صَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ لِلِاخْتِصَاصِ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ مَا جَاءَ بِالْإِثْبَاتِ وَمَا جَاءَ بِالنَّفْيِ. وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ سَأَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٧٢]. وَحُكْمُ حَرَكَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ أَوْ سُكُونِهَا مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فِي قِسْمِ أُصُولِهَا.
وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْهُدَى اسْمُ مَصْدَرِ الْهَدْيِ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِلَّا سُرًى وَتُقًى وَبُكًى وَلُغًى مَصْدَرُ لَغَى فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ. وَفِعْلُهُ هَدَى هَدْيًا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِإِلَى وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُتَوَسَّعِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَالْهُدَى عَلَى التَّحْقِيقِ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الْإِيصَالُ إِلَى الْبُغْيَةِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّرَادُفِ فَلَا يَكُونُ هَدَى مُرَادِفًا لِدَلَّ وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْهُدَى الدَّلَالَةُ الْكَامِلَةُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ الْهُدَى فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ. وَهُوَ أَسْعَدُ بِقَوَاعِدِ الْأَشْعَرِيِّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيصَالُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُوَفَّقِ فَيُنَاسِبُ تَفْسِيرَ الْهِدَايَةِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ لِيَكُونَ الَّذِي يَهْدِي يُوصِلُ الْهِدَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ.
فَالْقُرْآنُ هُدًى وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ هُوَ هَادٍ.
وَالْهُدَى الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَاجِلِ الَّذِي لَا يَنْقُضُ صَلَاحَ الْآجِلِ. وَأَثَرُ هَذَا الْهُدَى هُوَ الِاهْتِدَاءُ فَالْمُتَّقُونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَالْمُعَانِدُونَ لَا يَهْتَدُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَهَذَا مَعْنًى لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَنْشَأِ حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي فَهْمِ الْآيَةِ. وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
اهْدِنَا الصِّراطَ. وَمَحَلُّ (هُدًى) إِنْ كَانَ هُوَ صَدْرُ جُمْلَةٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ (الْكَتَابِ) فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ الْهُدَى وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ بِهِ مَا يَقْتَضِيِهِ الْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي إِرْشَادِ النَّاسِ حَتَّى كَانَ هُوَ عَيْنُ الْهُدَى تَنْبِيهًا عَلَى رُجْحَانِ هُدَاهُ عَلَى هُدَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ لَا رَيْبَ وَكَانَ الظَّرْفُ صَدْرَ الْجُمْلَةِ الْمُوَالِيَةِ وَكَانَ قَوْلُهُ هُدىً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الظَّرْفُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَهُ فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِأَنَّ فِيهِ هُدًى فَالظَّرْفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْهُدَى مِنْهُ فَيُسَاوِي ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ الْوَجْهَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَيْنُ الْهُدَى.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيءِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرَى الْجُهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لكم عَامَّة اهـ»
وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِمَا هُوَ مَرْذُولٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ.
وَقَوْلُهُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ مَحْذُوفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِظُهُورِهِ أَيْ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ وَمِقْدَارَهَا وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
وَالنُّسُكُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ السِّينِ مَعَ تَثْلِيثِ النُّونِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا التَّعَبُّدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَكَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ إِذَا عَبَدَ وَذَبَحَ لِلَّهِ وَسُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى مَعْبُودٍ
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»
يَعْنِي الضَّحِيَّةَ.
فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى أُحْصِرْتُمْ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْنِ زَوَالَ الْإِحْصَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ الْحَجُّ، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ التَّمَتُّعِ وَذِكْرَ صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أُفُقِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ فِعْلِ الْحَجِّ. وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ الذكري.
وَجِيء بإذا لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَالْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَيْضًا السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ أَمِنَ كَفَرِحَ أَمْنًا، أَمَانًا، وَأَمْنًا، وَأَمَنَةً وَإِمْنًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ قَاصِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُونِ مِنْهُ فيتعدى بِمن تَقُولُ: أَمِنْتُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْمُونِ تَقُولُ: أَمِنْتُ فُلَانًا إِذَا جَعَلْتَهُ آمِنًا مِنْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْنَ ضِدُّ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ وَفِي الْقُرْآنِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التَّوْبَة: ٦] فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: ١٢٦].
مَحَبَّةِ اللَّهِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ فِي مَقَامِ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الرَّأْفَةِ تَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالتَّعْلِيقُ عَلَيْهِ تَعْلِيقُ شَرْطٍ مُحَقَّقٍ، ثُمَّ رُتِّبَ عَلَى الْجَزَاءِ مَشْرُوطٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ لِكَوْنِهِ أَيْضًا مَقْطُوعَ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ غَايَةُ قَصْدِهِ تَحْصِيلُ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ.
وَالْمَحَبَّةُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ يَنْشَأُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِحُسْنِ شَيْءٍ: مِنْ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ.
أَوْ إِحْسَانٍ، أَوِ اعْتِقَادٍ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُسْتَحْسِنَ وَيَجُرُّ إِلَيْهِ الْخَيْرَ. فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الِانْفِعَالُ عَقَبَهُ مَيْلٌ وَانْجِذَابٌ إِلَى الشَّيْءِ الْمَشْعُورِ بِمَحَاسِنِهِ، فَيَكُونُ الْمُنْفَعِلُ مُحِبًّا، وَيَكُونُ الْمَشْعُورُ
بِمَحَاسِنِهِ مَحْبُوبًا، وَتُعَدُّ الصِّفَاتُ الَّتِي أَوْجَبَتْ هَذَا الِانْفِعَالَ جَمَالًا عِنْدَ الْمُحِبِّ، فَإِذَا قَوِيَ هَذَا الِانْفِعَالُ صَارَ تَهَيُّجًا نَفْسَانِيًّا، فَسُمِّيَ عِشْقًا لِلذَّوَاتِ، وَافْتِنَانًا بِغَيْرِهَا.
وَالشُّعُورُ بِالْحُسْنِ الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْحَوَاسِّ فِي إِدْرَاكِ الْمَحَاسِنِ الذَّاتِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَمَالِ، وَيُسْتَمَدُّ أَيْضًا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْكَمَالَاتِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَهِيَ الْمَدْعُوَّةُ بِالْفَضِيلَةِ، وَلِذَلِكَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُحِبُّونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْظِيمًا لِلْكِمَالَاتِ، وَاعْتِقَادًا بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُحِبُّ النَّاسُ أَهْلَ الْفَضْلِ الْأَوَّلِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْفَاضِلِينَ، وَيُحِبُّونَ سُعَاةَ الْخَيْرِ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَهُمْ لَمْ يَلْقَوْهُمْ وَلَا رَأَوْهُمْ.
وَيَرْجِعُ الْجَمَالُ وَالْفَضِيلَةُ إِلَى إِدْرَاكِ النَّفْسِ مَا يُلَائِمُهَا: مِنَ الْأَشْكَالِ، وَالْأَنْغَامِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ، وَالْخِلَالِ. وَهَذِهِ الْمُلَاءَمَةُ تَكُونُ حِسِّيَّةً لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ الطَّبْعِ كَمُلَاءَمَةِ الْبُرُودَةِ فِي الصَّيْفِ، وَالْحَرِّ فِي الشِّتَاءِ، وَمُلَاءَمَةِ اللَّيِّنِ لِسَلِيمِ الْجِلْدِ، وَالْخَشِنِ لِمَنْ بِهِ دَاعِي حَكَّةٍ، أَوْ إِلَى حُصُولِ مَنَافِعَ كَمُلَاءَمَةِ الْإِحْسَانِ وَالْإِغَاثَةِ. وَتَكُونُ فِكْرِيَّةً لِأَجْلِ غَايَاتٍ نَافِعَةٍ كَمُلَاءَمَةِ الدَّوَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَالتَّعَبِ لِجَانِي الثَّمَرَةِ، وَالسَّهَرِ لِلْمُتَفَكِّرِ فِي الْعِلْمِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الْإِلْفِ، وَتَكُونُ لِأَجْلِ الِاعْتِقَادِ الْمَحْضِ، كَتَلَقِّي النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ فَضِيلَةٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ مَحَبَّةُ الْأَقْوَامِ عَوَائِدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي صَلَاحِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مَجْهُولَةَ السَّبَبِ كَمُلَاءَمَةِ الْأَشْكَالِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلنُّفُوسِ وَمُلَاءَمَةِ الْأَلْوَانِ اللَّطِيفَةِ.
تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَعْنَى تَكْرِير اسْم الْعدَد لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: ١] أَيْ لِطَائِفَةٍ جَنَاحَانِ، وَلِطَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِطَائِفَةٍ أَرْبَعَةٌ. وَالتَّوْزِيعُ هُنَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ فِي السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، فَمِنْهُمْ فَرِيقٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يتزوّجوا اثْنَتَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ تَكُونُ أَزْوَاجُهُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، كَقَوْلِكَ لِجَمَاعَةٍ: اقْتَسِمُوا هَذَا المَال در همين در همين، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلَى حَسَبِ أَكْبَرِكُمْ سِنًّا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ مُسْتَفَادٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاقْتِصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا ثَبَتَ مِنْ الِاقْتِصَارِ، عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةٍ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»
. وَلَعَلَّ الْآيَةَ صَدَرَتْ بِذِكْرِ الْعَدَدِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلِ نُزُولهَا، تمهيدا لشرع الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدْلِ فِي التَّنَازُلِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِالْمُكَلَّفِ إِلَى الْوَاحِدَةِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْعَدَدِ يَنْزِلُ بِهِ إِلَى الَّتِي دُونَهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ- لَمْ يُعَيِّنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرِّجَالِ تَزَوُّجَ تِسْعِ نِسَاءٍ تَوَهُّمًا بِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُرَادِفَةٌ لِاثْنَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَحَصَلَتْ
تِسْعَةٌ وَهِيَ الْعَدَدُ الَّذِي جَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ شَنِيعٌ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَإِلَى بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِك قولا لداوود الظَّاهِرِيِّ وَلَا لِأَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَى قَوْمٍ لَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِمْ، وَقَالَ الْفَخْرُ: هُمْ قَوْمٌ سُدًى، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَصَّاصُ مُخَالِفًا أَصْلًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْفَرَسِ إِلَى قَوْمٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَجَعَلُوا الِاقْتِصَارَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى: إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدَدِ، وَتَمَسَّكَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ، فَإِنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَتَطَلُّبُ الْأَدِلَّةِ الْقَوَاطِعِ فِي انْتِزَاعِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ تَطَلُّبٌ لِمَا يَقِفُ بِالْمُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ، فَإِنَّ مَبْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَسَاسِ الْفِطْنَةِ. وَمَسْلَكُهُ هُوَ مَسْلَكُ اللَّمْحَةِ الدَّالَّةِ.
وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]. وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَدْلِ إِلَى كَلِمَةِ الْقِسْطِ لِأَنَّ الْقِسْطَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ أُدْخِلَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهَا فِي اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْهَا عَلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْعَدْلِ فَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: شُهَداءَ لِلَّهِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ عَلَائِقِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ.
ولِلَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ شُهَداءَ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ شُهَداءَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ تَعَلُّقَ الْمَشْهُودِ لَهُ بِمُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ وَصْفُ شُهَداءَ لِإِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَعْيِينِهِ، أَيِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِحَقٍّ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَصْلَيِ التَّحَاكُمِ، وَهُمَا الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ حَالِيَّةٌ، وَ (لَوْ) فِيهَا وَصْلِيَّةٌ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي تَحْقِيقِ مَوْقِعِ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَيَتَعَلَّقُ عَلى أَنْفُسِكُمْ بِكُلٍّ مِنْ قَوَّامِينَ وشُهَداءَ لِيَشْمَلَ الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ.
وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ وَأَصْلُهَا أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الذَّاتِ، وَيُطْلِقُهَا الْعَرَبُ أَيْضًا عَلَى صَمِيمِ الْقَبِيلَةِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْفُسِكُمْ هُنَا بِالْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ بِهِ غَالِبًا، أَيْ: قُومُوا بِالْعَدْلِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاشْهَدُوا لِلَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ قَضَاءً غَالِبًا لِأَنْفُسِكُمْ وَشَهَادَةً غَالِبَةً لِأَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّ حَرْفَ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ شَدِيدٌ فِيهِ كُلْفَةٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، أَيْ وَلَوْ كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي مِنْكُمْ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ مِنْكُمْ بِمَا فِيهِ ضُرٌّ وَكَرَاهَةٌ لِلْقَاضِي وَالشَّاهِدِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُبَالِغُ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْأَذَى، لِأَنَّ أَشَقَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذًى وَضُرٍّ فِي ذَاتِهِ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّ أَقْضِيَةَ الْقَاضِي وَشَهَادَةَ الشَّاهِدِ فِيمَا يُلْحِقُ ضُرًّا وَمَشَقَّةً بِوَالِدَيْهِ وَقَرَابَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ قَضَائِهِ وَشَهَادَتِهِ فِيمَا يَؤُولُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَو على قيبلتكم أَوْ وَالِدَيْكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ. وَمَوْقِعُ الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَنْتَصِرُوا بِمَوَالِيهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ وَيَدْفَعُوا عَنْهُمْ
غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَشَابَهَ التَّسَابُقَ. وَلِتَضْمِينِ فِعْلِ اسْتَبِقُوا بِمَعْنَى خُذُوا، أَوِ ابْتَدِرُوا، عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْخَيْراتِ بِنَفْسِهِ وَحَقُّهُ أَن يعدّى بإلى، كَقَوْلِهِ سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْحَدِيد: ٢١]. وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي قبُول الدّين.
[٤٩]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَنِ احْكُمْ مَعْطُوفًا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، بِأَنْ يُجْعَلَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: ٤٨]، فَيَكُونُ رُجُوعًا إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ لِتَأْكِيدِهِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ كَمَا بُنِيَ عَلَى نَظِيرِهِ قَوْلُهُ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَة: ٤٨]
وَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةُ تُفِيدُ تَقْوِيَةَ ارْتِبَاطِ التَّفْسِيرِ بِالْمُفَسَّرِ، لِأَنَّهَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا، لِصِحَّةِ أَنْ تَقُولَ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ افْعَلْ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنِ افْعَلْ كَذَا. فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ إِلَى رَسُولِهِ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْفَاءِ فَقَالَ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [الْمَائِدَة: ٤٨]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا فِيهِ هُوَ مِنْ آثَارِ تَنْزِيلِهِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يَأْمُرُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِيهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَتَأَكَّدَ الْغَرَضُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ مَعَ تَفَنُّنِ الْأُسْلُوبِ وَبَدَاعَتِهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِهِ. وَمِمَّا حَسَّنَ عَطْفَ التَّفْسِيرِ هُنَا طُولُ الْكَلَامِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمُفَسِّرِ وَبَيْنَ تَفْسِيرِهِ. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. فَقَالَ: عُطِفَ أَنِ احْكُمْ عَلَى الْكِتابَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
مَا إِذَا أَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْهُمُ السَّاعَةُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوْهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْتَصْحِبُ هَذَا الزَّعْمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: فَيَكْشِفُ عَطْفٌ عَلَى تَدْعُونَ، وَهَذَا إِطْمَاعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلِأَجْلِ التَّعْجِيلِ بِهِ قَدَّمَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ. فَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ. وَمَفْعُولُ: تَدْعُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مَا تَدْعُونَهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ أَيْ يَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إِطْمَاعٌ لَا وَعْدٌ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ تَدْعُونَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ نِدَاءٌ فَكَأَنَّ الْمَدْعُوَّ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ إِلَى مَكَانِ الْيَأْسِ.
وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ إِشَارَةً إِلَى مُقَابِلِهِ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْشِفْ، وَذَلِكَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا إِتْيَانُ السَّاعَةِ فَلَا يُكْشَفُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِتْيَانِهَا مَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنَ الْقَوَارِعِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ خَسْفٍ وَشِبْهِهِ فَيَجُوزُ كَشْفُهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ. وَمِمَّا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ
- إِلَى قَوْله- إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٠- ١٦] فُسِّرَتِ الْبَطْشَةُ بِيَوْمِ بَدْرٍ.
وَجُمْلَةُ: فَيَكْشِفُ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ عَطْفٌ عَلَى إِيَّاهُ تَدْعُونَ، أَيْ فَإِنَّكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْنَامُ.
وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَذْهَلُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ لِمَا تَرَوْنَ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ وَمَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ فَتَنْشَغِلُ أَذْهَانُهُمْ بِالَّذِي أَرْسَلَ الْعَذَابَ وَيَنْسَوْنَ الْأَصْنَامَ الَّتِي اعْتَادُوا أَنْ يَسْتَشْفِعُوا بِهَا.
الَّتِي جَعَلَهَا صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ، وَأَقَامَهَا- بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ- عَلَامَةَ مُوَادَعَةٍ مَا دَامُوا غَيْرَ مُتَعَرِّضِينَ لَهَا بِسُوءٍ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ نِيَّتِهِمْ إِهْلَاكُ النَّاقَةِ أَنْ يُزِيلُوا آيَةَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يَزِيدَ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ آيَةِ نُبُوءَتِهِ سَالِمَةً بَيْنَهُمْ تُثِيرُ فِي
نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْهُمُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى صِدْقِهِ وَالِاسْتِئْنَاسَ لِذَلِكَ بِسُكُوتِ كُبَرَائِهِمْ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا عَلَى مَرْعَاهَا وَشُرْبِهَا، وَلِأَنَّ فِي اعْتِدَائِهِمْ عَلَيْهَا إِيذَانًا مِنْهُم بتحفزهم للإضرار بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِمَنْ آمَنَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِيُرُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السّلام أنّهم مستخفّون بِوَعِيدِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: ٧٣].
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَقَرُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [الْأَعْرَاف: ٧٥]، وَقَدْ أُسْنِدَ الْعُقْرُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ تَمَالُئٍ وَرِضًى مِنْ جَمِيعِ الْكُبَرَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [٢٩] : فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي شَأْنِ بَنِي حُنٍّ:
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَذُكِرَ فِي الْأَثَرِ: أَنَّ الَّذِي تولّى عقر النَّاقَةَ رَجُلٌ مِنْ سَادَتِهِمُ اسْمُهُ (قُدَارُ) - بِضَمِّ الْقَافِ وَدَالٍّ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ وَرَاءٍ فِي آخِرِهِ- ابْنُ سَالِفٍ.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ فَقَالَ: انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ (١) مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ
(٢).
وَالْعُقْرُ: حَقِيقَتُهُ الْجَرْحُ الْبَلِيغُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
أَيْ جَرَحْتَهُ بِاحْتِكَاكِ الْغَبِيطِ فِي ظَهْرِهِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى جِهَةٍ، وَيُطْلَقُ الْعَقْرُ عَلَى قَطْعِ عُضْوِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ، عَقَرَ حِمَارَ وَحْشٍ، أَيْ ضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ
_________
(١) العارم- بِعَين مُهْملَة- الجبّار.
(٢) أَبُو زَمعَة هُوَ الْأسود بن المطّلب الْقرشِي مَاتَ كَافِرًا.

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩٨]

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٧] الْآيَةَ أَيْ قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ: وَإِنْ تَدْعُوا الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، أَيِ الْأَصْنَامُ.
وَالْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا فِيهِ رُشْدٌ وَنَفْعٌ لِلْمَدْعُوِّ. وَذِكْرُ إِلَى الْهُدَى لِتَحْقِيقِ عَدَمِ سَمَاعِ الْأَصْنَامِ، وَعَدَمِ إِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ دَعْوَةِ مَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ.
وَلِهَذَا خُولِفَ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا لَا يَسْمَعُوا وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٣] لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الِاتِّبَاعُ، إِذْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الْمَشْيُ الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ أَيِ الِامْتِثَالُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ وَتَراهُمْ لِمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُخَاطَبَ فَهُوَ مِنْ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَمَعْنَى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ تَرَاهُمْ كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، لِأَنَّ صُوَرَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَ عَلَى صُوَرِ الْأَنَاسِيِّ وَقَدْ نَحَتُوا لَهَا أَمْثَالَ الْحِدَقِ النَّاظِرَةِ إِلَى الْوَاقِفِ أَمَامَهَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوا أَصْنَامَهُمْ بِصُورَةِ مَنْ قَلَّبَ حَدَقَتَهُ إِلَى الشَّيْءِ ينظر إِلَيْهِ».
[١٩٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
أَشْبَعَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَفَانِينِ قَوَارِعِ الْمُشْرِكِينَ وَعِظَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَبَعَثَتْهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصدق رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُدَى دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَفَضْحِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ وَالتَّشْوِيهِ بِشُرَكَائِهِمْ، وَقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِك كلّه التسجيل بِمُكَابَرَتِهِمْ، وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيفَ يركبون رؤوسهم، وَكَيف يَنْأَوْنَ بِجَانِبِهِمْ، وَكَيْفَ يُصِمُّونَ أَسْمَاعَهُمْ، وَيُغْمِضُونَ أَبْصَارَهُمْ عَمَّا دُعُوا إِلَى سَمَاعِهِ وَإِلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَنُظِرَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِهِمْ،
الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: وُجُودُ الْبَوْنِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَاقِبَةِ الْحَرْبِ فِي حَالَيِ الْغَلَبَةِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ اسْمِيَّةً فَلَمْ يَقُلْ وَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا: لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ التَّرَبُّصِ، وَكِنَايَةً عَنْ تَقْوِيَةِ حُصُولِ الْمُتَرَبِّصِ لِأَنَّ تَقْوِيَةَ التَّرَبُّصِ تُفِيدُ قُوَّةَ الرَّجَاءِ فِي حُصُولِ الْمُتَرَبِّصِ فَتُفِيدُ قُوَّةَ حُصُولِهِ وَهُوَ الْمُكْنَى عَنْهُ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا جُمْلَةُ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَرَبُّصُ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْفِرًا عَنْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَانَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَى الْفَرِيقَيْنِ بِالْمُتَرَبِّصِينَ لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعَهُ وَضَرَّ عَدُوِّهِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْله: فَتَرَبَّصُوا لِلتَّحْضِيضِ الْمَجَازِيِّ الْمُفِيدِ قِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِتَرَبُّصِهِمْ كَقَوْلِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ:
فَتَوَسَّمُونِي إنّني أَنا ذَلِكُم شَاكِي سِلَاحِي فِي الْحَوَادِثِ مُعْلَمِ
وَجُمْلَةُ إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ تَهْدِيدٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَالْمَعِيَّةُ هُنَا: مَعِيَّةٌ فِي التَّرَبُّصِ، أَوْ فِي زَمَانِهِ، وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا كالعلّة للحضّ.
[٥٣]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٥٣]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
ابْتِدَاءُ كَلَامٍ هُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُسْتَأْذِنِينَ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ «وَأَنَا أُعِينُكَ بِمَالِي». رُوِيَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَة: ٤٩] كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مُنَافِقًا. وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ شُحِّهِمْ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُرْضِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُعُودِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ.
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أَيْ بِمَالٍ تَبْذُلُونَهُ عِوَضًا عَنِ الْغَزْوِ، أَوْ بِمَالٍ تُنْفِقُونَهُ طَوْعًا مَعَ خُرُوجِكُمْ إِلَى الْغَزْوِ، فَقَوْلُهُ: طَوْعاً إِدْمَاجٌ لِتَعْمِيمِ أَحْوَالِ الْإِنْفَاقِ فِي عَدَمِ
وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ شَأْنُهَا أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الْعُقَلَاءِ وَجِيءَ بِهَا هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ إِثْبَاتُ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ جَمَادَاتٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ، تَغْلِيبًا وَلِاعْتِقَادِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةَ عُقَلَاءَ وَهَذَا مِنْ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ لِإِلْزَامِهِ بِنُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى عَلَى لَازِمِ اعْتِقَادِهِ. وَالْحُكْمُ بِكَوْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَاقِلَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ بِالْأَحْرَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مِلْكُ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْأَقْوَى أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْأَضْعَفَ
فَإِنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ.
وَذِكْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِاسْتِيعَابِ أَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ.
وَجُمْلَةُ: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَاتِّبَاعُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمُ اتِّبَاعٌ خَاطِئٌ بَاطِلٌ.
وَ (مَا) نَافِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، بِقَرِينَةِ تَأْكِيدِهَا بِ (إِنِ) النَّافِيَةِ، وَإِيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهُمَا.
وشُرَكاءَ مَفْعُولُ يَدْعُونَ الَّذِي هُوَ صِلَةُ الَّذِينَ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِجُمْلَةِ مَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ وَأُعِيدَ مَضْمُونُهَا قَضَاءً لَحِقِّ الْفَصَاحَةِ حَيْثُ حَصَلَ مِنَ الْبُعْدِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِسَبَبِ الصِّلَةِ الطَّوِيلَةِ مَا يُشْبِهُ التَّعْقِيدَ اللَّفْظِيَّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ مَعَ إِفَادَةِ تِلْكَ الْإِعَادَةِ مُفَادَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِمْعَانَ فِي إِثْبَاتِ الْغَرَضِ.
والظَّنَّ مَفْعُولٌ لِكِلَا فِعْلَيْ يَتَّبِعُ، ويَتَّبِعُونَ فَإِنَّهُمَا كَفِعْلٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّنَازُعِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لَا يَطْلَبُ عَمَلًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَكْرِيرُ اللَّفْظِ دُونَ الْعَمَلِ فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَتِّبِعُ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
اللَّفْظِيِّ الَّذِي لَا دَاعِيَ إِلَى ارْتِكَابِهِ. قِيلَ: إِنَّهُ (يَهُوذَا) وَقِيلَ: (شَمْعُونَ) وَقِيلَ (رُوبِينَ)، وَالَّذِي فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ (رَاوبِينُ) صَدَّهُمْ عَنْ قَتْلِهِ وَأَنَّ يَهُوذَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّيَّارَةَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ٣٧.
وَعَادَةُ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَذْكُرَ إِلَّا اسْمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ دُونَ أَسْمَاءِ الَّذِينَ شَمَلَتْهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سُورَة غَافِر: ٢٨].
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ.
وَالْغَيَابَاتُ: جَمْعُ غَيَابَةٍ، وَهِيَ مَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ مِنْ شَيْءٍ. فَيُقَالُ: غَيَابَةُ الْجُبِّ وَغَيَابَةُ الْقَبْرِ وَالْمُرَادُ قَعْرُ الْجُبِّ.
وَالْجُبُّ: الْبِئْرُ الَّتِي تُحْفَرُ وَلَا تُطْوَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ «غَيَابَاتِ» بِالْجَمْعِ. وَمَعْنَاهُ جِهَاتُ تِلْكَ الْغَيَابَةِ، أَوْ يَجْعَلُ الْجَمْعَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَاهِيَّةِ الِاسْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [سُورَة النُّور: ٤٠] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ بِالْإِفْرَادِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجُبِّ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ فِي غَيَابَةِ جُبٍّ مِنَ الْجِبَابِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ادْخُلِ السُّوقَ. وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ.
فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَهِدُوا جِبَابًا كَائِنَةً عَلَى أَبْعَادٍ مُتَنَاسِبَةٍ فِي طُرُقِ أَسْفَارِهِمْ يَأْوُونَ إِلَى قُرْبِهَا فِي مَرَاحِلِهِمْ لِسَقْيِ رَوَاحِلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ، وَقَدْ تَوَخَّوْا أَنْ تَكُونَ طَرَائِقُهُمْ عَلَيْهَا، وَأَحْسَبُ أَنَّهَا كَانَتْ يَنْصَبُّ إِلَيْهَا مَاءُ السُّيُولِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بَعِيدَةَ الْقَعْرِ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ إِلْقَاءَهُ فِي الْجُبِّ لَا يُهَشِّمُ عِظَامَهُ وَلَا مَاءَ فِيهِ فَيُغْرِقُهُ.
ويَلْتَقِطْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقُوهُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُلْقُوهُ يَلْتَقِطُهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّسَبُّبِ الَّذِي يُفِيدُهُ جَوَابُ الْأَمْرِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا أَشَارَ بِهِ
التَّفْكِيرِ، وَالضُّرِّ الْمُتَعَاقِبِ.
وَقَدِ اخْتُصِرَ فِيهَا التَّمْثِيلُ اخْتِصَارًا اكْتِفَاءً بِالْمُضَادِّ، فَانْتَفَتْ عَنْهَا سَائِرُ الْمَنَافِعِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ قَالَ: هِيَ الْحَنْظَلُ
. وَجُمْلَةُ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ صفة لشَجَرَة خَبِيثَةٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يتركونها تلتف عَلَى الْأَشْجَارِ فَتَقْتُلَهَا. وَالِاجْتِثَاثُ: قَطْعُ الشَّيْءِ كُلِّهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجُثَّةِ وَهِيَ الذَّاتُ.
ومِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ تَصْوِيرٌ لِ اجْتُثَّتْ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي صِفَةِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.
وَجُمْلَةُ مَا لَها مِنْ قَرارٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاجْتِثَاثِ لِأَنَّ الِاجْتِثَاثَ مِنَ انْعِدَامِ الْقَرَارِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الْقُرْآنُ وَإِرْشَادُهُ، وبالكلمة الخبيثة تَعَالَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَعَقَائِدِهِمْ، فَ (الْكَلِمَةُ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. وَالْمَقْصُودُ مَعَ التَّمْثِيلِ إِظْهَارُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَضَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِتَمْثِيلِ كُلِّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافٍ مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً، فَانْظُرْ بَيَانَهُ هُنَالِكَ.
وَجُمْلَةُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَالْوَاوُ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ. وَمَعْنَى (لَعَلَّ) رَجَاء تذكرهم، أَيْ تَهْيِئَةُ التَّذَكُّرِ لَهُمْ، وَقَدْ مَضَت نظائرها.
الْحَاصِلُ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الْحَقَارَةِ وَعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْعَجْزِ عَنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَمِنْ حَالِ الْحُرِّيَّةِ وَالْغِنَى وَالتَّصَرُّفِ كَيْفَ يَشَاءُ.
وَجُعِلَتْ جُمْلَةُ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ مُفَرَّعَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا دُونَ أَنْ تُجْعَلَ صِفَةً لِلرِّزْقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ كَمَالٌ فِي مَوْصُوفِهِ، فَكَوْنُهُ صَاحِبَ رِزْقٍ حَسَنٍ كَمَالٌ، وَكَوْنُهُ يَتَصَرَّفُ فِي رِزْقِهِ بِالْإِعْطَاءِ كَمَالٌ آخَرُ، وَكِلَاهُمَا بِضِدِّ نَقَائِصِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَلَا مَا يُنْفِقُ مِنْهُ.
وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ فِعْلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّقَوِّي، أَيْ يُنْفَقُ إِنْفَاقًا ثَابِتًا. وَجَعَلَ الْفِعْلَ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ. أَيْ يُنْفِقُ وَيَزِيدُ.
وسِرًّا وَجَهْراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يُنْفِقُ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَوَّلَانِ بِالصِّفَةِ، أَيْ مُسِرًّا وَجَاهِرًا بِإِنْفَاقِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَعْمِيمُ الْإِنْفَاقِ، كِنَايَةً عَنِ اسْتِقْلَالِ التَّصَرُّفِ وَعَدَمِ الْوِقَايَةِ مِنْ مَانِعِ إِيَّاهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ.
وَهَذَا مَثَلٌ لِغِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَجُودِهِ عَلَى النَّاسِ.
وَجُمْلَةُ هَلْ يَسْتَوُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، فَبَيَّنَ غَرَضَ التَّشْبِيهِ بِأَنَّ الْمَثَلَ مُرَادٌ مِنْهُ عَدَمُ تَسَاوِي الْحَالَتَيْنِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ مُسَاوَاةِ أَصْحَابِ الْحَالَةِ الْأُولَى لِصَاحِبِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفِيدِ لِلنَّفْيِ وَبَيْنَ الْإِضْرَابِ بِ بَلْ الِانْتِقَالِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنَ الْمَثَلِ اخْتِصَاصُ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالشُّكْرِ وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُشْكَرَ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَمْدُ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الشُّكْرِ فِي مَظْهَرِ النُّطْقِ جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الشُّكْرِ هُنَا، إِذْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى إِخْلَالِ الْمُشْرِكِينَ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ إِذْ
مَثَلٌ لِلْمُكَابِرِينَ كُلِّهِمْ وَمَا قُرَيْشٌ إِلَّا مِنْهُمْ. فَفِي هَذَا مَثَلٌ لِلْمُعَانِدِينَ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ هِيَ: بَيَاضُ يَدِهِ كُلَّمَا أَدْخَلَهَا فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا، وَانْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقَمْلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالرِّجْزُ وَهُوَ الدُّمَّلُ، وَالْقَحْطُ وَهُوَ السُّنُونَ وَنَقَصُ الثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف. وَجَمعهَا الفيروزآبادىّ فِي قَوْلِهِ:
عَصًا، سَنَةٌ، بَحْرٌ، جَرَادٌ، وَقُمَّلُ يَدٌ، وَدَمٌ، بَعْدَ الضَّفَادِعِ طُوفَانُ
فَقَدْ حَصَلَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الِاعْتِنَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالة مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ بِعِلَّةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَشَرٌ، وَلِلْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَقَّنُوهُمْ شُبَهَ الْإِلْحَادِ فِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِيَصْفُوَ لَهُمْ جَوُّ الْعِلْمِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ مَا كَانُوا يَحْسُبُونَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ حِسَابًا.
فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ عَلَى رِسَالَتِهِ.
وَهَذَا مِثْلُ التَّنْظِيرِ بَيْنَ إِيتَاءِ مُوسَى الْكتاب وَإِيتَاءِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩].
فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٣] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي الْآيَة [الْإِسْرَاء:
١٠٠].
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّفْرِيعِ إِلَى التَّسْجِيلِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتِشْهَادًا بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِدْمَاجًا لِلتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ
وَفِعْلُ طَغى رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ آخِرُهُ أَلِفًا مُمَالَةً، أَيْ بِصُورَةِ الْيَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ طَغِيَ مِثْلَ رَضِيَ. وَيَجُوزُ فِيهِ الْوَاوُ فَيُقَالُ: يَطْغُو مِثْلَ يَدْعُو.
وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانِي التَّرْغِيبِ وَالْعَرْضِ وَاسْتِدْعَاءِ الِامْتِثَالِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ لَهُ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ الْحَقَّ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَعَ تَجَنُّبِ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَجْهِيلِهِ.
فَشَبَّهَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمَعَانِي الْحَسَنَةِ بِالشَّيْءِ اللَّيِنِ.
وَاللِّينُ، حَقِيقَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ: رُطُوبَةُ مَلْمَسِ الْجِسْمِ وَسُهُولَةُ لَيِّهِ، وَضِدُّ اللِّينِ الْخُشُونَةُ. وَيُسْتَعَارُ اللِّينُ لِسُهُولَةِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا
وَاللِّينُ مِنْ شِعَارِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥] وَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩]. وَمِنَ اللِّينِ فِي دَعْوَةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: ١٨، ١٩] وَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [الْكَهْف: ٤٧]، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ لَا إِظْهَارُ الْعَظَمَةِ وَغِلْظَةَ الْقَوْلِ بِدُونِ جَدْوًى. فَإِذَا لَمْ يَنْفَعِ اللِّينُ مَعَ الْمَدْعُوِّ وَأَعْرَضَ وَاسْتَكْبَرَ جَازَ فِي مَوْعِظَتِهِ الْإِغْلَاظُ مَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: ٤٦]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨].
وَالتَّرَجِّي الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) إِمَّا تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ بِشَأْنِ الرَّاجِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا لِمُوسَى وَفرْعَوْن بِأَن يرجوا ذَلِكَ،
خَبَرِهَا جُمْلَةً وَهُوَ تَوْكِيدٌ حَسَنٌ بِسَبَبِ طُولِ الْفَصْلِ. وَتَقَدَّمَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي [سُورَةِ الْكَهْفِ: ٣٠]. وَإِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ فَالتَّوْكِيدُ بِإِعَادَةِ (إِنَّ) أَقَلُّ حُسْنًا كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مَلَكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ
وَلَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مُبْتَدَأُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا ضَمِيرَ اسْمِ (إِنَّ) الْأُولَى كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا إِنَّهُ قَائِم، بل لَا بُد مِنَ الِاخْتِلَافِ لِيَكُونَ الْمُؤَكَّدُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ فَتُقْبَلُ إِعَادَةُ الْمُؤَكَّدِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَكَّدُ الْأَوَّلُ كَافِيًا.
وَالْفَصْلُ: الْحُكْمُ، أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الدِّيَانَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ وَالصَّحِيحُ من أَقْوَالهم.
[١٨]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (١٨)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِمَعْنى قَوْله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الْحَج: ١٢، ١٣] ارْتِبَاطَ الدَّلِيلِ بِالْمَطْلُوبِ فَإِنَّ
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسلمين، فَإِن كَانَتْ قِصَّةُ أَمَةِ ابْنِ أُبَيٍّ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ سَيِّدُهَا الْإِسْلَامَ كَانَ هُوَ سَبَبَ النُّزُولِ فَشَمِلَهُ الْعُمُومُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ حَدَثَتْ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْإِسْلَامُ فَهُوَ سَبَبٌ وَلَا يَشْمَلَهُ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا كَانَ تَذَمُّرُ أَمَتِهِ مِنْهُ دَاعِيًا لِنَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِكْرَاهِ فَتَيَاتِهِمْ عَلَى الْبِغَاءِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْفَتَيَاتُ مُسْلِمَاتٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكَاتِ لَا يُخَاطَبْنَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ كَانَ إِظْهَارُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْإِسْلَامَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ تَرَدَّدَ زَمَنًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ دَخَلَ فِيهِ كَارِهًا مُصِرًّا عَلَى النِّفَاقِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ قِصَّةَ أَمَتِهِ حَدَثَتْ فِي مُدَّةِ صَرَاحَةِ كُفْرِهِ لِمَا عَلِمْتَ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ نَزَلَتْ: مَنْ يَعْذُرُنَا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمَالِيكِنَا، وَنُزُولُ سُورَةِ النُّورِ كَانَ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ الَّذِي هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ اسْتَمَرَّ زَمَنًا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِغَاءَ يَمُتُّ إِلَى الزِّنَى بِشَبَهٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْأَنْسَابِ لِلِاخْتِلَاطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الزِّنَى فِي خَرْمِ كُلِّيَّةِ حِفْظِ النَّسَبِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الزِّنَى سِرًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنِ اقْتَرَفَهُ وَكَانَ الْبِغَاءُ عَلَنًا، وَكَانُوا يَرْجِعُونَ فِي إِلْحَاق الْأَبْنَاء الَّذين تَلِدُهُمُ الْبَغَايَا بِآبَائِهِمْ إِلَى إِقْرَارِ الْبَغِيِّ بِأَنَّ الْحَمْلَ مِمَّنْ تُعَيِّنُهُ. وَاصْطَلَحُوا عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ فِي النَّسَبِ فَكَانَ شَبِيهًا بِالِاسْتِلْحَاقِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْبَغَايَا مَنْ لَا ضَبْطَ لَهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ فَيُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى عَدَمِ الْتِحَاقِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الزِّنَى كَانَ مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ مَبْدَأِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ فُرِضَتْ فِي حُدُودِ السَّنَةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا. وَقَدْ أَثْبَتَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَمَ أَنْكِحَةَ الْجَاهِلِيَّةِ الثَّلَاثَةَ وَأَبْقَى النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعَيِّنْ ضَبْطَ زَمَانِ ذَلِكَ الْهَدْمِ.
وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِلَى آخِرِهَا تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النَّمْل: ٨] إِلَخْ. وَزَمَانُ قَوْلِ مُوسَى لِأَهْلِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ وَقْتُ اجْتِلَابِهِ لِلْمُبَادَرَةِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِحَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، ابْتُدِئَتْ بِمَا تَقَدَّمَ رِسَالَةَ مُوسَى مِنَ الْأَحْوَالِ إِدْمَاجًا لِلْقِصَّةِ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وَالْأَهْلُ: مُرَادٌ بِهِ زَوْجُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا زَوْجُهُ وَابْنَانِ صَغِيرَانِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْقَوْلِ زَوْجُهُ، وَيُكَنَّى عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْأَهْلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا»
. وَلَمْ تَظْهَرِ النَّارُ إِلَّا لِمُوسَى دُونَ غَيْرِهِ مَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَارًا مُعْتَادَةً، لَكِنَّهَا مِنْ
أَنْوَارِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ جَلَّاهُ اللَّهُ لِمُوسَى فَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَأْكِيدُهُ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ زَوْجَهُ تَرَدَّدَتْ فِي ظُهُورِ نَارٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهَا.
وَالْإِينَاسُ: الْإِحْسَاسُ وَالشُّعُورُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، فَيَكُونُ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَفِي الْأَصْوَاتِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّ اصُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ
وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ خَبَرُ الْمَكَانِ الَّذِي تَلُوحُ مِنْهُ النَّارُ. وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ هُنَالِكَ بَيْتًا يَرْجُو اسْتِضَافَتَهُمْ إِيَّاهُ وَأَهْلَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ بَيْتٍ يَسْتَضِيفُونَ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا مُقْوِينَ يَأْتِ مِنْهُمْ بِجَمْرَةِ نَارٍ لِيُوقِدَ أَهْلَهُ نَارًا مِنْ حَطَبِ الطَّرِيقِ لِلتَّدَفُّؤِ بِهَا.
وَالشِّهَابُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ. وَالْقَبَسُ: جَمْرَةٌ أَوْ شُعْلَةُ نَارٍ تُقْبَسُ، أَيْ يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهَا مِنْ نَارٍ أُخْرَى لِيُشْعَلَ بِهَا حَطَبٌ أَوْ ذُبَالَةُ نَارٍ أَوْ غَيْرُهُمَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِإِضَافَة بِشِهابٍ إِلَى قَبَسٍ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ مِثْلُ: خَاتَمُ حَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِتَنْوِينِ شِهَابٍ، فَيَكُونُ قَبَسٍ بَدَلًا مِنْ شِهَابٍ أَوْ نَعْتًا لَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ طَهَ.
وَالِاصْطِلَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الصَّلْيِ وَهُوَ الشَّيُّ بِالنَّارِ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الِافْتِعَالِ أَنَّهُ مُحَاوَلَةُ الصَّلْيِ فَصَارَ بِمَعْنَى التَّدَفُّؤِ بوهج النَّار.
تَعْبُدُونَ إِلَّا صُوَرًا لَا إِدْرَاكَ لَهَا، فَيَكُونُ قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ تِلْكَ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥].
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَخَرَّجُ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ دُونِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرِ) فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا غَيْرَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ دُونِ اسْمًا لِلْمَكَانِ الْمُبَاعِدِ فَهِيَ إِذَنْ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُخَالَفَةِ فَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِ اللَّهِ.
وَالْأَوْثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ مُجَسَّمَةٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ. وَالْوَثَنُ أَخَصُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ يُطْلَقُ عَلَى حِجَارَةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ مَثْلَ أَكْثَرِ أَصْنَامِ الْعَرَبِ كَصَنَمِ ذِي الْخَلَصَةِ لَخَثْعَمَ، وَكَانَتْ أَصْنَامُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صُوَرًا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥]. وَتَقَدَّمَ وَصْفُ أَصْنَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وتَخْلُقُونَ مُضَارِعُ خَلَقَ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتَلَقَهُ، أَيْ كَذَبَهُ وَوَضَعَهُ، أَيْ وَتَضَعُونَ لَهَا
أَخْبَارًا وَمَنَاقِبَ وَأَعْمَالًا مَكْذُوبَةً مَوْهُومَةً.
وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [١١].
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إِنْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعَمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يُثْبِتُونَ إِلَهِيَّةً لِغَيْرِ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً إِبْطَالًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ التَّرَدُّدُ فِي حَالِ إِشْرَاكِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَتَنْكِيرُ رِزْقاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ نَفْيِ قُدْرَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى كُلِّ رِزْقٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِظَنِّهِمُ الرِّزْقَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ
عَنْ إِقْرَارِهِمْ إِلْزَامًا لَهُمْ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِمْ، أَيْ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِحَقِيَّةِ مَا كَانَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَكُمْ عَذَابُ النَّارِ.
وَمَجِيءُ التَّفْرِيعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ إِلْزَامٌ بِالْحُجَّةِ كَالْفَاءَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الْحجر: ٣٤] وَقَوْلِهِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٧٩- ٨٢]، وَقَوْلِهِ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤- ٨٥] فَهَذِهِ خَمْسُ فَاءَاتٍ كُلُّ فَاءٍ مِنْهَا هِيَ تَفْرِيعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَاسْتِعْمَالُ الذَّوْقِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥]. وَمَفْعُولُ (ذُوقُوا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ فَذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا دَعَاكُمْ إِلَى أَنْ تَسْأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا.
وَالنِّسْيَانُ الْأَوَّلُ: الْإِهْمَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَنَسِيَ فِي سُورَةِ طه [٨٨].
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ إِهْمَالِكُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِهَذَا الْيَوْمِ. وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ نَسِيناكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ.
وَاللِّقَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعُثُورِ عَلَى ذَاتٍ، فَمِنْهُ لِقَاءُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ وَتَجِيءُ مِنْهُ الْمُلَاقَاةُ، وَمِنْهُ:
لِقَاءُ الْمَرْءِ ضَالَّةً أَوْ نَحْوَهَا. وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ: شَيْءٌ لَقًى، أَيْ مَطْرُوحٌ. وَلِقَاءُ الْيَوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْيَوْمِ وَوُجُودِهِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَأَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ.
وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَلَمَّا تَحَقَّقُوهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ لِأَنَّ الْيَوْمَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَ يَوْمَ انْتِصَارٍ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَ السَّمَوْأَلُ:
يُعَلَّقْ بِالْعَذَابِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ [٢٠] وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَبَرَ عَنْهُ هُنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ وَقَدْ أَذِنَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وَشَاهَدُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى آنِفًا: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ [سبأ: ٣٣] فَإِنَّ الَّذِي يَرَى هُوَ مَا بِهِ الْعَذَابُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [٢٠] فَهُوَ قَوْلُ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
انْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ كُفْرِهِمْ وَغُرُورِهِمْ وَازْدِهَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِأُصُولِ الدِّيَانَةِ إِلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الْكِتَابَ وَالدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَكَانَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِذا تُتْلى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نحشرهم جَمِيعاً [سبأ: ٤٠] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ: ٣١] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَإِيرَادُ حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَيَّدَةً بِالزَّمَنِ الَّذِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ فِيهِ آيَاتُ اللَّهِ الْبَيِّنَاتِ تَعْجِيبٌ مِنْ وَقَاحَتِهِمْ حَيْثُ كَذَّبُوهُ فِي أَجْدَرِ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يصدقوه عِنْدهَا لِأَنَّهُ وَقْتَ ظُهُورِ حُجَّةِ صِدْقِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُتَبَصِّرٍ.
وَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الظَّرْفِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ وَالتَّشَوُّقِ إِلَى الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ وَأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْبُهْتَانِ وَالْكُفْرِ الْبَوَاحِ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ آيَاتُ الْقُرْآن، ووصفها بالبيّنات لِأَجْلِ ظُهُورِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لإعجازها إيَّاهُم عَن مُعَارَضَتِهَا، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى
صدق مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَهِيَ محفوفة بِالْبَيَانِ بِأَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا.
الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ فَلَمَّا هَدَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِعَذَابِ اللَّهِ قَالُوا: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ إِظْهَارًا لِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْوَعِيدِ وَتَكْذِيبِهِ، لِئَلَّا يَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اسْتِخْفَافَهُمْ بِالْوَعِيدِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَأَبَانُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يصدّقون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَعِيدٍ حَتَّى الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي تَصَرُّفِ اللَّهِ. فَالْقَوْلُ هَذَا قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ وَحُكِيَ عَنْهُمْ هُنَا إِظْهَارًا لِرِقَاعَتِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ.
وَهَذَا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمُ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهَا وَهُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: ٤] فَذَكَرَ قَوْلَهُمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥]، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُمْ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] وَمَا عَقَبَهُ مِنْ عَوَاقِبِ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَفْضَى الْقَوْلُ إِلَى أَصْلِهِمُ الثَّالِثِ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: أَبُو جَهْلٍ وَالْقَوْمُ حَاضِرُونَ رَاضُونَ فَأُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمِيعِ.
وَالْقِطُّ: هُوَ الْقِسْطُ مِنَ الشَّيْءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ الْوَرَقِ أَوِ الرَّقِّ أَوِ الثَّوْبِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا الْعَطَاءُ لِأَحَدٍ وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ بِالصَّكِّ، وَقَدْ قَالَ الْمُتَلَمِّسُ فِي صَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الَّتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَحْرَيْنِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْعَطَاءِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْرٌ بِقَتْلِهِ وَعَرَفَ الْمُتَلَمِّسُ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ فَأَلْقَاهَا فِي النَّهْرِ وَقَالَ فِي صَحِيفَتِهِ الْمَضْرُوبِ بِهَا الْمَثَلُ:
وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا لَهَا غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وَحُجُولُ
وَأَلْقَيْتُهَا بِالثِّنْيِ مِنْ جَنْبِ كَافِرٍ كَذَلِكَ يَلْقَى كُلُّ قِطٍّ مُضَلَّلِ
فَالْقِطُّ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُكْتَبُ فِيهِ عَطَاءٌ أَوْ عِقَابٌ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ وَرَقَةُ الْعَطَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمًا لَقِيتُهُ بِأُمَّتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ
وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا عَنَوْا عَجِّلْ لَنَا النَّعِيمَ الَّذِي وَعَدْتَنَا بِهِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى نَرَاهُ الْآنَ فَنُوقِنَ.
وَعَلَى تَسْلِيمِ اخْتِصَاصِ الْقِطِّ بِصَكِّ الْعَطَاءِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَصْدِهِمْ
وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالِانْتِقَالَاتِ بِذِكْرِ ثَنَاءِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَثَنَائِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذِكْرِ مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّدَامَةِ، وَتَمْثِيلِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَشْوِيهِ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَأْنِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فِي لُقْيَانِ التَّكْذِيبِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ دُونَ مُقْتَرَحَاتِ الْمُعَانِدِينَ.
وَ (إِذا) حَرْفُ مُفَاجَأَةٍ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بعده حصل عَن غَيْرِ تَرَقُّبٍ فَتُفْتَتَحُ بِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُفَادُ مِنْهَا حُصُولُ حَادِثٍ عَلَى وَجْهِ الْمُفَاجَأَةِ. وَوَقَعَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا إِذا جَوَابًا لِحَرْفِ (لَمَّا)، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَ (لَمَّا) تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهَا جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ مَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَالضَّحِكُ: كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْآيَاتِ وَالتَّكْذِيبِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْحَاضِرِينَ صَدَرَ مِنْهُمْ ضَحِكٌ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ رُؤْيَةِ آيَةٍ إِذْ لَعَلَّ بَعْضَهَا لَا يَقْتَضِي الضَّحِكَ.
[٤٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٨]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَحْوَالٍ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ،
وَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ إِلَّا كَافِيَةٌ فِي الرَّبْطِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى فِي حَالِ أَنَّهَا آيَاتٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَة فَإِنَّمَا يَسْتَخِفُّونَ بِهَا لِمُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
وَصَوْغُ نُرِيهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ. وَمَعْنَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ تَأْتِي تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَكُونُ هُنَالِكَ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ مِنْ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مُتَرَتِّبَةً فِي الْعِظَمِ بِحَسَبِ تَأَخُّرِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ بعد أُخْرَى ناشىء عَنْ عَدَمِ الِارْتِدَاعِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْآيَاتِ مَوْصُوفَاتٌ بِالْكِبَرِ لَا بِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَلَاقَى فِي الْفَضْلِ وَتَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهَا فِيهِ
حُجْرَتِهِ، نَادَوْا جَمِيعًا وَرَاءَ الْحُجُرَاتِ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمَّنَا شَيْنٌ، نَحْنُ أَكْرَمُ الْعَرَبِ سَلَكُوا فِي عَمَلِهِمْ هَذَا مَسْلَكَ وُفُودِ الْعَرَبِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالسَّادَةِ، كَانُوا يَأْتُونَ بَيْتَ الْمَلِكِ أَوِ السَّيِّدِ فَيَطِيفُونَ بِهِ يُنَادُونَ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ وُرُودِ النَّابِغَةِ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، طَرِيقَةٌ كَانُوا يَسْتَدِرُّونَ بِهَا الْعُظَمَاءَ لِلْعَطَاءِ فَإِضَافَةُ: مَدْحِنَا وَذَمِّنَا إِلَى الضَّمِيرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا: جئْنَاك نفاخرك فاذن لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: نُفَاخِرُكَ، جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْوُفُودِ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرُوا مَفَاخِرَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ، وَيَذْكُرَ الْمَوْفُودُ عَلَيْهِمْ مَفَاخِرَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: نُفَاخِرُكَ، وَكَانَ جُمْهُورُهُمْ لَمْ يَزَالُوا كُفَّارًا حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ تَفَاخَرُوا وَتَنَاشَدُوا الْأَشْعَارَ.
فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يُنادُونَكَ رِجَالُ هَذَا الْوَفْدِ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ النِّدَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ نَادَوْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ الَّذِي نَادَى النِّدَاءَ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعَلَيْهِ فَإِسْنَادُ فِعْلِ يُنادُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عَنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْمَتْبُوعِ إِلَى أَتْبَاعِهِ إِذْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ مُقَدَّمَ الْوَفْدِ، كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا. وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الْبَقَرَة: ٧٢].
وَنَفِيُ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مُرَادٌ بِهِ عَقْلُ التَّأَدُّبِ الْوَاجِبِ فِي مُعَاملَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَقَلُ التَّأَدُّبِ الْمَفْعُولِ عَنْهُ فِي عَادَتِهِمُ الَّتِي اعْتَادُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعُنْجُهِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمٌ وَلَا تَرَتُّبُ ذَنْبٍ. وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يناد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ نِدَائِهِمْ، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ اسْتِثْنَاءُ اللَّذَيْنِ كَانَا أَسْلَمَا مِنْ قَبْلُ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَأْدِيبٌ لَهُمْ وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ مَذَامِّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالْوَرَاءُ: الْخَلْفُ، وَهُوَ جِهَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ بِحَسَبِ مَوْقِعِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ.
و (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى التَّلَبُّسِ الْقَوِيِّ كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وَالْمُرَادُ فِي نَعِيمِ جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فَإِنَّ لِلجَّنَّاتِ وَالْأَنْهَارِ لَذَّاتٌ مُتَعَارَفَةٌ مِنَ اللَّهْوِ وَالْأُنْسِ وَالْمُحَادَثَةِ، وَاجْتِنَاءِ الْفَوَاكِه، ورؤية جَرَيَان الْجَدَاوِلِ وَخَرِيرِ الْمَاءِ، وَأَصْوَاتِ الطُّيُورِ، وَأَلْوَانِ السَّوَابِحِ.
وَبِهَذَا الْاِعْتِبَارِ عَطَفَ نَهَرٍ عَلَى جَنَّاتٍ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ جَنَّاتٍ فَإِنَّ ذَلِك يُغني عَنهُ قَوْلِهِ بَعْدَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِي أَنْهَارٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ السَّامِعُونَ.
ونهر: بِفَتْحَتَيْنِ لُغَةٌ فِي نَهْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ اسْمُ الْجِنْس الصَّادِق بالمتعدد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الْأَعْرَاف: ٤٣]، وَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ إِمَّا فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ الثَّانِي لِ إِنَّ.
وَالْمَقْعَدُ: مَكَانُ الْقُعُودِ. وَالْقُعُودُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ الْمُطَمْئِنَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التَّوْبَة: ٤٦].
وَالصِّدْقُ: أَصْلُهُ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ ثُمَّ شَاعَتْ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ نَشَأَتْ عَنْ مَجَازٍ أَوِ اسْتِعَارَةٍ تَرْجَعُ إِلَى مَعْنَى مُصَادَفَةِ أَحَدِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ كَمَالَ أَحْوَالِ جِنْسِهِ، فَيُقَالُ:
هُوَ رَجُلُ صِدْقٍ، أَيْ تَمَامٌ رُجْلَةٌ، وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكٍ
أَيِ ابْنِ الْعَمِّ حَقًّا، أَيْ مُوفٍ بِحَقِّ الْقَرَابَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يُونُس: ٩٣] وَقَالَ فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤] وَيُسَمَّى الْحَبِيبُ الثَّابِتُ الْمَحَبَّةِ صَدِيقًا وَصِدِّيقًا.
فَمَقْعَدُ صِدْقٍ، أَيْ مَقْعَدٌ كَامِلٌ فِي جِنْسِهِ مَرْضِيٌّ لِلْمُسْتَقِرِّ فِيهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِفْزَازٌ وَلَا زَوَالٌ، وَإِضَافَةُ مَقْعَدِ إِلَى صِدْقٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ الصِّفَةِ مِنْهُ.
وَقَالَ فِي «الْأَحْكَامِ» :«وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ (أَيْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) ثَالِثًا لِأَنَّهُ إِضَافَةٌ إِلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، (أَيْ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَشْرُوعَةً وَسَمَّى الْإِقَامَةَ أَذَانًا مُشَاكَلَةً أَوْ لِأَنَّهَا إِيذَانٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ) كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ»

يَعْنِي بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ فَجَعَلُوا
الْأَذَانَاتِ ثَلَاثَةً فَكَانَ وَهْمًا. ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ اه. فَتَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْأَذَانَ لِصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لِهَذَا تَرَاهُمْ يُؤَذِّنُونَ فِي جَوَامِعِ تُونِسَ ثَلَاثَةَ أَذَانَاتٍ وَهُوَ بِدْعَةٌ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : فَأَمَّا بِالْمَغْرِبِ (أَيْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ) فَيُؤَذِّنُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ لجهل الْمُفْتِينَ قَالَ فِي «الرِّسَالَةِ» :«وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي أَحْدَثَهُ بَنُو أُمَيَّةَ» فَوَصَفَهُ بِالثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ أَنَّ الَّذِي زَادَهُ عُثْمَانُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يَرْوِهِ مُسْلِمٌ وَلَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَالسَّبَبُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا كَانَ بِالْكُوفَةِ لم يؤذّن للْجُمُعَة إِلَّا أَذَانًا وَاحِدًا كَمَا كَانَ فِي زمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُلْغِيَ الْأَذَانُ الَّذِي جَعَلَهُ عُثْمَانُ بِالْمَدِينَةِ. فَلَعَلَّ الَّذِي أَرْجَعَ الْأَذَانَ الثَّانِيَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمَجْمُوعَةِ» :
إِنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْدَثَ أَذَانًا ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي نِيطَ بِهِ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي إِلَّا تَبْلِيغًا لِلْأَذَانِ لِمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ لِلْجُمُعَةِ.
وَالسَّعْيُ: أَصْلُهُ الِاشْتِدَادُ فِي الْمَشْيِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَشْيِ بِحِرْصٍ وَتَوَقِّي التَّأَخُّرِ مَجَازًا.
وذِكْرِ اللَّهِ فُسِّرَ بِالصَّلَاةِ وَفُسِّرَ بِالْخُطْبَةِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ «وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ».
قُلْتُ: وَإِيثَارُ ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِلَى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
وجعفر وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ إِلَخْ، فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ.
وَإِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَى الْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَالْمُشَاكَلَةِ لِوُقُوعِهِ مَعَ رِجَالٍ مِنَ الْإِنْسِ فَإِنَّ الرَّجُلَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ الْبَالِغِ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً رَاجِعٌ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَلَى خَبَرِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ فَزادُوهُمْ رَهَقاً.
وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى مَا يُنْجِي مِنْ شَيْءٍ يَضُرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٧]، فَإِذَا حُمِلَ الْعَوْذَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ يَلْتَجِئُونَ إِلَى الْجِنِّ لِيَدْفَعَ الْجِنُّ عَنْهُمْ بَعْضَ الْأَضْرَارِ فَوَقَعَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَارَ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ وَوَحْشٍ أَوْ تَعَزَّبَ فِي الرَّعْيِ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَسْكُنُ الْقَفْرَ وَيَخَافُونَ تَعَرُّضَ الْجِنِّ وَالْغِيلَانِ لَهُمْ وَعَبَثَهَا بِهِمْ فِي اللَّيْلِ فَكَانَ الْخَائِفُ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَخَالُ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ، قَالُوا: وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ وَهِيَ أَوْهَامٌ وَتَخَيُّلَاتٌ.
وَزَعَمَ أَهْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْإِنْسَ بِهَذَا الْخَوْفِ فَكَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَالتَّخَيُّلِ إِلَيْهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ مَخَافَةً.
وَالرَّهَقُ: الذُّلُّ.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْعَوْذَ هُنَا هُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَى الشَّيْء والالتفات حَوْلَهُ.
وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اتِّقَاءَ شَرِّهَا. وَمَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً فَزَادَتْهُمْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ ضَلَالًا. وَالرَّهَقُ: يُطْلَقُ على الْإِثْم.
[٧]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٧]
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ وَأَنَّهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: ٣].
يَحُورُ، إِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَالَةٍ كَانَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَهُوَ مِنَ الْمجَاز الشَّائِع مثل إِطْلَاقِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ [يُونُس: ٢٣] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: ٨] وَسُمِّيَ يَوْمُ الْبَعْثِ يَوْمَ الْمَعَادِ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَأْيِيدِهِ لِحِكَايَةِ جَزْمِهِمْ وَقَطْعِهِمْ بِنَفْيِهِ.
وَحَرْفُ بَلى يُجَابُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْفِيُّ لِإِبْطَالِ نَفْيِهِ وَأَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ النَّفْيِ نَحْوَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: ١٧٢] وَيَقَعُ بَعْدَ غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: ٧].
وَمَوْقِعُ بَلى الِاسْتِئْنَافُ كَأَحْرُفِ الْجَوَابِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً مُبَيِّنَةٌ لِلْإِبْطَالِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ بَلى عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَعْنِي أَنَّ ظَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ رَبَّهُ أَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّهُ عَلِيمٌ بِمَآلِهِ. وَتَأْكِيدُ ذَلِكَ بِحَرْفِ إِنَّ لِرَدِّهِ إِنْكَارَهُ الْبَعْثَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَرْفِ الْإِبْطَالِ وَمِنْ حَرْفِ التَّأْكِيدِ إِلَى مَعْنَى: أَنَّ رَبَّهُ بَصِيرٌ بِهِ وَأَمَّا هُوَ فَغَيْرُ بَصِيرٍ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَتَعْدِيَةُ بَصِيراً بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَصُرَ الْقَاصِرِ بِضَمِّ الصَّادِ بِهِ إِذَا رَآهُ رُؤْيَةً مُحَقَّقَةً، فَالْبَاءُ فِيهِ مَعْنَاهَا الْمُلَابَسَةُ أَوِ الْإِلْصَاقُ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِكْمَةِ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ رَبَّ النَّاسِ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ فَمِنْهُمُ الْمُصْلِحُ وَمِنْهُمُ الْمُفْسِدُ وَالْكُلُّ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَذْهَبَ الْمُفْسِدُ بِفَسَادِهِ وَمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ مِنْ مَضَارَّ وَأَنْ يُهْمَلَ صَلَاحُ الْمُصْلِحِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَجَعَلَهَا لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا قَدَّمَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى.
وَأُطْلِقَ الْبَصَرُ هُنَا عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ بِالشَّيْءِ.


الصفحة التالية
Icon