وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعَرَبِ فِي سَوَاءٍ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْتُوا بِسَوَاءٍ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّسَاوِي فِي وَصْفٍ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ فَيَقَعُ مَعَهُ (سَوَاءٌ) مَا يَدُلُّ عَلَى مُتَعَدِّدٍ نَحْوَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ [النَّحْل: ٧١] وَنَحْوَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ بُثَيْنَةَ:

سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إِذَا مِتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا
وَيَجْرِي إِعْرَابُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوْقِعُهُ مِنَ التَّرْكِيبِ، وَثَانِيهُمَا أَنْ يَقَعَ مَعَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ كَثُرَ وُقُوعُهَا بَعْدَ كَلِمَةِ سَواءٌ وَمَعَهَا أَمْ الْعَاطِفَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْمُتَّصِلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وَهَذَا أَكَثَرُ اسْتِعْمَالَيْهَا وَتَرَدَّدَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهِ وَأَظْهَرُ مَا قَالُوهُ وَأَسْلَمُهُ أَنَّ سَواءٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِالْهَمْزَةِ فِي تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ إِذْ تَجَرَّدَ عَنِ النِّسْبَةِ وَعَنِ الزَّمَانِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ.
وَأَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا قَالُوهُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ بَعْدَ سَواءٌ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاقِعُ مَعَهُ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ سَوَاءٌ جَوَابٌ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وَهَذَا يَجْرِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلِمْتُ أَزْيَدٌ قَائِمٌ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمْتُ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ سَواءٌ مُبْتَدَأً رَافِعًا لِفَاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ لِأَنَّ سَواءٌ فِي مَعْنَى مُسْتَوٍ فَهُوَ فِي قُوَّةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَرْفَعُ فَاعِلًا سَادًّا مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَجَوَابُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَمْرَيْنِ كَانَ الْإِخْبَارُ بِاسْتِوَائِهِمَا عِنْدَ الْمُخْبِرِ مُشِيرًا إِلَى أَمْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي خَبَرِهِ الْإِفْرَادُ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ (سَوَاء) مؤولا لَا بِمَصْدَرٍ وَوَجْهُ الْأَبْلَغِيَّةِ فِيهِ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِخَفَاءِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَيَسْأَلَ السَّائِلُونَ أَفَعَلَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَيُقَالُ إِنَّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمَا وَعَدَمِ تَطَلُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ النَّاسَ لِتَعَجُّبِهِمْ فِي دَوَامِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ السَّائِلُونَ أَأَنْذَرَهُمُ النَّبِيُّ أَمْ لَمْ يُنْذِرْهُمْ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ لَوْ أَنْذَرَهُمْ لَمَا تَرَدَّدُوا فِي الْإِيمَانِ فَقِيلَ إِنَّهُمْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ جَوَابُ تَسَاؤُلِ النَّاسِ عَنْ إِحْدَى الْأَمْرَيْنِ، وَبِهَذَا انْتَفَى جَمِيعُ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي فَرَضَهَا النُّحَاةُ هُنَا وَنَبْرَأُ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَبْحَاثِ كَكَوْنِ الْهَمْزَةِ خَارِجَةً عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ عَمَلَ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِيمَا قَبْلَهُ إِذَا أُعْرِبَ (سَوَاءٌ) خَبَرًا وَالْفِعْلُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُبْتَدَأً مُجَرَّدًا عَنِ الزَّمَانِ، وَكَكَوْنِ الْفِعْلِ مُرَادًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْحَدَثِ، وَكَدَعْوَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ فِي التَّسْوِيَةِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ
فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ كَمَا كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُمْ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَكَمَا يَذْكُرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْآنَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ إِلَّا بِطَلَبِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ أَعْطَاكُمْ نَصِيبًا مِمَّا سَأَلْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ إِن اللَّهَ يُعَجِّلُ باستجابة دعائكم.
وَمَعْنَى جِئْتُكُمْ أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ [الزخرف: ٦٣].
وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا بِأَنَّهُ جَاءَ بِآيَةٍ. شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَةً بِمَجِيءِ الْمُرْسَلِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النَّبِيءُ رَسُولًا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِآيَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ مُقَارِنًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِي فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِفِعْلِ الْمَجِيءِ. وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بجئتكم عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جِئْتُكُمْ لِأَنَّ مَعْنَى جِئْتُكُمْ: أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَنِّي أَخْلُقُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ آيَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنِّي عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ.
وَالْخَلْقُ: حَقِيقَتُهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِقَدْرٍ، وَمِنْهُ خَلْقُ الْأَدِيمِ تَقْدِيرُهُ بِحَسْبِ مَا يُرَادُ مِنْ قَطْعِهِ قَبْلَ قَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خلقت وَبَعض الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يُرِيدُ تَقْدِيرَ الْأَدِيمِ قَبْلَ قَطْعِهِ وَالْقَطْعُ هُوَ الْفَرْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا مَشْهُورًا أَوْ مُشْتَرَكًا فِي الْإِنْشَاءِ، وَالْإِبْدَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ وَلَا احْتِذَاءٍ، وَفِي الْإِنْشَاءِ عَلَى مِثَالِ يُبْدِعُ وَيُقَدِّرُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] فَهُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَإِبْرَازُهُ لِلْوُجُودِ
وَالْخَلْقُ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته أَيْ: أُقَدِّرُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ خَلْقَ الْحَيَوَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَأَنْفُخُ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٦٠]. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَخْلُقُ، أَيْ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِثْلَ هَيْئَةِ الطَّيْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «الطَّيْرَ» وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ غَالِبًا وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ «الطَّائِرِ».
وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَقَوْلُهُ: بَيَان ل مِمَّا تَرَكَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ مَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى لَا يَسْتَأْثِرَ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَيْلِهِ كَمَا أَوْصَى نزار بن معّد بْنُ عَدْنَانَ لِأَبْنَائِهِ:
مُضَرَ، وَرَبِيعَةَ، وَإِيَادٍ، وَأَنْمَارٍ، فَجَعَلَ لِمُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا، وَجَعَلَ لِرَبِيعَةَ الْفَرَسَ، وَجَعَلَ لِإِيَادٍ الْخَادِمَ، وَجَعَلَ لِأَنْمَارٍ الْحِمَارَ، وَوَكَلَهُمْ فِي إِلْحَاقِ بَقِيَّةِ مَالِهِ بِهَاتِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمَيِّ فِي نَجْرَانَ، فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الْمَثَلَ: إِنَّ الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: نَصِيباً مَفْرُوضاً حَالٌ مِنْ (نَصِيبٌ) فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وَحَيْثُ أُرِيدَ بِنَصِيبٍ الْجِنْسُ جَاءَ الْحَالُ مِنْهُ مُفْرَدًا وَلَمْ يُرَاعَ تَعَدُّدُهُ، فَلَمْ يَقُلْ:
نَصِيبَيْنِ مَفْرُوضَيْنِ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ نَصِيبَيْنِ، وَلَا قيل: أنصباء مَفْرُوضَةٌ، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ مُوَزَّعًا لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، بَلْ روعي الْجِنْسُ فَجِيءَ بِالْحَالِ مُفْرَدًا ومَفْرُوضاً وَصْفٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَفْرُوضًا أَنَّهُ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١]. وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تشريع الْمَوَارِيث.
[٨]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَى آخِرِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ بِعَطِيَّةٍ تُعْطَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ: أَمَرَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُسْهِمُوا لِمَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمْ غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْإِرْثِ، مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَجَالِسَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] وَقَوْلُهُ: وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] يَقْتَضِيَانِ مَقْسُومًا، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْقِسْمَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.
وَأُخِذَ لَهُمْ مِنَ الْغُلِّ الْمَجَازِيِّ مُقَابِلُهُ الْغُلُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي انْتِزَاعِ الدُّعَاءِ مِنْ لَفْظِ سَبَبِهِ أَوْ نَحْوِهِ،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَسْلَمَ سَلَّمَهَا اللَّهُ، وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا»
. وَجُمْلَةُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا بِأَنَّ اللَّهَ لَعَنَهُمْ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، نَظِيرَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١٧، ١١٨].
وَقَوْلُهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ نَقْضٌ لِكَلَامِهِمْ وَإِثْبَاتُ سَعَةِ فَضْلِهِ تَعَالَى. وَبَسْطُ الْيَدَيْنِ تَمْثِيلٌ لِلْعَطَاءِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الْإِنْعَامِ بِأَشْيَاءَ تُعْطَى بِالْيَدَيْنِ.
وَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا بِطَرِيقَةِ التَّثْنِيَةِ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْجُودِ، وَإِلَّا فَالْيَدُ فِي حَالِ الِاسْتِعَارَةِ لِلْجُودِ أَوْ لِلْبُخْلِ لَا يُقْصَدُ مِنْهَا مُفْرَدٌ وَلَا عَدَدٌ، فَالتَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤]، وَقَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ». وَقَالَ الشَّاعِرُ
(أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَعْزُهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ) :
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ
وَجُمْلَةُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ بَيَانٌ لِاسْتِعَارَةِ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. وكَيْفَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْحَالَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَشاءُ زِيَادَةُ إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ تَقْتِيرَهُ الرِّزْقَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ لِمَصْلَحَةٍ، مِثْلَ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٢٧].
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِجُمْلَةِ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ،
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدَيْنِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَقْدِيمٌ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَتَيْنِ هُنَا مُسَوِّغًا، وَهُوَ وُقُوعُهُمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ هُنَا اخْتِيَارِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَرَضٍ.
وَالْغَرَضُ يَحْتَمِلُ مُجَرَّدَ الِاهْتِمَامِ وَيَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ. وَحَيْثُ تَأَتَّى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا فَاعْتِبَارُهُ أَلْيَقُ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ». وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ قَصْرُ نَفْيِ حِسَابِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُفِيدَ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَلِكَ هُوَ مُفَادُ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ بِالتَّقْدِيمِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ مُفَادٌ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ لِقِلَّةِ وُقُوعِ الْقَصْرِ بِوَاسِطَةِ التَّقْدِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَمِثَالُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات: ٤٧] فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْغَوْلِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِفِي خُمُورِ الْجَنَّةِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْكَلَامِ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ. وَهِيَ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةُ، وَ (مِنَ) الزَّائِدَةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَالتَّأْكِيدُ بِالتَّتْمِيمُ بِنَفْيِ الْمُقَابِلِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مُنْتَهَى التَّبْرِئَةِ مِنْ مُحَاوَلَةِ إِجَابَتِهِمْ لِاقْتِرَاحِهِمْ.
وَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ التَّعْرِيضَ بِرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ سَأَلُوا إِبْعَادَ الْفُقَرَاءِ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِينَ مَا يَحْضُرُونَ وَأَوْهَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَائِلُ لَهُمْ دُونَ حُضُورِ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْإِيمَانِ بِهِ وَالْكَوْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الْمَسْئُول أَن يقْضِي أَصْحَابَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ لِيَعْلَمَ السَّائِلُونَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَا لَا يَقَعُ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلَاشْتَغَلُوا بِإِصْلَاحِ خُوَيْصِّتِهِمْ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:
٦٥]. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَنْعَام: ٥٥]. وَإِذْ كَانَ الْقَصْرُ يَنْحَلُّ عَلَى نِسْبَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَالنِّسْبَةُ الْمُقَدَّرَةُ مَعَ الْقَصْرِ وَهِيَ نِسْبَةُ الْإِثْبَاتِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَضَمِيرِ الْغَائِبِينَ، أَيْ عَدَمُ حِسَابِهِمْ مَقْصُورٌ عَلَيْكَ، فَحِسَابُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ ذُكِرَ
مَعْلُومُ الْحُصُولِ، فَالْمَاضِي الْوَاقِعُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ هُنَا مَاضٍ حَقِيقِيّ وَلَيْسَ مؤولا بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِ الْمَاضِي فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْحُصُولِ، وَبِقَرِينَةِ النَّفْيِ بِلَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى
الشَّرْطِ فَإِنَّ (لَمْ) صَرِيحَةٌ فِي الْمُضِيِّ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: ١١٦] بِقَرِينَةٍ. (قَدْ) إِذِ الْمَاضِي الْمَدْخُول لقد لَا يُقْلَبُ إِلَى مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ.
فَالْمَعْنَى: إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ طَائِفَةً آمَنُوا وَطَائِفَةً كَفَرُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حتّى يحكم ويؤول الْمَعْنَى: إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي تَصْدِيقِي فَسَيَظْهَرُ الْحُكْمُ بِأَنِّي صَادِقٌ.
وَلَيْسَتْ (إِنْ) بِمُفِيدَةِ الشَّكِّ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، بَلِ اجْتُلِبَتْ هُنَا لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّكِّ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ إِذَا وَقَعَ الْعُدُولُ عَنِ اجْتِلَابِ (إِذَا) حِينَ يَصِحُّ اجْتِلَابُهَا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِلَابُ (إِذَا) فَلَا تَدُلُّ (إِنْ) عَلَى شَكٍّ وَكَيْفَ تُفِيدُ الشَّكَّ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُضِيِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلِّغْتَ عَنِّي وِشَايَةً لَمُبْلِغُكَ الْوَاشِي أَغَشُّ وَأَكْذَبُ
وَالصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ فِي حَالِ التَّرَقُّبِ، سَوَاءٌ كَانَ تَرَقُّبَ مَحْبُوبٍ أَمْ تَرَقُّبَ مَكْرُوهٍ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ فِي حَالِ فُقْدَانِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَصَبْرُ كُلٍّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَعَلَّهُ رَجَحَ فِيهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَقَّبَ هُوَ فِي مَنْفَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً.
وحَتَّى تُفِيدَ غَايَةً لِلصَّبْرِ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ.
وَحُكْمُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَرِضَاهُ عَلَى الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ، فَيَظْهَرُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا صَدَرَ عَنْ ثِقَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ اسْتِنَادًا لِوَعْدِ
غَنِمَهُ، وَكَمَا يُوجَدُ الْقَتِيلُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَيَدْخُلُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْتَ جِنْسِ الْفَيْءِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [٦، ٧] بِقَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي سَلَّمُوهَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَفَرُّوا.
وَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ:
الْمَغْنَمُ، وَالْفَيْءُ، وَهُمَا نَوْعَانِ، وَالنَّفَلُ. وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمَةِ وَكَانَتْ مُتَدَاخِلَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْغَزْوِ فِي الْمُسْلِمِينَ خُصَّ كُلُّ اسْمٍ بِصِنْفٍ خَاصٍّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ، وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ أَيْ تَخْصِيصُ اسْمِ الْغَنِيمَةِ بِمَالِ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ فَسَمَّى الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ (أَيْ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) غَنِيمَةً وَفَيْئًا يَعْنِي وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ مَقْسُومِ الْغَنِيمَةِ لَا لِنَوْعٍ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّفَلَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِمَنْ يَرَى إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ، مِمَّنْ لَمْ يَغْنَمْ ذَلِكَ بِقِتَالٍ.
فَالْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمَغْنَمِ. فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ يَصْرِفُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُعْطِيهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْبَطَلِ، أَوْ لِخَصْلَةٍ عَظِيمَةٍ يَأْتِي بِهَا، أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ.
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
وَقَدْ جَعَلَهَا الْقُرْآنُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ أَوْ لِمَا يَرَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَا بَلَغَنَا عَنِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ» (يَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَرَادَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِيَوْمِ حُنَيْنٍ).
فَالْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَيَكُونُ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا إِذْ لَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
مَا يُتَّهَمُونَ بِهِ، فَإِذَا سُئِلُوا عَنْ حَدِيثٍ يَجْرِي بَيْنَهُمْ يُسْتَرَابُ مِنْهُمْ أَجَابُوا بِأَنَّهُ خَوْضٌ وَلَعِبٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ اسْتِجْمَامٌ لِلرَّاحَةِ بَيْنَ أَتْعَابِ السَّفَرِ لِمَا يَحْتَاجُهُ الْكَادُّ عَمَلًا شَاقًّا مِنَ الرَّاحَةِ بِالْمَزْحِ وَاللَّعِبِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ نِفَاقًا، مِنْهُمْ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَوْفِيُّ، وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيُّ، حَلِيفُ بَنِيَ سَلَمَةَ، وَقَفُوا عَلَى عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ يَنْظُرُونَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ
فَقَالُوا انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ حُصُونَ الشَّامِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فَسَأَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُنَاجَاتِهِمْ فَأَجَابُوا «إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ».
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَتَّجِهُ لِأَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلَةٌ فَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ، مِمَّا يُسْأَلُونَ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِخْبَارًا بِمَا سَيُجِيبُونَ، فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَتَحَدَّثُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ، الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَة: ١٤] لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِي الِانْفِرَادِ عَنْ مَجَالِسِ الْمُسْلِمِينَ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ السُّؤَالِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ حَدِيثِهِمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ، أَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمُ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُمْ بَعْدَهَا أَجَابُوا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْآيَةُ.
وَالْقَصْرُ لِلتَّعْيِينِ: أَيْ مَا تَحَدَّثْنَا إِلَّا فِي خَوْضٍ وَلَعِبٍ دُونَ مَا ظَنَنْتَهُ بِنَا مِنَ الطَّعْنِ وَالْأَذَى.
وَالْخَوْضُ: تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٨].
وَاللَّعِبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي الْأَنْعَامِ [٣٢]، وَلَمَّا كَانَ اللَّعِبُ يَشْمَلُ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْغَيْرِ جَاءَ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِذَارِهِمْ بقوله: كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا كَانَ اعْتِذَارُهُمْ مُبْهَمًا رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابَ الْمُوقِنِ بِحَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ بِمَا سَيَعْتَذِرُونَ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَهُمْ حِينَ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ مِثْلُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَخُرُوجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى مُجَاوِبَةٌ مِنْهُ عَنْ كَلَامِهِمْ فَفُصِلَتْ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اسْتَخْرَجْنَاهَا فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
[الْبَقَرَة: ٣٠]، وَنَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. تَوَلَّى مُوسَى وَحْدَهُ دُونَ هَارُونَ مُجَادَلَتَهُمْ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلدَّعْوَةِ أَصَالَةً، وَلِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ.
وَاسْتِفْهَامُ أَتَقُولُونَ إِنْكَارِيٌّ. وَاللَّامُ فِي لِلْحَقِّ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْبَيَانِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْمُجَاوَزَةِ بِمَعْنَى (عَنْ).
وَجُمْلَةُ: أَسِحْرٌ هَذَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، أَنْكَرَ مُوسَى عَلَيْهِمْ وَصْفَهُمُ الْآيَاتِ الْحَقَّ بِأَنَّهَا سِحْرٌ. وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ، بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ كَافِيَةٌ فِي ظُهُورِ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَفْعُولُ أَتَقُولُونَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فَالتَّقْدِيرُ: أَتَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: ١٨٣] وَقَوْلُهُ: بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: ٨١].
وَلَمَّا نَفَى مُوسَى عَنْ آيَاتِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ سِحْرًا ارْتَقَى فَأَبَانَ لَهُمْ فَسَادَ السِّحْرِ وَسُوءَ عَاقِبَةِ مُعَالِجِيهِ تَحْقِيرًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنَوِّهُونَ بِشَأْنِ السِّحْرِ. فَجُمْلَةُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَسِحْرٌ هَذَا.
فَالْمَعْنَى: هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ وَإِنَّمَا أَعْلَمُ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يُفْلِحُ، أَيْ لَوْ كَانَ سَاحِرًا لَمَّا شَنَّعَ حَالَ السَّاحِرِينَ، إِذْ صَاحَبُ الصِّنَاعَةِ لَا يُحَقِّرُ صِنَاعَتَهُ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهَا مُحَقَّرَةً لما التزمها.
فَالْمُرَاوَدَةُ الْمُقْتَضِيَةُ تَكْرِيرَ الْمُحَاوَلَةِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّكْرِيرِ.
وَقِيلَ: الْمُفَاعَلَةُ تَقْدِيرِيَّةٌ بِأَنِ اعْتَبَرَ الْعَمَلَ مِنْ جَانِبٍ وَالْمُمَانَعَةَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ بِمِثْلِهِ. وَالْمُرَاوَدَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ، إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ. شَبَّهَ حَالَ الْمُحَاوِلِ أَحَدًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مُكَرِّرًا ذَلِكَ. بِحَالِ مَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي الْمُعَاوَدَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَذْهُوبِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ رَاوَدَ بِمَعْنَى حَاوَلَ.
وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ رَاوَدَتْهُ مُبَاعَدَةً لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، فَالنَّفْسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ غَرَضِ الْمُوَاقَعَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ فَالنَّفْسُ أُرِيدَ بِهَا عَفَافُهُ وَتَمْكِينُهَا مِنْهُ لِمَا تُرِيدُ، فَكَأَنَّهَا تُرَاوِدُهُ عَنْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهَا إِرَادَتَهُ وَحُكْمَهُ فِي نَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِ (عَلَى) فَذَلِكَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ حُصُولُهُ. وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاوِدُ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ عَلَى الْإِسْلَامِ:
وَفِي حَدِيث الإسلاء «فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
قد وَالله رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ»

. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها لِقَصْدِ مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَقْرِيرِ عِصْمَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي بَيْتِهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطَوِّعَهُ لِمُرَادِهَا.
وبَيْتِها بَيْتُ سُكْنَاهَا الَّذِي تَبِيتُ فِيهِ. فَمَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ: الْمَنْزِلَ كُلَّهُ، وَهُوَ قَصْرُ الْعَزِيزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، أَيْ زَوْجَةُ صَاحِبِ الدَّارِ وَيَكُونُ مَعْنَى هُوَ فِي بَيْتِها أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ.
وَغَلْقُ الْأَبْوَابِ: جَعْلُ كُلَّ بَابٍ سَادًّا لِلْفُرْجَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا.
وَتَضْعِيفُ غَلَّقَتِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْفِعْلِ وَقُوَّتِهِ، أَيْ أُغْلِقَتْ إِغْلَاقًا مُحْكَمًا.

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٤٦]

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ:
وَأَنْذِرِ النَّاسَ، أَيْ أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ وُقُوعِ مَكْرِهِمْ.
وَالْمَكْرُ: تَبْيِيتُ فِعْلِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ وَإِضْمَارُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩].
وَانْتَصَبَ مَكْرَهُمْ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ مَكَرُوا لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيِ الْمَكْرَ الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهِ، فَإِضَافَةُ مَكْرٍ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ.
وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ مَكْرٍ الثَّانِي إِلَى ضَمِيرِ هُمْ.
وَالْعِنْدِيَّةُ إِمَّا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ، أَيْ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ مَكْرهمْ، فَهُوَ تعري بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِسُوءِ فِعْلِهِمْ، وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ تَكْوِينِ مَا سُمِّيَ بِمَكْرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ فَيَكُونُ وَعِيدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَكْرِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِتَزُولَ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِنَصْبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا- فَتَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً وَلَامُ لِتَزُولَ لَامَ الْجُحُودِ، أَيْ وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ زَائِلَةً مِنْهُ الْجِبَالُ، وَهُوَ اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ، أَيْ لَيْسَ مَكْرُهُمْ بِمُتَجَاوِزِ مَكْرِ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي تَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُ الْمُشْرِكُونَ الْمَكْرَ بِهِمْ لَا يُزَعْزِعُهُمْ مَكْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى- مِنْ لِتَزُولَ وَرَفْعِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنْ
تَكُونَ إِنْ مُخَفَّفَةً مِنْ إِنْ الْمُؤَكِّدَةِ وَقَدْ أَكْمَلَ إِعْمَالَهَا، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا لِزَوَالِ الْجِبَالِ مِنْ مَكْرِهِمْ، أَيْ هُوَ

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٨٩]

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.
تَكْرِيرٌ لِجُمْلَةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: ٨٤] لِيُبْنَى عَلَيْهِ عَطْفُ جُمْلَةِ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ تَكْرِيرًا أُعِيدَ نَظِيرُ الْجُمْلَةِ عَلَى صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُقْتَرِنَةً بِالْوَاوِ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةَ وَصْفِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَحَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ مَعَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَالْمُغَايَرَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْعَطْفِ أَيْضًا.
وَمِنْ دَوَاعِي تَكْرِيرِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [سُورَة النَّحْل: ٨٤- ٨٨]، فَهُوَ كَالْإِعَادَةِ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبْطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
مَعَ أَنَّ الْإِعَادَةَ هُنَا أَجْدَرُ لِأَنَّ الْفَصْلَ أَطْوَلُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْإِعَادَةِ تَأْكِيدُ التَّهْدِيدِ وَالتَّسْجِيلِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ نَبْعَثُ هُنَا بِحَرْفِ فِي، وَعُدِّيَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِحَرْفِ (مِنْ) لِيَحْصُلَ التَّفَنُّنُ بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ.
وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّهِيدَ يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ شَهَادَةَ الرُّسُلِ عَلَى الْأُمَمِ شَهَادَةٌ لَا مَطْعَنَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا شُهُودٌ مِنْ قَوْمِهِمْ لَا يَجِدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ فِيهَا
مَسَاغًا لِلطَّعْنِ.
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً، فَهُوَ سَبَبٌ آخَرُ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ أَثَارَتْهُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ لِيَبْقَى الْإِنْذَارُ مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مُتَعَلِّقٌ بِ يُبَشِّرَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ)، أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. وَذِكْرُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ. وَلَا يَتَعَرَّضُ الْقُرْآنُ فِي الْغَالِبِ لِحَالَةِ حُصُولِ الْإِيمَانِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَلِحُكْمِهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْمُكْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، شَبَّهَ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ بِالظَّرْفِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ حَالُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ الْحَسَنَ كَالْمُحِيطِ بِهِمْ لَا يُفَارِقُهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَبَداً بِتَأْكِيدٍ لِمَعْنَى ماكِثِينَ بَلْ أُفِيدَ بِمَجْمُوعِهَا الْإِحَاطَةُ وَالدَّوَامُ.
[٤، ٥]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٤ الى ٥]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ.
تَعْلِيلٌ آخَرُ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى عَبْدِهِ، جُعِلَ تَالِيًا لِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْف: ٢] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِنْذَارٌ مَخْصُوصٌ مُقَابِلٌ لِمَا بَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذَا إِنْذَارٌ بِجَزَاءٍ خَالِدِينَ فِيهِ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى تَخْصِيصِ الْبَأْسِ فِي قَوْلِهِ: بَأْساً شَدِيداً [الْكَهْف: ٢] بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ هَذَا الْإِنْذَارُ مُغَايِرًا لِمَا
قَبْلَهُ وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى شُمُولِ الْبَأْسِ لِلْعَذَابَيْنِ كَانَتْ إِعَادَةُ فِعْلِ يُنْذِرَ تَأْكِيدًا، فَكَانَ عَطْفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِمَفْعُولِهِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى مَعْنَى مَفْعُولِ فِعْلِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيُسْحِتَكُمْ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- مُضَارِعُ سَحَتَهُ: إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- مِنْ أَسْحَتَهُ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، وَكِلْتَا اللُّغَتَيْنِ فُصْحَى.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَفْتَرُوا وَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أَيِ اجْتَنِبُوا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. بَعْدَ أَنْ وَعَظَهُمْ فَنَهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ الَّذِينَ افْتَرَوُا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيمَا افْتَرَوْا لِأَجْلِهِ.
ومَنِ الْمَوْصُولَةُ لِلْعُمُومِ.
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَوْقِعِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى مِنَ الْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ.
وَفِي كَلَامِ مُوسَى إِعْلَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّلُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْصِلُهُ بِعَذَابٍ وَيَعْلَمُ خَيْبَةَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يقدم عَلَيْهِ.
[٦٢- ٦٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٤]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى مَوْعِظَةِ مُوسَى تَنَازُعُهُمُ الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ بَعْضَ الْأَثَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَشِيَ الِانْخِذَالَ، فَلِذَلِكَ دَعَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلتَّشَاوُرِ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أَيْ إِن كَانُوا نذورا أَعْمَالًا زَائِدَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ مِثْلَ نَذْرِ طَوَافٍ زَائِدٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ نُسُكًا أَوْ إِطْعَامَ فَقِيرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَالنَّذْرُ: الْتِزَامُ قُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى مُلْتَزِمِهَا بِتَعْلِيقٍ عَلَى حُصُولِ
مَرْغُوبٍ أَوْ بِدُونِ تَعْلِيقٍ، وَبِالنَّذْرِ تَصِيرُ الْقُرْبَةُ الْمُلْتَزَمَةُ وَاجِبَةً عَلَى النَّاذِرِ. وَأَشْهَرُ صِيغَةٍ: لِلَّهِ عَلَيَّ... وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ نَذَرَ عُمَرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ووفى بِهِ بعد إِسْلَامِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلْيُوفُوا- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا- مُضَارِعِ أَوْفَى، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَلْيُوفُوا- بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ كِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ مِنْ فِعْلِ وَفَى الْمَزِيدِ فِيهِ بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّضْعِيفِ.
وَخُتِمَ خِطَابُ إِبْرَاهِيمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ آخِرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْإِسْلَامِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.
وَالْعَتِيقُ: الْمُحَرَّرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لِلنَّاسِ. شُبِّهَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقِ فِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُونَ حَتَّى جَعَلُوا بَابَهُ مُرْتَفِعًا بِدُونِ دَرَجٍ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ إِلَّا مَنْ شَاءُوا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ»
. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ حِكَايَةٌ عَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهَا أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالْهَدَايَا فِي الْإِسْلَامِ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا بِ يَخافُونَ، أَيْ كَانَ خَوْفُهُمْ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ.
وَالزِّيَادَةُ: مِنْ فَضْلِهِ هِيَ زِيَادَةُ أَجْرِ الرُّهْبَانِ إِنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَمَا تَبْلُغُهُمْ دَعْوَتُهُ لِمَا
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ لَهُمْ أَجْرَيْنَ»
، أَوْ هِيَ زِيَادَةُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ مَسَاجِدَ الْإِسْلَامِ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ حَصَلَ التَّذْيِيلُ لِمَا فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ وَهُمْ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُمُ الزِّيَادَةَ.
وَالْحِسَابُ هُنَا بِمَعْنَى التَّحْدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٧]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: ٣٦] فَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْيِينِ وَالْإِعْدَادِ للاهتمام بهم.
[٣٩]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [النُّور: ٣٦- ٣٨] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضِدِّهِ مِنْ حَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ الَّتِي يَحْسُبُونَهَا قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هِيَ بِمُغْنِيَةٍ عَنْهُمْ شَيْئًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ، وَعَكْسِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمرَان: ١٩٧، ١٩٨] إِلَخْ فَعَطْفُ حَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَلَعَلَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
وَمِنْ فَقَرَاتِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْخَطِيبِ الْأَنْدَلُسِيِّ (١) : فَأَخْبَارُ الْأَقْطَارِ مِمَّا تُنْفِقُ فِيهِ الْمُلُوكُ أَسْمَارَهَا، وَتُرَقِّمُ بِبَدِيعِ هَالَاتِهِ أَقْمَارَهَا، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ حُسْنَ السِّيَرِ، وَالْأَمْنَ مِنَ الْغِيَرِ، فَتَسْتَعِينُ عَلَى الدَّهْرِ بِالتَّجَارِبِ.. وَتَسْتَدِلُّ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ اه.
وَالْإِحَاطَةُ: الِاشْتِمَالُ عَلَى الشَّيْءِ وَجَعْلُهُ فِي حَوْزَةِ الْمُحِيطِ. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِاسْتِيعَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: ٦٨] فَمَا صدق بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ مَعْلُومَاتٌ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ.
وسَبَإٍ: بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَقَدْ يُخَفَّفُ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ عَبَّشَمْسُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ ابْن قَحْطَانَ. لُقِّبَ بِسَبَأٍ. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَى فِي غَزْوِهِ. وَكَانَ الْهَمْزُ فِيهِ لِتَغْيِيرِهِ الْعِلْمِيَّةَ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَهُوَ جَدُّ جِذِمَ عَظِيمٍ مِنْ أَجْذَامِ الْعَرَبِ. وَذُرِّيَّتُهُ كَانُوا بِالْيَمَنِ ثُمَّ
تَفَرَّقُوا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَأُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ هُنَا عَلَى دِيَارِهِمْ لِأَنَّ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْأَمْكِنَةِ غَالِبًا.
فَاسْمُ سَبَإٍ غَلَبَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْمُتَنَاسِلَةِ مِنْ سَبَأٍ الْمَذْكُورِ وَهُمْ مِنَ الْجِذْمِ الْقَحْطَانِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَيْ الَّذين لم ينشأوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُمْ نَزَحُوا مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ نَازِحٍ مِنْهُمْ هُوَ يَعْرُبُ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الرَّاءِ) بن قَحْطَانَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ يَقْطَانَ) بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخَشْدَ (وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ أَرْفَكْشَادَ) بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
وَهَذَا النَّسَبُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ سَامٍ إِلَى عَابِرٍ، فَمِنْ عَابِرٍ يَفْتَرِقُ نَسَبُ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنْ نَسَبِ الْعِبْرَانِيِّينَ فَأَمَّا أَهْلُ أَنْسَابِ الْعَرَبِ فَيَجْعَلُونَ لِعَابِرٍ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ قَحْطَانُ وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالْغُ). وَأَمَّا سِفْرُ التَّكْوِينِ فَيَجْعَلُ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْمُهُ (يَقْطُنُ) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ قَحْطَانُ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ (فَالِجُ) بِفَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَجِيمٍ فِي آخِرِهِ، فَوَقَعَ تَغْيِيرٌ فِي بَعْضِ حُرُوفِ الِاسْمَيْنِ لِاخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ.
وَلَمَّا انْتَقَلَ يَعْرُبُ سَكَنَ جَنُوبَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ (الْيَمَنَ) فَاسْتَقَرَّ بِمَوْضِعٍ بَنَى فِيهِ مَدِينَةَ ظَفَارِ (بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ) فَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ
_________
(١) فِي رِسَالَة من مراسلاته فِي كتاب «ريحَان الكتّاب».
فَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ فَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي تَحَدَّاهُمْ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ فَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْهَا وَاتَّبَعَهُ هَامَانُ وَقَوْمُهُ. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لِقَارُونَ فَنَهْيُهُ عَنِ الْبَطَرِ.
وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا عَنْ عِنَادٍ وَكِبْرِيَاءَ لَا عَنْ جَهْلٍ وَغُلَوَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: ٢٣] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ لَا يُظَنُّ أَنَّ فِطْنَتَهُمْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِمْ إِلَى تَحَقُّقِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقٌ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ حَقٌّ وَلَكِنْ غَلَبَتِ الْأَنَفَةُ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: ٣٨].
وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:
٣٨].
وَتَعْلِيقُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ ب فَاسْتَكْبَرُوا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اسْتِكْبَارَ كُلٍّ مِنْهُمْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، فيومىء ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي الْأَرْضِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ هُوَ أَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ مُبَالَغَةً فِي انْتِشَارِ اسْتِكْبَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَعُمُّ الدُّنْيَا كُلَّهَا.
وَمَعْنَى السَّبْقِ فِي قَوْلِهِ وَما كانُوا سابِقِينَ الِانْفِلَاتُ مِنْ تَصْرِيفِ الْحُكْمِ فِيهِمْ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٩]، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفِدْهُمِ اسْتِكْبَارُهُمْ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ الْكَوْنِ بَعْدَ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ مَا حَسَبُوهُ نَتِيجَةَ اسْتِكْبَارِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمْ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِمْ. وَمَثَلُ هَذَا الْحَالِ مَثَلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ وَجَدَهُ مُحْتَضَرًا: أَنْتَ أَبُو جَهِلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ لَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي (أَيْ زَرَّاعٍ يَعْنِي رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ أَهْلُ حرث وَزرع).
وَيَدْعُوهُ بِهِ، فَإِنَّ عِلْمَ أَسْمَائِهِ مِنَ الْإِيمَانِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِي خَمْسَةُ
أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ»

تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ أَنْهَى أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ أَسْمَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ وَأَنْهَاهَا السُّيُوطِيُّ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: أَسْمَاءُ النَّبِيءِ أَلْفَا اسْمٍ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥].
وَالْأَمْرُ لِلنَّبِيءِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَوْطِئَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِيَحْصُلَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرُ تَقْوَاهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى لَا تُطِعِ مُرَادِفُ مَعْنَى: لَا تَتَّقِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَقْوَى فَصَارَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ مُفِيدًا مَعْنَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لَا تَتَّقِ إِلَّا اللَّهَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ وَهِيَ أَشْهَرُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَأَوْجَزُ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَتَيْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لِقَصْدِ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ أُرِيدَ بِهِ أَنْ لَا يُطِيعَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: لَا تَتَّقِ إِلَّا اللَّهَ لَمَا أَصَاخَتْ إِلَيْهِ الْأَسْمَاعُ إِصَاخَةً خَاصَّةً لِأَنَّ تَقْوَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، فَسَلَكَ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ لِهَذَا، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
فَجَاءَ بِجُمْلَتَيْ إِثْبَات السيلان يُقيد وَنَفْيِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ سَيَلَانَ دِمَائِهِمْ عَلَى السُّيُوفِ وَلَكِنَّهُمْ لَا تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ عَلَى غَيْرِ السُّيُوفِ.
فَإِنَّ أَصْلَ صِيغَةِ الْقَصْرِ أَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ جُمْلَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَتَكْمِلَةٍ لِلَّتِي قَبْلَهَا عُطِفَتْ عَلَيْهَا لِاتِّحَادِ الْغَرَضِ مِنْهُمَا. وَقَدْ تَعَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ اتَّقِ اللَّهَ وَالنَّهْيَ فِي قَوْلِهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ مُسْتَعْمَلَانِ فِي طَلَبِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ مُلَازِمٌ لَهُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ تَشْرِيعًا عَظِيمًا سَيُلْقَى إِلَيْهِ لَا يَخْلُو مَنْ حَرَجٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَعَلَى بَعْضِ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى مَطَاعِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ التَّشْهِيرُ لَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ أَقْوَالَهُمْ لِيَيْأَسُوا
مِنْهُ ابْتِدَاءً مِنَ الِاثْنَيْنِ بِصِيغَةِ مَثْنَى ثُمَّ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ ثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَادَّةَ الْأَرْبَعَةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَالْمَعْنَى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ الَخْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٦].
وَالْكَلَامُ عَلَى أُولِي تَقَدَّمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو أَجْنِحَةٍ بَعْضُهَا مُصَفَّفَةٌ جَنَاحَيْنِ جَنَاحَيْنِ فِي الصَّفِّ، وَبَعْضُهَا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهَا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَذَلِكَ قَدْ تَتَعَدَّدُ صُفُوفُهُ فَتَبْلُغُ أَعْدَادًا كَثِيرَةً فَلَا يُنَافِي هَذَا مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ»
. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَعْدَادُ الْأَجْنِحَةِ مُتَغَيِّرَةً لِكُلِّ مَلَكٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَغَيِّرَةٍ عَلَى حَسَبِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِاخْتِرَاقِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجْنِحَةَ لِلْمَلَائِكَةِ
مِنْ أَحْوَالِ التَّشَكُّلِ الَّذِي يَتَشَكَّلُونَ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ إِنَّ لَهُ لَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ وَإِنَّ الْعَرْشَ لَعَلَى كَاهِلِهِ»
. وَاعْلَمْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ تَتَحَصَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ سَعْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» «إِنَّهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلَاتِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، شَأْنُهُمُ الْخَيْرُ وَالطَّاعَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمَسْكَنُهُمُ السَّمَاوَاتُ، وَقَالَ: هَذَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ». اهـ. وَمَعْنَى الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْجَوْهَرِ لَا الْعَرَضِ وَأَنَّهَا جَوَاهِرُ مِمَّا يُسَمَّى عِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِالْمُجَرَّدَاتِ.
وَعِنْدِي: أَنَّ تَعْرِيفَ صَاحِبِ «الْمَقَاصِدِ» لِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا يَخْلُو عَنْ تَخْلِيطٍ فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ خَلَطَ فِي التَّعْرِيفِ بَيْنَ الذَّاتِيَّاتِ وَالْعَرَضِيَّاتِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ أَنْ يُقَالَ: أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أَخْيَارٌ ذَوُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْعِلْمُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ، وَمَقَرُّهُمُ السَّمَاوَاتُ مَا لَمْ يُرْسَلُوا إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْأَرْضِ.
وَهَذَا التَّشَكُّلُ انْكِمَاشٌ وَتَقَبُّضٌ فِي ذَرَّاتِ نَوْرَانِيَّتِهِمْ وَإِعْطَاءُ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْجُسْمَانِيَّاتِ الْكَثِيفَةِ لِذَوَاتِهِمْ. دَلَّ عَلَى تَشَكُّلِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ
بِالدَّلَالَةِ، وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ فَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ أُولِي النِّعْمَةِ وَفَرِيقِ الصَّالِحِينَ أُولِي الْبُؤْسِ، وَعَنْ حَالَةٍ دُونَ ذَلِكَ وَهِيَ فَرِيقُ الْمُفْسِدِينَ أَصْحَابِ الْبُؤْسِ وَالْخَصَاصَةِ وَفَرِيقُ الصَّالِحِينَ أُولِي النِّعْمَةِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَرْعِي خَاطِرَ النَّاظِرِ.
وأَمْ الثَّانِيَةُ مُنْقَطِعَةٌ أَيْضًا وَمَفَادُهَا إِضْرَابُ انْتِقَالٍ ثَانٍ لِلِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ بمراعاة الْحق وانتفاع الْبَاطِلِ فِي الْخَلْقِ تَقْتَضِي الْجَزَاءَ وَالْبَعْثَ لِأَجْلِهِ.
وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ الثَّانِيَةُ: الْإِنْكَارُ كَالَّذِي اقْتَضَتْهُ أَمْ الْأُولَى.
وَهَذَا الِارْتِقَاءُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِأَنَّ ظَنَّهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُسَاوِينَ لِلْفُجَّارِ فِي أَحْوَالِ وُجُودِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَقْرِيرُهِ مِثْلَ مَا قَرَّرَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ.
وَالْمُتَّقُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَانَتِ التَّقْوَى شِعَارَهُمْ. وَالتَّقْوَى: مُلَازَمَةُ اتِّبَاعِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْفُجَّارُ: الَّذِينَ شِعَارُهُمُ الْفُجُورُ، وَهُوَ أَشَدُّ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْكُفْرُ وَأَعْمَالُهُ الَّتِي لَا تُرَاقِبُ أَصْحَابُهَا التَّقْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:
٤٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً إِلَى قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: ٤، ٥].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِطْنَابِ زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ وَالتَّفْظِيعِ عَلَى الَّذِينَ ظَنُّوا ظَنًّا يُفْضِي إِلَى
أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَيْئًا مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا فَإِنَّ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَلَالَةِ الْأَضْعَفِ إِلَى دَلَالَةِ الْأَقْوَى وَفِي تَكْرِيرِ أَدَاةِ الْإِنْكَارِ شَأْنًا عَظِيمًا مِنْ فَضْحِ أَمر الضَّالّين.
تَعْيِينِ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ (أَيِ الْجُمُعَةُ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ خَلْقِهِ هُوَ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ»
. وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ حَدَّثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ سَنَدِهِ فَظَنَّهُ مَرْفُوعًا.
وَلِهَذِهِ تَفْصِيلَاتٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا طَائِلٌ وَإِنَّمَا ألممنا بهَا هُنَا لِئَلَّا يَعْرُوَ التَّفْسِيرُ عَنْهَا فَيَقَعَ مَنْ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ فِي حَيْرَةٍ وَإِنَّمَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
وَأَوْحى عَطْفٌ عَلَى فَقَضاهُنَّ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، وَيُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ مَنْ يُرَادُ حُصُولُهَا عِنْدَهُ دُونَ قَوْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّاءَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ [مَرْيَم: ١١] أَيْ أَوْمَأَ إِلَيْهِم بِمَا يدل عَلَى مَعْنَى: سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَول أبي دؤاد:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَى إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا تَتَطَلَّبُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهَا كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٦٨] أَيْ جَبَلِهَا عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَتَطَلُّبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ لِقَبُولِ أَثَرِ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥].
وَالْوَحْيُ فِي السَّمَاءِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، فَهُوَ أَوْحَى فِي السَّمَاوَاتِ بِتَقَادِيرِ نُظُمِ جَاذِبِيَّتِهَا، وَتَقَادِيرِ سَيْرِ
طُرُوِّ الِاخْتِلَافِ
بَيْنَ أَتْبَاعِهِ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ حَدَثَ عَقِبَ بَعْثَةِ عِيسَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا زَمَانٌ طَوِيلٌ دَبَّتْ فِيهِ بِدْعَتُهُمْ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ شَائِعٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ مَانِعَةً مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَجْمَلُ هُنَا وَوَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ عِيسَى، وَآيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا أَحْدَثَهُ النَّصَارَى فِي دِينِ عِيسَى مِنْ زَعْمِ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِهِمْ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِ (اخْتَلَفَ) أَيْ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ مِنْ بَيْنِهِمْ دُونَ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، أَيْ كَانَ دِينُهُمْ سَالِمًا فَنَشَأَ فِيهِمْ الِاخْتِلَافُ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِأَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى إِذِ اخْتَلَفُوا فِرَقًا وَابْتَدَعُوا قَضِيَّةَ بُنُوَّةِ عِيسَى مِنَ اللَّهِ فَتَكُونُ الْفَاءُ خَالِصَةً لِلتَّعْقِيبِ الْمَجَازِيِّ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ تَهْدِيدٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيعُ التَّذْيِيلِ عَلَى الْمُذَيَّلِ، فَالَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْمَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَهَذَا إِطْلَاقُ الظُّلْمِ غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ أَفْضَى بِهِمْ أَنْ صَارَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُزُومِ مُنَاسَبَةِ التَّذْيِيلِ لِلْمُذَيَّلِ، بِأَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ يَعُمُّ الْمُذَيَّلَ وَغَيْرَهُ فَيَشْمَلُ عُمُومُ هَذَا التَّذْيِيلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٧] قَوْلُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَجُعِلَتِ الصِّلَةُ فِعْلَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّصَارَى وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مَرْيَم: ٣٨] لَمَّا أُرِيدَ التَّخَلُّصُ إِلَى إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إنذار النَّصَارَى.
فِي النَّاسِ بِالْجُودِ أَوْ بِاللُّؤْمِ. وَالْمَعْنَى: بِئْسَ الذِّكْرُ أَنْ يُذَكَرَ أَحَدٌ بِالْفُسُوقِ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِالْإِيمَانِ.
وَإِيثَارُ لَفْظِ الِاسْمِ هُنَا مِنَ الرَّشَاقَةِ بِمَكَانٍ لِأَنَّ السِّيَاقَ تَحْذِيرٌ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ بِالْأَسْمَاءِ الذَّمِيمَةِ إِذِ الْأَلْقَابُ أَسْمَاءٌ فَكَانَ اخْتِيَارُ لَفْظِ الِاسْمِ لِلْفُسُوقِ مُشَاكَلَةً مَعْنَوِيَّةً.
وَمَعْنَى الْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الْإِيمانِ: بَعْدَ الِاتِّصَافِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنَاسِبُهُ الْفُسُوقُ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَزَعُهُمْ عَنِ الْفُسُوقِ وَازِعٌ، وَهَذَا كَقَوْلِ جَمِيلَةَ بِنْتِ أُبَيٍّ حِينَ شكت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَكْرَهُ زَوْجَهَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَجَاءَتْ تَطْلُبُ فِرَاقَهُ: «لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا فِي خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ- تُرِيدُ التَّعْرِيضَ بِخَشْيَةِ الزِّنَا- وَإِنِّي لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا».
وَإِذْ كَانَ كُلٌّ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ مَعَاصِيَ فَقَدْ وَجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنْهَا فَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ ظَالِمٌ: لِأَنَّهُ ظَلَمَ النَّاسَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ رَضِيَ لَهَا عِقَابَ الْآخِرَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ ظُلْمُهُ شَدِيدًا جِدًّا. فَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِصِيغَةِ قَصْرِ الظَّالِمِينَ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُ لَا ظَالِمَ غَيْرُهُمْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالظَّالِمِينَ الْآخَرِينَ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِيَزْدَجِرُوا. وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَهَذِهِ الذُّنُوبُ الْمَذْكُورَةُ مَرَاتِبُ وَإِدْمَانُ الصَّغَائِرِ كَبِيرَةٌ.
وَتَوْسِيطُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ تَفْظِيعًا لِحَالِهِمْ وَلِلتَّنْبِيهِ، بَلْ إِنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا قَصْرَ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
[١٢]
[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ١٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
أُعِيدَ النِّدَاءُ خَامِسَ مَرَّةٍ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ هَذَا النِّدَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ السَّيِّئَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ عُومِلَ بِهَا فَلَا يَدْفَعُهَا فَمَا يُزِيلُهَا مِنْ نَفْسِ مَنْ عَامَلَهُ بِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ كَانَتْ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ:
مِنْهُمَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْ نَفْسِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٩]، أَيْ يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ بِسَبَبِهِمَا، أَيْ بِسَبَبِ مَجْمُوعِهِمَا. أَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَأَجْوَدُهُ مَا كَانَ فِي مَصَبِّ الْفُرَاتِ عَلَى خَلِيجِ فَارِسَ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ: لَمَّا كَانَ الْمَاءُ الْعَذْبُ كَاللِّقَاحِ لِلْمَاءِ الْمِلْحِ فِي إِخْرَاجِ اللُّؤْلُؤِ، قِيلَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا كَمَا يُقَالُ: يَتَخَلَّقُ الْوَلَدُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَكَوُّنِ اللُّؤْلُؤِ فِي الْبِحَارِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ.
وَقَالَ الزُّجَاجُ: قَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُمَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: ١٥، ١٦]، وَالْقَمَر فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] أَيْ مِنْ إِحْدَاهُمَا.
والْمَرْجانُ: حَيَوَانٌ بَحَرِيٌّ ذُو أَصَابِعَ دَقِيقَةٍ يَنْشَأُ لَيِّنًا ثُمَّ يَتَحَجَّرُ وَيَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ الْحُمْرَةِ وَيَتَصَلَّبُ كُلَّمَا طَالَ مُكْثُهُ فِي الْبَحْرِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُ كَالْعُرُوقِ تُتَّخَذُ مِنْهُ حِلْيَةٌ وَيُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ (بِسَذْ). وَقَدْ تَتَفَاوَتُ الْبِحَارُ فِي الْجَيِّدِ مِنْ مَرْجَانِهَا. وَيُوجَدُ بِبَحْرِ طَبَرْقَةَ عَلَى الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ فِي شَمَالِ الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ.
والْمَرْجانُ: لَا يَخْرُجُ مِنْ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ بَلْ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ.
وَقِيلَ: الْمَرْجَانُ اسْمٌ لِصِغَارِ الدُّرِّ، وَاللُّؤْلُؤُ كِبَارُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ يَخْرُجُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّهُمَا إِذَا أَخْرَجَهُمَا الْغَوَّاصُونَ فَقَدْ خَرَجَا.
وَبَيْنَ قَوْله: مَرَجَ [الرَّحْمَن: ١٩] وَقَوله: وَالْمَرْجانُ الجناس المذيّل.
[٢٣]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٣]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
تَكْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدّم أَولا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ لِقَصْدِ الْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ الْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَا لَكُمْ كَمَا تَحْسَبُونَ.
وَإِعَادَةُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلِرَسُولِهِ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْهَا لِتَأْكِيدِ عزّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا بِسَبَبِ عِزَّةِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ إِيَّاهُ، وَإِعَادَةُ اللَّامِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا إِذْ قَدْ تَخْفَى عِزَّتُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فِي حَالِ قِلَّةٍ وَحَاجَةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ نَظِيرُ الْقَوْلِ آنِفًا فِي
قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المُنَافِقُونَ: ٧].
وَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَدْ سَبَقَ اسْمُهُمْ فِي نَظِيرِهَا قَبْلَهَا لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِذَاتِهَا فَتَسِيرُ سَيْرَ الْمَثَلِ.
وَإِنَّمَا نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا الْعِلْمُ تَجْهِيلًا بِسُوءِ التَّأَمُّلِ فِي أَمَارَاتِ الظُّهُورِ وَالِانْحِطَاطِ فَلَمْ يَفْطَنُوا لِلْإِقْبَالِ الَّذِي فِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَازْدِيَادِ سُلْطَانِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا وَتَنَاقُصٍ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فَكَيْفَ يَظُنُّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ عِزَّتَهُمْ أَقْوَى مِنْ عِزَّةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ كُلَّمَا غَزَوهُمْ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ فَمَا بعده.
[٩]
[سُورَة المُنَافِقُونَ (٦٣) : آيَة ٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)
انْتِقَالٌ مِنْ كَشْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمَسُوقِ لِلْحَذَرِ مِنْهُمْ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ صِفَاتِهِمْ، إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَشْغَلَ عَنِ التَّذَكُّرِ لِمَا أَمْرَ اللَّهُ وَنَهَى، ثُمَّ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ وَإِسْعَافِ آحَادِهِمْ، لِئَلَّا يَسْتَهْوِيَهُمْ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الْمُنَافِقين: ٧] وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يُدْرَى وَقْتُ حُلُولِهِ حِينَ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ قَدْ تَأَخَّرَ أَجَلُهُ لِيَزِيدَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا يَنْفَعُهُ التَّمَنِّي وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ [المُنَافِقُونَ: ١٠]، فَالْمُنَاسِبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ هُوَ حِكَايَةُ مَقَالِ الْمُنَافِقِينَ وَلِذَلِكَ قدم ذكر الْأَمْوَال عَلَى ذِكْرِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ بِحَسَبِ السِّيَاقِ.
وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ: ٩].
وَانْتَصَبَ رَصَداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ يَسْلُكُ.
وَيَتَعَلَّقُ لِيَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْلُكُ، أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُبَلِّغَ الْغَيْبَ إِلَى الرَّسُولِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يَلْبِسُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغُوا مَا أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا بَعَثَهُ دُونِ تَغْيِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْوَحْيَ مُفَرَّعًا وَمُسَبَّبًا عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، جُعِلَ الْمُسَبَّبَ عِلَّةً وَأُقِيمَ مَقَامَ السَّبَبِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا وَقَعَ، وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ مَنْ هُوَ شُجَاعٌ وَمَنْ هُوَ جَبَانٌ فَأَعْلَمُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنِ اطِّلَاعِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ عَلَى الْغَيْبِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ عِلَلِ الِاطِّلَاعِ فِيهَا.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ رَسُولٍ،
ثُمَّ جِيءَ لَهُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا مُرَاعَاةً لِمَعْنَى رَسُولٍ وَهُوَ الْجِنْسُ، أَيْ الرُّسُلُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقِ آنِفًا فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الْجِنّ:
٢٣].
وَالْمُرَادُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ اللَّهِ وَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمُ الْجَزِيلُ.
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أَنَّ الْغَيْبَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الْغَيْبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ نَفْيُ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ مِنْ عَلَائِقِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ.
وَيَلْحَقُ بِهِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا لِأَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِشَرْعٍ سَابِقٍ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْحَوَارِيِّينَ أَوْ أَنْ يَكُونَ لِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِثْلَ آدَمَ وَأَيُّوبَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنْ يُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ نَقَائِضِ
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ نَعَتَا لِلْعَرْشِ فَوَصْفُ الْعَرْشِ بِالْمَجْدِ كِنَايَةٌ عَنْ مَجْدِ صَاحِبِ الْعَرْشِ.
ثُمَّ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ جَامِعَةٍ لِعَظَمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَعَظَمَةِ نِعَمِهِ بِقَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أَيْ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِفِعْلٍ، فَعَلَهُ عَلَى أَكْمَلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ لَا يَنْقُصُهُ شَيْء وَلَا يبطىء بِهِ مَا أَرَادَ تَعْجِيلَهُ. فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ.
وَالْإِرَادَةُ هُنَا هِيَ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَنَا بِأَنَّهَا صِفَةُ تَخَصُّصِ الْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَهِيَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ مِثْلُ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥].
[١٧، ١٨]
[سُورَة البروج (٨٥) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨)
مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢] فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ بَطْشِهِ تَعَالَى شَدِيدًا بِبَطْشَيْنِ بَطَشَهُمَا بِفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَعْدَ أَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: ١٣] فَذَلِكَ تَعْلِيلٌ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَدَلِيلٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةٍ لِتَهْوِيلِ حَدِيثِ الْجُنُودِ بِأَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ عِلْمِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى إِلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النَّجْم: ٥٠- ٥٥].
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُرَادُ مَوْعِظَتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كِنَايَةً عَنِ التَّذْكِيرِ بِخَبَرِهِمْ لِأَنَّ حَالَ الْمُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ صنيعهم الراكبين رؤوسهم فِي الْعِنَادِ، كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خَبَرَهُمْ فَيُسْأَلُ هَلْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ أَوْ لَا، أَوْ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ.
وَالْإِتْيَانُ: مُسْتَعَارٌ لِبُلُوغِ الْخَبَرِ، وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ.
والْجُنُودِ: جَمْعُ جُنْدٍ وَهُوَ الْعَسْكَرُ الْمُتَجَمِّعُ لِلْقِتَالِ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي


الصفحة التالية
Icon