وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنُ مَرْجِعِ الْأُولَى، وَوَجْهُ تَكْرِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الْأَثْرَتَيْنِ جَدِيرَةٌ بِالِاعْتِنَاءِ وَالتَّنْوِيهِ، فَلَا تُذْكَرُ إِحْدَاهُمَا تَبَعًا لِلْأُخْرَى بَلْ تُخَصُّ بِجُمْلَةٍ وَإِشَارَةٍ خَاصَّةٍ لِيَكُونَ اشْتِهَارُهُمْ بِذَلِكَ اشْتِهَارًا بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ.
وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَصْلِ أَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَوَسُّطًا بَيْنَ كَمَالَيِ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ لِأَنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى اخْتِلَافِ مَفْهُومِهِمَا وَزَمَنِ حُصُولِهِمَا فَإِنَّ مَفْهُومَ إِحْدَاهُمَا وَهُوَ الْهُدَى حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا وَمَفْهُومَ الْأُخْرَى وَهُوَ الْفَلَاحُ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ كَانَتَا مُنْقَطِعَتَيْنِ.
وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى تَسَبُّبِ مَفْهُومِ إِحْدَاهُمَا عَنْ مَفْهُومِ الْأُخْرَى، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِالْوَصْفِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ، فَكَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ كَمَالَيِ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ مُنْزِلًا إيَّاهُمَا منزلَة المتوسطين، كَذَا قَرَّرَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَةَ التَّوَسُّطِ تَقْتَضِي الْعَطْفَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَتَعْلِيلُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الْمُقْتَضَيَانِ تَعَيَّنَ الْعَطْفُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي ذِكْرِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ الضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِذْ لَا مَعْهُودَ هُنَا بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْحَالِ، بَلِ الْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُفْلِحُونَ، وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مُسْنَدٍ إِلَيْهِ مُعَرَّفٍ أَفَادَ الِاخْتِصَاصَ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ النِّسْبَةِ، أَيْ تَأْكِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعَ الْمُسْنَدِ مِنْ شَأْنِهِ إِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ غَالِبًا لَكِنَّهُ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنْ إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ الْحَقِيقِيِّ، وَمُفِيدٌ شَيْئًا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، فَلِذَلِكَ جُلِبَ لَهُ التَّعْرِيفُ دُونَ التَّنْكِيرِ وَهَذَا مَثَّلَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، أَيْ إِذَا سَمِعْتَ بِالْبَطَلِ الْحَامِي وَأَحَطْتَ بِهِ خَبَرًا فَهُوَ فُلَانٌ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا بِقَوْلِهِ: «أَوْ عَلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِنْ حَصَلَتْ صِفَةُ الْمُفْلِحِينَ وَتَحَقَّقُوا مَا هُمْ وَتَصَوَّرُوا بِصُورَتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُمْ هُمْ» وَالسَّكَّاكِيُّ لَمْ يُتَابِعِ الشَّيْخَيْنِ عَلَى هَذَا فَعَدَلَ عَنْهُ فِي «الْمِفْتَاحِ» وَلِلَّهِ دَرُّهُ.
ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ ذِكْراً يَظْهَرُ أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِأَشَدَّ، وَإِذْ قَدْ كَانَ (أَشَدَّ) وَصْفًا لِذِكْرٍ الْمُقَدَّرِ صَارَ مَآلُ التَّمْيِيزِ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْقَصْدَ مِنَ التَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قِلَّةً لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ اكْتِفَاءً بِاخْتِلَافِ صُورَةِ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّمْيِيزِ حِينَئِذٍ تَوْكِيدَ الْمُمَيَّزِ كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ أَشَحُّ النَّاسِ رَجُلًا، وَهُمَا خَيْرُ النَّاسِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ»، قُلْتُ:
وَقَرِيبٌ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ تَمْيِيزِ (نِعْمَ) توكيدا فِي قَوْله جَرِيرٍ:
تَزَوُّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا | فَنِعْمَ الزَّادُ زَادَ أَبِيكَ زَادَا |
(أَشَدَّ) مَعْطُوفًا على (ذكر) الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ، فَالْكُوفِيُّونَ لَا يَمْنَعُونَهُ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ ابْنِ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاء: ١] بِجَرِّ الْأَرْحَامِ وَقَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: ٧٧] أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ جَوَّزَهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْحَرْفِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ»، وَعَلَيْهِ فَفَتْحَةُ أَشَدَّ نَائِبَةٌ عَنِ الْكَسْرَةِ، لِأَنَّ أَشَدَّ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَانْتِصَابُ ذِكْراً عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ.
وَلِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَخْرِيجَانِ آخَرَانِ لِإِعْرَابِ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِيهِمَا تَعَسُّفٌ دَعَاهُ إِلَيْهِمَا الْفِرَارُ مِنْ تَرَادُفِ التَّمْيِيزِ وَالْمُمَيَّزِ، وَلِابْنِ جِنِّي تَبَعًا لِشَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ تَخْرِيجٌ آخَرُ، دَعَاهُ إِلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَانَ تَخْرِيجُهُ أَشَدَّ تَعَسُّفًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ»، وَسَلَكَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَنَظِيرَتُهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ بِدُونِ وَاسِطَةِ أَسْبَابِ النَّسْلِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِذا قَضى أَمْراً [الْبَقَرَة: ١١٧].
وَقَوْلُهُ: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَبَّرَ عَنِ الْعَلَمِ وَاللَّقَبِ وَالْوَصْفِ بِالِاسْمِ.
لِأَنَّ لِثَلَاثَتِهَا أَثَرًا فِي تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا اللَّقَبُ وَالْعَلَمُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمُفِيدُ لِلنَّسَبِ فَلِأَنَّ السَّامِعِينَ تَعَارَفُوا ذِكْرَ اسْمِ الْأَبِ فِي ذِكْرِ الْأَعْلَامِ لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَتُذْكَرُ الْأُمُّ فِي النَّسَبِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالْأَبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: زِيَادُ بن سُمَيَّةَ قَبْل أَنْ يُلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ لِأُمِّهِ مَفْخَرًا عَظِيمًا كَقَوْلِهِمْ: عَمْرُو ابْنُ هِنْدٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْعَرَبِ.
والْمَسِيحُ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ. وَنُقِلَتْ إِلَى الْعَرَبيَّة علما بِالْغَلَبَةِ عَلَى عِيسَى وَقَدْ سَمَّى مُتَنَصِّرَةُ الْعَرَبِ بَعْضَ أَبْنَائِهِمْ «عَبْدَ الْمَسِيحِ» وَأَصْلُهَا مَسِّيِّحْ- بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ- وَنَطَقَ بِهِ بَعْضُ الْعَرَبِ بِوَزْنِ سِكِّينٍ.
وَمَعْنَى مَسِيحٍ مَمْسُوحٌ بِدُهْنِ الْمَسْحَةِ وَهُوَ الزَّيْتُ الْمُعَطَّرُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَتَّخِذَهُ لِيَسْكُبَهُ عَلَى رَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ حِينَمَا جَعَلَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَارَتْ كَهَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمْسَحُونَ بِمِثْلِهِ مَنْ يُمَلِّكُونَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدِ شَاوِلَ الْمَلِكِ، فَصَارَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَلِكِ: فَفِي أَوَّلِ سِفْرِ صَمْوِيلَ الثَّانِي مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ قَالَ دَاوُدُ لِلَّذِي أَتَاهُ بِتَاجِ شَاوِلَ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِطَالُوتَ «كَيْفَ لَمْ تَخَفْ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ لِتُهْلِكَ مَسِيحَ الرَّبِّ».
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِيسَى سُمِّيَ بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا يُسَمُّونَ بِمَلِكٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَقَبٌ لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ إِذِ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِيرَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ بَيْنَهُمْ وَاشْتُهِرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْوَجِيهُ ذُو الْوَجَاهَةِ وَهِيَ: التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَمْثَالِ، وَالْكَرَامَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهِيَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَجْهِ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ، وَأَجْمَعُهَا لِوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ، فَأُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى أَوَّلِ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ
وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاء: ١٠] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[الْبَقَرَة: ١٨٨] وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ بِالْآيَةِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرَادُ فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا أَيْ مِنَ الْيَتَامَى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا كَذَلِكَ، وَهِيَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتَامَى فَالْغَنِيُّ يُعْطَى كِفَايَتَهُ، وَالْفَقِيرُ يُعْطَى بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ فِعْلَ (اسْتَعْفَفَ:
يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بِمَالِهِ وَلَا يَتَوَسَّعْ بِمَالِ مَحْجُورِهِ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يُقَتِّرُ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَالِ يَتِيمِهِ.
وَاسْتَحْسَنَهُ النَّحَّاسُ وَالْكِيَا الطَّبَرِيُّ (١) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَهُوَ أَمر بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الدَّفْعِ، لِيَظْهَرَ جَلِيًّا مَا يُسَلِّمُهُ الْأَوْصِيَاءُ لِمَحَاجِيرِهِمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مَا بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِمَّا تَخَلَّفَ عِنْدَ الْأَوْصِيَاءِ، وَفِيهِ بَرَاءَةٌ لِلْأَوْصِيَاءِ أَيْضًا مِنْ دَعَاوِي الْمَحَاجِيرِ مِنْ بَعْدُ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا التشريع قعطا لِلْخُصُومَاتِ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَبِكُلٍّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُسَمَّ أَصْحَابُهَا: فَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِحَقِّ الْوَصِيِّ كَانَ الْإِشْهَادُ مَنْدُوبًا
_________
(١) هُوَ عَليّ بن عَليّ الطّبري- نِسْبَة إِلَى طبرستان كورة قرب الرّيّ- الملقب الكيا الطَّبَرِيّ وَيُقَال الكيا الهرّاسي- والكيا بِهَمْزَة مَكْسُورَة فِي أَوله فكاف مَكْسُورَة، مَعْنَاهُ الْكَبِير بلغَة الْفرس. والهراسي بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الرَّاء نِسْبَة إِلَى الهريسة إمّا إِلَى بيعهَا أَو صنعها. الشَّافِعِي ولد سنة ٤٥٠ وتوفّي فِي بَغْدَاد سنة ٥٠٤.
مَعَهُ، فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَثُوبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ عَلَى طِبَاعِهِمْ وَهُمْ أَهْلُ كَرَمٍ لِنَزِيلِهِمْ، فَلَا يُرِيدُونَ بِالْمَثُوبَةِ إِلَّا عَطِيَّةً نَافِعَةً.
وَيَصِحُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ وَعَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ كُلِّ مَا يَثُوبُ بِهِ الْمُعْطَى.
فَجَعْلُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَمْيِيزًا لِاسْمِ الزِّيَادَةِ فِي الشَّرِّ تهكّم لأنّ اللّغة وَالْغَضَبَ وَالْمَسْخَ لَيْسَتْ مَثُوبَاتٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ | قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا |
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ | تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ |
وَأَمَّا جَعْلُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حَقِيقَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ فَهُوَ إِذْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَهْلَ تَوْحِيدٍ فَمِنْ ذَلِكَ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ.
وَالطَّاغُوتُ: الْأَصْنَامُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي عَبَدَ وَبِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الطَّاغُوتَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ عَبَدَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَيْ وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ كَلِمَةِ الطَّاغُوتِ- عَلَى أَنَّ «عَبُدَ» جَمْعُ عَبْدٍ، وَهُوَ جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ قَلِيلٌ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ.
بْنُ الْأَسْوَدِ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ» إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ (جَمْعُ جُبَّةٍ) جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالُوا:
فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا فَإِذَا قُمْنَا فَأَقْعِدْهُمْ مَعَكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: نعم، طعما فِي إِيمَانِهِمْ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي «سُنَنِ» ابْنِ مَاجَهْ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَعُ بن حَابِس وعبينة بْنُ حِصْنٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَعُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ إِنَّمَا وَفَدَا مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ الْوُفُودِ. اهـ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي نَظِيرِ اقْتِرَاحِهِمَا.
وَفِي سَنَدِهِ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ أَوْ نَضْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْقَوِيِّ، وَفِيهِ السُّدِّيُّ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ سَنَدُهُ. وَسَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ، يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَصُهَيْبٌ وَأَشْبَاهُهُمْ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: ٥٣].
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ. فَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مَوَالِينَا وَعَبِيدَنَا وَعُتَقَاءَنَا كَانَ أعظم من صُدُورِنَا وَأَطْمَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَرْجَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ.
فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ وَإِلَامَ يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ الله هَذِه الْآيَة. فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ يَعْتَذِرُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِقَوْمِهِمْ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَحْرِصُونَ حِرْصَهُ وَلَا يُوحِشُهُمْ أَنْ يُقَامُوا مِنَ الْمَجْلِسِ إِذَا حَضَرَهُ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَسَمَّاهُ طَرْدًا تَأْكِيدًا لِمَعْنَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ: وَهِيَ كَانَتْ أَرْجَحَ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِ أُولَئِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى
أَوْ يَدْعُو إِلَى مَفَاسِدَ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا نَفْعُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ الْخَيْرِ الْكَامِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلُوهَا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقَّ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٣- ١٧] وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ بِغَيْرِ هَذَا عُدُولٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِ الْوُضُوحِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ هَذَا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ دَعْوَتِهِ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ دُونَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَصْلِحُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَمْنَعُوا مَنْ يَرْغَبُ فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ وُفُودَ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. فَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى لِقَاءِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقُعُودُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمَةٍ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٦].
وَ (كُلِّ) لِلْعُمُومِ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ كُلِّ صِرَاطٍ مُبَلِّغٍ إِلَى الْقَرْيَةِ أَوْ إِلَى مَنْزِلِ شُعَيْبٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى (فِي) كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى أَسْمَاءِ الْمَنَازِلِ. كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بِسِقْطِ اللِّوَى الْبَيْتَ.
وَجُمْلَةُ: تُوعِدُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَقْعُدُوا وَالْإِيعَادُ: الْوَعْدُ بِالشَّرِّ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيعَادِ الصَّدُّ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةٍ وَتَصُدُّونَ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، أَوْ أُرِيدُ تُوعِدُونَ الْمُصَمِّمِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ، وَتَصُدُّونَ الَّذِينَ لَمْ يُصَمِّمُوا فَهُوَ عَطْفُ عَامٍ عَلَى خَاصٍّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ آيَاتِ يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ- إِلَى- لَا يَفْقَهُونَ [الْأَنْفَال: ٦٤، ٦٥] نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قِيلَ هِيَ الثَّانِيَةُ نُزُولًا بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتِ الْبَقَرَةُ ثُمَّ آلُ عِمْرَانَ ثُمَّ الْأَنْفَالُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا ثَانِيَةُ السُّوَرِ بِالْمَدِينَةِ نُزُولًا بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ بَعْدَ أُخْرَى لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّالِيَةَ تَنْزِلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ نُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ قَدْ يُبْتَدَأُ نُزُولُ سُورَةٍ قَبْلَ انْتِهَاءِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَ نُزُولُهَا قَبْلُ، وَلَعَلَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ قَدِ انْتَهَتْ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ أَحْكَامُ الْمَغَانِمِ وَالْقِتَالِ، وَتَفَنَّنَتْ أَحْكَامُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفَانِينَ كَثِيرَةً: مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ الْبَقَرَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِهَا بِقَلِيلٍ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْدَ نُزُولِ آلِ عِمْرَانَ بِقَلِيلٍ نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِ الْأَنْفَالِ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُزُولِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [٣٣] قَالَتْ فِرْقَةٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ قَالَ ابْنُ أَبْزَى نَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلِهِمْ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: ٣٣] عِنْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] بَعْدَ بَدْرٍ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ التَّاسِعَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَعَدَدُ آيِهَا، فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَأَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ: سِتٌّ وَسَبْعُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ.
وَنُزُولُهَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَهْلِ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ يَوْمِ بَدْرٍ وَأَنْفَالِهِ، وَقِيلَ: بِسَبَبِ مَا سَأَلَهُ بَعْضُ الْغُزَاةِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْأَنْفَالِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ أَوَّلِ آيَةٍ مِنْهَا.
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَة: ٦٢] مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى لنَفسِهِ عملا يؤول بِهِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَصِيرُ إِلَى هَذَا الْمصير السيّء.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ، لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مُحَقَّقٌ بِضَرُورَةِ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالرَّسُولِ، وَبِأَنَّ رِضَى اللَّهِ عِنْدَ رِضَاهُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ غَرِيبًا لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُ مِمَّا يَحِقُّ أَنْ يَعْلَمُوهُ، كَانَ حَالُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ حَالًا مُنْكَرًا.
وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا وَنَحْوِهِ فِي الْإِعْلَامِ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [التَّوْبَة: ٧٨] وَقَوْلِ مَوْيَالِ بْنِ جَهْمٍ الْمَذْحِجِيِّ، أَوْ مُبَشِّرِ بْنِ هُذَيْلٍ الْفَزَارِيِّ:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي | كَرِيمٌ عَلَى حِينِ الْكِرَامُ قَلِيلُ |
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَفُسِّرَ الضَّمِيرُ بِجُمْلَةِ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ
إِلَى آخِرِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا شَأْنًا عَظِيمًا هُوَ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ.
وَفَكُّ الدَّالَانِ مِنْ يُحادِدِ وَلَمْ يُدْغَمَا لِأَنَّهُ وَقَعَ مَجْزُومًا فَجَازَ فِيهِ الْفَكُّ وَالْإِدْغَامُ، وَالْفَكُّ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْإِدْغَامُ نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [٤] فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ.
والمحادّة: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ.
وَالْفَاءُ فِي فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ لِرَبْطِ جَوَابِ شَرْطِ مَنْ.
وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ. وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الْإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَالِاعْتِدَاءُ: افْتِعَالٌ مِنْ عَدَا عَلَيْهِ، إِذَا ظَلَمَهُ، فَالْمُعْتَدِينَ مُرَادِفُ الظَّالِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الشِّرْكَ اعْتِدَاءٌ فَإِنَّهُم كذبُوا الرَّسُول فَاعْتَدَوْا عَلَى الصَّادِقِينَ بِلَمْزِهِمْ بِالْكَذِبِ وَقَدْ جَاءَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠١] كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١) فَهَذَا التَّحَالُفُ لِلتَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
[٧٥]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٧٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ بَعْثَةَ مُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ بِعْثَةِ مَنْ سَبَقَهُمَا مِنَ الرُّسُلِ، وَخُصَّتْ بِعْثَةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَانَتِ انْقِلَابًا عَظِيمًا وَتَطَوُّرًا جَدِيدًا فِي تَارِيخِ الشَّرَائِعِ وَفِي نِظَامِ الْحَضَارَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى إِنَّمَا بُعِثُوا فِي أُمَمٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَانَتْ أَدْيَانُهُمْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ، وَإِبْطَالِ مَا عَظُمَ مِنْ مَفَاسِدَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ شَرَائِعَ شَامِلَةً لِجَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَظْمِ الْأُمَّةِ وَتَقْرِيرِ حَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا.
فَأَمَّا بِعْثَةُ مُوسَى فَقَدْ أَتَتْ بِتَكْوِينِ أُمَّةٍ، وَتَحْرِيرِهَا مِنِ اسْتِعْبَادِ أُمَّةٍ أُخْرَى إِيَّاهَا، وَتَكْوِينِ وَطَنٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا، وَتَأْسِيسِ قَوَاعِدِ اسْتِقْلَالِهَا، وَتَأْسِيسِ جَامِعَةٍ كَامِلَةٍ لَهَا، وَوَضْعِ نِظَامِ سِيَاسَةِ الأمّة، وَوضع ساسة يدبرون شؤونها، وَنِظَامِ دِفَاعٍ يَدْفَعُ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهَا مِنَ
الْأُمَمِ، وَيُمَكِّنُهَا مِنِ اقْتِحَامِ أَوْطَانِ أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِعْطَاءِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى قَوَانِينِ حَيَاتِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ كَثِيرِ نَوَاحِيهَا، فَبَعْثَةُ مُوسَى كَانَتْ أَوَّلَ مَظْهَرٍ عَامٍّ مِنْ مَظَاهِرِ الشَّرَائِعِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي تَارِيخِ الشَّرَائِعِ وَلَا فِي تَارِيخِ نِظَامِ الْأُمَمِ،
_________
(١) فِي المطبوعة (كَذَلِك نطبع على قُلُوب الْكَافرين) وَهُوَ خطأ. [.....]
وَالْمَثْوَى: حَقِيقَتُهُ الْمَحَلُّ الَّذِي يثوي إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨]. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ حَالِ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمَرْءَ يُثَوَى إِلَى مَنْزِلِ إِقَامَتِهِ.
فَالْمَعْنَى: اجْعَلِي إِقَامَتَهُ عِنْدَكِ كَرِيمَةً، أَيْ كَامِلَةً فِي نَوْعِهَا. أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ سَبَبًا فِي اجْتِلَابِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا وَنُصْحِهِ لَهُمَا فَيَنْفَعُهُمَا، أَوْ يَتَّخِذَانِهِ وَلَدًا فَيَبَرُّ بِهِمَا وَذَلِكَ أَشَدُّ تَقْرِيبًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ آيِسًا مِنْ وِلَادَةِ زَوْجِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِحُسْنِ تَفَرُّسِهِ فِي مَلَامِحِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمُؤْذِنَةِ بِالْكَمَالِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَجُلًا ذَا فِرَاسَةٍ وَقَدْ جَعَلَهُ الْمَلِكُ رَئِيسَ شُرْطَتِهِ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ أَهْلَ حَذَرٍ فَلَا يُوَلُّونَ أُمُورَهُمْ غَيْرَ الْأَكْفَاءِ.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ إِنْ أَجْرَيْنَا اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى قِيَاسِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ تَنْوِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ بِحَيْثُ لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِتَمْكِينٍ أَتَمَّ مِنْهُ لَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ يُشَبَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا
فَيَكُونُ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ تَمْكِينًا كَذَلِكَ التَّمْكِينِ.
وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ كَانَتْ لِحَاصِلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ عُثُورُ السَّيَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْجَاءٌ لَهُ عَجِيب الْحُصُول بمصادفة عَدَمِ
عُقُوبَتِهِمْ يُشْبِهُ حَالَةَ الْغَافِلِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ تَحَقَّقْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ لَازِمِ عَدَمِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، فَهُوَ
كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ، ذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَن الشَّيْء يَأْذَن بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِحَيْثُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُخَاطَبُ، فَنَهْيُهُ عَنْهُ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَقْدِيرِ تَلَبُّسِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْحُسْبَانِ. وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ جَاءَتِ الْآيَةُ سَوَاءً جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحَّ أَنْ يُخَاطَبَ فَيدْخل فِيهِ النَّبِي- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- أَمْ جَعَلْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ابْتِدَاءً وَيَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ.
وَنَفْيِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَظُنُّهُ مُؤْمِنٌ بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ لِلظَّالِمِينَ. وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦].
وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ بِإِيقَاعِهَا فِي سَبَبِ الْعَذَابِ الْمُؤْلِمِ، وَظُلْمٌ لِلَّهِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ دُونَ الشِّرْكِ مِثْلَ ظُلْمِ النَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ حِرْمَانِهِمْ حُقُوقَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ.
وَقَوْلُهُ: فِيهِ الْأَبْصارُ مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا الْخَ.
وَشُخُوصُ الْبَصَرِ: ارْتِفَاعُهُ كَنَظَرِ الْمَبْهُوتِ الْخَائِفِ.
وأل فِي الْأَبْصارُ لِلْعُمُومِ، أَيْ تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ النَّاسِ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ هَوْلِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ.
وَالْإِهْطَاعُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مَدِّ الْعُنُقِ كَالْمُتَخَتِّلِ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْخَائِفِ.
وَإِقْنَاعُ الرَّأْسِ: طَأْطَأَتُهُ مِنَ الذُّلِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَنَعَ مِنْ بَابِ مَنَعَ إِذَا تَذَلَّلَ.
ومُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حَالَانِ.
وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَ إِذا ظَرْفًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ يَقْتَضِي تَقْدِيرُهُ عَدَمَ وُجُودِ متعلّق للظرف ليقدّر لَهُ مُتَعَلَّقٌ بِمَا يُنَاسِبُ، كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ [سُورَة النَّحْل: ٨٤]. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَبَغَتَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُخَفَّفُ فَصِيحَةٌ وَلَيْسَتْ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ.
والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، ثُمَّ يُسَاقُونَ إِلَى الْعَذَابِ فَإِذَا رَأَوْهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ، أَيْ يَسْأَلُونَ تَخْفِيفَهُ أَوْ تَأْخِيرَ الْإِقْحَامِ فِيهِ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَطْلَقَ الْعَذَابَ عَلَى آلَاتِهِ وَمَكَانِهِ.
وَجَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَنِ الِاسْمِ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمِ، فَأُرِيدَ تَقَوِّي حُكْمَ النَّفْيِ، أَيْ أَنَّ عَدَمَ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا طَمَاعِيَةَ فِي إِخْلَافِهِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَا حَصَلَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِالْفَاءِ، أَيْ فَهُمْ يُلْقَوْنَ بِسُرْعَةٍ فِي الْعَذَاب.
[٨٦، ٨٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٨٦ إِلَى ٨٧]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
الَّذِينَ أَشْرَكُوا هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الَّذِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذين لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ. وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ عَلَيْهِمْ لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ إِجْرَامِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَكْذِيبِ مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ نُكْتَةُ
وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى تَعْرِيضٌ بِأَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ تَهَمَّمُوا بِخَبَرِ مَلِكٍ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِمْ وَلَا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَنَسُوا خَبَرًا من سيرة نَبِيّهم.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مُسْتَطْرَدَاتٌ مِنْ إرشاد النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَتَثْبِيتِهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ الْمُلَازِمِينَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَتَمْثِيلِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، وَمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ، وَالتَّذْكِيرِ بِعَوَاقِبِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَوَعِيدِ أَهْلِهِ وَوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِضِدِّهِمْ، وَالتَّمْثِيلِ لِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَخُتِمَتْ بِتَقْرِيرِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُوله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَكَانَ فِي هَذَا الْخِتَامِ مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
[١- ٣]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً.
مَوْقِعُ الِافْتِتَاحِ بِهَذَا التَّحْمِيدِ كَمَوْقِعِ الْخُطْبَةِ يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ فِي الْغَرَضِ الْمُهِمِّ.
وَلَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ على النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَجْزَلَ نَعْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَبَبُ فَوْزِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ بِطِيبِ الْحَيَاةِ وَانْتِظَامِ الْأَحْوَالِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى النَّاسِ، وَنِعْمَةٌ على النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِأَنْ جَعَلَهُ وَاسِطَةَ ذَلِكَ وَمُبَلِّغَهُ وَمُبَيِّنَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ الْحَمْدِ إِخْبَارًا وَإِنْشَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِفَادَةُ جُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اسْتِحْقَاقَهُ أَكْمَلَ الْحَمْدِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَهِيَ هُنَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، أخبر الله نبيئه وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحَمْدِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ، فَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِالْمَوْصُولِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَلِمَا يُفِيدُهُ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ.
(الْفَزْرُ: لَقَبٌ لِسَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ).
وَالْمَعْنَى: قَالَ مُجَاهِدُ: إِنَّهُ مَكَانٌ نَصِفٌ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نِصْفٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِئَلَّا يَشُقَّ الْحُضُورُ فِيهِ عَلَى أَهْلِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَكَانًا مُسْتَوِيًا، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مُرْتَفَعَاتٌ تَحْجُبُ الْعَيْنَ، أَرَادَ مَكَانًا مُنْكَشِفًا لِلنَّاظِرِينَ لِيَشْهَدُوا أَعْمَالَ مُوسَى وَأَعْمَالَ السَّحَرَةِ.
ثُمَّ تَعْيِينُ الْمَوْعِدِ غَيْرُ المخلف يَقْتَضِي تعْيين زَمَانَهُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْلَافُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْوَعْدِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَمَكَانٌ مُعَيَّنٌ، فَمِنْ ثَمَّ طَابَقَهُ جَوَابُ مُوسَى بقوله قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
فَيَقْتَضِي أَنَّ مَحْشَرَ النَّاسِ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ كَانَ مَكَانًا مَعْرُوفًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ بِسَاحَةِ قَصْرِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِزِينَتِهِمْ وَلَهْوِهِمْ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهِ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الْمَوَاسِمِ.
فَقَوْلُهُ يَوْمُ الزِّينَةِ تَعْيِينٌ لِلْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ تَعْيِينٌ لِلْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ ضُحًى تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ.
وَالضُّحَى: وَقْتُ ابْتِدَاءِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا.
وَيَوْمُ الزِّينَةِ كَانَ يَوْمُ عِيدٍ عَظِيمٍ عِنْدَ الْقِبْطِ، وَهُوَ يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ أَوِ الْخُلْجَانِ، وَهِيَ الْمَنَافِذُ وَالتُّرَعُ الْمَجْعُولَةُ عَلَى النَّيْلِ لِإِرْسَالِ الزَّائِدِ مِنْ مِيَاهِهِ إِلَى الْأَرَضِينَ الْبَعِيدَةِ عَنْ مَجْرَاهُ لِلسَّقْيِ، فَتَنْطَلِقُ الْمِيَاهُ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُهَا إِلَيْهَا وَيَزْرَعُونَ عَلَيْهَا.
وَزِيَادَةُ الْمِيَاهِ فِي النِّيلِ هُوَ تَوْقِيتُ السَّنَةِ الْقِبْطِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ (تُوتَ) الْقِبْطِيِّ، وَهُوَ (أَيْلُولُ) بِحَسْبِ التَّارِيخِ الِإسْكَنْدَرِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ
مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الثَّوَابِ. فَكَنَى بِشُهُودِ الْمَنَافِعِ عَنْ نَيْلِهَا. وَلَا يُعْرَفُ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَعْظَمُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ لِيَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَا بِهِ كَمَالُ إِيمَانِهِ.
وَتَنْكِيرُ مَنافِعَ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْكَثْرَةُ وَهِيَ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ لِأَنَّ فِي مَجْمَعِ الْحَجِّ فَوَائِدَ جَمَّةً لِلنَّاسِ: لِأَفْرَادِهِمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ حَاجٍّ، وَلِمُجْتَمَعِهِمْ لِأَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ صَلَاحًا فِي الدُّنْيَا بِالتَّعَارُفِ وَالتَّعَامُلِ.
وَخَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَذَلِكَ هُوَ النَّحْرُ وَالذَّبْحُ لِلْهَدَايَا. وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي الْوَاجِبَةِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِمَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْنَا، وَبَيَّنَهُ الْإِسْلَامُ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ.
وَحَرْفُ عَلى مُتَعَلِّقٌ بِ يَذْكُرُوا، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَيْ عَلَى الْأَنْعَامِ. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عِنْدِ نَحْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ ذَبْحِهَا.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ومِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بَيَانٌ لِمَدْلُولِ (مَا). وَالْمَعْنَى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُمْ تِلْكَ الْأَنْعَامَ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الشُّكْرِ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِطْعَامِ الْمَحَاوِيجِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ لُحُومِهَا، وَفِي ذَلِكَ سَدٌّ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ بِتَزْوِيدِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ لِعَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.
فِي أَصْلِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا لِلْعَوْنِ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَنْهَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَا
يُوجَدُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهَا فَكَانَتْ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى إِبَاحَةِ اتِّخَاذِهَا نِيَّةُ الْعَوْنِ عَلَى الْعِبَادَةِ صَارَتْ مُرْضِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ [الْحَدِيد: ٢٧]. وَقَدْ كَانَ اجْتِهَادُ أَحْبَارِ الدِّينِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَإِلْهَامُهُمْ دَلَائِلَ تَشْرِيعٍ لَهُمْ كَمَا تَقْتَضِيهِ نُصُوصٌ مِنَ الْإِنْجِيلِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ زِيَادَةُ إِيضَاحِ الْمُشَبَّهِ بِهِ
كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ: «فَإِذَا لَهَا كَلَالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدَانِ؟»
. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى تَحْسِينِ الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
شَجَّتْ بِذِي شَبِمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ | صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ |
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ | مَنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ |
وَتَخْصِيصُ التَّسْبِيحِ بِالرِّجَالِ لِأَنَّ الرُّهْبَانَ كَانُوا رِجَالًا.
وَأُرِيدَ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: الرُّهْبَانُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ وَتَرَكُوا الشُّغْلَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ مَعْنَى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ: أَنَّهُمْ لَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا بَيْعَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُلْهِيَاهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ.
وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ تبلغهم يَوْمئِذٍ دَعْوَة الْإِسْلَامِ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ إِلَّا بِفُتُوحِ مَشَارِفِ الشَّامِ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَأَمَّا كِتَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذَعْ فِي الْعَامَّةِ. وَكَانَ الرُّهْبَانُ يَتْرُكُونَ الْكُوَى مَفْتُوحَةً لِيَظْهَرَ ضَوْءُ صَوَامِعِهِمْ وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ وَأَضْوَاءَهَا فِي اللَّيْلِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشِيِّ كَأَنَّهَا | مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ |
عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ | إِذَا طَرَدَ الْيَتِيمَ عَنِ الْجَزُورِ |
قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامَةِ مِنِّي | لَقِحَتْ حَرْبُ وَائِلٍ عَنْ حِبَالِ |
_________
(١) الْحُسَيْن بن الْفضل بن عُمَيْر البَجلِيّ الْكُوفِي النَّيْسَابُورِي توفّي سنة ٢٨٢ هـ، وعمره مائَة وَأَرْبع سِنِين، لَهُ «تَفْسِير الْقُرْآن».
[٧]
[سُورَة المُنَافِقُونَ (٦٣) : آيَة ٧]هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا.
هَذَا أَيْضًا مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فِي مَجَامِعِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ يَقُولُونَهَا لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ تَظَاهُرًا بِالْإِسْلَامِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَظَاهَرِ الْإِسْلَامَ بِغَيْرِ الْإِنْفَاقِ مثل قَوْلهم لمن يَقُول لَهُم تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُول الله، وَلذَلِك عُقِّبَتْ بِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَإِسْنَادُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ تَقَبَّلُوهُ مِنْهُ إِذْ هُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ أَوْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فَأَخَذُوا يَبُثُّونَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ.
وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافُ الِابْتِدَائِيُّ الْمُعْرِبُ عَنْ مَكْرِهِمْ وَسُوءِ طَوَايَاهُمُ انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ إِعْرَاضِهِمْ عِنْدَ التَّقَرُّبِ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى وَصْفِ لَوْنٍ آخَرِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَهُوَ الْكَيْدُ لِلدِّينِ فِي صُورَةِ النَّصِيحَةِ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِهِمُ الظَّاهِرِ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِالْمُسْتَتِرِ فِي يَقُولُونَ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَتَرُوا كَيْدَهُمْ بِإِظْهَارِ قَصْدِ النَّصِيحَةِ فَفَضَحَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِمَزِيدِ التَّصْرِيحِ، أَيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا. وَفِي إِظْهَارِ الضَّمِيرِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ [ص: ٦٠]. وَلِيَكُونَ لِلْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ إِفَادَةُ ثَبَاتِ الْخَبَرِ، وَلِيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ لِقَصْدِ إِفْشَائِهَا.
ومَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ كَانُوا فِي رِعَايَتِهِ مِثْلَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَمَنْ كَانُوا يَلْحَقُونَ بِالْمَدِينَةِ من الْأَعْرَاب العفاة أَو فريق مِنَ الْأَعْرَابِ كَانَ يُمَوِّنُهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شَدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهَ بْنُ أُبَيٍّ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِهِ»
وَهَذَا كَلَامُ مَكْرٍ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ قَصْدُ الرِّفْقِ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلْفَةِ إِنْفَاقِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَلَمُّوا بِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَبَاطِنَهُ إِرَادَةُ إِبْعَادِ الْأَعْرَابِ عَنْ تَلَقِّي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ وَعَنْ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ تُفَرُّقُ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ لِتَضْعُفَ بِتَفَرُّقِهِمْ بَعْضُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَرِوَايَاتُ حَدِيثِ زَيْدٍ مُخْتَلِطَةٌ.
وَقَوْلُهُ: رَسُولِ اللَّهِ يُظْهِرُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
لِلِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ حَتَّى فِي مِثْلِهِ جَارَّةٌ وَأَنَّ إِذا فِي مَحَلِّ جَرٍّ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَيْفَمَا كَانَ عَمَلُ حَتَّى.
وإِذا اسْمُ زَمَانٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي جَوَابِهِ وَهُوَ فَسَيَعْلَمُونَ.
وَعَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ إِذا مَحَلِّ جَرٍّ بِ حَتَّى. وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ سَيَعْلَمُونَ بِالْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُ الْجَوَابِ بِسِينِ
الِاسْتِقْبَالِ يَصْرِفُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ بَعْدَ إِذا إِلَى زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا إِذا فِعْلًا مَاضِيًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
وَفِعْلُ سَيَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْغَرَابَةِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ النَّاسُ عَنْ تَعْيِينِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ.
وَضَعْفُ النَّاصِرِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ وَهَنِ أَنْصَارِهِمْ، وَقِلَّةُ الْعَدَدِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِخَيْبَةِ غُرُورِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنْ غَلَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَر: ٤٤]. وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: ٣٥].
[٢٥- ٢٨]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ٢٥ الى ٢٨]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ.
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُكْثِرُونَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: ٧١]، وعَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: ١٨٧]، وَتَكَرَّرَتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً [الْجِنّ: ٢٤] الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَا اعْتَادُوا قَوْلَهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَابِهِ.
وَفُتِنَ وَرَجَعَ إِلَى الشِّرْكِ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ الْمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
وَعَطْفُ الْمُؤْمِناتِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِنَّ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ فِعْلِ الْفَاتِنِينَ بِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى النِّسَاءِ وَالشَّأْنُ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُنَّ بِالْغِلْظَةِ.
وَجُمْلَةُ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مُعْتَرِضَةٌ. وثُمَّ فِيهَا لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ.
وَالْفَتْنُ: الْمُعَامَلَةُ بِالشِّدَّةِ وَالْإِيقَاعُ فِي الْعَنَاءِ الَّذِي لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْلَصًا إِلَّا بِعَنَاءٍ أَوْ ضُرٍّ أَخَفَّ أَوْ حِيلَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١].
وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ (إِنَّ) مِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) وَقَعَ مَوْصُولًا وَالْمَوْصُولُ يُضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرًا: فَتَقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مَقْصُودٌ بِهِ مَعْنَى التَّقْيِيدِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ.
وَجُمْلَةُ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ عَطْفٌ فِي مَعْنَى التوكيد اللَّفْظِيّ لجملة: لَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَاقْتِرَانُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ بِإِيهَامِ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ زِيَادَةَ تَهْدِيدِهِمْ بِوَعِيدٍ آخَرَ فَلَا يُوجَدُ أَعْظَمُ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَوَّلِ. مَعَ مَا بَيْنَ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَعَذَابِ الْحَرِيقِ مِنِ اخْتِلَافٍ فِي الْمَدْلُولِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الْمَدْلُولَيْنِ وَاحِدًا. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْمُغَايَرَةِ يُحَسِّنُ عَطْفَ التَّأْكِيدِ.
عَلَى أَنَّ الزَّجَّ بِهِمْ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ قَبْلَ أَنْ يَذُوقُوا حَرِيقِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالدَّفْعِ بِهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطّور: ١٣] فَحَصَلَ بِذَلِكَ اخْتِلَافُ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالثَّانِي مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨].
الصفحة التالية