بَنِي حَنِيفَةَ مُضْمِرَ الْعَدَاءِ طَامِعًا فِي الْمُلْكِ هُوَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ. وَفَرِيقٌ آخَرُ يَجِيءُ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: ٤] الْآيَاتِ.
وَقَدْ أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِأَنْ كَانَ رَائِدُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ هُوَ التَّقْوَى وَالنَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّجَدُّدِ إِيذَانًا بِتَجَدُّدِ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ وَتَجَدُّدِ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ وَالْإِنْفَاقَ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ هُدَى الْقُرْآنِ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً وَكَوْنَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً [الْبَقَرَة: ٥] خَبَرَهُ. وَعِنْدِي أَنَّهُ تَجْوِيزٌ لِمَا لَا يَلِيقُ، إِذِ الِاسْتِئْنَافُ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالِاقْتِضَابِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْبَلَاغَةِ إِذَا أُشِيعَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ وَأُفِيضَ فِيهِ حَتَّى أُوعِبَ أَوْ حَتَّى خِيفَتْ سَآمَةُ السَّامِعِ، وَذَلِكَ مَوْقِعُ أَمَّا بَعْدُ أَوْ كَلِمَةُ هَذَا وَنَحْوُهُمَا، وَإِلَّا كَانَ تَقْصِيرًا مِنَ الْخَطِيبِ وَالْمُتَكَلِّمِ لَا سِيَّمَا وَأُسْلُوبُ الْكِتَابِ أَوْسَعُ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ لِأَنَّ الْإِطَالَةَ فِي أَغْرَاضِهِ أَمْكَنُ.
وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُف: ٥٢] لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [الْمَائِدَة: ٩٤] وَرُبَّمَا قَالُوا بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْحُطَيْئَةُ:

كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
وَفِي الْحَدِيثِ: «دَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ»
. وَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ مَا لَا
يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ مِمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بِأَنَّهُ وَاقِعٌ أَوْ سَيَقَعُ مِثْلَ وُجُودِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. فَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالْمَصْدَرِ أَيِ الْغِيبَةِ كَانَتِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فَالْوَصْفُ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالِاسْمِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، كَانَتِ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِيُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ عَوَالِمِ الْغَيْبِ.
كَانَ الْوَصْفُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧] فَجَمَعَ هَذَا الْوَصْفَ بِالصَّرَاحَةِ ثَنَاءً عَلَى الْمُؤْمِنِينَُُ،
مِنَ الثَّلَاثَةِ أُزِيلُ ذَلِكَ بِجَلِيَّةِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَالَ «الْوَاوُ قَدْ تَجِيءُ لِلْإِبَاحَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ فَفَذْلَكْتُ نَفْيًا لتوهم الْإِبَاحَة اهـ» وَهُوَ يُرِيدُ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْجَمْعُ وَلَا يَتَعَيَّنُ.
وَفِي كِلَا الْكَلَامَيْنِ حَاجَةٌ إِلَى بَيَانِ مَنْشَأِ تَوَهُّمِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ فَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ فِي الْوَاوِ حَتَّى زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَرِدُ لَهُ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ يُسْتَفَادُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لَا أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَجَعَلَ أَقَلَّ الْعَدَدَيْنِ لِأَشَقِّ الْحَالَتَيْنِ وَأَكْثَرَهُمَا لِأَخَفِّهِمَا، فَلَا جَرَمَ طَرَأَ تَوَهُّمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ وَأَنَّ السَّبْعَةَ رُخْصَةٌ لِمَنْ أَرَادَ التَّخْيِيرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمَ، بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَابُ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا تَفْرِيقُهَا رُخْصَةٌ وَرَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَاف: ١٤٢] إِذْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَاجَاةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُ أَبْلَغَهَا إِلَيْهِ مُوَزَّعَةً تَيْسِيرًا.
وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ حِكْمَةِ كَوْنِ الْأَيَّامِ عَشَرَةً فَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَشَأَ مِنْ جَمْعِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُمَا عَدَدَانِ مُبَارَكَانِ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ التَّوْزِيعِ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَةُ كَوْنِ التَّوْزِيعِ كَانَ إِلَى عَدَدَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ لَا مُتَسَاوِيَيْنِ ظَاهِرَةٌ لِاخْتِلَافِ حَالَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْحَجِّ فَفِيهَا مَشَقَّةٌ، وَحَالَةُ الِاسْتِقْرَارِ بِالْمَنْزِلِ. وَفَائِدَةُ جَعْلِ بَعْضِ الصَّوْمِ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ جَعْلُ بَعْضِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ سَبَبِهَا، وَفَائِدَةُ التَّوْزِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعَةٍ أَنَّ كِلَيْهِمَا عَدَدٌ مُبَارَكٌ ضُبِطَتْ بِمِثْلِهِ الْأَعْمَالُ دِينِيَّةً وقضائية.
وَأما قَوْله: كامِلَةٌ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِصِيَامِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ طَرِيقُ كَمَالٍ لِصَائِمِهِ، فَالْكَمَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْرَبِ شَيْءٍ
فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ أَوْ بَدَلُهُ وَهُوَ الصِّيَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَى الْغَرِيب عَن مَكَّةَ كَيْ لَا يُعِيدَ السَّفَرَ لِلْعُمْرَةِ فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ السَّفَرِ فَلِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَهَذَا
وَهُوَ تَرْهِيبٌ
- ثُمَّ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ فِي التَّرْغِيبِ بقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمرَان: ١٥] الْآيَةَ
- ثُمَّ بِتَأْيِيدِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] الْآيَةَ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ.
- ثُمَّ جَاءَ بِطَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ [آل عمرَان: ٢٠] الْآيَةَ ثُمَّ بِتَرْهِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ صَرِيحٍ وَلَكِنْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى الدَّلِيلِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمرَان: ٢١]
- ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ التَّعْرِيضِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمرَان: ٢٦] الْآيَاتِ.
- ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَطِيعَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [آل عمرَان: ٢٨].
- ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّرْغِيبِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: الْكَافِرِينَ
- وَخَتَمَ بِذِكْرِ عَدَمِ مَحَبَّةِ الْكَافِرِينَ رَدًّا لِلْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ [آل عمرَان: ١٠] الْآيَةَ لِيَكُونَ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ عَنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، نَفْيًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَافرين المعيّنين.
[٣٣، ٣٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
انْتِقَالٌ مِنْ تَمْهِيدَاتِ سَبَبِ السُّورَةِ إِلَى وَاسِطَة بَين التَّمْهِيدِ وَالْمَقْصِدِ، كَطَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ، فَهَذَا تَخَلُّصٌ لِمُحَاجَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَابْتُدِئَ هُنَا بِذِكْرِ آدَمَ وَنُوحٍ وَهُمَا أَبَوَا الْبَشَرِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْصُودِينَ بِالتَّفْضِيلِ وَبِالْخِطَابِ. فَأَمَّا آدَمُ فَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَمِ كُلِّهَا إِلَّا شُذُوذًا مِنْ أَصْحَابِ النَّزَعَاتِ الْإِلْحَادِيَّةِ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي أُورُوبَّا وَاخْتَرَعُوا نَظَرِيَّةَ تَسَلْسُلِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِي نظرية فائلة.
وَآدَمُ اسْمُ أَبِي الْبَشَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَيْهِ وَضَعَهُ لِنَفْسِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا وَضَعَ مَبْدَأَ اللُّغَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَزَوْجُهُ أَنْ يُعَبِّرَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ أَسْمَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ الْمَخْصُوصُ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِالْأُدْمَةِ خَاصٌّ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا اسْمَ ذَلِكَ اللَّوْنِ أَخْذًا مِنْ وَصْفِ لَوْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ.
يُقَلِّلُ النَّفَقَةَ وَيُقَلِّلُ النَّسْلَ فَيُبْقِي عَلَيْهِ مَالَهُ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَاجَةَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْإِمَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى مَا يُتَنَاسَلُ مِنْهُنَّ، وَلِذَلِكَ رَدَّ جَمَاعَةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ هَذَا الْوَجْهَ بَيْنَ مُفْرِطٍ وَمُقْتَصِدٍ.
وَقَدْ أَغْلَظَ فِي الرَّدِّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي اللُّغَةِ، اشْتَبَهَ بِهِ عَالَ يَعِيلُ بِعَالَ يَعُولُ. وَاقْتَصَدَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
وَانْتَصَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلشَّافِعِيِّ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْجَوَارِي مِثْلَ تَعَدُّدِ الْحَرَائِرِ فَلَا مَفَرَّ مِنَ الْإِعَالَةِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ فِيهِ تَكَلُّفٌ.
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النِّسَاء: ١].
[٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
جَانِبَانِ مُسْتَضْعَفَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْيَتِيمُ، وَالْمَرْأَةُ. وَحَقَّانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا أَصْحَابُهُمَا:
مَالُ الْأَيْتَامِ، وَمَالُ النِّسَاءِ، فَلِذَلِكَ حَرَسَهُمَا الْقُرْآنُ أَشَدَّ الْحِرَاسَةِ فَابْتَدَأَ بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ مَالِ الْيَتِيمِ، وَثَنَّى بِالْوِصَايَةِ بِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي مَالٍ يَنْجَرُّ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ تَوَسُّطُ حُكْمِ النِّكَاحِ بَيْنَ الْوِصَايَتَيْنِ أحسن مُنَاسبَة تهيّىء لِعَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ.
فَقَوْلُهُ: وَآتُوا النِّساءَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِيتَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَزَادَهُ اتِّصَالًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَرَى عَلَى وُجُوبِ الْقِسْطِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ. وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا كُلُّ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ، فَهُوَ خِطَابٌ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْنَى تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ فِيهِ يَدٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ إِلَيْهِمُ الْمَرْجِعُ فِي الضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي ظَلَمَةِ الْحُقُوقِ أَرْبَابَهَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ ابْتِدَاءً هُمُ الْأَزْوَاجُ،

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٣٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
تَذْيِيلٌ عُقِّبَ بِهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ: بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَيَدُومُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَحْذَرُوا مَسَارِبَ مَا يُخِلُّ بِذَلِكَ.
وَوَصْفُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِرْدَافُهُ بِأَمْرِهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهِ يُرْشِدُ السَّامِعَ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ تَأْوِيلًا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِمْ آمَنُوا وَكَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِإِيمَانٍ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ خَمْسَةُ مَسَالِكَ:
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُ إِيمَانٌ مُخْتَلٌّ مِنْهُ بَعْضُ مَا يَحِقُّ الْإِيمَانُ بِهِ، فَيَكُونُ فِيهَا خِطَابٌ لِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَسَدٌ وَأُسَيْدٌ ابْنَا كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَلَامُ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلَمَةُ ابْنُ أَخِيهِ، وَيَامِينُ بْنُ يَامِينَ، سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِكِتَابِهِ، كَمَا آمَنُوا بِمُوسَى وَبِالتَّوْرَاةِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ فِي الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنَّهُ إِيمَانٌ كَامِلٌ لَا تَشُوبُهُ كَرَاهِيَةُ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ، تَحْذِيرًا مِنْ ذَلِكَ. فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ آمَنُوا صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَى اسْمِهِ هُنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ: إِمَّا زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَكْرِيرُ اسْتِحْضَارِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى لَا يَذْهَلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ اهْتِمَامًا بِجَمِيعِهِ وَإِمَّا النَّهْيُ عَنْ إِنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى
مُوسَى وَإِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ، لِئَلَّا يَدْفَعَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الشَّنَآنِ إِلَى مُقَابَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا أُرِيدَ بِهِ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَيْسَ أُولَئِكَ بِأَهْلٍ لِوَلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ، وَلِإِضْمَارِهِمُ الْكَيْدَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَجُرِّدَ النَّهْيُ هُنَا عَنِ التَّعْلِيلِ وَالتَّوْجِيهِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَسَبَبُ النَّهْيِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ النَّهْيُ لَمْ يُقْتَصَرْ عَلَيْهِمْ لِكَيْلَا يَحْسَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مَأْذُونُونَ فِي مُوَالَاةِ النَّصَارَى، فَلِدَفْعِ ذَلِكَ عُطِفَ النَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ هُنَا، لِأَنَّ السَّبَبَ الدَّاعِيَ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ وَاحِدٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الدِّينِ وَالنُّفْرَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالنَّصَارَى وَإِنْ لَمْ تَجِيءْ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَذَاةٌ مِثْلَ الْيَهُودِ فَيُوشِكُ أَنْ تَجِيءَ مِنْهُمْ إِذَا وُجِدَ دَاعِيهَا.
وَفِي هَذَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ هُنَا عَنْ مُوَالَاةِ النَّصَارَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا
سَيَأْتِي وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: ٨٢]. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ قُرْبَهَا، وَقَدْ أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ مُجَاوِرِينَ تُخُومَ بِلَادِ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ عَزَمَ أَنْ يُوَالِيَ يَهُودِيًّا، وَأَنَّ آخَرَ عَزَمَ أَن يوالي تصرانيا كَمَا سَيَأْتِي، فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّصَارَى غَيْرَ إِدْمَاجٍ.
وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِوَلَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَيْ بِوَلَايَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بَعْضَ أَهْلِ فَرِيقِهِ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَتَقَارَبُ أَفْرَادُهُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ فَيَسْهُلُ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ أَوْلِيَاءُ النَّصَارَى. وَتَنْوِينُ بَعْضٍ تَنْوِينُ عِوَضٍ، أَيْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِهِمْ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ مُوَالَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنْ نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ فَرِيقٍ مِنْهُمَا.
وَالْوَلَايَةُ هُنَا وَلَايَةُ الْمَوَدَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بِتَوْرِيثِ الْيَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالْعَكْسِ أَخْذًا
بقول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِتَوْرِيثِ بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ بَعْضٍ وَرَأَيَا الْكُفْرَ مِلَّةً وَاحِدَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُود.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ تَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ
وَالْمَعْنَى: وَلَكِنِ اعْتَرَاهُمْ مَا فِي خِلْقَتِهِمْ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنِ الْبَاطِلِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَتَأَثَّرُ فَشُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْقَاسِي. وَالْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ.
وَقَدْ وَجَدَ الشَّيْطَانُ مِنْ طِبَاعِهِمْ عَوْنًا عَلَى نَفْثِ مُرَادِهِ فِيهِمْ فَحَسُنَ لَهُمْ تِلْكَ الْقَسَاوَةُ وَأَغْرَاهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى آثَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الضَّلَالَ يَنْشَأُ عَنِ اسْتِعْدَادِ اللَّهِ فِي خِلْقَةِ النَّفْسِ.
وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ٤١]. وَظَاهِرُ تَفَرُّعِ التَّرْكِ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ مَاصِدْقُهَا الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، أَيْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ الْفِطْنَةِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ. وَمَعْنَى ذُكِّرُوا بِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ عِقَابَهُ الْعَظِيمَ بِمَا قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَ (لَمَّا) حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ وُجُودِ جَوَابِهِ بِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مِثْلَ بَقِيَّةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ جَوَاب فَلَمَّا وَالْفَتْحُ ضِدَّ الْغَلْقِ، فَالْغَلْقُ:
سَدُّ الْفُرْجَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاجْتِيَازُ مِنْهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا بِبَابٍ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الْحَائِطِ فَلَا تُسَمَّى غَلْقًا.
وَالْفَتْحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ الْحَاجِزِ غَيْرَ حَاجِزٍ وَقَابِلًا لِلْحَجْزِ، كَالْبَابِ حِينَ يُفْتَحُ. وَلِكَوْنِ مَعْنَى الْفَتْحِ وَالْغَلْقِ نِسْبِيَّيْنِ بَعْضُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قِيلَ لِلْآلَةِ الَّتِي يُمْسَكُ بِهَا الْحَاجِزُ وَيُفْتَحُ بِهَا مِفْتَاحًا وَمِغْلَاقًا، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ الْفَتْحُ بَعْدَ تَعَقُّلِ الْغَلْقِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَضِيًا أَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُرَادَ هَاهُنَا كَانَتْ مُغْلَقَةً وَقْتَ أَنْ أُخِذُوا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا أَبْوَابُ الْخَيْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُحِبُّونَ إِنْ كَانَ فِي حَالِ سَمَاعِهِمْ قَوْلَهُ فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ، أَيْ لَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبُكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ آخِرَ عِلَاجٍ لِإِقْلَاعِهِمْ إِنْ كَانَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ لِلْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَمَاعِهِمْ فَالْمُضَارِعُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ مِثْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: ٩].
[٨٠، ٨١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨٠ إِلَى ٨١]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
عُطِفَ وَلُوطاً عَلَى نُوحاً فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: ٥٩] فَالتَّقْدِيرُ:
وَأَرْسَلْنَا لُوطًا، وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ إِذِ ابْتُدِئَتْ بِذِكْرِ (لُوطًا) كَمَا ابْتُدِئَتْ قِصَّةٌ بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ لُوطٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ نُوحٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ. وَ (إِذْ) - ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَرْسَلْنَا) الْمُقَدَّرُ يَعْنِي أَرْسَلْنَاهُ وَقْتَ قَالَ لِقَوْمِهِ وَجُعِلَ وَقْتُ الْقَوْلِ ظَرْفًا لِلْإِرْسَالِ لِإِفَادَةِ مُبَادَرَتِهِ بِدَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلَى مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُقَارَنَةُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الظَّرْفِيَّةُ بَيْنَ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَوَقْتِ قَوْلِهِ، مُقَارَنَةٌ عُرْفِيَّةٌ بِمَعْنَى شِدَّةِ الْقُرْبِ بِأَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ مُبَادَرَةِ التَّبْلِيغِ.
وَقَوْمُ لُوطٍ كَانُوا خَلِيطًا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَمِمَّنْ نَزَلَ حَوْلَهُمْ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبَائِلِهِمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمْ وَاسْتَوْطَنَ دِيَارَهُمْ. وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نَزَلَ
بِبِلَادِ (سَدُومَ) وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ.
الْجَهْلِ هُوَ الْإِشْرَاكُ، إِذِ اتِّخَاذُ الْحَجَرِ إِلَهًا سَفَاهَةٌ لَا تَعْدِلُهَا سَفَاهَةٌ، ثُمَّ يَشْمَلُ كُلَّ سَفِيهِ رَأْيٍ. وَكَذَلِكَ فَهِمَ مِنْهَا الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَأَقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ فَضَائِلَ الْأَخْلَاقِ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ عَفْوًا عَنِ اعْتِدَاءٍ فَتَدْخُلُ فِي خُذِ الْعَفْوَ، أَوْ إِغْضَاءً عَمَّا لَا يُلَائِمُ فَتَدْخُلُ فِي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، أَوْ فِعْلَ خَيْرٍ وَاتِّسَامًا بِفَضِيلَةٍ فَتَدْخُلُ فِي وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: «فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا وَهِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ يُبَيِّنَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِن الْأَمر يَأْخُذ الْعَفْوِ يَتَقَيَّدُ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ مِنَ الْحُقُوقِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِأَخْذِ الْعَفْوِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ بلين ورفق.
[٢٠٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٠٠]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
وَهَذَا الْأَمْرُ مُرَادٌ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً وَهُوَ شَامِلٌ لِأُمَّتِهِ.
(إِمَّا) هَذِهِ هِيَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ اتَّصَلَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ الَّتِي تُزَادُ عَلَى بَعْضِ الْأَسْمَاءِ غَيْرِ أَدَوَاتِ الشُّرُوطِ فَتُصَيِّرُهَا أَدَوَاتِهَا، نَحْوَ (مَهْمَا) فَإِن أَصْلهَا ماما، وَنَحْوَ (إِذْمَا) وَ (أَيْنَمَا) وَ (أَيَّانَمَا) وَ (حَيْثُمَا) وَ (كَيْفَمَا) فَلَا جَرَمَ أَنَّ (مَا) إِذَا اقْتَرَنَتْ بِمَا يَدُلُّ على الشَّرْط اكتسبته قُوَّةً شَرْطِيَّةً فَلِذَلِكَ كُتِبَتْ (إِمَّا) هَذِهِ عَلَى صُورَةِ النُّطْقِ بِهَا وَلَمْ تُكْتَبْ مَفْصُولَةَ النُّونِ عَنْ (مَا).
وَالنَّزْغُ النَّخْسُ وَالْغَرْزُ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ»
وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَأَمَّا الرَّاغِبُ وَابْنُ عَطِيَّةَ فَقَيَّدَاهُ بِأَنَّهُ دُخُولُ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ لِإِفْسَادِهِ، (قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْفَسْخُ بِالسِّينِ وَهُوَ الْغَرْزُ بِإِبْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِلْوَشْمِ) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ فِعْلِ الشَّيْطَانِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يُوسُف: ١٠٠].
وَإِطْلَاقُ النَّزْغِ هُنَا عَلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ اسْتِعَارَةٌ: شَبَّهَ حُدُوثَ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي النَّفْسِ بِنَزْغِ الْإِبْرَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْجِسْمِ بِجَامِعِ التَّأْثِيرِ الْخَفِيِّ، وَشَاعَتْ
وَهَذِهِ اللَّامُ كَثِيرٌ وُقُوعُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَمَادَّةِ الْأَمْرِ. وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ سَمَّاهَا (لَامَ أَنْ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦].
فَقَوْلُهُ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ ب لِيُعَذِّبَهُمْ وَمُحَاوَلَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَعَسُّفٌ وَعُطِفَ وَتَزْهَقَ عَلَى لِيُعَذِّبَهُمْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَرَادَهُ الله لَهُم عِنْد مَا رَزَقَهُمُ الْأَمْوَالَ
وَالْأَوْلَادَ فَيُعْلَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ أَرَادَ مَوْتَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَيَسْتَغْرِقُ التَّعْذِيبُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ حَيَاتَهُمْ كُلَّهَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا فِي جُزْءٍ مِنْ آخَرِ حَيَاتِهِمْ لَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ انْتِفَاعٌ مَا بِأَمْوَالِهِمْ وَلَوْ مَعَ الشُّحِّ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ كافِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا زُهِقَتِ النَّفْسُ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَقَدْ مَاتَ كَافِرًا.
وَالْإِعْجَابُ اسْتِحْسَانٌ مَشُوبٌ بِاسْتِغْرَابٍ وَسُرُورٍ مِنَ الْمَرْئِيِّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: ١٠٠] أَيِ اسْتَحْسَنْتَ مَرْأَى وَفْرَةِ عَدَدِهِ.
وَ (الزُّهُوقُ) الْخُرُوجُ بِشِدَّةٍ وَضِيقٍ، وَقَدْ شَاعَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِه السُّورَة.
[٥٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٥٦]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَيْهِمْ، قُصِدَ مِنْهَا إِبْطَالُ مَا يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَأْكِيدِ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أَيْ بَعْضٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُؤْمِنِينَ، كَانَ التَّبْعِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ اتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ، بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ تَوَجَّسُوا شَكَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ.

[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٦٨]

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨)
بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يُونُس: ٦٦] إِلَى آخِرِهَا، وَفِي هَذَا الْبَيَانِ إِدْمَاجٌ بِحِكَايَةِ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ كُفْرِهِمْ مُغَايِرٌ لِادِّعَاءِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، لِأَنَّ هَذَا كُفْرٌ خَفِّيٌّ مِنْ دِينِهِمْ، وَلِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِبْطَالِهِ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ.
فَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ [يُونُس: ٦٦] أَيْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّمِيرِ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ لَمْ يَتَصَدَّ لِإِبْطَالِ زَيْغِ عَقَائِدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلَّهِ بَنَاتٍ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُمْ بَنَاتُهُ مِنْ سَرَوَاتِ نِسَاءِ الْجِنِّ، وَلِذَلِكَ عَبَدَتْ فِرَقٌ مِنَ الْعَرَبِ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤٠، ٤١].
وَالِاتِّخَاذُ: جَعْلُ شَيْءٍ لِفَائِدَةِ الْجَاعِلِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَخْذِ لِأَنَّ الْمُتَّخِذَ يَأْخُذُ الشَّيْءَ الَّذِي يَصْطَفِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فِي الْأَعْرَافِ [١٤٦]، فَالِاتِّخَاذُ يَصْدُقُ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ لِلِاسْتِئْثَارِ بِهِ، وَيَصْدُقُ عَلَى تَكْوِينِ شَيْءٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ. وَهُوَ هَنَا صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَوَلُّدَ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَبَنَّى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَالْوَلَدُ: اسْمٌ مَصُوغٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ مِثْلَ عَمَدَ وَعَرَبَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِلَادَةِ، أَيِ النِّتَاجِ. يُقَالُ: وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَالنَّاقَةُ، وَلَعَلَّ أَصْلَ الْوَلَدِ مَصْدَرٌ
هَذَا مُسْتَعَارٌ مِنْ رَتَعَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَكَلَتْ فِي الْمَرْعَى حَتَّى شَبِعَتْ. فَمُفَادُ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ وَاحِدٌ.
وَاللَّعِبُ: فِعْلٌ أَوْ كَلَامٌ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِمِثْلِهِ نَحْوَ الْجَرْيِ والقفز والسّبق والمراماة، نَحْوَ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتَمِينَ بِشَحْمِهَا يَقْصِدُ مِنْهُ الِاسْتِجْمَامَ وَدَفْعَ السَّآمَةِ. وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا إِذَا لَمْ يَصِرْ دَأَبًا. فَلَا وَجْهَ لِتَسَاؤُلِ صَاحب «الْكَشَّاف» على اسْتِجَازَةِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُمُ اللَّعِبَ.
وَالَّذِينَ قَرَأُوا نَرْتَعْ بِنُونِ الْمُشَارَكَةِ قَرَأُوا وَنَلْعَبْ بِالنُّونِ أَيْضًا.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِثْلَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ [سُورَة يُوسُف: ١٠]. وَالتَّأْكِيدُ فِيهِمَا لِلتَّحْقِيقِ تَنْزِيلًا لِأَبِيهِمْ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ فِي أَنَّهُمْ يَحْفَظُونَهُ وَيَنْصَحُونَهُ كَمَا نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْذَنُ لَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمْ لِلرَّعْيِ وَنَحْوِهِ.
وَتَقْدِيمُ لَهُ فِي لَهُ لَناصِحُونَ ولَهُ لَحافِظُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الرِّعَايَةِ
لِلْفَاصِلَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِفَرْطِ عِنَايَتِهِمْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهُ وَلَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَوَاطَأُوا عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِيهِمْ عِبْرَة من تواطئ أَهْلِ الْغَرَضِ الْوَاحِدِ عَلَى التَّحَيُّلِ لِنَصْبِ الْأَحَابِيلِ لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ دَنِيءٍ، وَكَيْفَ ابْتَدَأُوا بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ عَدَمِ أَمْنِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَخِيهِمْ وَإِظْهَارُ أَنَّهُمْ نُصَحَاءُ لَهُ، وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مَا حَرَصُوا إِلَّا عَلَى فَائِدَةِ أَخِيهِمْ وَأَنَّهُمْ حَافِظُونَ لَهُ وَأَكَّدُوا ذَلِك أَيْضا.
وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ. وَدَارُهُ: مَحَلُّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ.
وَالْإِحْلَالُ بِهَا الْإِنْزَالُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْلَالِ التَّسَبُّبُ فِيهِ، أَيْ كَانُوا سَبَبًا لِحُلُولِ قَوْمِهِمْ بِدَارِ الْبَوَارِ، وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَوَاقِعُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ: مَوْقِعِ بَدْرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ، وَبِهِ فَسَّرَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَرْضَ بَدْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَحَلُّوا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مُتَأَخِّرٌ زَمَنُهُ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِدَارِ الْبَوَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ جَهَنَّمَ بَدَلًا مِنْ دارَ الْبَوارِ وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها حَالًا مِنْ جَهَنَّمَ، فَتُخَصُّ دارَ الْبَوارِ بِأَعْظَمِ أَفْرَادِهَا وَهُوَ النَّارُ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَهَمِّيَّتِهِ.
وَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِأَرْضِ بَدْرٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَانْتِصَابُ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَصْلَوْنَها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ.
وَمَا يَرْوُونَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ: فَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ وَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكَفَيْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُغْرِضِينَ الْمُضَادِّينَ لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَفِي رِوَايَاتٍ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَلَا يُرِيدُ عُمَرُ وَلَا عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ فاحذروا الأفهام الخطئة. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٧]

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
كَانَ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مَقَالَاتِ كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ الْعَظِيمِ وَإِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ، وَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ.
ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى بَسْطِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَسَلْسَلَ الْبَيَانُ، وَتَفَنَّنَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْمُنَاسَبَاتِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ عَيَّنَهُ فِي عِلْمِهِ لِحِكْمَتِهِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُفَاجَأَتِهِ، فَثَنَى عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى الِاعْتِرَاضِ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يخرج عَن قُدْرَتِهِ أَعْظَمَ فِعْلٍ مِمَّا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ وَأَنَّ أَمْرَ السَّاعَةِ الَّتِي أَنْكَرُوا إِمْكَانَهَا وَغَرَّهُمْ تَأْخِيرُ حُلُولِهَا هِيَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ مَتَى شَاءَهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ يُغَادِرْ شَيْئًا مِمَّا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَجِدَالِهِمْ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ اسْتِقْصَاءً لِلْأَعْذَارِ لَهُمْ.
وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَأْخِيرِ هَذَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ بِصَرِيحِهِ عَلَى تَعْلِيمٍ، وَبِإِيمَائِهِ إِلَى تَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ.
فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَامُ الْمِلْكِ. وَالْغَيْبُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْغَائِبَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٣]. وَهُوَ الْغَائِبُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ وَالْعَوَالِمِ الَّتِي لَا تَصِلُ
إِلَى مُشَاهَدَتِهَا حَوَاسُّ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا.
وَوَعْدُ الْآخِرَةِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.
وَاللَّفِيفُ: الْجَمَاعَاتُ الْمُخْتَلِطُونَ مِنْ أَصْنَافٍ شَتَّى، وَالْمَعْنَى: حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا
بِغَرَقِ الْكَفَرَةِ وَتَمْلِيكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَنَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَعْنَى جِئْنا بِكُمْ أَحْضَرْنَاكُمْ لَدَيْنَا. وَالتَّقْدِيرُ: جِئْنَا بكم إِلَيْنَا.
[١٠٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١٠٥]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عَوْدٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بشأن الْقُرْآن فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاء: ٨٩]. فَلَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الْإِسْرَاء: ٩٠] الْآيَاتِ إِلَى هُنَا وَسَمَحَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ تَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِصِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى ثَنَاءٍ عَظِيمٍ وَتَنْبِيهٍ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِمَا.
وَقَدْ ذُكِرَ فِعْلُ النُّزُولِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ لَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُتَعَلِّقٌ مُتَمَاثِلُ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُخْتَلِفُ الْمَعْنَى، فَعَلَّقَ إِنْزَالَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] وَهُوَ رَدٌّ لِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَعَلَّقَ نُزُولَ الْقُرْآنِ، أَيْ بُلُوغَهُ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّانِي مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، أَيْ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بِهِ قِوَامُ صَلَاحِ النَّاسِ وَفَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: ١٠٥].
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَالْبَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَالْمُصَاحَبَةُ
وَمِنْ مَجِيئِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء [١٦] : أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَدْخَلَ فَاءَ التَّفْرِيعِ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَبَ إِطْلَاقِهِمْ كَالْمُسْتَقَرِّ الْمَعْلُومِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِمَّا لِأَنَّهُ سَبَقَتْ إِشَاعَةُ عَزْمِهِمَا عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِذَلِكَ الْمَطْلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ كَالْمُقَرَّرِ. وَتَفْرِيعُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ من الله ظَاهر، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنَ اللَّهِ تَجِبُ طَاعَتُهُ.
وَخَصَّا الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ فِرْعَوْنَ قَصْدًا لِأَقْصَى الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ رَبَّهُمَا
مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِمَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وَكَوْنَهُ رَبَّ النَّاسِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَّمَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ.
وَالتَّعْذِيبُ الَّذِي سَأَلَاهُ الْكَفَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُسَخِّرُ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْعَبِيدِ وَالْخَوَلِ جَزَاءَ إِحْلَالِهِمْ بِأَرْضِهِ.
وَجُمْلَةُ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فِيهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَكَانَتِ الْأُولَى إِجْمَالًا وَالثَّانِيَةُ بَيَانًا. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَلَائِلَ الصِّدْقِ. وَكِلَا الْغَرَضَيْنِ يُوجِبُ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُمَا مُصَاحِبَانِ لِآيَةٍ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِمَا مُسْتَعِدَّيْنِ لِإِظْهَارِ الْآيَةِ إِذَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ آمَنَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِظْهَارِ الْآيَةِ يَكُنْ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ حُكِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦] قَوْلُ فِرْعَوْنَ: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حيّة، وَقد تبعتها آيَاتٌ أُخْرَى.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إِنَّا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَين يَدي الرحمان لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
. قَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ فَتَكُونُ هذانِ إِشَارَةً إِلَى فَرِيقَيْنِ حَاضِرَيْنِ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ فَنُزِّلَ حُضُورُ قِصَّتِهِمَا الْعَجِيبَةِ فِي الْأَذْهَانِ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدَةِ حَتَّى أُعِيدَ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُشَاهَدِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: «خَرَجْتُ لِأَنَصُرَ هَذَا الرَّجُلَ» يُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي قِصَّةِ صِفِّينَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ عُنِيَ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ السِّتَّةَ هُمْ أَبْرَزُ مِثَالٍ وَأَشْهَرُ فَرْدٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، فَعَبَّرَ بِالنُّزُولِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُقْصَدُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَالِاخْتِصَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَقِيقِيٌّ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أُطْلِقَ الِاخْتِصَامُ عَلَى الْمُبَارَزَةِ مَجَازًا مُرْسَلًا لِأَنَّ الِاخْتِصَامَ فِي الدِّينِ هُوَ سَبَبُ تِلْكَ الْمُبَارَزَةِ.
وَاسْمُ الْخَصْمِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا اتَّحَدَتْ خُصُومَتُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: ٢١] فَلِمُرَاعَاةِ تَثْنِيَةِ اللَّفْظِ أُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُثَنَّى وَلِمُرَاعَاةِ الْعَدَدِ أُتِيَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.
وَمَعْنَى فِي رَبِّهِمْ فِي شَأْنِهِ وَصِفَاتِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور هاذان- بتَخْفِيف النُّون-. وقرأه ابْنُ كَثِيرٍ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: ٤٦]. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْفَصْلِ إِلَى الْعَطْفِ لِأَنَّ هَذَا خِتَامُ التَّشْرِيعَاتِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَسْبَابِهَا. وَقَدْ خُلِّلَتْ بِمِثْلِ هَذَا التَّذْيِيلِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١] ثُمَّ قَوْلُهُ:
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النُّور: ١٨] ثُمَّ قَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّذْيِيلَاتِ زَائِدًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَالْأَوَّلُ زَائِدٌ بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النُّور: ١٨] لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ بَيَانَ الْآيَاتِ لِفَائِدَةِ الْأُمَّةِ، وَمَا هُنَا زَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. فَكَانَتْ كُلُّ زِيَادَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ مُقْتَضِيَةً الْعَطْفَ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا، وَتُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَطْفًا عَلَى نَظِيرَتِهَا، فَوُصِفَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَوُصِفَ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَحْكَامِ الْقَذْفِ وَالْحُدُودِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى مُقَارِبِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ، فَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يُطَابِقُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١]، وَقَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَة وَفَرَضْناها [النُّور: ١] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ فِي التَّمْثِيلِ تَقْدِيرًا وَتَصْوِيرًا لِلْمَعَانِي بِنَظَائِرِهَا وَفِي ذَلِكَ كَشْفٌ لِلْحَقَائِقِ، وَقَوْلُهُ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِهَا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النُّور: ١].
وَالْآيَاتُ جُمَلُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا لِكَمَالِ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا الْمُعَانَدِينَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا وَوَضَّحَهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا أَبَانَتْ الْمَقَاصِدَ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهَا. وَمَعْنَيَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ مُفَادِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمُفَادِ قَوْلِهِ فِي نَظِيرَتِهَا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ الْوَاضِحَةُ، أَيِ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ وَالْإِفَادَةِ.
نَهْيُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَشْرِيفِهِ بِمَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إِذْ عُلِّلَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَا يَخَافُونَ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى لَدَيَّ فِي حَضْرَتِي، أَيْ حِينَ تَلَقِّي رِسَالَتِي. وَحَقِيقَةُ لَدَيَّ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَكَانُ.
وَإِذَا قَدْ كَانَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً حَصَلَ حِينَ الْوَحْيُ كَانَ تَابِعًا لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رَبَاطَةِ الْجَأْشِ. وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ حَطٌّ لِمَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَرَاتِبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ:
مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَعَنْ كُلِّ خَوْفٍ يَخَافُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: ٧٧].
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ. وَنَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا إِلَى مُقَاتِلٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ فَيَكُونُ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ الْوَاقِعِ فِعْلُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْخَوْفَ بِمَعْنَى الرُّعْبِ وَالْخَوْفَ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ، أَيْ إِلَّا رَسُولًا ظَلَمَ، أَيْ فَرَطَ مِنْهُ ظُلْمٌ، أَيْ ذَنْبٌ قَبْلَ اصْطِفَائِهِ لِلرِّسَالَةِ، أَيْ صَدَرَ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ بِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي مُتَعَارَفِ شَرَائِعِ الْبَشَرِ الْمُتَقَرَّرِ أَنَّهَا عَدْلٌ، بِأَنِ ارْتَكَبَ مَا يُخَالِفُ الْمُتَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ (قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ) فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهِ وَيُجَازِيَهُ عَلَى ارْتِكَابِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ كَيْدِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَخِيهِمْ، وَاعْتِدَاءِ مُوسَى عَلَى الْقِبْطِيِّ بِالْقَتْلِ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، أَيْ تَابَ عَنْ فِعْلِهِ وَأَصْلَحَ حَالَهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَسْكِينُ خَاطِرِ مُوسَى وَتَبْشِيرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَا كَانَ فَرَطَ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُ مِمَّا قَالَهُ يَوْمَ الِاعْتِدَاءِ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَص: ١٥، ١٦]، فَأُفْرِغَ هَذَا
التَّطْمِينُ لِمُوسَى فِي قَالَبِ الْعُمُومِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ.
وَاسْتِقَامَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ بِتَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ
عَنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِخْلَافِ مِنْكَ. هَذِهِ طَرِيقَةُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ يَجْعَلُ مَوْقِعَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَوْقِعِ التَّفْرِيعِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هذَيْن الْفِعْلَيْنِ (يبدىء وَيُعِيدُ) وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِمَّا جَرَى اسْتِعْمَالُهُمَا مُتَزَاوِجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٩].
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ سَبَأٍ: فَجَعَلُوا قَوْلهم: لَا يبدىء وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبِيدٍ:
فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ وَيُقَالُ: أَبْدَأَ وَأَعَادَ بِمَعْنَى تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاسِعًا، قَالَ بِشَارٌ:
فَهُمُومِي مِظَلَّةٌ بَادِئَاتٍ وَعُوَّدَا
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ الْمُوَصِّلَ إِلَى علم كَيفَ يبدىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ أَدِلَّةَ بَدْءِ الْخَلْقِ تُفْضِي بِالنَّاظِرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ الْخَلْقَ فَتَكُونُ ثُمَّ عَاطِفَةً فِعْلَ يُعِيدُهُ عَلَى فِعْلِ يُبْدِئُ وَالْجَمِيعُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ.
وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَهِيَ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَرَوْا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ أَوْ مَعْمُولَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ، أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنهُ. والاستفهام ب كَيْفَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَلَفْتِ النَّظَرِ لَا فِي طَلَبِ الْإِخْبَارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ إِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْإِعَادَةِ، إِذْ أَحَالُوهَا مَعَ أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَيْسَرَ مِنَ الْإِعَادَةِ فِي الْعُرْفِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهَا مُسَاوِيَةً لَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧]. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُفَادِ مِنْ يُعِيدُهُ مِثْلَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧]. وَوَجَهُ تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ رَدُّ دَعْوَاهُمْ أَنه مُسْتَحِيل.
وَالتَّجَافِي: التَّبَاعُدُ وَالْمُتَارَكَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَجَافِيَ جُنُوبِهِمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَتَكَرَّرُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَيْ: يُكْثِرُونَ السَّهَرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاةِ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
والْمَضاجِعِ: الْفُرُشُ جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهُوَ مَكَانُ الضَّجْعِ، أَيِ: الِاسْتِلْقَاءِ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ. وأل فِيهِ عِوَضٌ عَنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٤١]. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يُمْضُونَ لَيْلَهُمْ بِالنَّوْمِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ تَفَكُّرٌ بَلْ يَسْقُطُونَ كَمَا تَسْقُطُ الْأَنْعَامُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِقَوْلِهِ يَصِفُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ أَصْحَابِ هَذَا الشَّأْنِ:
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
وَجُمْلَةُ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ جُنُوبُهُمْ وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.
وَانْتَصَبَ خَوْفاً وَطَمَعاً عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ، أَيْ: مِنْ غَضَبِهِ وَطَمَعًا فِي رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، أَيْ هَاتَانِ صِفَتَانِ لَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِمْ وَالطَّمَعِ فِي رَحْمَتِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ إِيثَارَهُمُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ عَلَى حُظُوظِ لَذَّاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ ذَكَرَ مَعَهُ إِيثَارَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا بِهِ نَوَالُ لَذَّاتٍ أُخْرَى وَهُوَ الْمَالُ إِذْ يُنْفِقُونَ مِنْهُ مَا لَوْ أَبْقَوْهُ لَكَانَ مَجْلَبَةَ رَاحَةٍ لَهُمْ فَقَالَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: يَتَصَدَّقُونَ بِهِ وَلَوْ أَيْسَرَ أَغْنِيَاؤُهُمْ فُقَرَاءَهُمْ. ثُمَّ عَظَّمَ اللَّهُ
جَزَاءَهُمْ إِذْ قَالَ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، أَيْ: لَا تَبْلُغُ نَفْسٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُعَرِفَةَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ نَفْسٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ.

[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٥]

وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلَّذِينِ كَذَّبُوهُ، فَمَوْقِعُ التَّسْلِيَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَوْقِعُ التَّهْدِيدِ بَقِيَّةُ الْآيَةِ، فَالتَّسْلِيَةُ فِي أَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَالتَّهْدِيدُ.
بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا وَكَيْفَ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ وَأَعْظَمَ سَطْوَةً مِنْهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: ٨].
وَمَفْعُولُ كَذَّبَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَي كذبُوا الرُّسُل، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَكَذَّبُوا رُسُلِي.
وَضَمِيرُ بَلَغُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي آتَيْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا سحر مُبين [سبأ: ٤٣]. وَالْمَقَامُ يُرَدُّ عَلَى كُلِّ ضَمِيرٍ إِلَى معاده، كَمَا تقدم قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤١].
وَالْمِعْشَارُ: الْعُشْرُ، وَهُوَ الْجُزْءُ الْعَاشِرُ مِثْلَ الْمِرْبَاعِ الَّذِي كَانَ يَجْعَل لقائد الكتبية مِنْ غَنَائِمِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَذُكِرَ احْتِمَالَانِ آخَرَانِ فِي مَعَادِ الضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُمَا سِيَاقُ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالِاعْتِرَاضُ بِهَا تَمْهِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَتَقْرِيبٌ لَهُ بِأَنَّ عِقَابَ هَؤُلَاءِ أَيْسَرُ مِنْ عِقَابِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ أَن المفرع عطف عَلَيْهِ قَوْله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ فَكَذَّبُوا رُسُلِي تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [٩]، وَلِكَوْنِ الْفَاءِ
أَوَّابٌ، أَيْ كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَيْ يَأْتِيهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ لَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الطَّيْرِ النُّفُورُ مِنَ الْإِنْسِ. وَكَلِمَةُ كُلٌّ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا مِنَ الشُّمُولِ. وأَوَّابٌ هَذَا غَيْرُ أَوَّابٌ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ أَوَّابٌ فَلَمْ تَتَكَرَّرِ الْفَاصِلَةُ. وَاللَّامُ فِي لَهُ أَوَّابٌ لَامُ التَّقْوِيَةِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ.
وَالشَّدُّ: الْإِمْسَاكُ وَتَمَكُّنُ الْيَدِ مِمَّا تَمْسِكُهُ، فَيَكُونُ لِقَصْدِ النَّفْعِ كَمَا هُنَا، وَيَكُونُ لِقَصْدِ الضُّرِّ كَقَوْلِهِ: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَة [يُونُس: ٨٨].
فَشَدُّ الْمَلِكِ هُوَ تَقْوِيَةُ مُلْكِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنْ أَضْرَارِ ثَوْرَةٍ لَدَيْهِ وَمِنْ غَلَبَةِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ فِي حُرُوبِهِ. وَقَدْ مَلَكَ دَاوُدُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَاتَ وَعُمُرُهُ سَبْعُونَ سَنَةً فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتٍ.
والْحِكْمَةَ: النُّبُوءَةُ. وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَعَمِّ: الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ وَالْعَمَلُ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَقَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ «الزَّبُورِ» عَلَى حِكَمٍ جَمَّةٍ.
وفَصْلَ الْخِطابِ: بَلَاغَةُ الْكَلَامِ وَجَمْعُهُ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ سَامِعُهُ إِلَى زِيَادَةِ تِبْيَانٍ، وَوَصْفُ الْقَوْلِ بِ (الْفَصْل) وصف بِالْمَصْدَرِ، أَيْ فَاصِلٍ. وَالْفَاصِلُ: الْفَارِقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَهُوَ ضِدُّ الْوَاصِلِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَا يُمَيِّزُ شَيْئًا عَنِ الِاشْتِبَاهِ بِضِدِّهِ. وَعَطْفُهُ
هُنَا عَلَى الْحِكْمَةِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَهُ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ دَاوُدَ أُوتِيَ مِنْ أَصَالَةِ الرَّأْيِ وَفَصَاحَةِ الْقَوْلِ مَا إِذَا تَكَلَّمَ جَاءَ بِكَلَامٍ فَاصْلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ شَأْنُ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَحَسْبُكَ بِكِتَابِهِ «الزَّبُورِ» الْمُسَمَّى عِنْد الْيَهُود ب «المزامير» فَهُوَ مَثَلٌ فِي بَلَاغَةِ الْقَوْلِ فِي لُغَتِهِمْ.
وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: فَصْلَ الْخِطابِ هُوَ قَوْلُهُ فِي خُطَبِهِ «أَمَّا بَعْدُ» قَالَ:
وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَلَا
وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة.
[١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فَاتِحَةَ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَوْلِ فِي الم.
[٢- ٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
افْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ
مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَكَانَتْ بِذَلِكَ كَالْمَوْصُوفَةِ وَقَوْلُهُ:
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: كِتابٌ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ فَحَصَلَ مِنَ الْمَعْنَى:
أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ، وَأَنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْقُرْآنَ منزّل من الرحمان الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا.

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥١]

وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١)
لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِدَعْوَةِ مُوسَى، وَأَضْمَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ نَكْثَ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدُوهُ مُوسَى بِأَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ، خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَتَّبِعَ قَوْمُهُ دَعْوَةَ مُوسَى وَيُؤْمِنُوا بِرِسَالَتِهِ فَأَعْلَنَ فِي قَوْمِهِ تَذْكِيرَهُمْ بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ لِيُثَبِّتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلِئَلَّا يَنْقُلَ إِلَيْهِمْ مَا سَأَلَهُ مِنْ مُوسَى وَمَا
حَصَلَ مِنْ دَعْوَتِهِ بِكَشْفِ الْعَذَابِ وَلِيَحْسَبُوا أَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَذَابِ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ إِذْ قَوْمُهُ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مِنْ سُؤَالِ كَشْفِ الْعَذَابَ.
وَالنِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي قَوْمِهِ. وَكَانَ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مُنَادُونَ يُعَيَّنُونَ لِذَلِكَ وَرُبَّمَا نَادَوْا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرَادُ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٠] ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٣- ٥٥].
وَوَقَعَ فِي الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ لِلْحَرِيرِيِّ: «فَلَمَّا جَلَسَ كَأَنَّهُ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ الْأَحْمَاءِ، وَحُرْمَةِ سَاسَانَ أُسْتَاذِ الْأُسْتَاذِينَ، وَقُدْوَةِ الشَّحَّاذِينَ، لَا عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ الْمُبَجَّلَ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ الْمُحَجَّلِ، إِلَّا الَّذِي جَالَ وَجَابَ، وَشَبَّ فِي الْكُدْيَةِ وَشَابَ».
فَذَلِكَ نِدَاءٌ لِإِعْلَانِ الْعَقْدِ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ فِي قالَ مِثْلُ الَّذِي فِي وَنادى فِرْعَوْنُ.
وَفِرْعَوْنُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي.
فَالْأَنْهَارُ: فُرُوعُ النِّيلِ وَتُرَعُهُ، لِأَنَّهَا لِعِظَمِهَا جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ نَهَرٍ فَجُمِعَتْ عَلَى أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ لِنَهَرٍ وَاحِدٍ هُوَ النِّيلُ. فَإِنْ كَانَ مَقَرُّ مُلْكِ فِرْعَوْنَ هَذَا فِي مَدِينَةِ مَنْفِيسَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ إِشَارَةً إِلَى تَفَارِيعِ النِّيلِ الَّتِي تَبْتَدِئُ قُرْبَ الْقَاهِرَةِ فَيَتَفَرَّعُ النِّيلُ بِهَا إِلَى فَرْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَرْعُ دِمْيَاطَ
الِانْتِقَالَ مِنْهَا إِلَى هَذِهِ يَقْتَضِي مُنَاسِبَةً بَيْنَهُمَا، فَالْقِصَّتَانِ مُتَشَابِهَتَانِ إِذْ كَانَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ النَّازِلَةُ فِيهِمُ الْآيَة السَّابِقَة جاؤوا مُعْتَذِرِينَ عَنْ رَدِّهِمْ سَاعِيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبْضِ صَدَقَاتِ بَنِي كَعْبِ بْنِ الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ تَبَرَّءُوا مِنْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ إِلَّا أَنَّ هَذَا يُنَاكِدُهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَعْيِينِ سَنَةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَهْمٌ.
وَإِعَادَةُ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَفَصْلُهُ بِدُونِ عَاطِفٍ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْغَرَضِ بِالِاهْتِمَامِ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.
وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِتَشْرِيعٍ فِي قَضِيَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ انْقَضَتْ وَسُوِّيَتْ.
وَالْفَاسِقُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُسُوقِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَفُسِّرَ هُنَا بِالْكَاذِبِ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأُوثِرَ فِي الشَّرْطِ حَرْفُ إِنْ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِي وُقُوعِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شَأْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ نَادِرَ الْوُقُوعِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ الْآيَةُ مَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْوَلِيدِ بِالْفَاسِقِ تَصْرِيحًا وَلَا تَلْوِيحًا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْوَلِيدَ ظَنَّ ذَلِكَ كَمَا فِي «الْإِصَابَةِ» عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَاتِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. قَالَ الْفَخْرُ: «إِنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَاسِقِ عَلَى الْوَلِيدِ شَيْءٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ وَظَنَّ فَأَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا». قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ الْوَلِيدُ فَاسِقًا لَمَا ترك النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِيفَهُ وَاسْتِتَابَتَهُ فَإِنَّهُ
رَوَى أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْله لَهُ «التبيّن مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»
، إِذْ كَانَ تَعْجِيلُ الْوَلِيدِ الرُّجُوعَ عَجَلَةً. وَقَدْ كَانَ خُرُوجُ الْقَوْمِ لِلتَّعَرُّضِ إِلَى الْوَلِيدِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مَثَارَ ظَنِّهِ
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ
ابْتُدِئَتْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقَدِّمَ فِي عَدَدِ آلَائِهِ أَوَّلَ شَيْءٍ مَا هُوَ أَسْبَقُ قِدَمًا مِنْ ضُرُوبِ آلَائِهِ وَأَصْنَافِ نَعْمَائِهِ وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ فَقَدَّمَ مِنْ نِعْمَةِ الدِّينِ مَا هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا وَأَقْصَى مَرَاقِبِهَا وَهُوَ إِنْعَامُهُ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ
خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ أَتْبَعُهُ إِيَّاهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْبَيَانِ»
اه.
وَتَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ الْقُرْآنُ رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: ١٠٣]، وَرَدًّا عَلَى مَزَاعِمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ أَوْ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كَلَامُ كَاهِنٍ أَوْ شِعْرٌ.
ثُمَّ التَّذْكِيرُ بِدَلَائِلِ قُدْرَةِ الله تَعَالَى فِيمَا أَتْقَنَ صُنْعَهُ مُدْمَجًا فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرِ بِمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ نَعَمِ عَلَى النَّاسِ.
وَخَلْقِ الْجِنِّ وَإِثْبَاتِ جَزَائِهِمْ.
وَالْمَوْعِظَةُ بِالْفَنَاءِ وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ. وَخُتِمَتْ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِدْمَاجَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْرَ بِتَوْفِيَةِ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وَحَاجَةَ النَّاسِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ فِيمَا خَلَقَ لَهُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَنِعْمَةُ الْبَيَانِ، وَمَا أَعَدَّ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْمُجْرِمِينَ وَمِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ لِلْمُتَّقِينَ وَوَصْفُ نَعِيمَ الْمُتَّقِينَ.
وَمِنْ بَدِيعِ أُسْلُوبِهَا افْتِتَاحُهَا الباهر باسمه الرَّحْمنُ وَهِيَ السُّورَةُ الْوَحِيدَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ غَيْرُهُ.
وَمِنْهُ التَّعْدَادُ فِي مَقَامِ الْاِمْتِنَانِ وَالتَّعْظِيمِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِذْ تَكَرَّرَ فِيهَا إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ جَلِيلٌ كَمَا سنبينه.
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَلَعَلَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي أَفَادَتْهُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لَهْواً تَقْسِيمٌ لِأَحْوَالِ الْمُنْفَضِّينَ إِذْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَوِي الْعَائِلَاتِ خَرَجُوا لِيَمْتَارُوا لِأَهْلِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ الشَّبَابِ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْمِيرَةِ وَلَكِنْ أَحَبُّوا حُضُورَ اللَّهْوِ.
وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الِانْفِضَاضَ مَضَى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَزَلَ هَذَا التَّوْبِيخُ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّحْرِيضِ.
وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: ٨٣] وَقَوْلُهُ:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: ٩٢] الْآيَةَ.
وَالِانْفِضَاضُ: مُطَاوِعُ فَضَّهُ إِذَا فَرَّقَهُ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ، أَيْ بِمَعْنًى مُطْلَقٍ كَمَا تَفَرَّقَ. قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧].
وَقَوْلُهُ: أَوْ لَهْواً فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ مِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ اللَّهْوِ، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْها تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ (تِجَارَةٍ) لِأَنَّ التِّجَارَةَ
كَانَتِ الدَّاعِيَ الْأَقْوَى لِانْفِضَاضِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَتَرَكُوكَ قائِماً تَفْظِيعٌ لِفِعْلِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِي سَمَاعِ وعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَرَكُوكَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ تَرَكُوكَ فِي حَالِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فَأَضَاعُوا عِلْمًا عَظِيمًا بِانْفِضَاضِهِمْ إِلَى التِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ.
وَأَمَرَ الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعِظَهُمْ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ خَيْرٌ مِنْ فَائِدَةِ التِّجَارَةِ وَلَذَّةِ اللَّهْوِ. وَكَذَلِكَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلَّذِينَ يُؤْثِرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مِنْ وَسَائِلِ الِارْتِزَاقِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ جَزَاءً فِي الدُّنْيَا قَبْلَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ، فَرُبَّ رِزْقٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْحَرِيصُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَرُبَّ رِزْقٍ قَلِيلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعُودُ عَلَيْهِ بِصَلَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى مَنْ يُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ (أَيْ مَا يُكْرَهُ) إِلَيْهِ وَهُمُ الْعُوَّادُ. وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ سَهْلًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَعِيبَةُ فِي شِعْرِ الرَّضِيِّ قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً مَرْضِيَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمرَان:
١٢١] وَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى مَنْ تَقْبُحُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ وَلَوْ قَالَ الشَّاعِرُ بَدَلًا مِنْ مَقَاعِدِ الْعُوَّادِ مَقَاعِدَ الزِّيَارَةِ
لَزَالَتْ تِلْكَ الْهُجْنَةُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ لِمُصْطَلَحَاتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَاتِ أَثَرًا فِي وَقْعِ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْأَفْهَامِ.
وَالْفَاءُ الَّتِي فُرِّعَتْ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً تَفْرِيعٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كُنَّا وترتب الشَّرْط وجزائه عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا (أَيْ مِنَ السَّمَاءِ) مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَنَسْتَمِعُ أَشْيَاءَ فَمَنْ يَسْتَمِعُ الْآنَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ السَّمَاعِ.
وَكَلِمَةُ الْآنَ مُقَابِلُ كَلِمَةِ كُنَّا، أَيْ كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ انْقَضَى.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْذِيرُ إِخْوَانِهِمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمَاعِ لِأَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَتَعَرَّضُ لِأَذَى الشُّهُبِ.
وَالْجِنُّ لَا تَنْكُفُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُنْسَاقُونَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ مَعَ مَا يَنَالُهُمْ مِنْ أَذَى الرَّجْمِ وَالِاحْتِرَاقِ، شَأْنَ انْسِيَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ مِثْلَ تَهَافُتِ الْفَرَاشِ عَلَى النَّارِ، لِاحْتِمَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ الْمُفَكِّرَةِ فِي الْجِنِّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الشَّهْوَةُ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ يَقْتَحِمُونَ الْأَخْطَارَ وَالْمَهَالِكَ تَبَعًا لِلْهَوَى مِثْلَ مُغَامَرَاتِ الْهُوَاةِ فِي الْبِحَارِ وَالْجِبَال والثلوج.
وَوَقع شِهاباً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ سِيَاقَ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ سِيَاقِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ.
وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعِ رَاصِدٍ وَهُوَ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَهُوَ وَصْفٌ لِ شِهاباً، أَيْ شُهُبًا رَاصِدَةً، وَوَصْفُهَا بِالرَّصَدِ اسْتِعَارَةٌ شُبِّهَتْ بِالْحُرَّاسِ الرَّاصِدِينَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى انْقِرَاضِ الْكِهَانَةِ إِذِ الْكَاهِنُ يَتَلَقَّى مِنَ الْجِنِّيِّ أَنْبَاءً مُجْمَلَةً بِمَا يَتَلَقَّفُهُ الْجِنِّيُّ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ تَلَقُّفَ اخْتِطَافٍ نَاقِصًا فَيُكْمِلُهُ الْكَاهِنُ بِحَدْسِهِ بِمَا يُنَاسِبُ مَجَارِيَ أَحْوَالِ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «فَيَزِيدُ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ»
بِالتَّأْكِيدِ، وَمِنِ اقْتَضَاءِ فِعْلِ الْمُضَارَعَةِ بَعْدَ الْقَسَمِ أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ. فَتَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ لِتَأْوِيلِ الْآيَةِ.
فَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَتَنْوِينُ «طَبَقٍ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وعَنْ بِمَعْنَى (بَعْدَ) وَالْبُعْدِيَّةُ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ بُعْدِيَّةُ ارْتِقَاءٍ، أَيْ لَتُلَاقُنَّ هَوْلًا أَعْظَمَ مِنْ هَوْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨]. وَإِطْلَاقُ الطَّبَقِ عَلَى الْحَالَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْحَالَةَ مُطَابِقَةٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهَا.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ تَفْسِيرَ الْأَحْوَالِ بِأَنَّهَا أَحْوَالُ مَوْتٍ وَإِحْيَاءٍ، وَحَشْرٍ، وَسَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَنَعِيمٍ أَوْ جحيم، كَمَا كتب اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ تَكْوِينِهِ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضُعَفَاءُ، أَوْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي تَعْيِينِ الْحَالِ.
وَقِيلَ: لَتَرْكَبُنَّ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ عَلَى أَنَّ طبقًا اسْم للمنزلة، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْ لَتَصِيرُنَّ مِنْ طَبَقِ الدُّنْيَا إِلَى طَبَقِ الْآخِرَةِ، أَوْ إِنَّ قَوْمًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَة، فالتنوين فيهمَا للتنويع.
وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى صَلَاحٍ دَعَاهُ إِلَى صَلَاحٍ آخَرَ وَمَنْ كَانَ عَلَى فَسَادٍ دَعَاهُ إِلَى فَسَادِ فَوْقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجُرُّ إِلَى شَكْلِهِ، أَيْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بِالْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ عَنْ عَلَى هَذَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِلْمُجَاوَزَةِ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَجَازًا فِي السَّيْرِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ لَتَحْضُرُنَّ لِلْحِسَابِ جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة: ٣٠] وَهَذَا تهديد لمنكريه، وَأَن يَكُونُ الرُّكُوبُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَابَعَةِ، أَيْ لَتَتَّبِعُنَّ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ:
«تَرْكَبُنَّ» بِتَقْدِيرِ: لَيَتَّبِعَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيْ فِي تَصْمِيمِكُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ هُوَ قَوْلُهُ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وَيَكُونُ طَبَقاً مَفْعُولًا بِهِ وَانْتِصَابُ طَبَقاً إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (تَرْكَبُنَّ) وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِمَعَانِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ.


الصفحة التالية
Icon