إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ | نَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَا |
وَقِيلَ إِنَّ مَا جَاءَ بِهَذَا الْوَزْنِ أَسْمَاءُ جُمُوعٍ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يُؤْذِنُ بِهِ وَمُفْرَدُ هَذَا الْجَمْعِ إِنْسِيٍّ أَوْ إِنْسٍ أَوْ إِنْسَانٍ وَكُلُّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَنِسَ ضِدَّ تَوَحَّشَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْلَفُ وَيَأْنَسُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ مَا عَلِمْتُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِهِمْ يُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ وَالْمَعْهُودُ هُمُ النَّاسُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: ٦] أَوِ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْهَدُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا فَرِيقٌ وَجَمَاعَةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ.
وَالْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَخْ قِسْمٌ ثَالِثٌ مُقَابِلٌ لِلْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ
لِلتَّمَايُزِ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِأَشْهَرِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبَعْضِ أَوِ الْجَمِيعِ صِفَاتٌ مُتَّفِقَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُشْتَبَهُ وَجْهُ جَعْلِ الْمُنَافِقِينَ قَسِيمًا لِلْكَافِرِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْسِيمِ الصِّفَاتُ الْمُخَصِّصَةُ.
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْقُرْآنُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِيجَازًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ مَبْدَأُ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرَبٍّ وَاحِدٍ لَا يَصِلُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ إِذِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَصْلُحُ الِاعْتِقَادُ وَهُوَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَالثَّانِي هُوَ الْوَازِعُ وَالْبَاعِثُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَفِيهِ صَلَاحُ الْحَالِ الْعَمَلِيِّ أَوْ هُمُ
وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ فَقَطْ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الْحَج: ٢٨] لِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا نَحْرَ فِيهِ وَلَا ذَبْحَ إِجْمَاعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ فَلَيْسَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ عِنْدَهُمَا مَعْلُومًا وَلَا مَعْدُودًا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَعْدُودَاتٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ وَهُوَ الذِّكْرُ عِنْدَ الرَّمْيِ وَعِنْدَ نَحْرِ الْهَدَايَا.
وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَشْغَلُونَهَا بِالتَّفَاخُرِ وَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ، قَالَ الْعَرَجِيُّ:
مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنَى | حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ |
بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ حِينَ جمّرت | وكفّ خصيب زيّنت ببنان |
فو الله مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا | بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ |
وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ الثَّلَاثَةُ تُرْمَى الْجِمَارُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُبْتَدَأُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ تُرْمَى الْجَمْرَتَانِ الْأُخْرَيَانِ كُلُّ جَمْرَةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيُكَبَّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَآخِرُهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَفِي أَحْكَامِ الرَّمْيِ وَوَقْتِهِ وَعَكْسِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ بِجَمْرَةِ مَسْجِدِ مِنَى وَالْمَبِيتِ بِغَيْرِ مِنَى خِلَافَاتٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي مِنَى فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَاجِبَةٌ فَلَيْسَ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي إِلَّا فِي مِنَى، وَمَنْ لَمْ يَبِتْ فِي مِنَى فَقَدْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلَا يُرَخَّصُ فِي الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مِنَى إِلَّا لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمَغِيبَ عَنْ مِنَى فَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَذَابُ الدُّنْيَا هُوَ زَوَالُ الْمُلْكِ وَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَالتَّشْرِيدُ فِي الْأَقْطَارِ، وَكَوْنُهُمْ يَعِيشُونَ تَبَعًا لِلنَّاسِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ هُوَ جَهَنَّمُ. وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ حَاوَلَهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَأَسْنَدَ فَنُوَفِّيهِمْ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظَمَةِ مَفْعُولِ هَذَا الْفَاعِلِ إِذِ الْعَظِيمُ يُعْطِي عَظِيما. وَالتَّقْدِير فيوفيهم أُجُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِدَلِيلِ مُقَابِلِهِ فِي ضِدِّهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَتَوْفِيَةُ الْأُجُورِ فِي الدُّنْيَا تَظْهَرُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، وَبَرَكَاتُهُ مَعَهُمْ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَحُسْنُ الذِّكْرِ. وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَفِيهَا اكْتِفَاءٌ: أَيْ وَيُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنُوَفِّيهِمْ- بِالنُّونِ- وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ، فَيُوَفِّيهِمْ بِيَاءِ الْغَائِبِ على الِالْتِفَات.
[٥٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
تَذْيِيلٌ: فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي تُلِيَ هُنَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: ٤٥] وَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بالْكلَام أَو بالمذكور. وَجُمْلَةُ نَتْلُوهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى حَدِّ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ وَإِنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْضُ النُّحَاةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الْآياتِ خَبَرُ ذلِكَ أَيْ إِنَّ تِلَاوَةَ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنْ آيَاتِ صِدْقِكَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهُوَ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلنَّاسِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ نَتْلُوهُ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَمِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيِ الْحَكِيمُ عَالِمُهُ أَو تاليه.
خَتَمَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَهِيَ أُصُولُ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ:
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ الْآيَةَ، فَهُمَا إِمَّا مُسْند إِلَيْهِمَا قدّ مَا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ إِذْ يُلْقِي سَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا بِشَرَاشِرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُمَا خَبَرَيْنِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَال، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُرَادُ جَمْعُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ | وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ وزلّت |
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَدَانَتْ مَنِيَّتِي | أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ |
يَتْبَعُ تَفَاوُتَ الشَّفَقَةِ الْجِبِلِّيَّةِ فِي النَّاسِ وَيَتْبَعُ الْبُرُورَ وَمِقْدَارَ تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ. فَرُبَّ رَجُلٍ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يَنْفَعَهُ أَبَوَاهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ حَاجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَعْرِضْ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَاعْتَمَدُوا أَحْوَالًا غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ وَلَا مَوْثُوقًا بِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَشَرْعُ الْإِسْلَامِ نَاطَ الْفَرَائِضَ بِمَا لَا يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَفَرَضَ الْفَرِيضَةَ لَهُمْ نَظَرًا لِصِلَتِهِمُ الْمُوجِبَةِ كَوْنَهُمْ أَحَقَّ بِمَالِ الْأَبْنَاءِ أَوِ الْآبَاءِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاضِحُ الْمُنَاسَبَةِ.
[١٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِفَضَائِحِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلِيُبَكِّتَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيَفْتَرُونَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْآنًا كَثِيرًا لَمْ يُبَلِّغْهُ رَسُولُ اللَّهِ الْأُمَّةَ.
وَمَعْنَى لَمْ تَفْعَلْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، وَهُوَ تَبْلِيغُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَهَذَا حَذْفٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَقُولُونَ: فَإِنْ فَعَلْتَ، أَوْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [يُونُس: ١٠٦] أَيْ إِنْ دَعَوْتَ مَا لَا يَنْفَعُكَ، يَحْذِفُونَ مَفْعُولَ فَعَلْتَ وَلَمْ تَفْعَلْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤]. وَهَذَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يتعرّض لَهُ أئمّة الِاسْتِعْمَالِ.
وَمَعْنَى تَرَتُّبِ هَذَا الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَتَرَكْتَ بَعْضَهُ كُنْتَ لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ كَتْمَ الْبَعْضِ مِثْلُ كِتْمَانِ الْجَمِيعِ فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ التَّبْلِيغِ، وَلِأَنَّ الْمَكْتُومَ لَا يُدْرَى أَنْ يَكُونَ فِي كِتْمَانِهِ ذَهَابُ بَعْضِ فَوَائِدِ مَا وَقَعَ تَبْلِيغُهُ، وَقَدْ ظَهَرَ التَّغَايُرُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ بِمَا يَدْفَعُ الِاحْتِيَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، إِذْ تَقْدِيرُ الشَّرْطِ: إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ، وَالْجَزَاءُ، لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسَالَةَ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِمَّا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ. ثُمَّ يُعْلَمُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ تِلْكَ مَنْزِلَةٌ لَا تَلِيقُ بِالرُّسُلِ، فَيُنْتِجُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِمَّا أُرْسِلَ بِهِ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ افْتِتَاحِ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَفَائِدَةِ اخْتِتَامِهِ بِقَوْلِهِ: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ رِسالاتِهِ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ رِسالَتَهُ بِالْإِفْرَادِ. وَالْمَقْصُودُ الْجِنْسُ فَهُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَاءٌ مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ.
وَلَا صِحَّةَ لِقَوْلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِيَ اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنَ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، وَأَنَّ نَحْوَ: لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ، صَادِقٌ بِمَا إِذَا كَانَ فِيهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافٍ نَحْوَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمْعِ أَصْرَحُ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُضَافِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ
وَبُنِيَ نُهِيتُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، أَيْ نَهَانِي اللَّهُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَن) فَحذف الْحَرْف حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ).
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْمَوْضُوعُ لِلْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فَأَتَى لَهُمْ بِمَا يَحْكِي اعْتِقَادَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْجِنَّ وَبَعْضَ الْبَشَرِ فَغُلِّبَ الْعُقَلَاءُ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ.
وَمَعْنَى تَدْعُونَ تَعْبُدُونَ وَتَلْجَئُونَ إِلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ، أَيْ تَدْعُونَهُمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، فَعَامِلُهُ تَدْعُونَ. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَدُعَائِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ دُونَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا أَشْرَكُوهُمْ بِالْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِاضْطِرَابِ عَقِيدَتِهِمْ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا مَعَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ الْأَصْنَامِ وَجَاعِلُهَا شُفَعَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَوَجَّهُوا بِهَا إِلَى الْأَصْنَامِ قَدِ اعْتَدَوْا بِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ فِي أَنْ يَصْرِفُوهَا إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ اسْتِئْنَافٌ آخَرُ ابْتِدَائِيٌّ، وَقَدْ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ لِيَكُونَ غَرَضًا مُسْتَقِلًّا. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ زِيَادَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالِاسْتِئْنَافِ وَاسْتِقْلَالِهِ لِيَكُونَ هَذَا النَّفْيُ شَامِلًا لِلِاتِّبَاعِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ
كَطَلَبِ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَجْلِسِهِ.
وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٠]. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دُونَ لَا أَتْبَعُكُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي دِينِهِمْ تَابِعُونَ لِلْهَوَى نَابِذُونَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ. وَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ مَتِينٍ.
وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنِ اتّبعت أهواءكم إِذن قَدْ ضَلَلْتُ. وَكَذَلِكَ موقع (إِذن) حِينَ تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ مَشْرُوطٍ بِ (إِنَّ) أَوْ (لَوْ) مُصَرَّحٍ بِهِ تَارَةً، كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وُضُوحًا مَا
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يَا حَارِثُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ اعْلَمْ مَا تَقُولُ- أَوِ انْظُرْ مَا تَقُولُ- إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَكَأَنِّي أسمع عوراء أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لَهُ يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ ثَلَاثًا
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ.
فَقَوْلُ الْحَارِثِ «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ»
ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَا كَانَ بِهِ إِيمَانُهُ كَامِلًا وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ أَصْلِ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا سعيد أمومن أَنْتَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٢- ٤] فو الله مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا؟.
وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ على أَنه موكد لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ ثُبُوتُ الْإِيمَانِ لَهُمْ حَقٌّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ،
وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْقَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ بِالتَّأْكِيدِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، بَلِ التَّأْكِيدُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي وُقُوعِ الْمَصْدَرِ حَالا مثل أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [يُوسُف: ١٠٧]، أَيْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَهُمْ بِجَلَائِلِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٢].
وَجُمْلَةُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
اللَّهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ نُظِمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الأسلوب البديع إِذا ابْتُدِئَ فِيهِ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ظَلَمَهُمُ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ لِفَرْطِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ صُنْعِهِمْ حَتَّى جَعَلَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُفَرَّعُ وَجَعَلَ الْمُفَرَّعَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فِي صُورَةِ الِاسْتِدْرَاكِ.
وَنُفِيَ الظُّلْمُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَهُوَ النَّفْيُ الْمُقْتَرِنُ بِلَامِ الْجُحُودِ، بَعْدَ فِعْلِ الْكَوْنِ الْمَنْفِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ مِنْ سُورَةِ الْعُقُودِ [٦].
وَأُثْبِتَ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لَهُمْ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْكَوْنِ الْمَاضِي، الدَّالِّ عَلَى تَمَكُّنِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ مُنْذُ زَمَانٍ مَضَى، وَصِيغَ الظُّلْمُ الْكَائِنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، أَيْ عَلَى تَكْرِيرِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَزْمِنَة الْمَاضِيَة.
[٧١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٧١]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
هَذِهِ تُقَابِلُ قَوْلَهُ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: ٦٧] لِبَيَانِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي يَنَالُهَا الْعَفْوُ هِيَ الْمُلْتَحِقَةُ بِالْمُؤْمِنِينَ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: ٦٧] وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ تَسَلْسَلَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ مُقَابِلٌ قَوْلَهُ: فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَة: ٦٧]. وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللُّحْمَةَ
الْجَامِعَةَ بَيْنَهُمْ هِيَ وَلَايَةُ الْإِسْلَامِ، فَهُمْ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مُقَلِّدًا لِلْآخَرِ وَلَا تَابِعًا لَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ لِمَا فِي مَعْنَى الْوَلَايَةِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّنَاصُرِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فكأنّ بَعضهم ناشىء مِنْ بَعْضٍ فِي مَذَامِّهِمْ.
وَأَرَادَ إِثَارَةَ صِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَإِلْهَابَ قُلُوبِهِمْ بِجَعْلِ إِيمَانِهِمْ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ، حَيْثُ تَخَوَّفُوا مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَكْتُمُوا إِيمَانَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عَدَمَ اكْتِرَاثِهِمْ بِبَطْشِ فِرْعَوْنَ عَلَامَةً عَلَى إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بِإِظْهَارِ مُتَّبِعِيهَا جَمَاعَتَهُمْ، فَلَا تُغْتَفَرُ فِيهَا التَّقِيَّةُ حِينَئِذٍ. وَبِذَلِكَ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ مِثْلُ بِلَالٍ، وَعَمَّارٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، فَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَتَحَمَّلُوا الْأَذَى، وَإِنَّمَا سُوِّغَتِ التَّقِيَّةُ لِلْآحَادِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقَوُّمِ جَامِعَةِ الْإِيمَانِ فَذَلِكَ مَحَلُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦].
فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يُونُس: ٨٣]، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى نَهْيِهِمْ عَنْ مَخَافَةِ فِرْعَوْنَ.
وَالتَّوَكُّلُ: تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ شَرْطٌ ثَانٍ مُؤَكِّدٌ لِشَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ حُصُولَ هَذَا التَّوَكُّلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُصُولِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّوَكُّلِ وَأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَمُبَيِّنٌ أَيْضًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ، أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ إِيمَانَ مُسْلِمٍ لِلَّهِ، أَيْ مُخْلِصٍ لَهُ غَيْرِ شَائِبٍ إِيَّاهُ بِتَرَدُّدٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلَا فِي أَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرْطَيْنِ مَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ الْآخَرِ.
وَهَذَا مِنْ مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا مَعَ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ: النُّطْقُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ انْفِعَالٌ قَلْبِيٌّ نَفْسَانِيٌّ، وَالْإِسْلَامُ عَمَلٌ جُسْمَانِيٌّ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِمَا فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ إِذْ لَا يُعْلَمُ حُصُولُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ إِلَّا بِالْقَوْلِ وَالطَّاعَةِ، وَإِذْ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ حَقًّا إِلَّا إِذَا وَافَقَ مَا فِي
وَأَطْلَقَ عَلَى كَلَامِهِنَّ اسْمَ الْمَكْرِ، قِيلَ: لِأَنَّهُنَّ أَرَدْنَ بِذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْلُهُنَّ إِلَيْهِا فَيُغْرِيَهَا بِعَرْضِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِنَّ فَيَرَيْنَ جَمَالَهُ لِأَنَّهُنَّ أَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ. وَقِيلَ:
لِأَنَّهُنَّ قُلْنَهُ خُفْيَةً فَأَشْبَهَ الْمَكْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى قَوْلِهِنَّ اسْمُ الْمَكْرِ لِأَنَّهُنَّ قُلْنَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ وَهُنَّ يُضْمِرْنَ حَسَدَهَا عَلَى اقْتِنَاءِ مِثْلِهِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّغَفُ بِالْعَبْدِ فِي عَادَتِهِمْ غَيْرَ مُنْكَرٍ.
وَأَعْتَدَتْ: أَصْلُهُ أَعْدَدَتْ، أُبْدِلَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٧].
وَالْمُتَّكَأُ: مَحَلُّ الِاتِّكَاءِ. وَالِاتِّكَاءُ: جَلْسَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ مَعَ انْتِصَابٍ قَلِيل فِي النصب الْأَعْلَى. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاتِّكَاءُ إِذَا أُرِيدَ إِطَالَةُ الْمُكْثِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، أَيْ أَحْضَرَتْ لَهُنَّ نَمَارِقَ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ. وَكَانَ أَهْلُ التَّرَفِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَمَا كَانَتْ عَادَةً لِلرُّومَانِ، وَلَمْ تَزَلْ أَسِرَّةُ اتِّكَائِهِمْ مَوْجُودَةً فِي دِيَارِ الْآثَار.
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا»
. وَمَعْنَى آتَتْ أَمَرَتْ خَدَمَهَا بِالْإِيتَاءِ كَقَوْلِهِ: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [سُورَة غَافِر: ٣٦].
وَالسِّكِّينُ: آلَةُ قَطْعِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: أَحْضَرَتْ لَهُنَّ أُتْرُجًّا وَمَوْزًا فَحَضَرْنَ وَاتَّكَأْنَ، وَقَدْ حَذَفَ هَذَانِ الْفِعْلَانِ إِيجَازًا. وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ سِكِّينًا لِقَشْرِ الثِّمَارِ.
وَقَوْلُهُا: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا. وَعُدِّيَ فِعْلُ الْخُرُوجِ بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّهُ ضُمًّنَ مَعْنَى (ادْخُلْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دُخُولُهُ عَلَيْهِنَّ لَا مُجَرَّدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَمَعْنَى أَكْبَرْنَهُ أَعْظَمْنَهُ، أَيْ أَعَظَمْنَ جَمَالَهُ وَشَمَائِلَهُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْعَدِّ، أَيْ أَعْدَدْنَهُ كَبِيرًا، وَأُطْلِقَ الْكِبَرُ عَلَى عَظِيمِ الصِّفَاتِ تَشْبِيهًا لِوَفْرَةِ الصِّفَاتِ بِعِظَمِ الذَّاتِ.
وَالتَّوْكِيدُ: التَّوْثِيقُ وَتَكْرِيرُ الْفَتْلِ، وَلَيْسَ هُوَ تَوْكِيدَ اللَّفْظِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ فَهُوَ ضِدُّ النَّقْضِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأَيْمَانِ لَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِلَى مَفْعُولِهِ إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِالْمَصْدَرِ التَّجَدُّدُ بَلِ الِاسْمُ، فَهِيَ الْإِضَافَةُ الْأَصْلِيَّةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيِ التَّوْكِيدِ الثَّابِتِ لَهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ مَا فِيهَا مِنَ التَّوْكِيدِ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ
جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.
وَالْمَعْنَى: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ حَلِفِهَا. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مِنَ الْيَمِينِ مَا لَا حَرَجَ فِي نَقْضِهِ، وَهُوَ مَا سَمَّوْهُ يَمِينَ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ انْزِلَاقٌ عَنْ مَهْيَعِ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ.
وَيُؤَيِّدُ مَا فَسَّرْنَاهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا الْوَاقِعُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَنْقُضُوا، أَيْ لَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ فِي حَالِ جَعْلِكُمُ اللَّهُ كَفِيلًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِذَا أَقْسَمْتُمْ بِاسْمِهِ، فَإِنَّ مَدْلُولَ الْقَسَمِ أَنَّهُ إِشْهَادُ اللَّهِ بِصِدْقِ مَا يَقُولُهُ الْمُقْسِمُ: فَيَأْتِي بِاسْمِ اللَّهِ كَالْإِتْيَانِ بِذَاتِ الشَّاهِدِ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَلِفُ شَهَادَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة النُّور: ٦]. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَظْهَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّهْيِ عَنْهَا.
وَالْكَفِيلُ: الشَّاهِدُ وَالضَّامِنُ وَالرَّقِيبُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرَاعَى لِتَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ اللَّهِ إِشْهَادٌ لِلَّهِ وَكَفَالَةٌ بِهِ. وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ الْعَهْدِ يَحْلِفُونَ وَيُشْهِدُونَ الْكُفَلَاءَ بِالتَّنْفِيذِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُ | دِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ |
وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [سُورَة التَّوْبَة: ١١٨].
مَلَكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ٢٣٧. وَكَانَ مُلْكُهُ سَنَةً وَاحِدَةً. وَكَانَ مُتَعَصِّبًا لِلدِّيَانَةِ الرُّومَانِيَّةِ وَشَدِيدَ البغض للنصرانيّة، فأظهروا كَرَاهِيَةَ الدِّيَانَةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَتَوَعَّدَهُمْ دُوقْيُوسْ بِالتَّعْذِيبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جَبَلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ فَرْسَخَانِ يُقَالُ لَهُ (بِنْجَلُوسْ) فِيهِ كَهْفٌ أَوَوْا إِلَيْهِ وَانْفَرَدُوا فِيهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ فِرَارِهِمْ مَسَامِعَ الْمَلِكِ وَأَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ أَرْسَلَ وَرَاءَهُمْ فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَوْمَةً فَظَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْمَلِكِ أَمْوَاتًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُسَدَّ فُوَّهَةُ كَهْفِهِمْ بِحَائِطٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ فِيمَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ لَوْ بُنِيَ عَلَى فُوَّهَةِ كَهْفِهِمْ حَائِطٌ لَمَا أَمْكَنَ خُرُوجُ مَنِ انْبَعَثَ مِنْهُمْ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَالَ دُونَ تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ أَنَّ مُدَّتَهُ لَمْ تَطُلْ فِي الْمُلْكِ إِذْ لَمْ تَزِدْ مُدَّتُهُ عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَقُوا فِي رَقْدَتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً قَرَّبَهَا ابْنُ الْعِبْرِيِّ بِمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ انْبِعَاثُهُمْ فِي مُدَّةِ ملك (ثاوذوسيوس) فيصر الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ آيَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ فَبَعَثَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ
وَأَرْسَلُوا أَحَدَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ (أَبْسُسُ)، بِدَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهُم طَعَاما. فَعجب النَّاسُ مِنْ هَيْئَتِهِ وَمِنْ دَرَاهِمِهِ وَعَجِبَ هُوَ مِمَّا رَأَى مِنْ تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ. وَتَسَامَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَمْرِهِمْ، فَخَرَجَ قَيْصَرٌ الصَّغِيرُ مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَقِسِّيسِينَ وَبَطَارِقَةٍ إِلَى الْكَهْفِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ وَكَلَّمُوهُمْ وَآمَنُوا بِآيَتِهِمْ، وَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُمْ مَاتُوا فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَكَانَتْ آيَةً تَأَيَّدَ بِهَا دِينُ الْمَسِيحِ.
وَالَّذِي فِي «كِتَابِ الطَّبَرِيِّ» أَنَّ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى مُشَاهَدَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ هُمْ رَئِيسَا الْمَدِينَةِ (أَرْيُوسْ) وَ (أَطْيُوسْ) وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ لَمَّا شَاهَدَهُمُ النَّاسُ كَتَبَ وَالِيَا الْمَدِينَةِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَحَضَرَ وَشَاهَدَهُمْ وَأَمَرَ بِأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ. وَلَمْ يَذْكُرُوا هَلْ نُفِّذَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يُنَفَّذْ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ وَقَعَ الْعُثُورُ عَلَى هَذَا الْكَهْفِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَعَلَّه قد انْهَدم بِحَادِثِ زِلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهِ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَخْبَارُ الزَّائِفَةُ عَنْ تَعْيِينِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسلمين فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَثِيرَةً. وَفِي جَنُوبِ الْقُطْرِ التُّونِسِيِّ مَوْضِعٌ يُدْعَى
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةً عَلَى تَغَلُّبِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فَسَجَدُوا تَعْظِيمًا لَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَعْظِيمَ فِرْعَوْنَ، جَعَلُوهُ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى حَذَرًا مِنْ بَطْشِهِ.
وَسُجَّدٌ: جَمْعُ سَاجِدٍ.
وَجُمْلَةُ قالُوا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أُلْقُوا قَائِلِينَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فَإِنَّ سُجُودَهُمُ اشْتَمَلَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَن تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً لِافْتِتَاحِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ.
وَإِنَّمَا آمَنُوا بِاللَّهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَا جَرَى عَلَى يَدِ مُوسَى لَيْسَ مَنْ جِنْسِ السِّحْرِ لِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ السِّحْرُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ آيَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَتَعْبِيرُهُمْ عَنِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى هَارُونَ وَمُوسَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِهَذِهِ النِّسْبَةِ لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهَا وَيَعْبُدُهَا فِرْعَوْنُ.
وَتَقْدِيمُ هَارُونَ عَلَى مُوسَى هُنَا وَتَقْدِيمُ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢١، ١٢٢] : قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ الْمَعْطُوفِ فِيهِ، فَهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِأَنَّهُ رَبُّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَحُكِيَ كَلَامُهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢١] قَوْلُ السَّحَرَةِ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْأَخْبَارِ لَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَحْكِيِّ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ.
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٣٦]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً [الْحَج: ٣٤] أَيْ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِلْقُرْبَانِ وَالْهَدَايَا، وَجَعَلْنَا الْبُدْنَ الَّتِي تُهْدَى وَيُتَقَرَّبُ بِهَا شَعَائِرَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِقُرْبَانِ الْبُدْنِ فِي الْحَجِّ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَهَا
جَزَاءً عَمَّا يُتَرَخَّصُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَأَمَرَ بِالتَّطَوُّعِ بِهَا فَوَعَدَ عَلَيْهَا بِالثَّوَابَ الْجَزِيلِ فَنَالَتْ بِذَلِكَ الْجَعْلَ الْإِلَهِيِّ يُمْنًا وَبَرَكَةً وَحُرْمَةً أَلْحَقَتْهَا بِشَعَائِرِ اللَّهِ، وَامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ بِمَا اقْتَضَتْهُ كَلِمَةُ لَكُمْ.
وَالْبُدْنُ: جَمْعُ بَدَنَةٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ الْبَعِيرُ الْعَظِيمُ الْبَدَنِ. وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَدَانَةِ، وَهِيَ عِظَمُ الْجُثَّةِ وَالسِّمَنُ، وَفِعْلُهُ كَكَرُمَ وَنَصَرَ، وَلَيْسَتْ زِنَةُ بَدَنَةٍ وَصْفًا وَلَكِنَّهَا اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ الْوَصْفِ، وَجَمْعُهُ بُدْنٌ. وَقِيَاسُ هَذَا الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومَ الدَّالِ مِثْلَ خُشُبٍ جَمْعِ خَشَبَةٍ، وَثُمُرٍ جَمْعِ ثَمَرَةٍ، فَتَسْكِينُ الدَّالِ تَخْفِيفٌ شَائِعٌ، وَغَلَبَ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَعِيرِ الْمُعَيَّنِ لِلْهَدْيِ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» :«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ:
ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَ الثَّالِثَةِ»
فَقَوْلُ الرَّجُلِ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، مُتَعَيَّنٌ لِإِرَادَةِ هَدْيِهِ لِلْحَجِّ.
وَحَرْفُ مِنْ الْأَوَّلِ لِلِابْتِدَاءِ ومِنْ الثَّانِي كَذَلِكَ ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَرَدٍ مَزِيدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى رَأْيِ الَّذِينَ جَوَّزُوا زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ. أَوْ تَكُونُ مِنْ اسْمًا
بِمَعْنَى بَعْضٍ.
وَمَفْعُولُ يُنَزِّلُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِيها مِنْ بَرَدٍ وَالتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ بَرَدًا.
وَوُقُوعُ مِنْ زَائِدَةً لِقَصْدِ مُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: مِنْ جِبالٍ.
وَقَوْلُهُ: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ جَعَلَ نُزُولَ الْبَرْدِ إِصَابَةً لِأَنَّ الْإِصَابَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِهِمْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا حُلُولٌ مَكْرُوهٌ. وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْمُصِيبَةُ الْحَادِثَةُ الْمَكْرُوهَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَة: ٥٠] فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَسَنَةٌ قَرِينَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْحُدُوثِ إِمَّا مَجَازًا مُرْسَلًا وَإِمَّا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا أَوْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا فَإِنَّ (أَصَابَ) مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ وَمِنْهُ صَوْبُ الْمَطَرِ، فَجَعَلَ نُزُولَ الْبَرَدِ إِصَابَةً لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَةَ، فَضَمِيرُ بِهِ لِلْبَرْدِ.
وَجُمْلَةُ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وَصْفٌ لِ سَحاباً. وَضَمِيرُ بَرْقِهِ عَائِدٌ إِلَى سَحاباً. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ تَنْبِيهُ الْعُقُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ إِذْ كَانَ شُعُورُ النَّاسِ بِحُدُوثِ الْبَرْقِ أَوْضَحَ وَأَكْثَرَ مِنْ شُعُورِهِمْ بِتَكَوُّنِ السَّحَابِ وَتَرَاكُمِهِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ وَالْبَرَدِ، إِذْ قَدْ يَغْفَلُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ حُدُوثِهِ وَتَعَوُّدِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ اشْتِدَادِ الْبَرْقِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْأَبْصَارِ الَّتِي حَرَّكَهَا خَفْقُ الْبَرْقِ يَتَذَكَّرُونَ تِلْكَ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُصِّصَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْقِ بِالذِّكْرِ.
وَالسَّنَا مَقْصُورًا: ضَوْءُ الْبَرْقِ وَضَوْءُ النَّارِ. وَأَمَّا السَّنَاءُ الْمَمْدُودُ فَهُوَ الرِّفْعَةُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِي مُتَشَابِهِ الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ:
زَالَ السنا عَن ناظري | هـ وَزَالَ عَنْ شَرَفِ السَّنَاءِ |