[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)ذلِكَ الْكِتابُ.
مَبْدَأُ كَلَامٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ فِي الْإِعْرَابِ بحروف الم [الْبَقَرَة: ١] كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَدْ جَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ حُرُوفُ الم مَسُوقَةً مَسَاقَ التَّهَجِّي لِإِظْهَارِ عَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى الم بِاعْتِبَارِهِ حَرْفًا مَقْصُودًا لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ التَّهَجِّي أَيْ ذَلِكَ الْحُرُوفُ بِاعْتِبَارِهَا مِنْ جِنْسِ حُرُوفِكُمْ هِيَ الْكِتَابُ أَيْ مِنْهَا تَرَاكِيبُهُ فَمَا أَعْجَزَكُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَيَكُونُ الم جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مَسُوقَةً لِلتَّعْرِيضِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَة مُبْتَدأ و (الْكتاب) خَبَرًا. وَعَلَى الْأَظْهَرِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْرُوفِ لَدَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ وَاسْمُ الْإِشَارَة مُبْتَدأ و (الْكتاب) بَدَلٌ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى
(الْكِتَابِ) النَّازِلِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ السُّوَرُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْقُرْآنُ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَا يَلْحَقُ بِهِ، فَيَكُونُ (الْكِتَابُ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُطْلِقَ حَقِيقَةً عَلَى مَا كُتِبَ بِالْفِعْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْكِتَابِ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ مِنْهُ وَمَا سَيَنْزِلُ لِأَنَّ نُزُولَهُ مُتَرَقَّبٌ فَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَشَبَّهَ بِالْحَاضِرِ فِي الْعِيَانَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ التَّقْدِيرِيِّ وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِلْحُضُورِ التَّقْدِيرِيِّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْكِتَابَ) حِينَئِذٍ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ ذلِكَ وَالْخَبَرُ هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ الْإِتْيَانُ فِي مِثْلِ هَذَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْقَرِيبِ وَالْمَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، قَالَ الرَّضِيُّ (١) «وُضِعَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْحُضُورِ وَالْقُرْبِ لِأَنَّهُ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ حِسًّا ثُمَّ يَصِحُّ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْغَائِبِ فَيَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ غَائِبٌ، وَيَقِلُّ أَنْ يُذْكَرَ بِلَفْظِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ فَتَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقُلْتُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَقُلْتُ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَكَذَا يَجُوزُ لَكَ فِي الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ عَنْ قَرِيبٍ أَنْ تُشِيرَ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ وَالْبُعْدِ كَمَا تَقُولُ: «وَاللَّهِ وَذَلِكَ قَسَمٌ عَظِيمٌ» لِأَنَّ اللَّفْظَ زَالَ سَمَاعُهُ فَصَارَ كَالْغَائِبِ وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ فِي هَذَا الْإِشَارَةُ بِلَفْظِ الْحُضُورِ فَتَقُولُ وَهَذَا قَسَمٌ عَظِيمٌ» اهـ، أَيِ الْأَكْثَرُ فِي مِثْلِهِ الْإِتْيَانُ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ وَيَقِلُّ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الْحَاضِرِ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي الْإِشَارَةِ لِلْقَوْلِ.
وَابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» سَوَّى بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي الْإِشَارَةِ لِكَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ إِذْ قَالَ: وَقَدْ يَتَعَاقَبَانِ (أَيِ اسْمُ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ) مُشَارًا
_________
(١) «شرح كَافِيَة ابْن الْحَاجِب» صفحة ٣٢ جُزْء ٢ طبع الآستانة.
أَيْ أَصَابَهُنَّ سُمٌّ فَقَتَلَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ.
وَقَدْ كَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ وَالْكِلْدَانِ حَجٌّ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْيُونَانِ زِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ لِمَوَاقِعَ مُقَدَّسَةٍ مِثْلَ أُولُمْبِيَا وَهَيْكَلِ (زِفِسْ) وَلِلْهُنُودِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ الَّتِي خَرَجُوا لِقَضَائِهَا، وَذِكْرُ الْحَجِّ مَعَهَا إِدْمَاجٌ (١)، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ يَوْمَئِذٍ، إِذْ كَانَ الْحَجُّ بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ فَفِي ذِكْرِهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَصِيرَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْمِيرِ وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ ضِدُّ الْإِخْلَاءِ وَلَكِنَّهَا بِهَذَا الْوَزْنِ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ مِيقَاتَهَا مَا عَدَا أَشْهُرَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ «إِذَا بَرِئَ الدُّبُرُ، وَعَفَا الْأَثَرُ، وَخَرَجَ صَفَرٌ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ» وَلَعَلَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ لِتَكُونَ الْعُمْرَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ وَإِرَاحَةِ الرَّوَاحِلِ.
وَاصْطَلَحَ الْمُضَرِيُّونَ عَلَى جَعْلِ رَجَبٍ هُوَ شَهْرُ الْعُمْرَةِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ فَلُقِّبَ بِرَجَبِ مُضَرٍ، وَتَبِعَهُمْ بَقِيَّةُ الْعَرَبِ، لِيَكُونَ الْمُسَافِرُ لِلْعُمْرَةِ آمِنًا مِنْ عَدُوِّهِ وَلِذَلِكَ لَقَّبُوا رَجَبًا (مُنْصِلَ الْأَسِنَّةِ) وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فُجُورًا.
وَقَوْلُهُ لِلَّهِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْعَرَبُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَنْوُونَ الْحَجَّ إِلَّا لِلَّهِ وَلَا الْعُمْرَةَ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتُ اللَّهِ وَحَرَمُهُ، فَالتَّقْيِيدُ هُنَا بِقَوْلِهِ لِلَّهِ تَلْوِيحٌ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَيْسَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَكَانُوا هُمْ سَدَنَةَ الْحَرَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، كَيْ لَا يَسْأَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي لَاقَوْا فِيهِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَصُدُّ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَحُجُّونَ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الصَّالِحَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ إِذَا حَفَّ بِهِ مَا يكدره لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَارِفًا عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْعَارِضِ عَنْهُ، وَمِنْ طُرُقِ إِزَالَتِهِ الْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ لِتَجْرِيدِ النِّيَّةِ مِمَّا كَانَ يُخَامِرُ نَوَايَا النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا وَضَعُوا هُبَلًا عَلَى الْكَعْبَةِ وَوَضَعُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ أَشْرَكُوا بِطَوَافِهِمْ وَسَعْيِهِمُ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ كِلْتَا الْفَائِدَتَيْنِ.
_________
(١) فِي «كشاف اصْطِلَاحَات الْفُنُون» للتهانوي، مَادَّة إدماج، ج (١/ ٤٦٤) : الإدماج فِي اصْطِلَاح يهل البديع: أَن يضمن كَلَام سيق لمعنء»، معنى آخر، وَهَذَا الْمَعْنى الآخر يجب أَن لَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَلَا يكون فِي الْكَلَام إِشْعَار بِأَنَّهُ مسوق لأَجله.
مَالِكٌ، فِي الْجَاسُوسِ يَتَجَسَّسُ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّهُ يُوكَلُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ التَّجَسُّسَ يَخْتَلِفُ الْمَقْصِدُ مِنْهُ إِذْ قَدْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ غُرُورًا، وَيَفْعَلُهُ طَمَعًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَلْتَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ دَأْبًا وَعَادَةً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ذَلِكَ زَنْدَقَةٌ لَا تَوْبَةَ فِيهِ، أَيْ لَا يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ كَالزِّنْدِيقِ، وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَام وَيسر الْكفَّار، إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رِدَّةٌ وَيُسْتَتَابُ، وَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ.
وَقَدِ اسْتَعَانَ الْمُعْتَمِدُ ابْنُ عَبَّادٍ صَاحِبُ إِشْبِيلِيَةَ بِالْجَلَالِقَةِ عَلَى الْمُرَابِطِينَ اللَّمْتُونِيِّينَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا أَمِير الْمُسلمين عليا بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، بِكُفْرِ ابْنِ عَبَّادٍ، فَكَانَتْ سَبَبَ اعْتِقَالِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اسْتَتَابَهُ.
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُؤْمِنُونَ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فِي حِينِ إِظْهَارِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَحَبَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَرْضِهِمُ النُّصْرَةَ لَهُمْ، وَهَذِهِ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُسْتَعَانُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَافِرٍ تَبِعَهُ يَوْمَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: «ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»
وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَحَدِيثُ «لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»
مُخْتَلَفٌ فِي سَنَدِهِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَنْسُوخٌ، قَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِغَزْوِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حُنَيْنٍ، وَفِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا
بأنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِيَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لِبَنِي
النَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ: «إِنَّا وَأَنْتُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَإِنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ النَّصْرَ فَإِمَّا قَاتَلْتُمْ مَعَنَا وَإِلَّا أَعَرْتُمُونَا السِّلَاحَ»
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا نَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمَعُونَةَ، وَإِذَا اسْتَأْذَنُونَا لَا نَأْذَنُ لَهُمْ:
لِأَنَّ الْإِذْنَ كَالطَّلَبِ، وَلَكِن إِذا أخرجُوا مَعَنَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ، وَرَامَ بِهَذَا الْوَجْهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَجَازَ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا بِلَا تَأْوِيلٍ.
وَالْإِيتَاءُ حَقِيقَتُهُ الدَّفْعُ وَالْإِعْطَاءُ الْحِسِّيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ حَقًّا لَهُ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: ١] وَفِي الْحَدِيثِ: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا».
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَجَمْعُ يَتِيمَةٍ، فَإِذَا جُمِعَتْ بِهِ يَتِيمَةٌ فَهُوَ فَعَائِلُ أَصْلُهُ يَتَائِمُ، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مكانيّ فَقَالُوا يتامىء ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا وَحُرِّكَتِ الْمِيمُ بِالْفَتْحِ، وَإِذَا جُمِعَ بِهِ يَتِيمٌ فَهُوَ إِمَّا جَمْعُ الْجَمْعِ بِأَنْ جُمِعَ أَوَّلًا عَلَى يَتْمَى، كَمَا قَالُوا: أَسِيرٌ وَأَسْرَى، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى يَتَامَى مِثْلُ أَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَوْ جَمْعُ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ لِكَوْنِهِ صَارَ اسْمًا مِثْلَ أَفِيلٍ وَأَفَائِلَ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مِنَ الْقَلْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِجَمْعِ يَتِيمَةٍ عَلَى يَتَائِمَ، وَبِجَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَائِلَ فِي قَوْلِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ:
أَأَطْلَالَ حُسْنٍ فِي الْبِرَاقِ الْيَتَائِمِ | سَلَامٌ عَلَى أَطْلَالِكُنَّ الْقَدَائِمِ |
وَقِيلَ: هُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ فُقِدَ أَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ صَغِيرًا وَكَبِرَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَحِيحًا. وَقَدْ أُرِيدَ بِالْيَتَامَى هُنَا مَا يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَغَلَبَ فِي ضَمِيرِ
التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوالَهُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِدَفْعِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ لَهُ مَا دَامَ مُطْلَقًا عَلَيْهِ اسْمُ الْيَتِيمِ، إِذِ الْيَتِيمُ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ لَفْظِ الْإِيتَاءِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْيَتِيمِ، فَلَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ آتُوا بِغَيْرِ مَعْنَى ادْفَعُوا. وَذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الْكِبَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ آتُوا
ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا إِنْ لَمْ تَنْجَحِ الْمُصَالَحَةُ بَيْنَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا فِي الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِرَاقَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لَهُمَا لِأَنَّ الْفِرَاقَ خَيْرٌ مِنْ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ. وَمَعْنَى إِغْنَاءِ اللَّهِ كُلًّا: إِغْنَاؤُهُ عَنِ الْآخَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِغْنَاءَ اللَّهِ كُلًّا إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِرَاقِ الْمَسْبُوقِ بِالسَّعْيِ فِي الصُّلْحِ.
وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً تَذْيِيلٌ وَتَنْهِيَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حكم النِّسَاء.
[١٣١- ١٣٣]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٣١ إِلَى ١٣٣]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
جُمْلَةُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُتَضَمِّنَةِ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: ١٢٨] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا [النِّسَاء: ١٢٩] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَذْيِيلَاتٍ لِتِلْكَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَخْ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي سَبَقَتْهَا: وَهِيَ جُمْلَةُ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النِّسَاء: ١٣٠] أَنَّ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ سَعَتِهِ. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلتَّقْوَى.
وَضَمِيرُ آثارِهِمْ لِلنَّبِيئِينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ. وَقَدْ أُرْسِلَ عِيسَى على عقب زَكَرِيَّاء كَافِلِ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَوَالِدِ يَحْيَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى عَلى آثارِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ. وَالْمُصَدِّقُ:
الْمُخْبِرُ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمُؤَيِّدُ الْمُقَرِّرُ لِلتَّوْرَاةِ.
وَجَعَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهَا تَقَدَّمَتْهُ، وَالْمُتَقَدِّمُ يُقَالُ: هُوَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ تَقَدَّمَ. ومِنَ التَّوْراةِ بَيَانٌ لِما. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ حَالٌ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُدَى وَالنُّورِ.
ومُصَدِّقاً حَالٌ أَيْضًا مِنَ الْإِنْجِيلِ فَلَا تَكْرِيرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِاخْتِلَافِ صَاحِبِ الْحَالِ وَلِاخْتِلَافِ كَيْفِيَّةِ التَّصْدِيقِ فَتَصْدِيقُ عِيسَى التَّوْرَاةَ أَمْرُهُ بِإِحْيَاءِ أَحْكَامِهَا، وَهُوَ تَصْدِيقٌ حَقِيقِيٌّ وَتَصْدِيقُ الْإِنْجِيلِ التَّوْرَاةَ اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا وَافَقَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَجَازِيٌّ. وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَا يُنَافِي أَنَّهُ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمرَان: ٥٠]، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَا عُمُومَ لَهُ.
وَالْمَوْعِظَةُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُلَيِّنُ الْقَلْبَ وَيَزْجُرُ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَجُمْلَةُ وَلْيَحْكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آتَيْناهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلْيَحْكُمْ- بِسُكُونِ اللَّامِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ- عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْأَمْرِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ سَابِقٌ عَلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلًا مُقَدَّرًا هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَقُلْنَا: لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، فَيَتِمُّ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَرَائِنُ تَقْدِيرِ الْقَوْلِ مُتَظَافِرَةٌ مِنْ أُمُورٍ عِدَّةٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ- بِكَسْرِ لَامِ- لْيَحْكُمْ وَنَصْبِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ لِلتَّعْلِيلِ، فَجُمْلَةُ لْيَحْكُمْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ هُدىً إِلَخْ، الَّذِي هُوَ حَالٌ، عُطِفَتِ الْعِلَّةُ عَلَى الْحَالِ عَطْفًا ذِكْرِيًّا لَا يُشَرِّكُ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ
وَالْبَكَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاسْتِرْشَادِ مِمَّنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَالظَّلَامُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّبَصُّرِ فِي الطَّرِيقِ أَوِ الْمَنْفَذِ الْمُخْرِجِ لَهُمْ مِنْ مَأْزِقِهِمْ.
وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ عُمْيٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الْإِسْرَاء: ٩٧] لِيَكُونَ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا مَا يَصْلُحُ لِشَبَهِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالَّذِي أَصَارَهُمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضَّلَالِ يُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الدَّاخِلِ فِيهِ وَبَيْنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
. فَهَذَا التَّمْثِيلُ جَاءَ عَلَى أَتَمِّ شُرُوطِ التَّمْثِيلِ. وَهُوَ قَبُولُهُ لِتَفْكِيكِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَتَيْنِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ مُفْرَدَةٍ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤوسنا | وأسيافنا ليل تهادى كَوَاكِبُهْ |
وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ خَبَرٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ خَبَرٌ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَا يَجُوزُ فِي النُّعُوتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الْعَطْفِ وَتَرْكِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمُ الْعَجِيبَةَ تُثِيرُ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا بَالُهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ هُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ بِالْحَذْفِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَام: ٣٥].
وَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ الضَّلَالَ بِأَنْ يَخْلُقَ الضَّالَّ بِعَقْلٍ قَابِلٍ لِلضَّلَالِ مُصِرٍّ عَلَى ضَلَالِهِ عَنِيدٍ عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي مَبَادِئِ الضَّلَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَعَظَهُ وَاعِظٌ أَوْ
خَطَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ خَاطِرٌ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ مَنَعَهُ إِصْرَارُهُ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ فَلَا يَزَالُ يَهْوِي بِهِ فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى غَايَةِ التَّخَلُّقِ بِالضَّلَالِ فَلَا يَنْكَفُّ عَنْهُ. وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ
فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَصْلُحُ لانتفاعها.
وَقَوله: هذِهِ مُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أَيْ بِسُوءٍ يَعُوقُهَا عَنِ الرَّعْيِ إِمَّا بِمَوْتٍ أَوْ بِجَرْحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا مُعْجِزَتَهُ رَامُوا مَنْعَ النَّاقَةِ مِنَ الرَّعْيِ لِتَمُوتَ جُوعًا عَلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ النَّاشِئِ عَنِ الْجَهَالَةِ.
وَالْأَرْضُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا جِنْسُ الْأَرْضِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْإِضَافَةُ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سَلَامَةَ تِلْكَ النَّاقَةِ عَلَامَةً عَلَى سَلَامَتِهِمْ من عَذَاب الاستيصال لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا آنِفًا، وَأَنَّ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ فِي شَأْنِهَا شَبِيهٌ بِالْحَرَمِ، وَشَبِيهٌ بِحِمَى الْمُلُوكِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ نُفُوسِ الْقَوْمِ لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ:
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ، عَنْ رِضًى مِنَ الْبَقِيَّةِ، فَقَدْ دَلُّوا عَلَى أَنَّهُمْ خَلَعُوا حُرْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وحَنِقُوا عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَجُزِمَ تَأْكُلْ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ جَوَابُ الْأَمْرِ بِتَقْدِيرِ: إِنْ تَذْرُوهَا تَأْكُلْ، فَالْمَعْنَى عَلَى الرَّفْعِ وَالِاسْتِعْمَالُ عَلَى الْجَزْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣١] أَيْ يُقِيمُونَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَيُشْبِهُ أَنَّ أَصْلَ جَزْمِ أَمْثَالِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ عَلَى التَّوَهُّمِ لِوُجُودِ فِعْلِ الطَّلَبِ قَبْلَ فِعْلٍ صَالِحٍ لِلْجَزْمِ، وَلَعَلَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا [الْحَج: ٢٧].
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: فَيَأْخُذَكُمْ فِي جَوَابِ النَّهْيِ لِيُعْتَبَرَ الْجَوَابُ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ حَرْفَ النَّهْيِ لَا أَثَرَ لَهُ: أَيْ إِنْ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ يَأْخُذْكُمْ عَذَاب.
وَأُنِيطَ النَّهْيُ بِالْمَسِّ بِالسُّوءِ لِأَنَّ الْمَسَّ يَصْدُقُ عَلَى أَقَلِّ اتِّصَالِ شَيْءٍ بِالْجِسْمِ، فَكُلُّ مَا يَنَالُهَا مِمَّا يُرَادُ مِنْهُ السُّوءُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَسُوؤُهُ إِلَّا مَا فِيهِ أَلَمٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَفْقَهُ الْمَعَانِيَ النَّفْسَانِيَّةَ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِسُوءٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَمَسُّوهَا أَيْ بِقصد سوء.
الْمُخَاطَبِينَ مِنَ اسْتِجَابَةِ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لَا الْإِخْبَارُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَيْنِ كَمَا أَنَّهُمَا فِي قَوْلِهِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَة: ٦] مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ: عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ هُنَالِكَ بَيَانُ انْعِدَامِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْهُدَى.
وَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ فِيهِ فِعْلُ التَّسْوِيةِ إِلَى جَانِبَيْنِ وَبَيْنَ مَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُسْنَدَ فِيهِ إِلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَتِ التَّسْوِيَةُ لَا تُهِمُّ إِلَّا جَانِبًا وَاحِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطّور: ١٦] فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تُجْعَلَ التَّسْوِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا- وَكَقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيم: ٢١] فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ التَّسْوِيَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُعَادِلَ أَدَعَوْتُمُوهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْفِعْلِيَّةِ وَالِاسْمِيَّةِ، فَلَمْ يَقُلْ: أَمْ صَمَتُّمْ، فَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ»، عَنْ ثَعْلَبٍ: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ (أَيْ لِمُجَرَّدِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ) قَالَ: وَصَامِتُونَ وَصَمَتُّمْ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَاحِدٌ، (أَيِ الْفِعْلُ وَالْوَصْفُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ سَوَاءٌ) يُرِيدُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَا بَعْدَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ لَمَّا كَانَ فِي قُوَّةِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ إِذِ التَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ دَعْوَتُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَيْسَ لَهُ مُقْتَضٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ بَلْ هُمَا عِنْدَ الْبَلِيغِ سِيَّانَ، وَلَكِنَّ الْعُدُولَ إِلَى الِاسْمِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ وَالْأَسْجَاعَ مِنْ أَفَانِينِ الْفَصَاحَةِ، وَفِيهِمَا تَظْهَرُ بَرَاعَةُ الْكَلَامِ إِذْ يَكُونُ فِيهِ إِيفَاءٌ بِحَقِّ الْفَاصِلَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّكَلُّفِ، كَمَا تَظْهَرُ بَرَاعَةُ الشَّاعِرِ فِي تَوْفِيَتِهِ بِحَقِّ الْقَافِيَةِ إِذَا سَلَمَ مَعَ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي دِيبَاجَةِ «شَرْحِهِ عَلَى الْحَمَاسَةِ» «وَالْقَافِيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَالْمَوْعُودِ بِهِ الْمُنْتَظَرِ يَتَشَوَّقُهَا الْمَعْنَى بِحَقِّهِ، وَاللَّفْظُ بِقِسْطِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ قَلِقَةً فِي مَقَرِّهَا مُجْتَلَبَةً لِمُسْتَغْنٍ عَنْهَا».
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ الْمُتَضَمَّنِهِ، مَعَ عَدَمِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ وَلَا إِفَادَةِ تَجَدُّدٍ، بِخِلَافِ الْفِعْلِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الشَّيْخِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ»، وَالسَّكَاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ»، لَكِنَّ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٨]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التَّوْبَة: ٤٧] لِأَنَّهَا دَلِيلٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنٌ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، إِذِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ إِذِ انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَلُوا إِلَى أُحُدٍ، وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ قَصَدُوا إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ يَرَوْنَ انْخِزَالَ بَعْضِ جَيْشِهِمْ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الَّذِينَ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَلَّبُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ قَلَبَ الْمُخَفَّفِ، وَالْمُضَاعَفَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَلَبَ الشَّيْءَ إِذَا تَأَمَّلَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ لِيَطَّلِعَ عَلَى دَقَائِقِ صِفَاتِهِ فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ رَاجِعَةً إِلَى الْكَمِّ أَيْ كَثْرَةِ التَّقْلِيبِ، أَيْ ترددوا آراءهم وأعلموا الْمَكَائِدَ وَالْحِيَلَ لِلْإِضْرَارِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلَّبُوا مِنْ قَلَبَ بِمَعْنَى فَتَّشَ وَبَحَثَ، اسْتُعِيرَ التَّقْلِيبُ لِلْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ لِمُشَابَهَةِ التَّفْتِيشِ لِلتَّقْلِيبِ فِي الْإِحَاطَةِ بِحَالِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الْكَهْف: ٤٢] فَيَكُونُ الْمَعْنَى، أَنَّهُمْ بَحَثُوا وَتَجَسَّسُوا لِلِاطِّلَاعِ عَلَى شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْبَارِ الْعَدُوِّ بِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِكَ وَهُوَ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ [التَّوْبَة: ٤٨]. فَالْمَعْنَى اتَّبَعُوا فِتْنَةً تَظْهَرُ مِنْكَ، أَيْ فِي أَحْوَالِكَ وَفِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلَّبُوا مُبَالَغَةً فِي قَلْبِ الْأَمْرِ إِذَا أَخْفَى مَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهُ وَأَبْدَى مَا كَانَ خَفِيًّا، كَقَوْلِهِمْ: قَلَبَ لَهُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ. وَتَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَكَ ظَاهِرَةٌ.
وَ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) حَال منْ بُشْرى
. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ بِخَيْرَاتٍ قَبْلَ حُصُولِهَا: فِي الدُّنْيَا بِمَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الْبِشَارَاتِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [الْبَقَرَة: ٢٥].
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فَقَالَ: «مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَيْسَ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَيْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ يَرْوِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَلَيْهِ فَالْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ السَّنَدِ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ آخَرَيْنِ فِيهِمَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَذَلِكَ سَنَدٌ فِيهِ مَجْهُولٌ، فَحَالَةُ إِسْنَادِ هَذَا الْخَبَرِ مُضْطَرِبَةٌ لِظُهُورِ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَمَحْمَلُ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ صَاحِبَهَا بِخَيْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَحْرَى الْآخِرَةِ، أَوْ كَأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ بُشْرَى الْحَيَاةِ فَأَمَّا بُشْرَى الْآخِرَةِ فَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ [التَّوْبَة: ٢١] الْآيَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِه الآيةهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
قَالَ: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ. وَمِنَ الْبُشْرَى الْوَعْدُ بِأَنَّ لَهُمْ عَاقِبَةَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنَ السُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُمُ النَّعِيمَ الْخَالِدَ فِي الْآخِرَةِ. وَمُقَابَلَةُ الْحُزْنِ بِالْبُشْرَى مِنْ مُحَسِّنَاتِ الطِّبَاقِ.
وَجُمْلَةُ: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى تَأْكِيدِ الْوَعْدِ الَّذِي تضمنه قَوْله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَشَائِرِ مِثْلَ النَّصْرِ
وَفِي بَلَاغَةِ نَظْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا مِنَ الْإِعْجَازِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ أَلْقَاهُ إِلَى رَسُولِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْجِزَةً لَهُ عَلَى قَوْمِهِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ.
وَالسَّائِلُونَ: مُرَادٌ مِنْهُمْ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنِ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [سُورَة فصلت: ١٠]. وَمِثْلَ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّشْوِيقِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَطَلُّبِ الْخَبَرِ وَالْقِصَّةِ. قَالَ طَرَفَةُ:
سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا | بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلَاقِ اللمم |
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ | فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ |
طُلِّقْتِ إِنْ لَمْ تَسْأَلِي أَيُّ فَارِسٍ | حَلِيلُكِ إِذْ لَاقَى صُدَاءً وَخَثْعَمَا |
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيْنَ السَّيْفِ بَيْنَنَا | لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا |
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ (السَّائِلِينَ) الْيَهُودُ إِذْ سَأَلَ فريق مِنْهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ مُخَالَطَةٌ للْمُسلمين بِمَكَّة.
شَبِيهُ شَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَوْلها لَهُمْ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ إِظْهَارًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَسْجِيلًا عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَقَمْعًا لِسَفْسَطَتِهِمْ.
وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِبْلَاغِ لِيُحِيطَ النَّاسَ عِلْمًا بِكُلِّ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَإِيقَاظًا لَهُمْ لِيَتَأَمَّلُوا الْحَقَائِقَ الْخَفِيَّةَ فَتُصْبِحَ بَيِّنَةً وَاضِحَةً. فَقَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ إِبْطَالٌ لِإِفْرَادِهِ بِاللَّوْمِ أَوْ لِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِ الْمُلَامِ إِلَيْهِ فِي حِينِ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِاللَّوْمِ أَوْ بِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِهِ.
وَأَمَّا وَقْعُ كَلَامِ الشَّيْطَانِ مِنْ نُفُوسِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ فَهُوَ مُوقِعُ الْحَسْرَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ زِيَادَةً فِي عَذَابِ النَّفْسِ.
وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ، أَيِ الْوَعْدُ الْحَقُّ الَّذِي لَا نَقْضَ لَهُ.
وَالْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَوْعُودِ بِهِ. وَضِدُّهُ: الْإِخْلَافُ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٢]، أَيْ كَذَبْتُ مَوْعِدِي. وَشَمَلَ وَعَدُ الْحَقِّ جَمِيعَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ عَلَى لِسَان رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-. وَشَمَلَ الْخُلْفُ جَمِيعَ مَا كَانَ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَوْلِيَائِهِ وَمَا يَعِدُهُمْ إِلَّا غُرُورًا.
وَالسُّلْطَانُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، أَيْ لَمْ أَكُنْ مُجْبِرًا لَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. فَالْمَعْنَى: لَكِنِّي دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ. وَالْمَقْصُودُ: لُومُوا أَنْفُسَكُمْ، أَيْ إِذْ قَبِلْتُمْ إِشَارَتِي وَدَعْوَتِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ صَدْرَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ.
وَهِيَ كَوْنُ أَبْنَائِهِ مِنْ زَوْجِهِ ثُمَّ كَوْنُ أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، فَانْضَبَطَتْ سِلْسِلَةُ الْأَنْسَابِ بِهَذَا النِّظَامِ الْمُحْكَمِ الْبَدِيعِ.
وَغَيْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يَشْعُرُ بِحَفَدَتِهِ أَصْلًا- لَا يَشْعُرُ بِالْبُنُوَّةِ إِلَّا أُنْثَى الْحَيَوَانِ مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْإِرْضَاعِ. وَالْحَفَدَةُ لِلْإِنْسَانِ زِيَادَةٌ فِي مَسَرَّةِ الْعَائِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [سُورَة هود: ٧١]. وَقَدْ عَمِلَتْ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي حَفَدَةً بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ مُبَاشَرَةً وَبِوَاسِطَةٍ.
وَجُمْلَةُ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمَا بَعْدَهَا، لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ تَضَمُّنِ الْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، فَإِن من مكمّلاتها سَعَة الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [سُورَة النَّحْل: ١٤] الْآيَةَ. وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي | بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمَسُودِ |
ثُمَّ الرِّزْقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ الْمَالُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ:
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [سُورَة الْقَصَص: ٨٢]. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِعْطَاءَ الْمَأْكُولَاتِ الطَّيِّبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [سُورَة آل عمرَان: ٣٧].
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ.
والطَّيِّباتِ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ رَزَقَكُمْ، أَيِ الْأَرْزَاقَ الطَّيِّبَاتِ.
وَالتَّأْنِيثُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ. وَالطَّيِّبُ: فَيْعِلُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الْوَصْفِ بِالطَّيِّبِ. وَالطَّيِّبُ: أَصْلُهُ النَّزَاهَةُ وَحُسْنُ الرَّائِحَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمُلَائِمِ الْخَالِصِ مِنَ النَّكَدِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سُورَة النَّحْل: ٩٧]. وَاسْتُعْمِلَ فِي الصَّالِحِ مِنْ نَوْعِهِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جملَة وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً إِلَخْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.
فَذُكِرَ وَجْهُ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ لَهُمْ، وَذُكِرَ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِالْآيَاتِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ صُنُوفٌ مِنَ الْجَرَائِمِ تَفْصِيلًا وَجَمْعًا تُنَاسِبُهَا الْعُقُوبَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الْإِسْرَاء: ٩٧].
وَثَانِيهِمَا: إِنْكَارُهُمُ الْبَعْث بقَوْلهمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً الْمُنَاسِبُ لَهُ أَنْ يُعَاقَبُوا عِقَابًا يُنَاسِبُ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ تَجَدُّدِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَصِيرِ رُفَاتًا، فَإِنَّ رُفَاتَ الْإِحْرَاقِ أَشَدُّ اضْمِحْلَالًا مِنْ رُفَاتِ الْعِظَامِ فِي التُّرَابِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي حِكَايَة قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَقَوْلِهِ: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارِيٌّ.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي إِثْبَاتِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَإِذا وَفِي إِثْبَاتِهَا فِي قَوْله: أَإِذا..
لَمَبْعُوثُونَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِه السُّورَة.
[٩٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٩٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)
جُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ [الْإِسْرَاء: ٩٨] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الرَّدْعِ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً [الْإِسْرَاء:
٩٨]. فَبَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأُسْلُوبِ التَّهْدِيدِ عَطَفَ عَلَيْهِ إِبْطَالَ اعْتِقَادِهِمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي الْإِمْكَانِ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِقْنَاعِهِمْ هُنَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِاعْتِقَادِ اسْتِحَالَتِهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ
وَالْعَيْنُ: مَجَازٌ فِي الْمُرَاعَاةِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هود:
٣٧]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
عَهِدْتُكَ تَرْعَانِيَ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ | وَتَبْعَثُ حُرَّاسًا عَلَيَّ وَنَاظِرًا |
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ أَدُلُّكُمْ لِلْعَرْضِ. وَأَرَادَتْ بِ مَنْ يَكْفُلُهُ أُمَّهُ. فَلِذَلِكَ قَالَ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ.
وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ لِإِكْمَالِ نَمَائِهِ، وَعَلَى أُمِّهِ بِنَجَاتِهِ فَلَمْ تُفَارِقِ ابْنَهَا إِلَّا سَاعَاتٍ قَلَائِلَ، أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ ابْنِهَا.
وَعَطْفُ نَفْيِ الْحُزْنِ عَلَى قُرَّةِ الْعَيْنِ لِتَوْزِيعِ الْمِنَّةِ، لِأَنَّ قُرَّةَ عَيْنِهَا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهَا.
وَانْتِفَاء حزنها بتحقق سَلَامَتِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَمِنَ الْغَرَقِ وَبِوُصُولِهِ إِلَى أَحْسَنِ مَأْوًى. وَتَقْدِيمُ
قُرَّةِ الْعَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُزْنِ مَعَ أَنَّهَا أَخَصُّ فَيُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ رُوعِيَ فِيهِ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ أُكْمِلَ بِذِكْرِ الْحِكْمَةِ فِي مَشْيِ أُخْتِهِ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فِي بَيْتِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمَرَاضِعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَلِيمَةَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ.
وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) جملَة وَقَتَلْتَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي جُمْلَةِ وَقَتَلْتَ نَفْساً مِنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ.
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ إِلَخْ... عَائِدًا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ عَلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: ١١].
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: بَعْدَ مُعَادِ الضَّمِيرِ، وَثَانِيهِمَا:
التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ نَاشِئَةٌ عَنْ ظَنِّهِ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ صَمَّمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاثِقٍ بِوَعْدِ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي يَنْصُرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: ١١] عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَاسْمُ السَّماءِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ أَيْضًا أَخْذًا بِمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ (يَعْنِي عبد الرحمان بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ قَالَ: هِيَ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ، يَعْنِي الْمُظِلَّةَ. فَالْمَعْنَى: فَلْيَنُطْ حَبْلًا بِالسَّمَاءِ مَرْبُوطًا بِهِ ثُمَّ يَقْطَعْهُ فَيَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَتَمَزَّقُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ فِعْلُهُ شَيْئًا مِنْ إِزَالَةِ غَيْظِهِ.
ومفعول لْيَقْطَعْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ لْيَقْطَعْهُ، أَيْ لِيَقْطَعِ السَّبَبَ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ لِلتَّعْجِيزِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ لَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣].
وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ نَظْمِهَا فَإِنَّهَا نُسِجَتْ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ، شَبَّهَتْ حَالَةَ اسْتِبْطَانِ هَذَا الْفَرِيقِ الْكُفْرَ وَإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ عَلَى حَنَقٍ، أَوْ حَالَةَ تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ بِحَالَةِ الْمُغْتَاظِ مِمَّا صَنَعَ فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا
جَعَلَ اللَّهُ لِلْعَبِيدِ حَقًّا فِي الِاكْتِسَابِ لِتَحْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الرِّقِّ وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ غِنًى لِلْعَبْدِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَزْوَاجِ.
أَمَرَ اللَّهُ السَّادَةَ بِإِجَابَةِ مَنْ يَبْتَغِي الْكِتَابَةَ مِنْ عَبِيدِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ إِكْثَارِ النَّسْلِ فِي الْأُمَّةِ، وَلِمَقْصِدِهَا مِنْ تَزْكِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقَامَةِ دِينِهَا.
وَالَّذِينَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَكاتِبُوهُمْ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ.
وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي فَكاتِبُوهُمْ لِتَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ ابْتَغَى الْكَتَابَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ، تَأْكِيدًا لترتب الْخَيْر عَلَى تَحَقُّقِ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِأَنْ يَكُونَ كَتَرَتُّبِ الشُّرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَالْكِتَابُ: مَصْدَرُ كَاتَبَ إِذَا عَاقَدَ عَلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ مِنَ الرِّقِّ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ يُدْفَعُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مُنَجَّمًا، أَيْ مُوَزَّعًا عَلَى مَوَاقِيتَ مُعَيَّنَةٍ، كَانُوا فِي الْغَالِبِ يُوَقِّتُونَهَا بِمَطَالِعِ نُجُومِ الْمَنَازِلِ مِثْلَ الثُّرَيَّا فَلِذَلِكَ سَمَّوْا تَوْقِيتَ دَفْعِهَا نَجْمًا وَسَمَّوْا تَوْزِيعَهَا تَنْجِيمًا، ثُمَّ غَلَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَوْقِيتٍ فَيُقَالُ فِيهِ: تَنْجِيمٌ. وَكَذَلِكَ الدِّيَّاتُ وَالْحَمَالَاتُ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا مُوَزَّعَةً عَلَى مَوَاقِيتَ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَنْجِيمًا وَكَانَ تَنْجِيمُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى السَّوَاءِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ | يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ |
وَمَعْنَى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ إِلَّا تَحْرِيرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَمَكُّنًا مِنَ الْإِبَاقِ، وَذَلِكَ الْخَيْرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَبِصِفَةِ الْأَمَانَةِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ دَوَامُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِكْمَالِ مَا عَلَيْهِ رَجَعَ عَبْدًا كَمَا كَانَ.
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلتَّبْشِيرِ، وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْهُدَى وَالْبُشْرَى جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْهَادِي وَالْمُبَشِّرُ اللَّهُ أَوِ الرَّسُولُ بِسَبَبِ الْكِتَابِ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى: أُشِيرُ، كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢]، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
ولِلْمُؤْمِنِينَ يَتَنَازَعُهُ هُدىً وَبُشْرى لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ كَقَوْلِهِ:
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢].
وَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَوْصُولِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا يَوْمَئِذٍ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]، وَلِأَنَّ فِي الصِّلَةِ إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَمُفْلِحُونَ.
والزَّكاةَ: الصَّدَقَةُ لِأَنَّهَا تُزَكِّي النَّفْسَ أَوْ تُزَكِّي الْمَالَ، أَيْ تَزِيدُهُ بَرَكَةً. وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هُنَا الصَّدَقَةُ مُطْلَقًا أَوْ صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مُوَاسَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٧، ١٨]. وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمُقَدَّرَةُ بِالنُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَة فَلَيْسَتْ مرَادا هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الصِّلَةِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ أُسْلُوبِهَا وَأُسْلُوبِ الصِّلَةِ فَأُتِيَ لَهُ بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا لِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، على أَنَّ ضَمِيرَ هُمْ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ ضَمِيرَ فَصْلٍ دَالًّا عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ مَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ.
وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودٍ حَالُهُمْ لِلْمُخَاطِبِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وللاهتمام بهَا.
التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَهِدُوا بِالنِّفَاقِ وَطَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ تَعْرِيفٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ ورعاية الفاصلة.
[١٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
هَذَا غَرَضٌ آخَرُ مِنْ أَغْرَاضِ مُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَاوَلَاتِ فِتْنَةٍ بِالشَّكِّ وَالْمُغَالَطَةِ لِلَّذِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فِتْنَتِهِمْ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ: إِمَّا لِعِزَّتِهِمْ وَخَشْيَةِ بَأْسِهِمْ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قِيلَتْ لَهُ، وَإِمَّا لِكَثْرَتِهِمْ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَعْيَتِ الْمُشْرِكِينَ حِيَلُ الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ (قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ) قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا
نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ فَإِنْ عَسَى كَانَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَحْمِلُ عَنْكُمْ آثَامَكُمْ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جَهْلًا وَغُرُورًا حَاوَلُوا بِهِمَا أَنْ يَحِجُّوا الْمُسْلِمِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ وَاقِعًا فَسَيَكُونُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَهْلَ ذِمَامٍ وَحَمَالَةٍ وَنَقْضٍ وَإِبْرَامٍ شَأْنَ سَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا شَفَعُوا شُفِّعُوا وَإِنْ تَحَمَّلُوا حُمِّلُوا.
وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ لِيَكُونَنَّ لِي مَالٌ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: ٧٧]. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ طَرِيقَةٌ جَدَلِيَّةٌ إِنْ بُنِيَتْ عَلَى الْحَقِّ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ضِدِّ هَذَا:
زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا | لَا تُحْشَرُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا |
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ | أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا |
الْإِخْبَارِ اكْتِفَاءً بِدُخُولِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَمُتَعَلِّقِهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا للاستفهام وَالثَّانيَِة تَأْكِيد لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ
. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَرْكِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّهُمْ حَكَوُا الْقَوْلَ الَّذِي تَعَجَّبُوا مِنْهُ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَأْكِيدِ تَجْدِيدِ الْخَلْقِ فَحَكَوْهُ بِالْمَعْنَى كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧]، أَيْ: يُحَقِّقُ لَكُمْ ذَلِكَ.
وإِذا ظَرْفٌ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مِنْ مَعْنَى الْكَوْنِ.
وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ. وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَمَعْنَاهَا الْمُصَاحَبَةُ.
وَالْجَدِيدُ: الْمُحْدَثُ، أَيْ غَيْرِ خَلْقِنَا الَّذِي كُنَّا فِيهِ.
وبَلْ مِنْ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَيْ لَيْسَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ لِلِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّ دَلَائِلَ إِمْكَانِهِ وَاضِحَةٌ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ وَلَكِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ كُفْرُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ كُفْرُهُمُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَالْمَعْنَى: بَلْ هُمْ قَدْ أَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ فَهُمْ مُتَعَنِّتُونَ فِي الْكُفْرِ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالْأَدِلَّةُ. فَالْكُفْرُ الْمُثْبَتُ هُنَا كُفْرٌ خَاصٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِبْعَادِ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كافِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ والثبات عَلَيْهِ.
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣٩]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)أَتْبَعَ إِبْطَالَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ بِذَاتِهِمَا وَسِيلَةَ قُرْبٍ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يُشْبِهُ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ من إِثْبَات انْتِفَاع بِالْمَالِ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى رِضَى اللَّهِ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي طَلَبِ مرضاة الله تَفْضِيلًا لِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ إِجْمَالًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يكون فِيهِ قربَة إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سبأ: ٣٧] كَمَا تقدم.
وَقَوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا تَأْكِيدًا لِذَلِكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ. فَالَّذِي تَقَدَّمَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا تَرْغِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْعِبَارَاتُ وَاحِدَةٌ وَالْمَقَاصِدُ مُخْتَلِفَةٌ. وَهَذَا مِنْ
وُجُوهِ الْإِعْجَازِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ صَالِحًا لِغَرَضَيْنِ وَأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى طَائِفَتَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الثَّانِي مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أُشِيرَ إِلَى تَشْرِيفِهِمْ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ، أَيْ وَيَقْدِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَمَفْعُولُ يَقْدِرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ يَبْسُطُ.
وَكَانَ مَا تقدم حَدِيثا عَن بسط الرِّزْقَ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْعَمُوا بِوَصْفٍ مِنْ عِبادِهِ لِأَنَّ فِي الْإِضَافَةِ تَشْرِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى الَّذِينَ يَبْسُطُ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ بِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ فَضْلَ الْإِيمَانِ وَفَضْلَ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَتَسْلِيَةٌ لِلَّذِينِ قَدَرَ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَالُوا فَضْلَ الْإِيمَانِ وَفَضْلَ الصَّبْرِ عَلَى ضِيقِ الْحَيَاةِ.
وَفِي تَعْلِيقِ لَهُ بِ يَقْدِرُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَهِيَ فَائِدَةُ الثَّوَاب على الرضى من قُسِمَ لَهُ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا»
. وَلَوْلَا هَذَا الْإِيمَاءُ لَقِيلَ: وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: ٧]. وَأَمَّا حَالُ الْكَافِرِينَ فَإِنَّهُمْ يُنْعِمُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِرِزْقٍ يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ
وَأَمَّا ظَاهِرُ الْآيَةِ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِهَا فَهُوَ أَنَّ الْجُنْدَ هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ التَّنْوِينَ فِيهِ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ مَا هُمْ إِلَّا جُنْدٌ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَأُهْلِكُوا، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِ هُنالِكَ إِلَى مَكَانٍ اعْتِبَارِيٍّ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الرِّفْعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ وَأَنَّ الِانْهِزَامَ مُسْتَعَارٌ لِإِضْعَافِ شَوْكَتِهِمْ، وَعَلَى التفسيرين الظَّاهِر والمؤول لَا تَعْدُو الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ تَسْلِيَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتًا لَهُ وَبِشَارَةً بِأَنَّ دِينَهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ.
وَالْجُنْدُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ قَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج: ١٧، ١٨].
وَمَا حَرْفٌ زَائِدٌ يُؤَكِّدُ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ فَهِيَ تَوْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ جُنْدٌ بِمَعْنَاهُ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ جُنْدٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّعْظِيمِ فَلَيْسَ نَصًّا فَصَارَ بِالتَّوْكِيدِ نَصًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ فَتَعْظِيمُ جُنْدٌ لِأَنَّ رِجَالَهُ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُشِيرَةً إِلَى يَوْمِ الْأَحْزَابِ فَتَعْظِيمُ جُنْدٌ لِكَثْرَةِ رِجَالِهِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَوَصْفُ جُنْدٌ بِ مَهْزُومٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ سَيُهْزَمُ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ كَاسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْقَرِينَةُ حَالِيَّةٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ مَا هُوَ لِلْحَالِ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ فَكَأَنَّهُ مِنَ الْقُرْبِ بِحَيْثُ هُوَ كَالْوَاقِعِ فِي الْحَالِ.
والْأَحْزابِ: الَّذِينَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ يَتَحَزَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
ومِنَ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُنْدَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [غَافِر:
٣٠، ٣١].
وَالْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ (أَيٍّ) إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ أَنْ لَا تَلْحَقَهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ اكْتِفَاءً بِتَأْنِيثِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالْهَاءِ نَحْوَ حِمَارٍ فَلَا يُقَالُ للمؤنث حمارة. و (أيّ) اسْمٌ وَيَزِيدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ فَلَا يُفَسِّرُهُ إِلَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَلذَلِك قَالَ هناأَيَّ آياتِ اللَّهِ
دُونَ: فَأَيَّةَ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ عَلامَة التَّأْنِيث ب (أَي) فِي مِثْلِ هَذَا قَلِيلٌ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ تَأْنِيثُ (أَيٍّ) فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ | تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليّ وتحسب |
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨٢ إِلَى ٨٣]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
تَفْرِيعُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ: يُرِيكُمْ آياتِهِ
[غَافِر: ٨١]، يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسَاوِقٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي قبله وهوأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
[غَافِر: ٨١] فَيَقْتَضِي أَنَّ السَّيْرَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِهِ هُوَ سَيْرٌ تَحْصُلُ فِيهِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكِلَا التَّفْرِيعَيْنِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غَافِر: ٨٠]، فَذَلِكَ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعِبْرَةِ آثَارِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ
تَعَالَى لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَجَحَدَتْ آيَاتِهِ وَنِعَمَهُ.
وَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيرُ الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: ٢١] الْآيَةَ، فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَكَانَ هَذَا انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَفِي كِلَا الِانْتِقَالَيْنِ تَذْكِيرٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَزَعُهُمُ النِّعَمُ عَنْ كُفْرَانِ مُسْدِيهَا كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ فَلْيَكُونُوا مِمَّنْ يَرْدَعُهُمُ الْخَوْفُ مِنَ الْبَطْشِ كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ اللَّئِيمَةِ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ يَخْتَارُونَ مِنْ إِحْدَى الْخُطَّتَيْنِ.
وَفَائِدَةُ التَّرْدِيدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَعْمِيمُ الْحَالَيْنِ حَالِ حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالِ وَفَاتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: وَقْتُ ذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْقِيتُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا مُنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كُنْتَ حَيًّا أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ، أَيْ فَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ مِنْ شَأْنِنَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ أَمْرِنَا وَدِينِنَا، وَلَعَلَّهُ لِدَفْعِ استبطاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ تَأْخِيرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالنَّبِيءِ الْمَوْتَ فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ دَعْوَتِهِ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِهِ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ لما يسمعونه.
[٤٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٣]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)
لَمَّا هَوَّنَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَأَنْ لَا يَخُورَ عَزْمُهُ فِي الدَّعْوَةِ ضَجَرًا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَنُفُورِهِمْ مِنَ الْحَقِّ.
وَالِاسْتِمْسَاكُ: شِدَّةُ الْمَسْكِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْأَمْرُ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلٍ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ لَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ هُنَا طَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهَذَا كَمَا يُدْعَى لِلْعَزِيزِ الْمُكْرَمِ، فَيُقَالُ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَكَ، أَيْ أَدَامَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: أَحْيَاكَ اللَّهُ، أَيْ أَطَالَ حَيَاتَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الدُّعَاءِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَأْيِيدٌ لِطَلَبِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ.
اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ بِمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجَلِّهِ ابْتِدَاءً لِيَكُونَ كُلُّ مِثَالٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى بَقِيَّةِ نَوْعِهِ وَمُرْشِدًا إِلَى حُكْمِ أَمْثَالِهِ دُونَ كُلْفَةٍ وَلَا سَآمَةٍ. وَقَدْ سَلَكَ الْقُرْآنُ لِإِقَامَةِ أَهَمِّ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ طَرِيقَ النَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ.
وَعَطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَكْمِلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ إِبْرَامِ شَيْءٍ دُونَ إِذن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ ضِدُّهُ لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ.
وَالسَّمِيعُ: الْعَلِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْعَلِيمُ أَعَمُّ وَذَكَرَهَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ كِنَايَةً عَنِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ للنَّهْي وَالْأَمر.
[٢]
[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)
إِعَادَةُ النِّدَاءِ ثَانِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْغَرَضِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ غَرَضٌ جَدِيرٌ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى لَا يَنْغَمِرَ فِي الْغَرَضِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ آدَابِ سُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَاملَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُقْتَضَى التَّأَدُّبِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَهَذَا أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤] وَإِلْقَاءٌ لِتَرْبِيَةٍ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ خَبَرِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ.
وَالرَّفْعُ: مُسْتَعَارٌ لِجَهْرِ الصَّوْتِ جَهْرًا مُتَجَاوِزًا لِمُعْتَادِ الْكَلَامِ، شَبَّهَ جَهْرَ الصَّوْتِ بِإِعْلَاءِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهُ أَشَدُّ بُلُوغًا إِلَى الْأَسْمَاعِ كَمَا أَنَّ إِعْلَاءَ الْجِسْمِ أَوْضَحُ لَهُ فِي الْإِبْصَارِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، أَوْ شَبَّهَ إِلْقَاءَ الْكَلَامِ بِجَهْرٍ قَوِيٍّ بِإِلْقَائِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ كَالْمِئْذَنَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ.
وَأَمَّا تَعْيِينٌ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِمَّا لَيْسَ مَخْلُوقًا لَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَثَلًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْعِبَادِ أفعالهم كالمعتزلة أَو الْقَائِلين بِكَسْبِ الْعَبْدِ كَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَلَا حُجَّةَ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَصَبُّ الْإِخْبَارِ هُوَ مَضْمُونُ خَلَقْناهُ أَوْ مَضْمُونُ بِقَدَرٍ، وَلِاحْتِمَالِ عُمُومِ كُلَّ شَيْءٍ لِلتَّخْصِيصِ، وَلِاحْتِمَالِ الْمُرَادِ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ، وَلَيْسَ نَفْيُ حُجِّيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ بِمُبْطِلِ ثُبُوتِ الْقَدَرِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَحَقِيقَةُ الْقَدَرِ الْاِصْطِلَاحِيِّ خَفِيَّةٌ فَإِنَّ مِقْدَارَ تَأَثُّرِ الْكَائِنَاتِ بِتَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَسَبُّبِ أَسْبَابِهَا وَنُهُوضِ مَوَانِعِهَا لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ الْإِنْسَانِ إِلَى كَشْفِ غَوَامِضِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا مَكَّنَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَنْفِيذٍ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ سَوَاءٌ فِي التَّأَثُّرِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيُءٍ، فَلَيْسَتْ نِسْبَةُ آثَارِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ دُونَ نِسْبَةِ أَثَرِ الشَّرِّ إِلَيْهِ إِلَّا أَدَبًا مَعَ الْخَالِقِ لَقَّنَهُ اللَّهُ عَبِيدَهُ، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ فِي التَّأَثُّرِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَأَفْعَالِ الشَّرِّ فِي النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ مُلْحَقَةً بِاعْتِقَادِ الْمَجُوسِ بِأَنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا وَلِلشَّرِّ إِلَهًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ
لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتؤمن بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
، وَقَوْلِهِ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا
. وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ خَلَقْناهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْاِشْتِغَالِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى خَلَقْناهُ لِيَتَأَكَّدَ مَدْلُولُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ الظَّاهِرِ ابْتِدَاءً، وَذِكْرَ ضَمِيرِهِ ثَانِيًا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي الْعُدُولَ إِلَى الْاِشْتِغَالِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَيَحْصُلُ تَوْكِيدٌ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ تَحْقِيقُ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ بِحَرْفِ إِنَّ الْمُفِيدِ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَلِيَتَّصِلَ قَوْلُهُ:
بِقَدَرٍ بِالْعَامِلِ فِيهِ وَهُوَ خَلَقْناهُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسُ بِالنَّعْتِ لِشَيْءٍ لَوْ قِيلَ: إِنَّا خَلَقَنَا كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، فَيَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ فَيَبْقَى السَّامِعُ مُنْتَظِرًا لخَبر إِن.
[٥٠]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٥٠]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: ٤٩] فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّذْيِيلِ، أَيْ
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا |
وَاقْتَرَانُ خَبَرِ (إِنَّ) بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) نُعِتَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَالْمَوْصُولُ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَعُومِلَ اسْمُ (إِنَّ) الْمَنْعُوتُ بِالْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ نَعْتِهِ.
وَإِعَادَةُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ جَرِيرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ | سِرْبَالَ ملك بِهِ تزجى الْخَوَاتِيمُ |
وَالْإِنْبَاءُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِسَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعْرِيض بالوعيد.
[٩، ١٠]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مُقَدِّمَاتٌ وَتَوْطِئَاتٌ لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ «الْكَشَّافُ» مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَخَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسَّبْتِ فَشَرَعَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكُنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً. اللَّام فِي قَوْلِهِ: لِلصَّلاةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَادَى مُنَادٍ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ النِّدَاءَ هُنَا هُوَ أَذَانُ الصَّلَاةِ.
وَالْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ فِي لُغَةِ جُمْهُورِ الْعَرَبِ وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَبَنُو عَقِيلِ بِسُكُونِ الْمِيمِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّلَاةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ الْخَاصَّةُ بِيَوْمِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي أُصُولِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَفِّرْ مُنْكِرِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَتُهَا بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بِخِلَافِ حَالِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْجِنِّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِآيَاتِ ذِكْرِهِ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ظُهُورِهِمْ لِلنَّاسِ وَإِتْيَانِهِمْ بِأَعْمَالٍ عَجِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْخَيَالِيَّةِ.
وَإِنَّا لَمْ نَلْقَ أَحَدًا مِنْ أَثْبَاتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى أَشْكَالَهُمْ أَوْ آثَارَهُمْ وَمَا نَجِدُ تِلْكَ الْقِصَصَ إِلَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَخْبَارِ أَوْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّخَيُّلَاتُ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُضْرَبُ لَهُ مَثْلُ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
وَمِثْلُكِ مَنْ تَخَيَّلَ ثُمَّ خَالَا فَظُهُورُ الْجِنِّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجِنِّيِّ الَّذِي تَفَلَّتَ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ
هُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ مِثْلَ رُؤْيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ وَرُؤْيَتِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي حَائِطِ الْقِبْلَةِ وَظُهُورِ الشَّيْطَانِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْجِنِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٩].
وَالَّذِينَ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِخَبَرِ الْجِنِّ: هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِبْلَاغَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ لِمَا لَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى شَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَشَرَفِ كِتَابِهِ وَشَرَفِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ إِدْخَالُ مَسَرَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الْجِنُّ قَدْ أَدْرَكُوا شَرَفَ الْقُرْآنِ وَفَهِمُوا مَقَاصِدَهُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لُغَتَهُ وَلَا يُدْرِكُونَ بَلَاغَتَهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَالَّذين جَاءَهُم بِلِسَانِهِمْ وَأَدْرَكُوا خَصَائِصَ بَلَاغَتِهِ أَنْكَرُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِوُقُوعِ هَذَا الِاسْتِمَاعِ، فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِحُضُورِ الْجِنِّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْقَافِ [٢٩] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
الْأُذُنِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ آلَةُ السَّمْعِ فِي الْإِنْسَانِ يُقَالُ أُذُنٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ: اسْتَمِعْ لَهُ، أَيْ أَصْغَى إِلَيْهِ أُذُنَهُ.
وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي التَّأَثُّرِ لِأَمْرِ اللَّهِ التَّكْوِينِيِّ بِأَنْ تَنْشَقَّ. وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِعَارَةٍ
تَبَعِيَّةٍ (١) وَلَا تَمْثِيلِيَّةٍ (٢).
وَالتَّعْبِيرُ بِ «رَبهَا» دون غير ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَطُرُقِ تَعْرِيفِهِ، لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَجُمْلَةُ: وَحُقَّتْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوفة والمعطوف عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: وَهِيَ مَحْقُوقَةٌ بِأَنْ تَأْذَنَ لِرَبِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ عَظُمَ سُمْكُهَا وَاشْتَدَّ خَلْقُهَا وَطَالَ زَمَانُ رَتْقِهَا فَمَا ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهَا، فَهُوَ الَّذِي إِذَا شَاءَ أَزَالَهَا.
فَمُتَعَلِّقُ حُقَّتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها، أَيْ وَحُقَّتْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادِ وَالتَّأَثُّرِ يُقَالُ: حُقَّ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَمَّا كَانَ فَاعِلُ تَوْجِيهِ الْحَقِّ غَيْرَ وَاضِحٍ تَعْيِينُهُ غَالِبا، كَانَ فَهَل حُقَّ بِكَذَا، مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمَرْفُوعُهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَيُقَالُ: حَقِيقٌ عَلَيْهِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: ١٠٥] وَهُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، قَالَ الْأَعْشَى:
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ | وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ مُوَفَّقُ |
وَمَدُّ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا يُزَالُ مَا عَلَيْهَا مِنْ جِبَالٍ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ فَتَزُولُ انْثِنَاءَاتُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٥- ١٠٧].
_________
(١) رد على الخفاجي.
(٢) رد على الطَّيِّبِيّ وسعدي.