وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهَا، وَجَعْلِ أَسْمَاعِهِمْ فِي اسْتِكَاكِهَا عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، وَجَعْلِ أَعْيُنِهِمْ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا تَرَى مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ، كَأَنَّهَا مَخْتُومٌ عَلَيْهَا وَمَغْشِيٌّ دُونَهَا إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ عَدَمِ حُصُولِ النَّفْعِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ ثُمَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ خَتَمَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ وَلَفْظِ الْغِشَاوَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَصْلِيَّةِ وَكِلْتَاهُمَا اسْتِعَارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ إِلَّا أَنَّ الْمُشَبَّهَ مُحَقَّقٌ عَقْلًا لَا حِسًّا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَتْمَ وَالْغِشَاوَةَ تَمْثِيلًا بِتَشْبِيهِ هَيْئَةٍ وَهْمِيَّةٍ مُتَخَيَّلَةٍ فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ إِدْرَاكِهِمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى الْكُفْرِ وَإِمْسَاكِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْأَدِلَّةِ- كَمَا تَقَدَّمَ- بِهَيْئَةِ الْخَتْمِ، وَتَشْبِيهِ هَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ فِي أَبْصَارِهِمْ مِنْ عَدَمِ التَّأَمُّلِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ بِهَيْئَةِ الْغِشَاوَةِ وَكُلُّ ذَيْنَكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَتْمَ وَالْغِشَاوَةَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ وَالْمُرَادُ اتِّصَافُهُمْ بِلَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْقِلَ وَلَا تَحُسَّ، وَالْخَتْمُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ اسْتِمْرَارُ الضَّلَالَةِ فِي نَفْسِ الضَّالِّ أَوْ خُلُقُ الضَّلَالَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّبْعُ، وَالْأَكِنَّةُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلُوبِهِمْ فَتَكُونُ الْأَسْمَاعُ مَخْتُومًا عَلَيْهَا وَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِقَوْلِهِ غِشاوَةٌ فَيَكُونُ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغِشَاوَةَ تُنَاسِبُ الْأَبْصَارَ لَا الْأَسْمَاعَ وَلِأَنَّ الْخَتْمَ يُنَاسِبُ الْأَسْمَاعَ كَمَا يُنَاسِبُ الْقُلُوبَ إِذْ كِلَاهُمَا يُشَبَّهُ بِالْوِعَاءِ وَيُتَخَيَّلُ فِيهِ مَعْنَى الْغَلْقِ وَالسَّدِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اسْتَكَّ سَمْعُهُ وَوَقَرَ سَمْعُهُ وَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْقُلُوبِ هُنَا الْأَلْبَابُ وَالْعُقُولُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَلْبَ عَلَى اللُّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، وَلَا يَكَادُونَ يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ وَذَلِكَ غَالِبُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَقَرُّهُ الدِّمَاغُ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يَمُدُّهُ بِالْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا عَمَلُ الْإِدْرَاكِ.
وَإِنَّمَا أَفْرَدَ السَّمْعَ وَلَمْ يَجْمَعْ كَمَا جمع (قُلُوبهم) و (أَبْصَارهم) إِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَى الْجِنْسِ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْآذَانِ سَمْعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَمَعَ لَمَّا ذَكَرَ الْآذَانَ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٩] وَقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] فَلَمَّا عَبَّرَ بِالسَّمْعِ أَفْرَدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِخِلَافِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَإِمَّا لِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ وَعَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ أَوْ
سَمِعَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ وَأُخْبِرَ بِتَمَالُئِهِمْ عَلَيْهِ. «وَمِنْهُم» مُتَعَلق بأحسّ. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ يُفَسِّرُهُ وَصْفُ الْكُفْرِ.
وَطلب النَّصْر الْإِظْهَار الدَّعْوَةِ لِلَّهِ، مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ
«فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وَقَالَ مُوسَى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه: ٢٩] وَقَدْ عَرَضَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَنْصُرُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ.
وَقَوْلُهُ: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ لَعَلَّهُ قَالَهُ فِي مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِبْلَاغًا لِلدَّعْوَةِ، وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ. وَالنَّصْرُ يَشْمَلُ إِعْلَانَ الدِّينِ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ. وَوَصَلَ وصف أَنْصَارِي بإلى إِمَّا عَلَى تَضْمِينِ صِفَةِ أَنْصَارٍ مَعْنَى الضَّمِّ أَيْ مَنْ ضَامُّونَ نَصْرَهُمْ إِيَّايَ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ إِيَّايَ، الَّذِي وَعَدَنِي بِهِ إِذْ لَا بدّ لِحُصُولِ النَّصْرِ مِنْ تَحْصِيلِ سَبَبِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: ٧] عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢] أَي ضامّينها فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ، وَإِمَّا عَلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمَعْنَى فِي حَالِ ذَهَابِي إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى تَبْلِيغِ شَرِيعَتِهِ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْكَوْنُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْمَجْرُورُ هُوَ كَوْنٌ مِنْ أَحْوَالِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ الْحَوَارِيُّونَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ.
وَالْحَوَارِيُّونَ: لَقَبٌ لِأَصْحَابِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلَازَمُوهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنَ النَّبَطِيَّةِ وَمُفْرَدُهُ حَوَارِيٌّ قَالَهُ فِي الْإِتْقَانِ عَنِ ابْنِ حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْغَسَّالُ أَيْ غَسَّالُ الثِّيَابِ.
وَفَسَّرَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ خَاصَّةِ مَنْ يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَرَابَتِهِ.
وَغَلَبَ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيءٍ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ»
. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي احْتِمَالَاتِ اشْتِقَاقِهِ وَاخْتِلَافِ مَعْنَاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْصَاقٌ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي فِيهَا حُرُوفُ الْحَاءِ وَالْوَاوِ وَالرَّاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَذِكْرُ فِي بُطُونِهِمْ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ وَتَرْشِيحٍ لِاسْتِعَارَةِ يَأْكُلُونَ لِمَعْنَى يَأْخُذُونَ وَيَسْتَحْوِذُونَ.
وَالسِّينُ فِي سَيَصْلَوْنَ حَرْفُ تَنْفِيسٍ أَيِ اسْتِقْبَالٍ، أَيْ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فتمحّضه للاستقبال، سوءا كَانَ اسْتِقْبَالًا قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهِيَ مُرَادِفَةُ سَوْفَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَوْفَ أَوْسَعُ زَمَانًا. وَتُفِيدَانِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ وَكَذَلِكَ التَّوَعُّدِ.
وَيَصْلَوْنَ مُضَارِعُ صَلِيَ كَرَضِيَ إِذَا قَاسَى حَرَّ النَّارِ بِشِدَّةٍ، كَمَا هُنَا، يُقَالُ: صَلِيَ بِالنَّارِ، وَيَكْثُرُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ فِعْلِ صَلِيَ وَنُصِبَ الِاسْمُ بَعْدَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:

لَا تَصْطَلِي النَّار إلّا يجمرا أَرِجًا قَدْ كسّرت من يلجوج لَهُ وَقَصَا
وَهُوَ الْوَارِدُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِاطِّرَادٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَصْلَوْنَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ صَلِيَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ- مُضَارِعُ أَصْلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ وَمَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وَالسَّعِيرُ النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ أَيِ الْمُلْتَهِبَةُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، بُنِيَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ مِنَ الْمُضَاعَفِ، كَمَا بُنِيَ السَّمِيعُ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَحْكَمَ.
[١١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
تَتَنَزَّلُ آيَةُ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النِّسَاء: ٧] وَهَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] إِلَخْ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ: يُوصِيكُمُ مَفْصُولَةً لِأَنَّ كِلَا الْمَوْقِعَيْنِ مُقْتَضٍ لِلْفَصْلِ.
بِأَعْمَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
فَالْأَوَّلُونَ بُغْضُهُمْ قَلْبِيٌّ، وَالْآخَرُونَ بُغْضُهُمْ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَل السيّء. وَيُطْلَقُ الْمُقْتَصِدُ عَلَى الْمُعْتَدِلِ فِي الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَصْدِ، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ وَعَدَمُ الْإِفْرَاطِ. وَالْمَعْنَى مُقْتَصِدَةٌ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالتَّنَكُّرِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَة: ٦٨].
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ساءَ فِعْلًا بِمَعْنَى كَانَ سَيِّئًا، وَمَا يَعْمَلُونَ فَاعِلُهُ، كَمَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِمَعْنَى بِئْسَ، فَقَدَّرَ قَوْلًا مَحْذُوفًا لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِ عَدَمِ صِحَّةِ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ مَحَلُّ جِدَالٍ، وَيَكُونُ مَا يَعْمَلُونَ مَخْصُوصًا بِالذَّمِّ، وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَى إِنْشَاءِ الذَّمِّ أَبْلَغَ فِي ذَمِّهِمْ، أَيْ يَقُولُ فِيهِمْ ذَلِكَ كل قَائِل.
[٦٧]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٦٧]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
إِنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، فَإِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ السُّورِ نُزُولًا إِنْ لَمْ تَكُنْ آخِرَهَا نُزُولًا، وَقَدْ بَلَّغَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيعَةَ وَجَمِيعَ مَا أنزل إِلَيْهِ إِلَى يَوْمَ نُزُولِهَا، فَلَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ لَقُلْنَا هِيَ تَثْبِيتٌ لِلرَّسُولِ وَتَخْفِيفٌ لِأَعْبَاءِ الْوَحْيِ عَنْهُ، كَمَا أُنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجرات: ٩٤، ٩٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- إِلَى قَوْلِهِ- وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ٥- ١٠] الْآيَاتِ، فَأَمَّا وَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ آخِرِ السُّوَرِ نُزُولًا وَقَدْ أَدَّى رَسُولُ اللَّهِ الرِّسَالَةَ وَأَكْمَلَ الدِّينَ فَلَيْسَ فِي الْحَالِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمَرَ بِتَبْلِيغٍ، فَنَحْنُ إِذَنْ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ:
عَلَى أَهْلِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكُونُ إِشَارَةُ هؤُلاءِ رَاجِعَةً إِلَى عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ إِعْطَاءَ الْمَالِ وَحُسْنَ حَالِ الْعَيْشِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَيُّرِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا مَا عُرِفُوا بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ الْفُتُونُ الْوَاقِعُ لِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فُتُونُ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِيَاءِ حِينَ تَرَفَّعُوا عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَبِيدُ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِهِ اسْتِكْبَارًا عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ، كَذَلِكَ كَانَ فُتُونُ بَعْضٍ آخَرَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُشَاهِدُونَ طِيبَ عَيْشِ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِشْرَاكِهِمْ بِرَبِّهِمْ فَيَعْجَبُونَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ بِالرِّزْقِ الْوَاسِعِ عَلَى مَنْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَلَمْ يَمُنَّ بِذَلِكَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ أَوْلَى بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ أَعْرَضَ الْقُرْآنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِفَسَادِ هَذَا الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ سَمَّاهُ فِتْنَةً، فَعُلِمَ أَنَّهُ خَاطِرٌ غَيْرُ حَقٍّ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ مُشِيرٌ إِلَى إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ خَلَطَتْ أَمْرَ شَيْئَيْنِ مُتَفَارِقَيْنِ فِي الْأَسْبَابِ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ فِي الْآخِرَةِ، الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ الْمَجْعُولِ عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالتِّجَارَةِ وَالْغَزْوِ وَالْإِرْثِ وَالْهِبَاتِ. فَالرِّزْقُ الدُّنْيَوِيُّ لَا تَسَبُّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ مُسَبِّبَاتِ الْأَحْوَالِ الْمَادِّيَّةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَزَاءَ شُكْرِهِمْ، وَأَعْلَمُ بِأَسْبَابِ رِزْقِ الْمَرْزُوقِينَ الْمَحْظُوظِينَ. فَالتَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنْ ضَعْفِ الْفِكْرِ الْعَارِضِ لِلْخَوَاطِرِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنَّاشِئِ عَنْ سُوءِ النَّظَرِ وَتَرْكِ التَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ
وَفِي الْعِلَلِ وَمَعْلُولَاتِهَا. وَكَثِيرًا مَا عَرَضَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شُبَهٌ وَأَغْلَاطٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرَفَتْهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَظَانِّهَا وَقَعَدَتْ بِهِمْ عَنْ رَفْوِ أَخَلَّالِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ غَرَّتْهُمْ بِالتَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَبَيْنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا عَرَضَ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مِنْ حَيْرَةِ الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ:
كَمْ عَالِمٍ عَالِمٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا

وَقَدِ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْقِصَرِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِلْ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَلَمْ تَزِدْهُ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْقُضُهُ الْإِخْلَالُ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٤] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ الْإِيمَانِ الَّذِي عُدِمَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ،
وَهُوَ قَصْرٌ مَجَازِيٌّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الْجَانِبُ الْمَنْفِيُّ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ بِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَطُوِيَ ذِكْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ وَهُوَ حَصْرُ الْإِيمَانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُشبه بِهِ، ويئول هَذَا إِلَى مَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الْإِيمَانِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُبَالَغَةً، وَحَرْفُ (الْ) فِيهِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِالدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] بِأَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَلْ يُمْتَرَى فِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيُجَابُوا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهُمْ إِلَى الِاتِّسَامِ بِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَوَانِعِ زِيَادَتِهِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاحْتِمَالَانِ غَيْرَ مُتَنَافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الْآيَةِ إِيَّاهُمَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ فَإِنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَصح كَونه استينافا بَيَانِيًّا.
وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الرَّبْطِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءِ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْبَلَاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَوْقِعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا اعْتِبَارَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَيْسَتْ كَيْفِيَّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ.
وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُ إِيمَانُهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَحَقُّقَهَا فِيهِ أَوْ عَدَمَهُ مِنْ عَرْضِ نَفْسِهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ وَارِدًا
وَالنِّسْيَانُ مِنْهُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، أَوْ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، لِأَنَّ الْإِهْمَالَ وَالْإِعْرَاضَ يُشْبِهُ نِسْيَانَ الْمُعْرَضِ عَنْهُ.
وَنِسْيَانُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُشَاكَلَةٌ أَيْ حِرْمَانُهُ إِيَّاهُمْ مِمَّا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ النِّسْيَانَ عِنْدَ قِسْمَةِ الْحُظُوظِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ فَذْلَكَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا كَالْبَيَانِ الْجَامِعِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَلَغُوا النِّهَايَةَ فِي الْفُسُوقِ جُعِلَ غَيْرُهُمْ كَمَنْ لَيْسَ بِفَاسِقٍ.
وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِمْ فِي الذِّهْنِ لِهَذَا الْحُكْمِ. وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً حَتَّى تكون كالمثل.
[٦٨]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٦٨]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِمَّا اسْتِئْنَاف بياني ناشيء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التَّوْبَة:
٦٧]، وَإِمَّا مُبَيِّنَةٌ لجملة فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَة: ٦٧] لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي جَهَنَّمَ وَاللَّعْنَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ نِسْيَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
وَالْوَعْدُ أَعَمُّ مِنَ الْوَعِيدِ، فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْتِزَامِ الْمُخْبِرِ لِلْمُخْبَرِ بِشَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَافِعٍ أَوْ ضَارٍّ أَوْ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضُرَّ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢]. وَالْوَعِيدُ خَاصٌّ بِالضَّارِّ.
وَفَعَلُ الْمُضِيِّ هُنَا: إِمَّا لِلْإِخْبَارِ عَنْ وَعِيدٍ تَقَدَّمَ وَعَدَهُ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ تَذْكِيرًا بِهِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِهِ وَإِمَّا لِصَوْغِ الْوَعِيدِ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي تَنْشَأُ بِهَا الْعُقُودُ مِثْلَ (بِعْتُ وَوَهَبْتُ) إِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعِيدٌ لَا يَتَخَلَّفُ مِثْلَ الْعَقْدِ وَالِالْتِزَامِ.
إِظْهَارُ بُطْلَانِهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْرِيرِ شُبْهَةِ الْمُلْحِدِ مِمَّنْ يَتَصَدَّى لِإِبْطَالِهَا بَعْدَ تَقْرِيرِهَا مِثْلُ طَرِيقَةِ عَضُدِ الدِّينِ الْأَيْجِي فِي كِتَابِهِ «الْمَوَاقِفِ».
وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ صُورَةِ سِحْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ إِصْرَارِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَمَا لَقِيَهُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنِ اعْتِلَاءِ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مَعَهُ، وَكَيْفَ كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى وَلِمَنْ كَفَرُوا عَاقِبَةُ السُّوءِ، لِيَكُونُوا مَثَلًا لِلْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجُ بِالذِّكْرِ إِلَّا عَلَى مَقَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ رَأَى سِحْرَهُمُ الدَّالَّةِ عَلَى يَقِينِهِ بِرَبِّهِ وَوَعْدِهِ، وَبِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْحَقِّ. وَذَلِكَ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ ذِكْرِ انْدِحَاضِ سِحْرِهِمْ تِجَاهَ مُعْجِزَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولَ أَلْقُوا لِتَنْزِيلِ فِعْلِ أَلْقُوا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِ مَفْعُولِهِ.
وَمَعْنَى جِئْتُمْ بِهِ أَظْهَرْتُمُوهُ لَنَا، فَالْمَجِيءُ قَدِ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ، لِأَنَّ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُظْهِرُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَهُ، فَالْمُلَازَمَةُ عُرْفِيَّةٌ. وَلَيْسَ المُرَاد أَنهم جاؤوا مِنْ بِقَاعٍ أُخْرَى مُصَاحِبِينَ لِلسِّحْرِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ كُلُّهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ مُدُنٍ عَدِيدَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَا يُعَبَّرُ فِيهِ بِنَحْوِ: جَاءَ بِكَذَا، فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَقَامَ فِي نَحْو وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يُوسُف: ١٨] لَا يَسْتَقِيمُ فِي نَحْوِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النُّور: ١١].
وَنَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ بِجَعْلِ مَا جِئْتُمْ مُسْنَدًا إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا لِفِعْلِ سَيُبْطِلُهُ، وَبِجَعْلِهِ اسْمًا مُبْهَمًا، ثُمَّ تَفْسِيرِهِ بِجُمْلَةِ جِئْتُمْ بِهِ ثُمَّ بَيَانِهِ بِعَطْفِ الْبَيَانِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ، وَهُوَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ثُمَّ مَجِيءُ ضَمِيرِ السِّحْرِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ سَيُبْطِلُهُ، كُلُّ ذَلِكَ إِطْنَابٌ وَتَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِيَتَقَرَّرَ الْإِخْبَارُ بِثُبُوتِ حَقِيقَةٍ فِي السِّحْرِ لَهُ وَيَتَمَكَّنُ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ فَضْلُ تَمَكُّنٍ وَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي نُفُوسِهِمْ.
يُوشِكُ أَنْ يُلَابِسَ شَيْئًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْعِصْمَةِ بِالصَّرْفِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ حُصُولِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمَا عَنْهُ.
وَالسُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَهُوَ خِيَانَةُ مَنِ ائْتَمَنَهُ. وَالْفَحْشَاءُ: الْمعْصِيَة، وَهِي الزِّنَى. وَتَقَدَّمَ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩]. وَمَعْنَى صَرَفَهُمَا عَنْهُ صَرَفَ مُلَابَسَتَهُ إِيَّاهُمَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تَعْلِيلٌ لِحِكْمَةِ صَرْفِهِ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الصَّرْفَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لِئَلَّا يُنْتَقَصَ اصْطَفَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.
قَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ الْمُخْلَصِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى مَعْنَى الْمُخْلِصِينَ دِينَهُمْ لِلَّهِ. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَالِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى تَكَلُّفِهِمَا السَّبْقُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحَاوِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْبَابِ.
وَانْتَصَبَ الْبابَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَأَصْلُهُ: وَاسْتَبَقَا إِلَى الْبَابِ، مِثْلَ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٥٥]، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقَا مَعْنَى ابْتَدَرَا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْبَابَ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ إِذْ كَانَتْ عِدَّةَ أَبْوَابٍ مُغْلَقَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَرَّ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِلَى الْبَابِ يُرِيدُ فَتْحَهُ وَالْخُرُوجَ وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَهُ إِلَى الْبَابِ لِتَمْنَعَهُ مِنْ فَتْحِهِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وقَدَّتْ أَيْ قَطَعَتْ، أَيْ قَطَعَتْ مِنْهُ قَدًّا، وَذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِبَاقِ لَا مَحَالَةَ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْزِيقُ الْقَمِيصِ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهَا رَاوَدَتْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ التَّمْزِيقُ فِي حَالِ الِاسْتِبَاقِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَبَقَهَا مُسْرِعًا إِلَى الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْهُ مِنْ قَمِيصِهِ حِينَ أَعْرَضَ عَنْهَا تُرِيدُ
وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمُوا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا اللَّهُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَيْ مَقْصُورٌ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ. وَهَذَا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَجَاوَزُ تِلْكَ الصِّفَةَ إِلَى صِفَةِ التَّعَدُّدِ بِالْكَثْرَةِ أَوِ التَّثْلِيثِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [سُورَة النِّسَاء: ١٧١].
وَالتَّذَكُّرُ: النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ بِذَوِي الْأَلْبَابِ تَنْزِيلًا لِغَيْرِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٤٤].
وَقَدْ رُتِّبَتْ صِفَاتُ الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى تَرْتِيبٍ عَقْلِيٍّ بِحَسْبِ حُصُولِ بَعْضِهَا عَقِبَ بَعْضٍ، فَابْتُدِئَ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ حُصُولُ التَّبْلِيغِ. ثُمَّ مَا يَعْقُبُ حُصُولُ التَّبْلِيغِ مِنَ الْإِنْذَارِ ثُمَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِمَا فِي خِلَالِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ. ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ فِي مَا جَاءَ بِهِ ذَلِكَ الْبَلَاغُ وَهُوَ تَفَاصِيلُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ هِيَ جَامع حِكْمَة مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَزَّعَةً عَلَى مَنْ بَلَّغَ إِلَيْهِمْ. وَيَخْتَصُّ الْمُسْلِمُونَ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
بِالْعَدْلِ فِي ذَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩١]، وَمَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ مُعَامَلَةٌ مَعَ خَالِقِهِ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِهِ وَبِأَدَاءِ حُقُوقِهِ وَمُعَامَلَةٌ مَعَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ أَصُولُ الْمُعَاشَرَةِ الْعَائِلِيَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
[سُورَة الْأَنْعَام: ١٥٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٨].
وَمِنْ هَذَا تَفَرَّعَتْ شُعَبُ نِظَامِ الْمُعَامَلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ آدَابٍ، وَحُقُوقٍ وَأَقْضِيَةٍ، وَشَهَادَاتٍ، وَمُعَامَلَةٍ مَعَ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سُورَة الْمَائِدَة: ٨].
وَمَرْجِعُ تَفَاصِيلِ الْعَدْلِ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. فَالْعَدْلُ هُنَا كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ جَامِعَةٌ فَهِيَ بِإِجْمَالِهَا مُنَاسبَة إِلَى أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَيُصَارُ فِيهَا إِلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِلَى مَا رَسَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعِ الْخَفَاءِ، فَحُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأُخُوَّةِ وَالتَّنَاصُحِ قَدْ أَصْبَحَتْ مِنَ الْعَدْلِ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ مُعَامَلَةٌ بِالْحُسْنَى مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهَا. وَالْحَسَنُ: مَا كَانَ مَحْبُوبًا عِنْدَ الْمُعَامَلِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِفَاعِلِهِ، وَأَعْلَاهُ مَا كَانَ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا فَسَّرَهُ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
. وَدُونَ ذَلِكَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ. ثُمَّ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَدْلِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَمَعَ سَائِرِ الْأَصْنَافِ إِلَّا مَا حَرَّمَ الْإِحْسَانَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ».
وَمِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ مَا
فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» :«أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ يَأْكُلُ الثَّرَى فَنَزَعَتْ خُفَّهَا وَأَدْلَتْهُ فِي بِئْرٍ وَنَزَعَتْ فَسَقَتْهُ فَغَفَرَ الله لَهَا»
. و
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ حَال الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فِي شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى اتِّبَاعِ قَوْمِهِ لَهُ وَفِي غَمِّهِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ. وَتَمْثِيلَ حَالِهِمْ فِي النُّفُورِ وَالْإِعْرَاضِ بِحَالِ مَنْ فَارَقَهُ أَهْلُهُ وَأَحِبَّتُهُ فَهُوَ يَرَى آثَارَ دِيَارِهِمْ وَيَحْزَنُ لِفِرَاقِهِمْ. وَيَكُونُ حرف (على) ظرفا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ شِدَّةُ الِاتِّصَالِ بِالْمَكَانِ.
وَكَأَنَّ هَذَا الْكَلَام سيق إِلَى الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فِي آخِرِ أَوْقَاتِ رَجَائِهِ فِي إِيمَانِهِمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ صَائِرِينَ إِلَى الْإِيمَان، وتهيئة نَفسه أَنْ تَتَحَمَّلَ مَا سَيَلْقَاهُ مِنْ عِنَادِهِمْ رَأْفَةً من ربه بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِيَةِ الْحُصُولَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ إِنِ اسْتَمَرَّ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ وَبَيَانُهُ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي مَقَامِ نُزُولِ الْآيَةِ فَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ. وَبَيَّنَ بِأَنَّهُ الْحَدِيثُ.
وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، إِذِ الْحَدِيثُ هُوَ الْكَلَامُ الطَّوِيلُ الْمُتَضَمِّنُ أَخْبَارًا وَقِصَصًا. سُمِّي الْحَدِيثُ حَدِيثًا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَمْرِ الْحَدِيثِ، أَيِ الَّذِي حَدَثَ وَجَدَّ، أَيِ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُ، فَالْحَدِيثُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٢٣].
وأَسَفاً مَفْعُولٌ لَهُ مِنْ باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ قَاتِلُهَا لِأَجْلِ شَدَّةِ الْحُزْنِ، وَالشَّرْطُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا جَوَابَ لَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَوَابِ بِمَا قبل الشَّرْط.
شَاهَدَتْ نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِهَا: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَسْحَرِ النَّاسِ، وَهُوَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ».
وَالْقَائِلُونَ: قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ شَاهَدَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أَوْ مِمَّنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّسَامُعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ لِمَلَئِهِمْ. وَوَجْهُ اتِّهَامِهِمَا بِذَلِكَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى [طه: ٥٧]. وَنَزِيدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ النَّجْوَى بَيْنَ السَّحَرَةِ، أَيْ يُرِيدَانِ الِاسْتِئْثَارَ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ فِي أَرْضِكُمْ فَتَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ بِإِهْمَالِ النَّاسِ لَكُمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى سِحْرِ مُوسَى وَهَارُونَ.
وَالطَّرِيقَةُ: السُّنَّةُ وَالْعَادَةُ شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ السائر، بِجَامِع الْمُلَازَمَةِ.
وَالْمُثْلَى: مُؤَنَّثُ الْأَمْثَلِ. وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَثَالَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْحَالَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ أمْثَلُ قَوْمِهِ، أَيْ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَحْسَنُهُمْ حَالًا.
وَأَرَادُوا مِنْ هَذَا إِثَارَةَ حَمِيَّةِ بَعْضِهِمْ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهِمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهَا وَشَرَائِعِهَا وَأَخْلَاقِهَا. وَلِذَا فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِأَنْ يَجْمَعُوا حِيَلَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا بِهِ مُوسَى.
وَالْبَاءُ فِي بِطَرِيقَتِكُمُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَذْهَبا. وَالْمَعْنَى: يُذْهِبَانِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَعَلُّقِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مِنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجْمِعُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَمْرًا مِنْ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ.
بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بِمَا عَصَفَتْ بِهِ فِي بَعْضِ المهاوي المتلفة». أ. هـ.
يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ وَكَانَ فِي مِكْنَتِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَسَقَطَ مِنْهَا، فَتَوَزَّعَتْهُ أَنْوَاعُ الْمَهَالِكِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ فِي مَطَاوِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةً لَا يَعُوزُكَ اسْتِخْرَاجُهَا.
وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ فَلَا نَجَاةَ لِمَنْ حَلَّ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ تَخْيِيرٌ فِي نَتِيجَةِ التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٩]. أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شِرْكُهُ ذَبْذَبَةٌ وَشَكٌّ، فَهَذَا مُشَبَّهٌ بِمَنِ اخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَلَا يَسْتَوْلِي طَائِرٌ عَلَى مِزْعَةٍ مِنْهُ إِلَّا انْتَهَبَهَا مِنْهُ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمُذَبْذَبُ مَتَى لَاحَ لَهُ خَيَالٌ اتَّبَعَهُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ مُصَمِّمٌ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ، فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِمَنْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي وَادٍ سَحِيقٍ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ شِرْكُهُ لَا
يُرْجَى مِنْهُ خَلَاصٌ كَالَّذِي تَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شِرْكُهُ قَدْ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ تَوْبَتَهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ عَسِيرُ الْحُصُولِ.
وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وفَتَخْطَفُهُ مُضَاعَفُ خَطِفَ لِلْمُبَالِغَةِ، الْخَطْفُ وَالْخَطَفُ: أَخْذُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ سَوَاءً كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمْ كَانَ فِي الْجَوِّ وَمِنْهُ تَخَطُّفُ الْكُرَةِ. وَالْهُوِيُّ: نُزُولُ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْبَاءُ فِي تَهْوِي بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مِثْلُهَا فِي: ذَهَبَ بِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ فَتَخْطَفُهُ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ مَفْتُوحَةً- مُضَارِعِ خَطَّفَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً- مُضَارِعِ خطف المجرّد.
وَقَوْلُ لَبِيَدٍ:
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا
أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا
فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ هُنَا جَارِيًا عَلَى ذَلِكَ الشَّأْنِ كَانَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ بِحَالِ ظُلُمَاتِ لَيْلٍ غَشِيَتْ مَاخِرًا فِي بَحْرٍ شَدِيدِ الْمَوْجِ قَدْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ الْبَحْرَ لِيَصِلَ إِلَى غَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ، فَحَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ تُشْبِهُ حَالَ سَابِحٍ فِي ظُلُمَاتِ لَيْلٍ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ يَغْشَاهُ مَوْجٌ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا لِشِدَّةِ تَعَاقُبِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيَاحِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَرَى يَدَهُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْهِ وَأَوْضَحُهُ فِي رُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ يَرْجُو النَّجَاةَ.
وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ مَعَ اخْتِلَاف وَجه الشّبَه كَانَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَهُمْ غير مُؤمنين بِحَال مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ يَرْجُو بُلُوغَ غَايَةٍ فَإِذَا هُوَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَهْتَدِي مَعَهَا طَرِيقًا. فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ مَا حَفَّ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْ ضَلَالِ الْكُفْرِ الْحَائِلِ دُونَ حُصُولِ مُبْتَغَاهُمْ.
وَيُرَجِّحُ هَذَا الْوَجْهَ تَذْيِيلُ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ: كَظُلُماتٍ عَطْفٌ على كَسَرابٍ [النُّور: ٣٩] وَالتَّقْدِيرُ:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَظُلُمَاتٍ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ مِنْ قَبِيلِ تَشْبِيهِ حَالَةٍ مَعْقُولَةٍ بِحَالَةٍ مَحْسُوسَةٍ كَمَا يُقَالُ: شَاهَدْتُ سَوَادَ الْكُفْرِ فِي وَجْهِ فُلَانٍ.
وَالظُّلُمَاتُ: الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْجَمْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الشِّدَّةُ، فَالْجَمْعُ كِنَايَةٌ لِأَنَّ شِدَّةَ الظُّلْمَةِ يَحْصُلُ مِنْ تَظَاهُرِ عِدَّةِ ظُلُمَاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ ظُلْمَةَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمَةِ عَقِبِ الْغُرُوبِ وَظُلْمَةُ الْعِشَاءِ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ لَفْظَ ظُلْمَةٍ بِالْإِفْرَادِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ انْظُرْ أَوَّلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِي بَحْرٍ أَنَّهَا انْطَبَعَ سَوَادُهَا عَلَى مَاءِ بَحْرٍ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمَسْبُوكُ مِنْ أَلَّا يَسْجُدُوا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ أَعْمالَهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً بِمَعْنَى (هَلَّا) فَإِنَّ هَاءَهَا تُبْدَلُ هَمْزَةً. وَجَعْلُ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ تَأْكِيدًا لِلتَّنْبِيهِ وَفِعْلِ أَمَرَ مِنَ السُّجُودِ كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى وَهُوَ لَا يُلَائِمُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رُسِمَ كَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا (أَلَا) حَرْفُ الِاسْتِفْتَاحِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ يَسْجُدُوا مُرَكَّبًا مِنْ يَاءِ النِّدَاءِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْوَقْفُ فِي هَذِهِ عَلَى (أَلَا).
وَتَزْيِينُ الْأَعْمَالِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النَّمْل: ٤]. وَإِسْنَادُهُ هُنَا لِلشَّيْطَانِ حَقِيقِيٌّ والسَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ تَكُونُ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَبُلُوغُ دَارِ الثَّوَابِ.
والْخَبْءَ: مَصْدَرُ خَبَّأَ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ. أُطْلِقَ هُنَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْبُوءُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخَفَاءِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ لِحَالَةِ خَبَرِ الْهُدْهُدِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ فِيهَا اطِّلَاعًا عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ. وَإِخْرَاجُ الْخَبْءِ: إِبْرَازُهُ لِلنَّاسِ، أَيْ إِعْطَاؤُهُ، أَيْ إِعْطَاءُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَإِعْطَاءِ الْأَرْزَاقِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَقَوْلُهُ:
وَيعلم مَا يخَافُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مُؤْذِنٌ بِعُمُومِ صِفَةِ الْعِلْمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُخْفُونَ... وَيُعْلِنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ.
وَمَجِيءُ جُمْلَةِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَقِبَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ
فَسَّرَ الْمَعْرِفَةَ بِإِدْرَاكِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ آثَارِهِ وَخَصَائِصِهِ الْمَحْسُوسَةِ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ شَاعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَنَسَبِهَا.
وَعَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ (١) «الْعلم معرفتان مجتمعان، فَفِي قَوْلِكَ: عَرَفْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) حَالًا مِنْ (زَيْدًا)، وَفِي قَوْلِكَ: عَلِمْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ (عَلِمْتُ) اه. يُرِيدُ أَنَّ فِعْلَ (عَرَفَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِدْرَاكُ الذَّاتِ، وَفِعْلُ (عَلِمَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكَيْنِ هُمَا إِدْرَاكُ الذَّاتِ وَإِدْرَاكُ ثُبُوتِ حُكْمٍ لَهَا، عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا يؤوّل بِمَعْنَاهَا.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَعَانِي مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَيَّنَ حَقَارَةَ حَالِ الْأَصْنَامِ وَاخْتِلَالِ عُقُولِ عَابِدِيهَا فَلَمْ يَعْبَأْ بِفَضْحِهَا وَكَشْفِهَا بِمَا يَسُوءُهَا مَعَ وَفْرَةِ أَتْبَاعِهَا وَمَعَ أَوْهَامِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا كَانَتْ أَلْبًا عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ لِلْأَصْنَامِ حَظٌّ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَمَا سَلِمَ مَنْ ضُرِّهَا مَنْ يُحَقِّرُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢] كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَضَحَ عُقُولَ عُبَّادِهَا لَمْ يَخْشَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَلْهَ ذَاتَهُ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ، وَحَكِيمٌ لَا تَنْطَلِي عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ وَالسَّفَاسِطُ بِخِلَافِ حَالِ هَاتِيكَ وَأُولَئِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوب بالتحتية.
[٤٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٣]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَادَ مُعْتَقَدِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِذَلِكَ، نَعَى عَلَيْهِمْ هُنَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِتَفَهُّمِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي قُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُبَيِّنُهُ الِاسْمُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ وَهُوَ الْأَمْثالُ.
_________
(١) نَقله عَنهُ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي كتاب «العواصم من القواصم»
.
الْقَلْبَيْنِ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ التَّيْمِيَّ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ الْعُزَّى وَأَسْلَمَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرَ وَقُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، فَنَفَتِ الْآيَةُ زَعْمَهُمْ نَفْيًا عَامًّا، أَيْ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَيِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ قَلْبَيْنِ لَا لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ وَلَا لِابْنِ خَطَلٍ، فَوُقُوعُ رَجُلٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوُقُوعُ فِعْلِ جَعَلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِثْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى قَلْبَيْنِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِ رَجُلٍ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ الثَّلَاثَةُ عَلَى انْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَعْلِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَلْبَانِ، عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَغَيْرُهُ بِحَيْثُ لَا يُدَّعَى ذَلِكَ لِأَحَدٍ أَيًّا كَانَ.
وَلَفظ لِرَجُلٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْسَانُ بِنَاءً عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ مِنْ نَوْطِ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالرِّجَالِ جَرْيَا عَلَى الْغَالِبِ فِي الْكَلَامِ مَا عَدَا الْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ بِالنِّسَاءِ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُدَّعَى لِامْرَأَةٍ أَنَّ لَهَا قَلْبَيْنِ بِحُكْمِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ.
وَالْجَعْلُ الْمَنْفِيُّ هُنَا هُوَ الْجَعْلُ الْجِبِلِّيُّ، أَيْ: مَا خَلَقَ الله رجلا قلبين فِي جَوْفِهِ وَقَدْ جَعَلَ إِبْطَالَ هَذَا الزَّعْمِ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ مَا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ أَحَدٍ ابْنًا لِمَنْ لَيْسَ هُوَ بِابْنِهِ، وَمِنْ جَعْلِ امْرَأَةٍ أُمًّا لِمَنْ هِيَ لَيْسَتْ أُمَّهُ بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخِلْقَةِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنِ اخْتِلَاقِ مَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ، وَتَفْرِيعِهِمْ كُلَّ اخْتِلَاقِهِمْ جَمِيعَ آثَارِ الِاخْتِلَاقِ، فَإِنَّ الْبُنُوَّةَ وَالْأُمُومَةَ صِفَتَانِ مِنْ
أَحْوَالِ الْخِلْقَةِ وَلَيْسَتَا مِمَّا يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالتَّعَاقُدِ مِثْلَ الْوَلَاءِ وَالْحِلْفِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: ٦] فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْبُرُورِ وَحُرْمَةِ التَّزْوِيجِ أَلَا تَرَى مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا خَطَبَ عَائِشَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَنْتَ أَخِي وَهِيَ لِي حَلَالٌ»
، أَيْ أَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَتَجَاوَزُ حَالَةَ الْمُشَابَهَةِ فِي النَّصِيحَةِ وَحُسْنِ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَشْكُرُوا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِ الْخَالِقِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ خَالِقًا لَكَانَ رَازِقًا إِذِ الْخَلْقُ بِدُونِ رِزْقٍ قُصُورٌ فِي الْخَالِقِيَّةِ لَأَنَّ الْمَخْلُوقَ بِدُونِ رِزْقٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَدَمِ فَيَكُونُ خَلْقُهُ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَوْصُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحِكْمَةِ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ.
وَزِيَادَةُ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِتَعَدُّدِ مَصَادِرِ الْأَرْزَاقِ فَإِنَّ مِنْهَا سَمَاوِيَّةً كَالْمَطَرِ الَّذِي مِنْهُ شَرَابٌ، وَمِنْهُ طَهُورٌ، وَسَبَبُ نَبَاتِ أَشْجَارٍ وَكَلَأٍ، وَكَالْمَنِّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى شَجَرٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْدِيَةٍ فِي الْجَوِّ، وَكَالضِّيَاءِ مِنَ الشَّمْسِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ فِي اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الطَّيْرِ الَّذِي يُصَادُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ السَّمَاءِ.
وَمِنَ الْأَرْضِ أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ وَزُيُوتٍ وَفَوَاكِهَ وَمَعَادِنَ وَكَلَأٍ وَكَمْأَةٍ وَأَسْمَاكِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَفِي هَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَفْعُ تَوَهُّمِ الْغَفَلِ أَنَّ أَرْزَاقًا تَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا الَّتِي يُعْطِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يُعَاوِضُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَإِنَّهَا لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِهَا بَيْنَهُمْ قَدْ يُلْهِيهِمُ الشُّغْلُ بِهَا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أُصُولِ مَنَابِعِهَا فَإِنَّ أُصُولَ مَوَادِّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَآلَ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا عَرَضَ لِلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إِذْ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] فَهَذَا رَجُلٌ مَحْكُومٌ بِقَتْلِهِ هَا أَنَا ذَا أَعْفُو عَنْهُ فَقَدْ أَحْيَيْتُهُ، وَهَذَا رَجُلٌ حَيٌّ هَا أَنَا ذَا آمُرُ بِهِ فَيُقْتَلُ فَأَنَا أُمِيتُ. فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨].
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
هَذَا نَتِيجَةٌ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ إِذْ رُتِّبَ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ النَّاسِ فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِجُمْلَةِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
والصَّافِناتُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّافِنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ وَالْأَفْرَاسِ وَهُوَ الَّذِي يَقِفُ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَطَرْفِ حَافِرِ الْقَائِمَةِ الرَّابِعَةِ لَا يُمَكِّنُ الْقَائِمَةَ الرَّابِعَةَ مِنَ الْأَرْضِ، وَتِلْكَ مِنْ عَلَامَاتِ خِفَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِ أَصْلِ الْفَرَسِ وَحُسْنِ خِلَالَهِ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفُرَسُ صُفُونًا، وَأَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالزَّجَّاجُ فِي صفة فرس:
أَلِفَ الصُّفُونَ فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرًا (١)
الْجِيادُ: جَمْعُ جَوَادٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْفَرَسُ ذُو الْجَوْدَةِ، أَيِ النَّفَاسَةِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُولَعًا بِالْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْفَرَسَانِ، فَكَانَتْ خَيْلُهُ تُعَدُّ بِالْآلَافِ.
وَأَصْلُ تَرْكِيبِ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ: أَحْبَبْتُ الْخَيْرَ حُبًّا، فَحَوَّلَ التَّرْكِيبَ إِلَى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ فَصَارَ حُبَّ الْخَيْرِ تَمْيِيزًا لِإِسْنَادِ نِسْبَةِ الْمَحَبَّةِ إِلَى نَفْسِهِ لِغَرَضِ
الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: ١٢] وَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
أَكْرِمْ بِهَا خَلَّةً وَقَوْلِهِمْ: لِلَّهِ دَرُّهُ فَارِسًا.
وَضَمَّنَ أَحْبَبْتُ مَعْنَى عَوَّضْتُ، فَعُدِّيَ بِ عَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي فَصَارَ الْمَعْنَى: أَحْبَبْتُ الْخَيْرَ حُبًّا فَجَاوَزْتُ ذِكْرَ رَبِّي. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الرَّبِّ الصَّلَاةُ، فَلَعَلَّهَا صَلَاةٌ كَانَ رَتَّبَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْعَشِيِّ لَيْسَتْ فِيهِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى إِلَّا الْمَغْرِبُ.
والْخَيْرِ: الْمَالُ النَّفِيسُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨٠].
وَالْخَيْلُ مِنَ الْمَالِ النَّفِيسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَيْرُ بِالرَّاءِ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَيل. وَالْعرب تعاقب بَيْنَ اللَّامِ وَالرَّاءِ كَمَا يَقُولُونَ: انْهَمَلَتِ الْعَيْنُ وَانْهَمَرَتْ. وَخَتَلَ وَخَتَرَ إِذَا خَدَعَ.
_________
(١) فِي هَذَا الْبَيْت إِشْكَال من جِهَة الْعَرَبيَّة إِذْ نصب كسيرا وَهُوَ فِي الْمَعْنى خبر كَأَن. وَخرج على أَنه جعله خبر (يزَال) على وَجه التَّشْبِيه البليغ. وأقحم (كَأَنَّهُ) لتقرر التَّشْبِيه. وَقد احتفل بِبَيَان هَذَا الْبَيْت ابْن الْحَاجِب فِي «أَمَالِيهِ»، وَصَاحب الْكَشْف على «الْكَشَّاف».
فَإِنَّ قَوْلَ الرُّسُلِ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَدْ حُكِيَ بِفِعْلٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ فِعْلُ جاءَتْهُمُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ رِسَالَةِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ مُرْسَلِينَ إِلَيْنَا، وَهَذَا حَذْفٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِجَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٩]، وَنُكْتَتُهُ الْإِبْهَامُ ثُمَّ الْبَيَانُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازِ وَهُوَ حَذْفٌ عَزِيزٌ لِمَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ
وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ قِيَاسًا اسْتِثْنَائِيًّا تَرْكِيبُهُ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً يُنْزِلُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ إِلَيْنَا مَلَائِكَةً فَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَلِهَذَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ رِسَالَتَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَن التَّكْذِيب.
[١٥، ١٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الأمتان من الكابرة وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فَصَّلَ هُنَا بَعْضَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنْ صُورَةِ الْكُفْرِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِمَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَذَابِ.
وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ إِنَاءٌ لِلشَّرَابِ مِنْ مَاءٍ أَوْ خَمْرٍ مُسْتَطِيلُ الشَّكْلِ لَهُ عُنُقٌ قَصِيرٌ فِي أَعْلَى ذَلِكَ الْعُنُقِ فَمُهُ وَهُوَ مَصَبُّ مَا فِيهِ، وَفَمُهُ أَضْيَقُ مِنْ جَوْفِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ عُرْوَةٌ يُمْسَكُ مِنْهَا فَيُمْسَكُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى عُنُقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ عُرْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْإِبْرِيقِ إِلَّا أَنَّهُ لَا خُرْطُومَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا الْإِبْرِيقُ فَلَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ.
وَحُذِفَ وَصْفُ الْأَكْوَابِ لِدَلَالَةِ وَصْفِ صِحَافٍ عَلَيْهِ، أَيْ وَأَكْوَابٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَهَذِهِ الْأَكْوَابُ تَكُونُ لِلْمَاءِ وَتَكُونُ لِلْخَمْرِ.
وَجُمْلَةُ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَخْ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةَ، هِيَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ.
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةُ، وَقَدْ عَمَّ قَوْلُهُ: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ كُلَّ مَا تَتَعَلَّقُ الشَّهَوَاتُ النَّفْسِيَّةُ بِنَوَالِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَاللَّهُ يَخْلُقُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ الشَّهَوَاتِ اللَّائِقَةِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ وَالسُّمُوِّ.
وتَلَذُّ مُضَارِعُ لَذَّ بِوَزْنِ عَلِمَ: إِذَا أَحَسَّ لَذَّةً، وَحَقُّ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ اللَّذَّةُ بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: لَذَّ بِهِ، وَكَثُرَ حَذْفُ الْبَاءِ وَإِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَدِّي فَقَالُوا: لَذَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ التَّقْدِيرُ، وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ. وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ هُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ. وَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ فِي رُؤْيَةِ الْأَشْكَالِ الْحَسَنَةِ وَالْأَلْوَانِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا النَّفْسُ، فَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ وَسِيلَةٌ لِلَذَّةِ النُّفُوسِ فَعَطَفَ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عَلَى مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ عَطْفَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَقَدْ تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ مَا لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ كَالْمُحَادَثَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْمُوسِيقَى. وَقَدْ تُبْصِرُ الْأَعْيُنُ مَا لَمْ تَسْبِقْ لِلنَّفْسِ شَهْوَةُ رُؤْيَتِهِ أَوْ مَا اشْتَهَتِ النَّفْسُ طَعْمَهُ أَوْ سَمْعَهُ فَيُؤْتَى بِهِ فِي
صُوَرٍ جَمِيلَةٍ إِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ.
كُلَّ أَحَدٍ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أُجِيبَ الِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَرِدِ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّةِ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ، كَمَا هُوَ غَالِبُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ الْإِقْرَارِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتْرُكُ لِلْمُقَرَّرِ مَجَالًا لِعَدَمِ الْإِقْرَارِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الْإِقْرَار. مثلّث الْغَيْبَةُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ الْمَيِّتِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَمْثِيلَ الْمَوْلُوعِ بِهَا بِمَحَبَّةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ الْمَيِّتِ، وَالتَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ اسْتِفْظَاعُ الْمُمَثَّلِ وَتَشْوِيهُهُ لِإِفَادَةِ الْإِغْلَاظِ عَلَى الْمُغْتَابِينَ لِأَنَّ الْغِيبَةَ مُتَفَشِّيَةٌ فِي النَّاسِ وَخَاصَّةً فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَشُبِّهَتْ حَالَةُ اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِ مَنْ هُوَ أَخُوهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ غَائِبٌ بِحَالَةِ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ لِلْهَيْئَةِ قَابِلٌ لِلتَّفْرِيقِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الَّذِي اغْتَابَ بِآكِلِ لَحْمٍ، وَيُشَبَّهَ الَّذِي اغْتِيبَ بِأَخٍ، وَتُشَبَّهَ غِيبَتُهُ بِالْمَوْتِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى أَحَدُكُمْ، أَوْ يَعُودُ إِلَى لَحْمَ.
وَالْكَرَاهَةُ هُنَا: الِاشْمِئْزَازُ وَالتَّقَذُّرُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ وَقَعَ هَذَا أَوْ إِنْ عَرَضَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ كَرِهْتُمُوهُ.
وَفَاءُ الْفَصِيحَةِ تُفِيدُ الْإِلْزَامَ بِمَا بَعْدَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، أَيْ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا مَنَاصَ لِلْمُوَاجَهِ بِهَا مِنِ الْتِزَامِ مَدْلُولِ جَوَابِ شَرْطِهَا الْمَحْذُوفِ.
وَالْمَعْنَى: فَتَعَيَّنَ إِقْرَارُكُمْ بِمَا سُئِلْتُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ (إِذْ لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهُ) تَحَقَّقَتْ كَرَاهَتُكُمْ لَهُ وَتَقَذُّرُكُمْ مِنْهُ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنْ تَكْرَهُوا نَظِيرَهُ الْمُمَثَّلَ وَهُوَ الْغَيْبَةُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَاكْرَهُوا الْمُمَثَّلَ كَمَا كَرِهْتُمُ الْمُمَثَّلَ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مُبَالَغَاتٌ: مِنْهَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى أَمْرٍ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فَجَعْلُكَ لِلشَّيْءِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّكَ تَدَّعِي أَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ.
وَمِنْهَا جَعْلُ مَا هُوَ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ لِلنَّفْسِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ الْمَحَبَّةِ لِلْإِشْعَارِ بِتَفْظِيعِ
لِلسَّائِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ تَعَالَى يبرم شؤونا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ دَوَامًا، وَيَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا
بِالْاِسْتِقْرَارِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ فِي شَأْنٍ، وَقُدِّمَ عَلَى مَا فِيهِ مُتَعَلِّقُهُ لِلْاِهْتِمَامِ بِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ. وَالْمَعْنَى: فِي شَأْن من شؤون مِنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنِ اسْتِجَابَةِ سُؤْلٍ، وَمِنْ زِيَادَةٍ، وَمِنْ حِرْمَانٍ، وَمِنْ تَأْخِيرِ الْاِسْتِجَابَةِ، وَمِنْ تعويض عَن الْمَسْئُول بِثَوَابٍ، كَمَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ الدُّعَاءِ أَنَّ اسْتِجَابَتَهُ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠].
وَمَعْنَى فِي عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَقْوِيَة ثُبُوت الشؤون لِلَّهِ تَعَالَى وَهِي شؤون تَصَرُّفِهِ وَمَظَاهِرُ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفضل النَّيْسَابُورِي: «شؤون يبديها لَا شؤون يَبْتَدِيهَا».
ويَوْمٍ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَقْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، إِذِ الْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ لَحُظَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ الْخَاصَّ الَّذِي يَمْتَدُّ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ.
وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ وَنَحْوِهُ عَلَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: الدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ نُعُمٌ وَيَوْمٌ بُؤْسٌ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَإِنَّ غَدًا وَإِنَّ الْيَوْمَ رَهْنٌ وَبَعْدَ غَدٍ لِمَا لَا تَعْلَمِينَ
أَرَادَ الزَّمَانَ الْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ الْبَعِيدَ وَإِلَّا فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ.
وَالشَّأْنُ: الشَّيْءُ الْعَظِيمُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَأَعْمَالٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى كُلُّ يَوْمٍ يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ»
، وَهُوَ تَعَالَى يَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ كُلُّ شَأْنٍ فَمَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الشَّأْنِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ.
والظرفية المستعملة فِيهَا حَرْفِ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ
كَمَا تُحْذَفُ الْأَلِفُ اخْتِصَارًا بِكَثْرَةٍ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ الْقُرَّاءُ الْعَرَبُ: قَدْ تَسْقُطُ الْوَاوُ فِي بَعْضِ الْهِجَاءِ كَمَا أَسْقَطُوا الْأَلِفَ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَشْبَاهِهِ، أَيْ كَمَا أَسْقَطُوا الْوَاوَ الثَّانِيَةَ مِنْ دَاوُودَ وَبِكَثْرَةٍ يَكْتُبُونَهُ دَاوُدَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَرَأَيْتُ فِي مَصَاحِفِ عَبْدِ الله «فقولا» نقلا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكُلُّ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَن الْقُرْآن ملتقىّ بِالتَّوَاتُرِ لَا بِهِجَاءِ الْمَصَاحِفِ وَإِنَّمَا الْمَصَاحِفُ مُعِينَةٌ على حفظه.
[١١]
[سُورَة المُنَافِقُونَ (٦٣) : آيَة ١١]
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها.
اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجَلِ لِكُلِّ رُوحٍ عِنْدَ حُلُولِهَا فِي جَسَدِهَا حِينَ يُؤْمَرُ الْمَلِكُ الَّذِي يَنْفُخُ الرُّوحَ يُكْتَبُ أَجَلُهُ وَعَمَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَالْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِحَيَاتِهِ لَا يُؤَخَّرُ عَنْ أَمَدِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ كَانَ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِ اللَّهَ بِتَأْخِيرِ أَجَلِهِ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْآجَالَ.
وَهَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُ حِكْمَةَ تَحْدِيدِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَالنَّفْسُ: الرُّوحُ، سُمِّيَتْ نَفْسًا أَخْذًا مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْفِ وَالْفَمِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ ذِي رِئَةٍ، فَسُمِّيَتِ النَّفْسُ نَفْسًا لِأَنَّ النَّفَسَ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، كَمَا سُمِّيَ مُرَادِفُ النَّفْسِ رُوحًا لِأَنَّهُ مَأْخُوذُ الرَّوْحِ بِفَتْحِ الرَّاءِ لِأَنَّ الرّوح بِهِ. قَالَه أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
وأَجَلُها الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِبَقَائِهَا فِي الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّفْسِ الذَّاتُ، أَيْ شَخْصُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مِنْ مَعَانِي النَّفْسِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] وَأَجَلُهَا الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مِقْدَارُهُ لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ.
ولَنْ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ التَّأْخِيرِ، وَعُمُومُ نَفْساً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَاشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِقِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ اللَّيْلِ وَالثَّنَاءِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَعَلَى تَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحَمُّلِ إِبْلَاغِ الْوَحْيِ.
وَالْأَمْرِ بِإِدَامَةِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَإِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ.
وَأَمْرِهِ بِالتَّمَحُّضِ لِلْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ التَّبْلِيغِ وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ.
وَأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ.
وَتَكَفُّلِ اللَّهِ لَهُ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ جَزَاءَهُمْ بِيَدِ اللَّهِ.
وَالْوَعِيدِ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَوَعْظِهِمْ مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ لَمَّا كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ.
وَذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَصْفِ أَهْوَالِهِ.
وَنَسْخِ قِيَامِ مُعْظَمِ اللَّيْلِ بِالِاكْتِفَاءِ بِقِيَامِ بعضه رعيا لأعذار الْمُلَازِمَةِ.
وَالْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى أَفْعَالِ الْخَيْرَاتِ.
وَالْمُبَادَرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَدَبُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ.
وَأَنَّ أَعْمَالَ النَّهَارِ لَا يُغْنِي عَنْهَا قِيَامُ اللَّيْلِ.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مَوَاضِعُ عَوِيصَةٌ وَأَسَالِيبُ غامضة فَعَلَيْك بتدبرها.
[١- ٤]
[سُورَة المزمل (٧٣) : الْآيَات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ.
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ وَاحِدًا وَلَمْ يَكُنْ بَعِيدًا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ كَلَامٍ.
وَالْأَصْلُ فِي النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِ الْمُنَادَى الْعَلَمِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يُعْدَلُ مِنَ الِاسْم الْعَلَمِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ وَصْفٍ أَوْ إِضَافَةٍ إِلَّا لِغَرَضٍ يَقْصِدُهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ تَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ نَحْوَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الْأَنْفَال: ٦٥]، أَوْ تَلَطُّفٍ وَتَقَرُّبٍ نَحْوَ: يَا بُنَيَّ وَيَا أَبَتِ، أَوْ قَصْدِ تَهَكُّمٍ نَحْوَ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] فَإِذَا نُودِيَ
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِرَفْعِ مَحْفُوظٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِقُرْآنٍ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي لَوْحٍ بِ مَحْفُوظٍ وَحِفْظُ الْقُرْآنِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ اللَّوْحَ الْمُودَعَ هُوَ فِيهِ مَحْفُوظٌ أَيْضًا، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ثُبُوتُ الْحِفْظ لِلْقُرْآنِ وللوح. فَأَمَّا حِفْظُ الْقُرْآنِ فَهُوَ حِفْظُهُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَمِنْ تَلَقُّفِ الشَّيَاطِينِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩].
وَأما حفظ اللَّوْحُ فَهُوَ حِفْظُهُ عَنْ تَنَاوُلِ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ. أَوْ حِفْظُهُ كِنَايَةً عَنْ تَقْدِيسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٧٨، ٧٩].


الصفحة التالية
Icon