهِ، وَكَفَرَ مَنْ أَعْطَاهُ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ.
وَجَعَلَ الْمَوْصُولَ (مَا) دُونَ (مَنْ) بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَطِيَّةٌ، أَوْ لِأَنَّ حَالَةَ الطُّفُولَةِ أَشْبَهُ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ.
وَهَذَا الشِّرْكُ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الْعَرَبِ، وَبِخَاصَّةٍ أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَجْعَلُ ابْنَهُ سَادِنًا لِبُيُوتِ الْأَصْنَامِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْجُرُ ابْنُهُ إِلَى صَنَمٍ لِيَحْفَظَهُ وَيَرْعَاهُ، وَخَاصَّةً فِي وَقْتِ الصِّبَا، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى صَنَمِهَا الَّذِي تَعْبُدُهُ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّي ابْنَهُ:
عَبْدَ كَذَا، مُضَافًا إِلَى اسْمِ صَنَمٍ كَمَا سَمَّوْا عَبْدَ الْعُزَّى، وَعَبْدَ شَمْسٍ، وَعَبْدَ مَنَاة، وَعبد يَا ليل، وَعَبْدَ ضَخْمٍ، وَكَذَلِكَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَزَيْدُ مَنَاءَةَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّعْبِيدِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، يَوْمَ أُحُدٍ: «اعْلُ هُبَلُ» وَقَالَتِ امْرَأَةُ الطُّفَيْلِ لِزَوْجِهَا الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ حِينَ أَسْلَمَ وَأَمَرَهَا بِأَنْ تُسْلِمَ «لَا نَخْشَى عَلَى الصِّبْيَةِ مِنْ (ذِي الشَّرَى) شَيْئًا» ذُو الشَّرَى صَنَمٌ.
وَجُمْلَةُ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ كُلِّهِ: مَا ذُكِرَ مِنْهُ آنِفًا مِنْ إِشْرَاكِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ اللَّهِ فِيمَا آتَاهُمَا، وَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَصْنَافِ إِشْرَاكِهِمْ.
وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّ التَّنْزِيهَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا قَبْلُهُ مِنَ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ الْعَجِيبِ، وَالْمِنَنِ الْعَظِيمَةِ، فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ بِحَقٍّ، وَهُوَ إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ مُخَاطَبٌ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يُشْرِكُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَهَا مِنْ دَلِيلِ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ: حَدِيثًا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فِي تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لِحَوَّاءَ أَنْ تُسَمِّيَ وَلَدَهَا عَبَدَ الْحَارِثِ، وَالْحَارِثُ اسْمُ إِبْلِيسَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ
وفِي رَيْبِهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُفِيدَةٌ إِحَاطَةَ الرَّيْبِ بِهِمْ، أَيْ تَمَكُّنَهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي رَيْبِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ يَتَرَدَّدُونَ.
وَالتَّرَدُّدُ حَقِيقَتُهُ ذِهَابٌ وَرُجُوعٌ مُتَكَرِّرٌ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَحَيِّرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ بِحَالِ الْمَاشِي وَالرَّاجِعِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْرِيحٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ أَمْرَ اسْتِئْذَانِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ قَدْ عرفه النَّاس.
[٤٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٦]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: ٤٥] لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا:
أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِذْ لَوْ أَرَادُوهُ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ. وَهَذَا تَكْذِيبٌ لزعمهم أنّهم تهيّأوا لِلْغَزْوِ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُمُ الْأَعْذَارُ فَاسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ لِأَنَّ عَدَمَ إِعْدَادِهِمُ الْعُدَّةَ لِلْجِهَادِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ إِرَادَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ.
والعدّة بِضَمِّ الْعَيْنِ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، كَالسِّلَاحِ لِلْمُحَارِبِ، وَالزَّادِ لِلْمُسَافِرِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِعْدَادِ وَهُوَ التَّهْيِئَةُ.
وَالْخُرُوجُ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ شَرْطُ لَوْ مِنْ فَرْضِ إرادتهم الْخُرُوج تَأْكِيد الانتفاء وُقُوعِهِ بِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ، وَعَبَّرَ عَنْ ضِدِّ
وَجُمْلَةُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِعَمَلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَالْعُزُوبُ: الْبُعْدُ، وَهُوَ مَجَازٌ هُنَا لِلْخَفَاءِ وَفَوَاتِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْخَفَاءَ لَازِمٌ لِلشَّيْءِ الْبَعِيدِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِاسْمِ الذَّاتِ دُونَ صِفَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ: عَنْ رَبِّكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْزُبُ- بِضَمِّ الزَّايِ-، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الزَّايِ- وَهُمَا
وَجْهَانِ فِي مُضَارِعِ (عَزَبَ).
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ الَّذِي فِي مَا يَعْزُبُ.
وَالْمِثْقَالُ: اسْمُ آلَةٍ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقَلِ الشَّيْءِ فَهُوَ وَزْنُ مِفْعَالٍ مِنْ ثَقُلَ، وَهُوَ اسْمٌ لِصَنْجٍ مُقَدَّرٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ يُوزَنُ بِهِ الثِّقَلُ.
وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْهَبَاءَةِ الَّتِي تُرَى فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ كَغُبَارٍ دَقِيقٍ جِدًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأَوَّلُ. وَذُكِرَتِ الذَّرَةُ مُبَالَغَةً فِي الصِّغَرِ وَالدِّقَّةِ لِلْكِنَايَةِ بِذَلِكَ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّرَّةِ يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ هُنَا الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ وَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ. وَالْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ وَالْأَبْعَادِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ. وَتَقْدِيمُ الْأَرْضِ هُنَا لِأَنَّ مَا فِيهَا أَعْلَقُ بِالْغَرَضِ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ وَهُوَ أَعْمَالُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٣] عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِذِكْرِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ النَّاسِ وَمُعْظَمُهُ فِي السَّمَاءِ لَاءَمَ ذَلِكَ أَنْ قُدِّمَتِ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ.
وَعُطِفَ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ عَلَى ذَرَّةٍ تَصْرِيحًا بِمَا كُنِّيَ عَنْهُ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْرَامِ.
وأَصْغَرَ بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَرَّةٍ
دَالَّةً عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ يَنَالُهُ فَهِيَ خَبَرٌ إِلَهِيٌّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يَحْسَبُونَهَا مِنَ الْإِنْذَارِ بِالْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي يَزُولُ تَسَبُّبُهَا بِتَعْطِيلِ بَعْضِهَا.
وَقَوْلُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا لِابْنِهِ تَحْذِيرٌ لَهُ مَعَ ثِقَتِهِ بِأَنَّ التَّحْذِيرَ لَا يُثِيرُ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةً لِإِخْوَتِهِ لِأَنَّهُ وَثِقَ مِنْهُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَمَكَارِمِ الْخُلُقِ. وَمَنْ كَانَ حَالُهُ هَكَذَا كَانَ سَمْحًا، عَاذِرًا، مُعْرِضًا عَنِ الزَّلَّاتِ، عَالِمًا بِأَثَرِ الصَّبْرِ فِي رِفْعَةِ الشَّأْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِإِخْوَتِهِ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سُورَة يُوسُف:
٩٠] وَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سُورَة يُوسُف:
٩٢]. وَقَدْ قَالَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَخِيهِ الَّذِي قَالَ لَهُ لِأَقْتُلُنَّكَ حَسَدًا لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [سُورَة الْمَائِدَة: ٢٨]. فَلَا يُشْكِلُ كَيْفَ حَذَّرَ يَعْقُوبُ يُوسُفَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَا حَذَّرَهُ إِلَّا مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ إِخْوَتِهِ. وَهَذَا كاعتذار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ اللَّذَيْنِ لَقِيَاهُ لَيْلًا وَهُوَ يُشَيِّعُ زَوْجَهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى بَيْتِهَا
فَلَمَّا رَأَيَاهُ وَلَّيَا، فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَكْبَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي نُفُوسِكُمَا»
. فَهَذِهِ آيَةُ عِبْرَةٍ بِتَوَسُّمِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَحْوَالَ أَبْنَائِهِ وَارْتِيَائِهِ أَنْ يَكُفَّ كَيْدَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
فَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَى
إِخْوَتِهِ. وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُمْ إِلَى إِضْرَارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ وَهُوَ
كَيْفَ تَهْلَكُ فِئَةٌ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي عَظَمَتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَا هُوَ دُونَهَا، فَمَبْدَأُ الِاسْتِئْنَافِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مُوقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ، قُدِّمَ عَلَيْهَا كَمَا تَجْعَلُ النَّتِيجَةَ مُقَدَّمَةً فِي الْخَطَابَةِ وَالْجِدَالِ عَلَى دَلِيلِهَا. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْخَطَابَةِ».
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا سَبَقَهُ مِنْ تَفَرُّقِ الرَّمَادِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.
وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَرَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُظَنُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ عَنْ إِمْكَانِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالرُّؤْيَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِلْمِ النَّاشِئِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مُشَاهَدَةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَقَلِّ تَأَمُّلٍ لِسُهُولَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ فَمُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ عَمِيقٍ. فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهُ رُؤْيَةَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ عُلِّقَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١٠١].
وَالْحَقُّ هُنَا: الْحِكْمَةُ، أَيْ ضِدُّ الْعَبَثِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة الدُّخان: ٣٨، ٣٩].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خَلَقَ) بِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ مَفْعُولُهُ وَالْأَرْضَ عُطِفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ (خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى (السَّمَاوَاتِ) وَبِخَفْضِ (الْأَرْضِ).
وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ التَّفْضِيلُ فِي الرِّزْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ أَسْبَابَهُ خَارِجَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عُقُولِ الْبَشَرِ، وَالْحَكِيمُ لَا يَسْتَفِزُّهُ ذَلِكَ بِعَكْسِ قَوْلِ ابْنِ الرَّاوِنْدِيِّ:
نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا
وَهَذَا الْحُكْمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ قَائِلِهِ فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِالنِّحْرِيرِيَّةِ.
وَتُفِيدُ وَرَاءَ الِاسْتِدْلَالِ مَعْنَى الِامْتِنَانِ لِاقْتِضَائِهَا حُصُولَ الرِّزْقِ لِلْجَمِيعِ.
فَجُمْلَةُ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ مُقَدَّمَةٌ لِلدَّلِيلِ وَمِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الرِّزْقِ يَقْتَضِي الْإِنْعَامَ بِأَصْلِ الرِّزْقِ.
وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ مَنَاطَ الِاسْتِدْلَالِ، إِنَّمَا الِاسْتِدْلَالُ فِي التَّمْثِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ الْآيَةَ.
وَالْقَوْلُ فِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ الْجَلَالَةِ وَبِنَاءَ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَيْهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧٠]. وَالْمَعْنَى: اللَّهُ لَا غَيْرُهُ رَزَقَكُمْ جَمِيعًا وَفَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ وَلَا يَسَعُكُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ لَهُ.
وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِدْلَالُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، كَمَا قِيلَ: لَمْحَةٌ دَالَّةٌ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْرِيعٌ بِالْفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ. وَهُوَ إِدْمَاجٌ جَاءَ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ لِتِبْيَانِ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حِينَ سَوَّوْا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْخَالِقِ فَأَشْرَكُوهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَسَادًا فِي تَفْكِيرِهِمْ. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَةِ الْحَجِّ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ). فَمَثَّلَ بُطْلَانَ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِحَالَةِ أَهْلِ النِّعْمَةِ الْمَرْزُوقِينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ مَعَهُمْ فِي فَضْلِ رِزْقِهِمْ فَكَيْفَ يُسَوُّونَ بِاللَّهِ عَبِيدَهُ فِي صِفَتِهِ الْعُظْمَى وَهِيَ الْإِلَهِيَّةُ.
وَتَحْكِيمِهِ فِي أَعْدَائِهِ، فَأَمَرَهُ بِ قُلْ كَفى بِاللَّهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ وَتَعَهُّدًا لَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ وَهُودٌ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٦]، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الرُّسُلِ قَالَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا رَدٌّ لِمَجْمُوعِ مُقْتَرَحَاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.
وَمَفْعُولُ كَفى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كَفَانِي. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَهُوَ الْمُخْبِرِ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ.
وَأُرِيدَ بِالشَّهِيدِ هُنَا الشَّهِيدُ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّصِيرِ وَالْحَاكِمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبُ الْحُكْمِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ ظَرْفَ (بَيْنَ) يُنَاسِبُ مَعْنَى الْحُكْمِ. وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف:
٨٧] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: ٣].
وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ فِعْلِ كَفى بِفَاعِلِهِ. وَأَصْلُهُ:
كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِهِ تَعَالَى، والخبير: الْعَلِيمُ.
وَأُرِيدَ بِهِ الْعَلِيمُ بِالنَّوَايَا وَالْحَقَائِقِ، والبصير: الْعَلِيمُ بِالذَّوَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مِنْ أَحْوَالِهَا. ،
وَالْمَقْصُودُ مِنِ اتِّبَاعِهِ بِهِ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَشُمُولُهُ.
[٩٧]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٩٧]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ
الْهُدى
[الْإِسْرَاء: ٩٤] جَمْعًا بَيْنَ الْمَانِعِ الظَّاهِرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْهُدَى وَبَيْنَ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ حِرْمَانُ التَّوْفِيقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ، وَإِدْخَالُ الْأُمَّةِ فِي حَضْرَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَفِي ذَلِكَ إِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِإِبْلَاغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي [طه: ٤٢]، أَيْ لَا تَضْعُفَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فِي تَحْصِيلِ مَا دَعَا بِهِ إِكْثَارٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمَا وَذِكْرِهِمَا اللَّهَ.
وَأَيْضًا فِي التَّعَاوُنِ عَلَى آدَاءِ الرِّسَالَةِ تَقْلِيلٌ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِضَرُورَاتِ الْحَيَاةِ، إِذْ يُمْكِنُ
أَنْ يَقْتَسِمَا الْعَمَلَ الضَّرُورِيَّ لِحَيَاتِهِمَا فَيَقِلُّ زَمَنُ اشْتِغَالِهِمَا بِالضَّرُورِيَّاتِ وَتَتَوَفَّرُ الْأَوْقَاتُ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَتِلْكَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِكِلَيْهِمَا فِي التَّبْلِيغِ.
وَالَّذِي أَلْجَأَ مُوسَى إِلَى سُؤَالِ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِشِدَّةِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَمَنْعِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مُفَارَقَةِ ضَلَالِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَتِهِ فِتْنَةً لِلدَّاعِي فَسَأَلَ الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَة ليتوفّرا لِلتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ كَثِيرًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ شَرْحَ صَدْرِهِ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ حَالِي وَحَالَ أَخِي، وَإِنِّي مَا دَعَوْتُكَ بِمَا دَعَوْتُ إِلَّا لِأَنَّنَا مُحْتَاجَانِ لِذَلِكَ، وَفِيهِ تَفْوِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَأَنَّهُ مَا سَأَلَ سُؤَالَهُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ.
وَقَوْلُهُ قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَعْدٌ لَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَتَصْدِيقٌ لَهُ فِيمَا تَوَسَّمَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ.
وَالسُّؤْلُ بِمَعْنَى الْمَسْئُولِ. وَهُوَ وَزْنُ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْخُبْزِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ، وَالْأَكْلِ بِمَعْنَى الْمَأْكُولِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقْدَةَ زَالَتْ عَنْ لِسَانِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْكَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ أَقَامَ هَارُونَ بِمُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ. وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَنْتَ تَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ وَهَارُونُ أَخُوكَ يُكَلِّمُ فِرْعَوْنَ
وَجُمْلَةُ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَجُمْلَة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْحَج: ١٢] الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ انْقَلَبَ أَيْ أُسْقِطَ فِي الشِّرْكِ.
وَالْخُسْرَانُ: تَلَفُ جُزْءٍ مِنْ أَصْلِ مَالِ التِّجَارَةِ، فَشَبَّهَ نَفْعَ الدُّنْيَا وَنَفْعَ الْآخِرَةِ بِمَالِ التَّاجِرِ السَّاعِي فِي تَوْفِيرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ تَحْصِيلَهُ، وَثَنَّى عَلَى ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْخُسْرَانِ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُرَادِفَاتِ مَالِ التِّجَارَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَشَبَّهَ فَوَاتَ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ بخسارة المَال.
وَتَعْلِيق الْخُسْرَانِ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ خَسِرَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ
الْآخِرَةِ.
فَخَسَارَةُ الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا أَصَابَهُ فِيهَا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَخَسَارَةُ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهَا الْمَرْجُوِّ لَهُ.
وَالْمُبِينُ: الَّذِي فِيهِ مَا يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ خُسْرَانٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خُسْرَانٌ شَدِيدٌ لَا يَخْفَى.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ لِتَقْرِيرِ مَدْلُولِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ.
ادُّعِيَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ انْحَصَرَتْ فِي خُسْرَانِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ وَنَفْيُ الشَّكِّ فِي وُقُوعِهِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَكَّدَ مَعْنَى الْقَصْرِ فَأَفَادَ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ الْمَقْصُورِ
وَكَلِمِ الْغَزَلِ. وَمِنْ ذَلِكَ رَقْصُ النِّسَاءِ فِي مَجَالِسِ الرِّجَالِ وَمِنْ ذَلِكَ التَّلَطُّخِ بِالطِّيبِ الَّذِي يَغْلُبُ عَبِيقُهُ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَلعن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ.
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ أَكْثَرَ ضَمَائِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا لِلْمُؤْمِنَاتِ مِنْ مَخْفُوضٍ وَمَرْفُوعٍ وَسَمَّاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: آيَةَ الضَّمَائِرِ.
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أُعْقِبَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَمْرِ جَمِيعِهِمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ دِفَاعًا لِدَاعٍ تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالشَّهْوَةِ فَيَصْدُرُ ذَلِكَ عَنِ الْإِنْسَانِ عَنْ غَفْلَةٍ ثُمَّ يَتَغَلْغَلُ هُوَ فِيهِ فَأُمِرُوا بِالتَّوْبَةِ لِيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ اللَّمَمِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ [النُّور: ٣٠]. وَوَقَعَ الْتِفَاتٌ مِنْ خطاب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ هَذَا تَذْكِيرٌ بِوَاجِبِ التَّوْبَةِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ قَبْلُ وَلَيْسَ اسْتِئْنَافَ تَشْرِيعٍ.
وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ وَرَدَ بِضَمِيرِ التَّذْكِيرِ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَأَنْ يُؤَمِّلُوا الْفَلَاحَ إِنْ هُمْ تَابُوا وَأَنَابُوا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَيُّهَ بَهَاءٍ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِ الْأَلْفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ مَعَ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنُونَ. فَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَاءِ بِدُونِ أَلْفٍ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ (أَيْ). وَوَقَفَ عَلَيْهَا
الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ إِلْغَاءِ أَمْرِهِمَا بِمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى شَأْنِهِمَا.
وَالتَّوْصِيَةُ: كَالْإِيصَاءِ، يُقَالُ: أَوْصَى وَوَصَّى، وَهِيَ أَمْرٌ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ بِهِ فَفِي الْإِيصَاءِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: ١٨٠] وَقَوله وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ فِي الْبَقَرَةِ [١٣٢].
وَفِعْلُ الْوِصَايَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْبَاءِ، تَقُولُ: أَوْصَى بِأَبْنَائِهِ إِلَى فُلَانٍ، عَلَى معنى أوصى بشؤونهم، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْبَاءِ أَيْضًا وَهُوَ الأَصْل مثل وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢]. فَإِذَا جُمع بَيْنَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَالْمُوصى بِهِ تَقول: أوصى بِهِ خيرا وَأَصله: أوصى بِهِ بِخَير لَهُ فَكَانَ أصل التَّرْكِيب بدل اشْتِمَال، وَغَلَبَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنَ الْبَدَلِ اكْتِفَاءً بِوُجُودِهَا فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً تَقْدِيرُهُ: وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ بِحُسْنٍ، بِنَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْحُسْنُ: اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ بِإِحْسَانٍ. وَالْجُمْلَةُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَصَّيْنَا وَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ.
وَالْمُجَاهَدَةُ: الْإِفْرَاطُ فِي بَذْلِ الْجُهْدِ فِي الْعَمَلِ، أَيْ أَلَحَّا لِأَجْلِ أَنْ تُشْرِكَ بِي.
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْعِلْمُ الْحَقُّ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنْ تُشْرِكَ بِي أَشْيَاءَ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦]، أَيْ عِلْمٌ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، أَيْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ [٣٠] كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ (١).
وَجُمْلَةُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مُقَدِّمَةُ
الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَمَّا آذَنَتْ بِفَظَاعَةِ أَمْرِ الشِّرْكِ وَحَذَّرَتْ مِنْ طَاعَةِ الْمَرْءِ وَالِدَيْهِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ
_________
(١) فِي المطبوعة (من شَيْء).
وَ (أَلْفَ) عِنْدَ الْعَرَبِ مُنْتَهَى أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَعْدَادٍ أُخْرَى مَعَ عَدَدِ الْأَلْفِ كَمَا يَقُولُونَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَلْفُ أَلْفٍ.
وأَلْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يُقَالُ: زُرْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦]، وَهُوَ هُنَا بِتَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ كَلِمَةِ نَحْوَ، أَيْ كَانَ مِقْدَارُهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: ٤٧]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَعُدُّونَ، أَيْ: مِمَّا تَحْسُبُونَ فِي أَعْدَادِكُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولِيَّةٌ وَهُوَ وَصْفٌ لِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ اسْمِ أَلْفَ مُسْتَعْمَلًا
فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيضَاحًا لِلتَّشْبِيهِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ مَعَ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِمَدْلُولِهِ فَكَانَ رَافِعًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْعدَد.
[٦]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٦]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
جِيءَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى اسْم الْجَلالَة بعد مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ ومحيط بِجَمِيعِ شؤونها فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، أَيْ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ الْخَلْقِ، وَعَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ، فَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ: كُلُّ غَائِبٍ وَكُلُّ مَشْهُودٍ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِحَالَتِهِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَامِ تَفَرَّقَتْ وَتَخَلَّلَتِ الْأَرْضَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠]. وَأَمَّا عَطْفُ وَالشَّهادَةِ فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَاحْتِرَاسٌ.
تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ فَيَخْلِطُونَ بَيْنَهَا وَلَا يَضَعُونَ فِي مَوَاضِعِهَا زَيْنَهَا وَشَيْنَهَا.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا أَن حَالهم غَيْرُ دالّ على رضى اللَّهِ عَنْهُم وَلَا على عَدَمِهِ، وَهَذَا الْإِبْطَالُ هُوَ مَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ نَقْضًا إِجْمَالِيًّا.
وَبَسْطُ الرِّزْقِ: تَيْسِيرُهُ وَتَكْثِيرُهُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْبَسْطُ وَهُوَ نَشْرُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ تَكْثُرُ مِسَاحَةُ انْتِشَارِهِ.
وَقَدْرُ الرِّزْقِ: عُسْرُ التَّحْصِيلِ عَلَيْهِ وَقِلَّةُ حَاصِلِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ الْقَدْرُ، أَيِ التَّقْدِيرُ وَهُوَ التَّحْدِيدُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يَسْهُلُ عَدُّهُ وَحِسَابُهُ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي ضِدِّهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الْبَقَرَة: ٢١٢]، وَمَفْعُولُ يَقْدِرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ يَبْسُطُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا أَوْ طَالِحًا، وَمن انْتِفَاء علمهمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا بَسْطَ الرِّزْقِ عَلَامَةً عَلَى الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ، وَضِدَّهُ عَلَامَةً عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ.
وَبِهَذَا أَخْطَأَ قَوْلُ أَحْمد بن الرواندي:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٌ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٍ جَاهِلٌ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا
فَلَوْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا لَمَا تَحَيَّرَ فَهْمُهُ، وَمَا تَزَنْدَقَ مِنْ ضِيقِ عطن فكره.
[٣٧]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣٧]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما أَمْوالُكُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ [سبأ: ٣٦] الَخْ فَيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا
وَأَوْلاداً
[سبأ: ٣٥] فَتَكُونَ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةً إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً.
تَجْوِيزَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمُ اسْتِقْصَاءُ الِاسْتِبْعَادِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الرِّسَالَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: ٤] وَغَيْرُهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] وَهُوَ أَصْلُ إِنْكَارِ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أَيْ لَيْسَ قَصْدُهُمُ الطَّعْنَ فِي اخْتِصَاصِكَ بِالرِّسَالَةِ وَلَكِنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَصْلِ إِنْزَالِهِ، فَتَكُونُ بَلْ إِضْرَابًا إِبْطَالِيَّا تَكْذِيبًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ إِنْكَارِهِمْ إِنْزَالَ الذِّكْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِنَّمَا قَصْدُهُمُ الشَّكُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَى أَحَدٍ بِالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي شَكًّا مِنْ وُقُوعِهِ. وَالشَّكُّ يُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا مِنْ خَبَرٍ عَنْهُمْ إِلَى خَبَرٍ آخَرَ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا وَتَكُونُ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالْمَعْنَى: وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ كُنْهِ الْقُرْآنِ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ، وَمَرَّةً يَقُولُونَ: شِعْرٌ، وَمَرَّةً: سِحْرٌ، وَمَرَّةً: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَمَرَّةً: قَوْلُ كَاهِنٍ. فَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ حَقِيقَتُهُ أَيِ التَّرَدُّدُ فِي الْعِلْمِ. وَإِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَلِتَحْقِيقِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ تَوَصُّلًا إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، جُعِلَتْ مُلَابَسَةُ الشَّكِّ إِيَّاهُمْ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ الْمُحِيطِ بِمَحْوَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ جَانِبٌ مِنْ جَوَانِبِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرِي ابْتِدَائِيَّةٌ لِكَوْنِ الشَّكِّ صِفَةً لَهُمْ، أَيْ نَشَأَ لَهُمُ
فَكَانَتْ آيَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَى مُعَانَدِيهِ أَقْوَى مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ نَحْوَ الصَّوَاعِقِ أَوِ الرِّيحِ، وَعَنِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ نَحْوَ الْغَرَقِ وَالْخَسْفِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ حَتَّى يَكُونَ انْغَلَابُهُمْ أَقْطَعَ لِحُجَّتِهِمْ وَأَخْزَى لَهُمْ نَظِيرَ آيَةِ عَصَا مُوسَى مَعَ عصيّ السَّحَرَة.
[٧٩- ٨٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٠]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠)
انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا سَخَّرَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ نِظَامِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَبِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْإِيجَادِ وَتَطَوُّرِهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَلْطَافِ بِهِمْ وَمَا أَدْمَجَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فَكَيْفَ يَنْصَرِفُ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ آلِهَةً أُخْرَى، إِلَى الِامْتِنَانِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ لِمَنَافِعِهِمُ الْجَمَّةِ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ سَادِسٌ.
وَالْقَوْلُ فِي افْتِتَاحِهَا كَالْقَوْلِ فِي افْتِتَاحِ نَظَائِرِهَا السَّابِقَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ بِضَمِيرِهِ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِبِلُ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَكَانَتِ الْإِبِلُ غَالِبَ مَكَاسِبِهِمْ.
وَالْجَعْلُ: الْوَضْعُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّهْيِئَةُ، فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ تَقْرِيبُ نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ الْمُنْعِمِ.
وَأُدْمِجَ فِي الِامْتِنَانِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَبَلِيغِ الْحِكْمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
يُرِيكُمْ آياتِهِ
[غَافِر: ٨١] أَيْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ وَذَمِّ الشَّيَاطِينِ لِيَعَافُهُمُ النَّاسُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
[٣٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٩]
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨] وَأَنَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فعل جاءَنا [الزخرف: ٣٨] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ حَضَرَا لِلْحِسَابِ وَتِلْكَ الْحَضْرَةُ تُؤْذِنُ بِالْمُقَاوَلَةِ فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا حَضَرَا وَتَبَرَّأَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قَصْدًا لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا فَيَقُولُ اللَّهُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ عَشَوْا عَن ذكر الرحمان وَلِشَيَاطِينِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تُلْقُوا التَّبِعَةَ عَلَى الْقُرَنَاءِ فَأَنْتُمْ مُؤَاخَذُونَ بِطَاعَتِهِمْ وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِإِضْلَالِكُمْ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ عَذَابَ فَرِيقٍ لَا يُخَفِّفُ عَنْ فَرِيقٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٨].
وَوُقُوعُ فِعْلِ يَنْفَعَكُمُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ
نَافِعًا بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا يُخَفِّفُ عَنِ الشَّرِيكِ مِنْ عَذَابِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنْ تَسَلِّي أَحَدٍ بِرُؤْيَةِ مِثْلِهِ مِمَّنْ مُنِيَ بِمُصِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَعَالَمُ الْحَقَائِقِ دُونَ الْأَوْهَامِ. وَفِي هَذَا التَّوَهُّمِ جَاءَ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى جَعْلِ الْمَصْدَرِ فَاعِلًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِذْ ظَلَمْتُمْ
مُعَامَلَتِهِ وَخِطَابِهِ وَنِدَائِهِ، دَعَا إِلَى تَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهَا مَا ارْتَكَبَهُ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ لَمَّا نادوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُيُوتِهِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤]. وَوُجُوبِ صِدْقِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ. وَالتَّثَبُّتِ فِي
نَقْلِ الْخَبَرِ مُطْلَقًا وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُجَانَبَةِ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَتَطَرَّقَ إِلَى مَا يَحْدُثُ مِنَ التَّقَاتُلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ آدَابِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا خُلُقِ الْكُفْرِ فِي بَعْضِ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ تَقْوِيمًا لِأَوَدِ نُفُوسِهِمْ.
وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦] : هَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ إِمَّا مَعَ اللَّهِ أَوْ مَعَ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو مَعَ غير هما من أنباء الْجِنْسِ، وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاخِلِينَ فِي رُتْبَةِ الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجِينَ عَنْهَا وَهُوَ الْفُسُوقُ، وَالدَّاخِلُ فِي طَائِفَتِهِمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، قَالَ: فَذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مِنْ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَسَنَأْتِي عَلَى بَقِيَّةِ كَلَامِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَيُسَمَّى الْمُحْكَمُ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَفِي مَبْدَأِ الْمُفَصَّلِ عِنْدَنَا أَقْوَالٌ عَشَرَةٌ أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ قِيلَ: إِنَّ مَبْدَأَهُ سُورَةُ ق وَقِيلَ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ، وَفِي مَبْدَأِ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ سُورَةُ عَبَسَ، وَفِي قِصَارِهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مِنْ سُورَةِ وَالضُّحَى.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي مَبْدَأِ الْمُفَصَّلِ عَلَى أَقْوَالٍ اثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمُصَحَّحُ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنَ
يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَيَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»
اه، أَيْ لَمْ يَتَبَيَّنُ لَهُ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الَّذِي سَيُهْزَمُ وَيُوَلِّي الدُّبُرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ قِتَالٌ وَلَا كَانَ يَخْطُرُ لَهُم ببال.
[٤٦]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٤٦]
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦)
بَلِ لِلْإِضْرَابِ الْاِنْتِقَالِيِّ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، إِلَى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ
الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
[السَّجْدَة: ٢١]، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: ١٢٧] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦].
والسَّاعَةُ: عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ.
وَالْمَوْعِدُ: وَقْتُ الْوَعْدِ، وَهُوَ هُنَا وَعْدُ سُوءٍ، أَيْ وَعِيدٌ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ أَيْ مَوْعِدٌ لَهُمْ. وَهَذَا إِجْمَالٌ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَفْصِلُهُ وَهُوَ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ. وَوَجْهُ الْعَطْفِ أَنَّهُ أُرِيدَ جَعْلُهُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا.
وأَدْهى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَنْ دَهَاهُ إِذَا أَصَابَهُ بِدَاهِيَةٍ، أَيِ السَّاعَةُ أَشَدُّ إِصَابَةً بِدَاهِيَةِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ مِنْ دَاهِيَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
وَأَمَرُّ: أَيْ أَشَدُّ مَرَارَةً. وَاسْتُعِيرَتِ الْمَرَارَةُ لِلْإِحْسَاسِ بِالْمَكْرُوهِ عَلَى طَرِيقَةِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ الْغَائِبِ بِالْمَحْسُوسِ الْمَعْرُوفِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ السَّاعَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّاعَةُ أَدْهى دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِهَا لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَتَسِيرَ مسير الْمثل.
بَعْضِهِمْ: افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ.
وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِشَبَهِهِمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
وَمَعْنَى حُمِّلُوا: عُهِدَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَكُلِّفُوا بِمَا فِيهَا فَلَمْ يَفُوا بِمَا كُلِّفُوا، يُقَالُ: حَمَّلْتُ فُلَانًا أَمْرَ كَذَا فَاحْتَمَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا سُورَةُ الْأَحْزَابِ [٧٢].
وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ، بِتَشْبِيهِ إِيكَالِ الْأَمْرِ بِحَمْلِ الْحِمْلِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا تَمْثِيلًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وَفَائِهِمْ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُ مِنْ تَحَمُّلِهِمْ إِيَّاهُ.
وَجُمْلَةُ يَحْمِلُ أَسْفاراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْحِمَارِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْحِمَارِ هُنَا تَعْرِيفُ جِنْسٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا نَكِرَةٌ مَعْنًى، فَصَحَّ فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُ الْحَالِيَّةِ وَالْوَصْفِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْنِيعَ حَالِهِمْ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُتَعَارَفِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِذَمِّ حَالِهِمْ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.
وبِئْسَ فِعْلُ ذَمٍّ، أَيْ سَاءَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى جَهْلِهِمْ بِمَعَانِي التَّوْرَاةِ تَكْذِيبًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ.
ومَثَلُ الْقَوْمِ، فَاعل بِئْسَ. وأغنى هَذَا الْفَاعِلُ عَنْ ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ حَالُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْلُكْ فِي هَذَا التَّرْكِيب طَرِيق الْإِبْهَام عَلَى شَرْطِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ مَا بَيَّنَهُ بِالْمَثَلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. فَصَارَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمَثَلِ ثَقِيلًا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتِ.
وَهَذَا مِنْ تَفَنُّنَاتِ الْقُرْآنِ. والَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةُ الْقَوْمِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ لَا يُرْجَى لَهُمْ مِنْهُ انْفِكَاكٌ لِأَنَّ اللَّهُ حَرَمَهُمُ اللُّطْفَ وَالْعِنَايَةَ بِإِنْقَاذِهِمْ لِظُلْمِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدًا مِنَ الْكَافِرِينَ يُرِيدُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُضِلُّوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَلِدُوا أَبْنَاءً يَنْشَأُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَالْأَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْكُرَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يُرَادَ أَرْضٌ مَعْهُودَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٥٥].
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ يَوْمَئِذٍ مُنْحَصِرِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَيَجُوزُ خِلَافُهُ، وَعَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَنْشَأُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ قَدْ غَمَرَ جَمِيعَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ طُوفَانًا قَاصِرًا عَلَى نَاحِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ عُمُومِ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٤].
وَخَبَرُ إِنَّكَ مَجْمُوعُ الشَّرْطِ مَعَ جَوَابِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِنَّ) لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُبْتَدَأٌ وَشَرْطٌ رَجَحَ الشَّرْطُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فَأُعْطِيَ الشَّرْطُ الْجَوَابَ وَلَمْ يُعْطَ الْمُبْتَدَأُ خَبَرًا لِدَلَالَةِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ.
وَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّهُمْ لَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا بِأَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَنْشَأُونَ فِيهِمْ فَيُلَقِّنُونَهُمْ دِينَهُمْ وَيَصُدُّونَ نُوحًا عَنْ أَنْ يُرْشِدَهُمْ فَحَصَلَ لَهُ عِلْمٌ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ.
وَالْمَعْنَى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا مَنْ يَصِيرُ فَاجِرًا كَفَّارًا عِنْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ الْعَقْلِ.
وَالْفَاجِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُجُورِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ الْفَسَادِ.
وَالْكُفَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالْكُفْرِ، أَيْ إِلَّا مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْفِعْلِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢].
وَفِي كَلَامِ نُوحٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُصْلِحِينَ يَهْتَمُّونَ بِإِصْلَاحِ جِيلِهِمُ الْحَاضِرِ وَلَا يُهْمِلُونَ تَأْسِيسَ أُسُسِ إِصْلَاحِ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ إِذِ الْأَجْيَالُ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي نَظَرِهِمُ الْإِصْلَاحِيِّ. وَقَدِ انْتَزَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠] دَلِيلًا عَلَى إِبْقَاءِ أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ بَيْنَ الْجَيْشِ الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ وَجَعَلَهَا خَرَاجًا لِأَهْلِهَا قَصْدًا لِدَوَامِ الرِّزْقِ مِنْهَا لِمَنْ سَيَجِيءُ من الْمُسلمين.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَجُمْلَةُ: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَلْمِزُوهُمْ بِالضَّلَالِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ مُرْسَلٌ لِيَكُونُوا مُوَكَّلِينَ بِأَعْمَالِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُرْسَلِ وَلِذَلِكَ نُفِيَ أَنْ يَكُونُوا أُرْسِلُوا حَافِظِينَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، كُلَّمَا رَأَوْهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الْمُرْسَلِ لِيَتَتَبَّعَ أَحْوَالَ أَحَدٍ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ الْحِرْصُ عَلَى التَّبْلِيغِ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُقَيَّضِينَ لِلرِّقَابَةِ عَلَيْهِمْ والاعتناء بصلاحهم.
وَالْخَبَر مُسْتَعْمل فِي التهكم بالمشركين، أَي لم يَكُونُوا مقيّضين للرقابة عَلَيْهِم وَالِاعْتِنَاءِ بِصَلَاحِهِمْ.
فَمَعْنَى الْحِفْظِ هُنَا الرِّقَابَةُ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِيَتَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْحِفْظِ وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ (عَلَى) فَيَنْتَفِي حَالُهُمُ الْمُمَثَّلُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على متعلّقه لِلِاهْتِمَامِ بِمُفَادِ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَبِمَجْرُورِهِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَأَفَادَتْ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَانَ سَبَبًا فِي جَزَائِهُمْ بِمَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَتَقْدِيمُ «الْيَوْمِ» عَلَى يَضْحَكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ الْأَبَدِيِّ وَقَوْلُهُ:
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فِي اتِّصَالِ نَظْمِهِ بِمَا قَبْلَهُ غُمُوضٌ. وَسَكَتَ عَنْهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَدَا ابْنَ عَطِيَّةَ. ذَلِكَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْيَوْمِ بِاللَّامِ مَعَ كَوْنِهِ ظَرْفًا مَنْصُوبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْيَوْمَ مُرَادٌ بِهِ يَوْمٌ حَاضِرٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ نَظِيرَ وَقْتِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا قَالَ: الْيَوْمَ يَكُونُ كَذَا، يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ يَوْمِهِ الْحَاضِرِ، فَلَيْسَ ضَحِكُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِحَاصِلٍ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ بِمَعْنَى: فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَى النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ فَيَوْمَئِذٍ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. وَابْنُ عَطِيَّةَ اسْتَشْعَرَ إِشْكَالَهَا فَقَالَ


الصفحة التالية
Icon