وَنَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ وَأَنَّ النُّطْقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ النُّطْقُ إِيمَانًا، وَالْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِثُبُوتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يَكُونُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عِنْد جَمِيع أَئِمَّة الدِّينِ وَيَشْتَهِرُ كَوْنُهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ اللَّازِمِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ اشْتِهَارًا بَيْنَ الْخَاصَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَقَدْ نُقِلَ الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ إِلَى تَصْدِيقٍ خَاصٍّ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ فَسَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فِي مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ مَا هُوَ وَتَطَرَّقُوا أَيْضًا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَنَحْنُ نَجْمَعُ مُتَنَاثِرَ الْمَنْقُولِ مِنْهُمْ مَعَ مَا لِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ تَحْقِيقِ مَذَاهِبِهِمْ فِي جُمْلَةٍ مُخْتَصَرَةٍ.
وَقَدْ أَرْجَعْنَا مُتَفَرِّقَ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالُوا إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا مُسَمَّى لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيُّ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُنْقَلَ مِنْ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ إِلَّا أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى تَصْدِيقٍ خَاصٍّ بِأَشْيَاءَ بَيْنَهَا الدِّينُ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِنَقْلِهِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَغَلَبَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ التَّصْدِيقِ وَاحْتَجُّوا بِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ كَثْرَةً تُلْحِقُهَا بِالْمُسْتَفِيضِ.
مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمُتَقَدِّمُ
وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُول الله: مَالك عَنْ فُلَانٍ فَإِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا»
، قَالُوا وَأَمَّا النُّطْقُ وَالْأَعْمَالُ فَهِيَ مِنَ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ مَفْهُومِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ بِالْجَسَدِ دُونَ الْقَلْبِ وَدَلِيلُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا اللُّغَةُ وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: ١٤] وَلِمَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا،
وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» :«مَنِ اغْتَسَلَ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ بِقَلْبِهِ فَلَوْ مَاتَ مَاتَ مُؤْمِنًا، وَهُوَ
لِلصِّدْقِ عَلَى فَرِيقٍ أَوْ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ (وَمن) الْمَوْصُولَةُ كَذَلِكَ صَالِحَةٌ لِفَرِيقٍ وَشَخْصٍ.
وَالْإِعْجَابُ إِيجَادُ الْعُجْبِ فِي النَّفْسِ وَالْعَجَبُ: انْفِعَالٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ خُفِيَ سَبَبُهُ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ مَا يَخْفَى سَبَبُهُ أَنْ تَرْغَبَ فِيهِ النَّفْسُ، صَارَ الْعجب مستلزما للاستحسان فَيُقَالُ أَعْجَبَنِي الشَّيْءُ بِمَعْنَى أَوْجَبَ لِي اسْتِحْسَانَهُ، قَالَ الْكَوَاشِيُّ يُقَالُ فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَعْجَبَنِي كَذَا، وَفِي الْإِنْكَارِ: عَجِبْتُ مِنْ كَذَا، فَقَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ أَيْ يَحْسُنُ عِنْدَكَ قَوْلُهُ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى حَالِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّ الرَّسُولَ وَيُعْجِبُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صِفَةَ قَوْلِهِ فِي فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يُضَادُّ قَوْلَهُ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ إِلَى آخِرِهِ.
وَالْخِطَابُ إِمَّا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ لَكَ مَا يُعْجِبُكَ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَحُبُّ الْخَيْرِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْكُفَّارِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ «مِنْ» الْمُنَافِقِينَ وَمُعْظَمُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَفِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ يَثْرِبَ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، أَوْ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْأَخْنَس بن شرِيف الثَّقَفِيُّ وَاسْمُهُ أُبَيٌّ وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَخْوَالُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ بَلْ خَنَسَ أَيْ تَأَخَّرَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى بَدْرٍ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ أحلافه فصدهم عَن الِانْضِمَامِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يُظْهِرُ الْوُدَّ لِلرَّسُولِ فَلَمَّا انْقَضَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَقَ زَرْعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ حَمِيرًا لَهُمْ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَاتِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَم: ١٠، ١١] وَنَزَلَتْ فِيهِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: ١]، وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ ثَقِيفٍ عَدَاوَةٌ فَبَيَّتَّهُمْ لَيْلًا فَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ وَقَتَلَ مَوَاشِيَهُمْ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَعَلَى هَذَا فَتَقْرِيعُهُ لِأَنَّهُ غَدَرَهُمْ وَأَفْسَدَ.
وَيَجُوزُ أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ تَرُوجَ عَلَيْهِمْ حيل الْمُنَافِقين وتنبيه لَهُمْ إِلَى اسْتِطْلَاعِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَن يتَعَلَّق بيعجبك فَيُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: ١٤] أَيْ إِعْجَابُكَ بِقَوْلِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ الْحُصُولَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فِي الْآخِرَةِ
وَالنِّسَاءُ: الْأَزْوَاجُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذَا أُضِيفَ لَفْظُ النِّسَاءِ إِلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ دُونَ مَا إِذَا وَرَدَ غَيْرَ مُضَافٍ، قَالَ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
[الْأَحْزَاب: ٣٢] وَقَالَ: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ النَّابِغَةُ:

حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وَالْأَنْفُسُ أَنْفُسُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَنْفُسُ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ وَإِيَّانَا وَإِيَّاكُمْ، وَأَمَّا الْأَبْنَاءُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ شُبَّانُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَشْمَلُ الصِّبْيَانَ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَعُودَ عَلَيْهِمْ آثَارُ الْمُلَاعَنَةِ.
وَالِابْتِهَالُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَهْلِ، وَهُوَ اللَّعْنُ، يُقَالُ: بَهَلَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَاللَّعْنَةُ بَهْلَةٌ وَبُهْلَةٌ- بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الِابْتِهَالُ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ قَالَ الْأَعْشَى: لَا تَقْعُدَنَّ وَقَدْ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.
وَهَذِهِ دَعْوَةُ إِنْصَافٍ لَا يَدْعُو لَهَا إِلَّا وَاثِقٌ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. وَهَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ لَمْ تَقَعْ لِأَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إِلَيْهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ النَّبِيءَ هَيَّأَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا لِيَصْحَبَهُمْ مَعَهُ لِلْمُبَاهَلَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ إِحْضَارَ نِسَائِهِ وَلَا إِحْضَارَ بعض الْمُسلمين.
[٦٢، ٦٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
جُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْله: الْكاذِبِينَ [آل عمرَان: ٦١] لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ عِيسَى عبد الله، وَزَعَمُوا أَنَّهُ غُلِبَ فَإِثْبَاتُ أَنَّهُ عَبْدٌ هُوَ الْحَقُّ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ عِيسَى.
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
غَيْرَ مُضَارٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُوصى الْأَخِيرِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ يُوصَى تَكْرِيرًا، كَانَ حَالًا مِنْ ضَمَائِرِ نَظَائِرِهِ.
ومُضَارٍّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ بِتَقْدِيرِ كَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ أَيْ غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَتَهُ بِإِكْثَارِ الْوَصَايَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يقْصد الْمُوصي مِنْ وَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَرَثَةِ.
وَالْإِضْرَارُ مِنْهُ مَا حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ ثُلُثَ مَالِهِ وَقَدْ حَدَّدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الْمُوصِي بِوَصِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِالْوَارِثِ وَلَا يَقْصِدُ الْقُرْبَةَ بِوَصِيَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ. وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُوصِي وَقَصْدُهُ الْإِضْرَارَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِدِينِهِ وَخَشْيَةِ رَبِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُضَارٍّ نَهْيٌ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
ويتعيّن أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَيْد مقيّدا لِلْمُطْلَقِ فِي الْآيِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُطْلَقَاتِ مُتَّحِدَةُ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ. فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَقد أَخَذَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ مَسْأَلَةِ قَصْدِ الْمُعْطِي مِنْ عَطِيَّتِهِ الْإِضْرَارَ بِوَارِثِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَطَايَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ خَاصَّةً. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ قَصْدَ الْمُضَارَّةِ فِي الثُّلُثِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَنَازَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مَا فِي
الْوَصَايَا الثَّانِي مِنَ «الْمُدَوَّنَةِ»، صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ يُوجِبُ رَدَّ الْوَصِيَّةِ وَبَحْثُ ابْنِ عَرَفَةَ مَكِينٌ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُرَدُّ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ إِذَا تَبَيَّنَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَرَى تَأْثِيرَ الْإِضْرَارِ. وَفِي شَرْحِ ابْنِ نَاجِي عَلَى تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَا يُوهِنُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَبِهِ الْفَتْوَى.
وَقَوله: وَصِيَّةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِقَامَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عِنْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالِاعْتِرَافِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التبشير بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَوْمَأَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى تَوَغُّلِ الْيَهُودِ فِي مُجَانَبَةِ الْهُدَى لِأَنَّهُمْ قَدْ عَطَّلُوا إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ مُنْذُ عُصُورٍ قَبْلَ عِيسَى، وَعَطَّلُوا إِقَامَةَ الْإِنْجِيلِ إِذْ أَنْكَرُوهُ، وَأَنْكَرُوا مَنْ جَاءَ بِهِ، ثُمَّ أَنْكَرُوا نبوءة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِيمُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الْمَائِدَة: ٦٦] إِلَخْ.
وَقَدْ فَنَّدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَزَاعِمَ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مَا تَمَسَّكُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِغَيْرِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ جَاءُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ حَقٌّ، قَالَ: «بَلَى»، قَالُوا: فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُؤْمِنُ بِمَا عَدَاهَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَلَيْسَ لَهُ سَنَدٌ قَوِيٌّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّصارى للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ تَمَسُّكِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ مِثْلَ قَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، كَمَا فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَكَمَا فِي مُجَادَلَةِ بَعْضِ وَفْدِ نَجْرَانَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِبَاعِثِ الْحَسَدِ عَلَى مَجِيءِ هَذَا الدِّينِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِدِينِهِمْ، وَإِمَّا بِمَا فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَارِعِهِمْ وَتَفْنِيدِ مَزَاعِمِهِمْ. وَلَمْ يَزَلِ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ إِذَا ذَكَرُوا الْإِسْلَامَ حَتَّى فِي الْمَبَاحِثِ التَّارِيخِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يَحْتَدُّونَ عَلَى مَدَنِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَقْلِبُونَ الْحَقَائِقَ وَيَتَمَيَّزُونَ غَيْظًا وَمُكَابَرَةً حَتَّى تَرَى الْعَالِمَ الْمَشْهُودَ لَهُ مِنْهُمْ يَتَصَاغَرُ وَيَتَسَفَّلُ إِلَى دركات التبال وَالتَّجَاهُلِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنِ اتَّخَذَ الْإِنْصَافَ شِعَارًا، وَتَبَاعَدَ عَنْ أَنْ يُرْمَى بِسُوءِ الْفَهْمِ تَجَنُّبًا وَحِذَارًا.
مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِ آلِهَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ.
وَجُمْلَةُ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ بَيِّنَةٍ. وَهِيَ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْهُمْ أَنْ كَذَّبُوا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَيْ أَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ فَشَتَّانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ يَعُودُ إِلَى الْبَيِّنَةِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهَا بِالْبَيَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا صَدَّقَهَا الْيَقِينُ أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ وَكَذَّبْتُمْ بِالْيَقِينِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا، وَيَعُودُ إِلَى رَبِّي عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) اتِّصَالِيَّةً، أَيْ كُنْتُ أَنَا عَلَى يَقِينٍ فِي شَأْنِ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَعَ أَنَّ دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ. وَيَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِشُهْرَةِ التَّدَاوُلِ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِهِ فَإِذَا أُطْلِقَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ انْصَرَفَ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ.
وَالْبَاءُ الَّتِي عُدِّيَ بِهَا فِعْلُ كَذَّبْتُمْ هِيَ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]. فَلِذَلِكَ يَدُلُّ فِعْلُ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيِ التَّكْذِيبِ الْقَوِيِّ. وَلَعَلَّ الِاسْتِعْمَالَ أَنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ فِعْلَ التَّكْذِيبِ بِالْبَاءِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَكْذِيبُ حُجَّةٍ أَوْ بُرْهَانٍ مِمَّا يُحْسَبُ سَبَبَ تَصْدِيقٍ، فَلَا يُقَالُ: كَذَّبْتُ بِفُلَانٍ، بَلْ يُقَالُ: كَذَّبْتُ فُلَانًا قَالَ تَعَالَى: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الْفرْقَان: ٣٧] وَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: ٢٣].
وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ بِهِمْ فِي شَأْنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَوْلُهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عِنَادًا عِنْدَ سَمَاعِ تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَتَنَقُّصِ عَقَائِدِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكَ حَقًّا فَأَيْنَ الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدْتَنَا. فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَقَالُوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: ٩٢] فَأُمِرَ بِأَنْ يُجِيبَ أَنْ يَقُولَ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
فَقَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنِ يَديك وخلفك، فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى (بَرْكِ الْغِمَادِ) (بِفَتْحِ بَاءِ بَرْكِ وَغَيْنُ الْغِمَادِ ومعجمة مَكْسُورَةٌ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ بَعِيدٍ جِدًّا عَن مَكَّة) لجادلنا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»

وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا يَوْمئِذٍ «إِنَّا برءاء مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَإِنَّكَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ لَا يَرَوْنَ نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْر فخصته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ وَمَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ بِنَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ» فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَابْشُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ- أَيْ وَلَمْ يَخُصَّ وَعْدَ النَّصْرِ، بِتَلَقِّي الْعِيرِ فَقَطْ- فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ زَالَ مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ
، وَقَوْلُهُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي أَفَادَتْهُ، (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثَاقَلُوا وَقْتَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا الْعِيرَ دُونَ النَّفِيرِ حِينَ اسْتِشَارَةِ وَادِي ذَفِرَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ مُمْتَدًّا فِي الزَّمَانِ، فَجُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ أَخْرَجَكَ.
وَتَأْكِيدُ خَبَرِ كَرَاهِيَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِمَّا
فَالْجِهَادُ الْمَأْمُورُ لِلْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَلَفْظُ (الْجِهَادِ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَفَائِدَةُ الْقَرْنِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجِهَادِ: إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ خَاضِدًا شَوْكَتَهُمْ.
وَأَمَّا جِهَادُهُمْ بِالْفِعْلِ فَمُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُظْهِرِينَ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْجِهَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْمُقَاوَمَةِ بِالْحُجَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَكَانَ غَالِبُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي عَهْدِ النُّبُوءَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ جِهَادُهُمْ يَنْتَهِي إِلَى الْكَشْرِ فِي وُجُوهِهِمْ. وَحَمَلَهَا الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَنَسَبَهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِمَقْنَعٍ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَعْنَى.
وَهَذِهِ الْآيَةُ إِيذَانٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ النِّفَاقَ يُوجِبُ جِهَادَهُمْ قَطْعًا لِشَأْفَتِهِمْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَرِّفُهُمْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُمْ مَنْ تَكَرَّرَتْ بَوَادِرُ أَحْوَالِهِ، وَفَلَتَاتُ مَقَالِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيءُ مُمْسِكًا عَنْ قَتْلِهِمْ سَدًّا لِذَرِيعَةِ دُخُولِ الشَّكِّ فِي الْأَمَانِ عَلَى الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ لِعُمَرَ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» لِأَنَّ الْعَامَّةَ وَالْغَائِبِينَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَا يَبْلُغُونَ بِعِلْمِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْجَارِيَةِ بِالْمَدِينَةِ، فَيَسْتَطِيعُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُشَوِّهُوا الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ صُورَةٍ بَشِيعَةٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْحَقِيقَةَ، فَلَمَّا كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَاشْتَهَرَ مِنْ أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا شَكَّ مَعَهُ فِي وَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَاعَ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَخِيَانَتِهِمْ مَا تَسَامَعَتْهُ الْقَبَائِلُ وَتَحَقَّقَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، تَمَحَّضَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ، وَانْتَفَتْ ذَرِيعَةُ تَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَجَلَ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدِ اقْتَرَبَ، وَأَنَّهُ إِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهُ هَذِهِ الْفِئَةُ ذَاتُ الْفِتْنَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَعَسُرَ تَدَارُكُهَا، وَاقْتَدَى بِهَا كُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، لَا جَرَمَ آذَنَهُمْ بِحَرْبٍ لِيَرْتَدِعُوا وَيُقْلِعُوا عَنِ النِّفَاقِ. وَالَّذِي يُوجِبُ قِتَالَهُمْ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ، أَيْ صَرَّحَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَانِهِ الْكُفْرَ وَسَمِعَهَا الْآخَرُونَ فَرَضُوا بِهَا، وَصَدَرَتْ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ،
وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ هَذِهِ الْخِيَامَ أَوِ الْأَخْصَاصَ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا
تَجْعَلُونَهَا مَفْتُوحَةً إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقِبْلَةُ: اسْمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ قِبْلَةَ بِلَادِ مِصْرَ كَقِبْلَةِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهِيَ الْجَنُوبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْقِبْلَةِ فِي الْآيَةِ حِكَايَةً لِتَعْبِيرِ مُوسَى عَنْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ جَارِيًا عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى صَخْرَةِ الْقُدْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ عَبَّرَ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى الْجَنُوبِ فَحُكِيَتْ عِبَارَتُهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَنُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ كَلِمَةُ قِبْلَةٍ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْبُيُوتِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُهَا مِنْ أَبْوَابِهَا فِي غَالِبِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.
وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْبُيُوتَ بِأَنَّهَا بُيُوتُ السُّكْنَى فَسَّرُوا قِبْلَةً: إِمَّا بِمَعْنَى مُتَقَابِلَةً، وَإِمَّا بِمَعْنَى اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَحَلَّ صَلَاتِكُمْ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَسَّرُوا الْقِبْلَةَ بِأَنَّهَا قِبْلَةُ الصَّلَاةِ، أَيْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُلَائِمُ تَرْكِيبَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لِأَنَّ التَّرْكِيبَ اقْتَضَى أَنَّ الْمَجْعُولَ قِبْلَةً هُوَ الْبُيُوتُ أَنْفُسُهَا لَا أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ فِيهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِذَا افْتَقَدْنَا التَّأْوِيلَاتِ كُلَّهَا لَا نَجِدُهَا إِلَّا مُفَكَّكَةً مُتَعَسِّفَةً خَلَا التَّفْسِيرِ الَّذِي عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ مِنْ عَمَلِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَقَوْمِهِمَا إِذْ كُلُّ أَحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً.
وَعَبَّرَ عَمَّا عَرَضَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَوْنِ الْمَطْلُوبِ حَالَةً هِيَ مَظَنَّةُ الطَّوَاعِيَةِ، لِأَنْ تُمَالِئَ النَّاسُ عَلَى طَلَبِ الشَّيْءِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ لِلْفِعْلِ، فَأَظْهَرَ أَنَّ تَمَالُئَهُنَّ عَلَى طَلَبِهِنَّ مِنْهُ امْتِثَالُ أَمْرِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَفُلَّ مِنْ صَارِمِ عَزْمِهِ عَلَى الْمُمَانَعَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِسُؤَالِ الْعِصْمَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَرَكِ كَيْدِهِنَّ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الرِّضَى بِوَعِيدِهَا إِلَى سُؤَالِ الْعِصْمَةِ مِنْ كَيْدِهَا.
وَأَسْنَدَ فِعْلَ يَدْعُونَنِي إِلَى نُونِ النِّسْوَةِ، فَالْوَاوُ الَّذِي فِيهِ هُوَ حَرْفٌ أَصْلِيٌّ وَلَيْسَتْ وَاوُ الْجَمَاعَةِ، وَالنُّونُ لَيْسَتْ نُونُ رَفْعٍ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، وَوَزْنُهُ يَفْعَلْنَ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الَّتِي دَعَتْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، إِمَّا لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ مِنْ رَغَبَاتِ صِنْفِ النِّسَاءِ فَيَكُونُ عَلَى وَزَانِ جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي كَيْدَهُنَّ، وَإِمَّا لِأَنَّ النِّسْوَةَ اللَّاتِي جَمَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لَمَّا سَمِعْنَ كَلَامَهَا تَمَالَأْنَ عَلَى لَوْمِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَحْرِيضِهِ عَلَى إِجَابَةِ الدَّاعِيَةِ، وَتَحْذِيرِهِ مِنْ وَعِيدِهَا بِالسِّجْنِ. وَعَلَى وَزَانِ هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي كَيْدَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: ٢٨] أَيْ كَيْدَ صِنْفِ النِّسَاءِ، مِثْلَ قَوْلِ الْعَزِيزِ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، أَيْ كَيْدَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ.
وَجُمْلَةُ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخَوُّفِ وَالتَّوَقُّعِ الْتِجَاءً إِلَى اللَّهِ وَمُلَازَمَةً لِلْأَدَبِ نَحْوَ رَبِّهِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ تُقَلُّبِ الْقَلْبِ وَمِنَ الْفِتْنَةِ بِالْمَيْلِ إِلَى اللَّذَّةِ الْحَرَامِ. فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ جُمْلَةَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.
وَمَعْنَى أَصْبُ أَمِلْ. وَالصَّبْوُ: الْمَيْلُ إِلَى الْمَحْبُوبِ.
وَالْجَاهِلُونَ: سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، فَالْجَهْلُ هُنَا مُقَابِلُ الْحِلْمِ. وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ مُبَالَغَةَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَكُنْ جَاهِلًا كالقول فِي وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [سُورَة يُوسُف:
٣٢].
وَ (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) مَعْمُولٌ لِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفَةٍ كَمَا هُوَ غَالِبُ حَالِهَا مَعَ أَنْ.
وَالْمَعْنَى التَّعْلِيلُ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِنَقْضِ الْأَيْمَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ تَنْقُضُونَ الْأَيْمَانَ بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، أَيْ أَقْوَى وَأَكْثَرُ.
وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ وَالْقَبِيلَةُ. وَالْمَقْصُودُ طَائِفَةُ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْلَافُهُمْ.
وأَرْبى: أَزْيَدُ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الرُّبُوِّ بِوَزْنِ الْعُلُوِّ، أَيِ الزِّيَادَةِ، يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ أَعْنِي كَثْرَةَ الْعَدَدِ، وَالْمَجَازَ أَعْنِي رَفَاهِيَةَ الْحَالِ وَحُسْنَ الْعَيْشِ. وَكَلِمَةُ أَرْبى تُعْطِي هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا فَلَا تَعْدِلُهَا كَلِمَةٌ أُخْرَى تَصْلُحُ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَوَقْعُهَا هُنَا مِنْ مُقْتَضَى الْإِعْجَازِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَبْعَثُكُمْ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ كَوْنُ أُمَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ أُمَّةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الْمَنْقُوضُ لِأَجْلِهَا وَأَنَّ الْأُمَّةَ الْمَفْضُولَةَ هِيَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا، أَيْ لَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى نَقْضِ الْحَلِفِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَمْوَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَبْعَثُكُمْ ذَلِكَ عَلَى الِانْفِصَالِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلتَّعْلِيلِ بِمَا يَقْتَضِي الْحِكْمَةَ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ صِدْقَ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٦٥].
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: مَا ذَلِكَ الرَّبْوُ إِلَّا بَلْوَى لَكُمْ.
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ. وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ الْكِنَايَةَ عَنْ إِظْهَارِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ بِهِ يَعُودُ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ أَنَّهُ سَيُبَيِّنُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ فَتَظْهَرُ الْحَقَائِقُ كَمَا هِيَ غَيْرُ مُغَشَّاةٍ بِزَخَارِفِ الشَّهَوَاتِ وَلَا
وَأَوَى أَوْيًا إِلَى الْمَكَانِ: جَعَلَهُ مَسْكَنًا لَهُ، فَالْمَكَانُ: الْمَأْوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨].
وَالْفِتْيَةُ: جمع قلَّة لفتى، وَهُوَ الشَّابُّ الْمُكْتَمِلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالْمُرَادُ بِالْفِتْيَةِ: أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِذْ أَوَوْا، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْفِتْيَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَتْرَابًا مُتَقَارِبِي السِّنِّ. وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهِ مِنِ اكْتِمَالِ خَلْقِ الرُّجُولِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْفُتُوَّةِ الْجَامِعِ لِمَعْنَى سَدَادِ الرَّأْيِ، وَثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ فَلَمْ يَقِلْ: إِذْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ.
وَدَلَّتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَقالُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَادَرُوا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ.
وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُنَاسِبُ عِنَايَتَهُ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَزِيَادَةُ مِنْ لَدُنْكَ لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْإِيتَاءِ تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي (مِنْ) مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَفِي (لَدُنْ) مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالُوا: آتِنَا رَحْمَةً، لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا رَحْمَةً خَاصَّةً وَافِرَةً فِي حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّهَا، وَقَصَدُوا الْأَمْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلِئَلَّا يُلَاقُوا فِي اغْتِرَابِهِمْ مَشَقَّةً وَأَلَمًا، وَأَنْ لَا يُهِينَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ فَيَصِيرُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُقَدِّرَ لَهُمْ أَحْوَالًا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا حُصُولَ مَا خَوَّلَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هِيَ إِعْدَادُ أَسْبَابِ حُصُولِ الشَّيْءِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِنا ابْتِدَائِيَّةٌ.

[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٢ إِلَى ٧٣]

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)
أَظْهَرُوا اسْتِخْفَافَهُمْ بِوَعِيدِهِ وَبِتَعْذِيبِهِ، إِذْ أَصْبَحُوا أَهْلَ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ بالرسل إِذا أشرقت عَلَيْهِمْ أَنْوَارُ الرِّسَالَةِ فَسُرْعَانَ مَا يَكُونُ انْقِلَابُهُمْ عَنْ جَهَالَةِ الْكُفْرِ وَقَسَاوَتِهِ إِلَى حِكْمَةِ الْإِيمَانِ وَثَبَاتِهِ. وَلَنَا فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ صِدْقٍ.
وَالْإِيثَارُ: التَّفْضِيلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩١]. وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مُقْتَضٍ حَذْفَ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمُقَابَلَةَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ لَنْ نُؤْثِرَ طَاعَتَكَ أَوْ دِينَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ عَطْفُ وَالَّذِي فَطَرَنا، أَيْ لَا نُؤْثِرُكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الَّذِي فَطَرَنَا.
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْفَاطِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِيثَارِ.
وَأُخِّرَ الَّذِي فَطَرَنا عَنْ مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمْ أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَنَبْذَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، لِأَنَّ مَا أَنْتَ قاضٍ مَا صدقه مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ تَقْطِيعِ
وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي «مَقَامَاتِهِ» :«يَا أَبَا الْقَاسِمِ اقْنَعْ مِنَ الْقَنَاعَةِ لَا مِنَ الْقُنُوعِ، تَسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ مِعْطَاءٍ وَمَنُوعٍ». وَفِي «الْمُوَطَّأِ» فِي كِتَابِ الصَّيْدِ قَالَ مَالِكٌ: «وَالْقَانِعُ هُوَ الْفَقِيرُ».
وَالْمُعْتَرُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اعْتَرَّ، إِذَا تَعَرَّضَ لِلْعَطَاءِ، أَيْ دُونَ سُؤَالٍ بَلْ بِالتَّعْرِيضِ وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ مَوْضِعَ الْعَطَاءِ، يُقَالُ: اعْتَرَّ، إِذَا تَعَرَّضَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» فِي كِتَابِ الصَّيْدِ قَالَ مَالِكٌ: «وَسَمِعْتُ أَنَّ الْمُعْتَرَّ هُوَ الزَّائِرُ، أَيْ فَتكون من عرا إِذَا زَارَ» وَالْمُرَادُ زِيَارَةُ التَّعَرُّضِ لِلْعَطَاءِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحْسَنُ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّهُ عَطَفَ الْمُعْتَرَّ عَلَى الْقانِعَ، فَدَلَّ الْعَطْفُ عَلَى
الْمُغَايَرَةِ، وَلَوْ كَانَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ لَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يُعْطَفْ فِي قَوْلِهِ وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [الْحَج: ٢٨].
وَجُمْلَةُ وكَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ اسْتِئْنَافٌ لِلِامْتِنَانِ بِمَا خَلَقَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِنَفْعِ النَّاسِ. وَالْأَمَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى إِرَادَتِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَهَا لِلنَّاسِ مَعَ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ وَقُوَّةِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الْعَدَدَ مِنْهَا وَيَسُوقُهَا مُنْقَادَةً وَيُؤْلِمُونَهَا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ بِالطَّعْنِ.
وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طِبَاعِهَا هَذَا الِانْقِيَادَ لَمَا كَانَتْ أَعْجَزَ مِنْ بَعْضِ الْوُحُوشِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا فَتَنْفِرُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَلَا تُسَخَّرُ لَهُ.
وَقَوْلُهُ كَذلِكَ هُوَ مِثْلُ نَظَائِرِهِ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ الْعَجِيبِ الَّذِي تَرَوْنَهُ كَانَ تَسْخِيرُهَا لَكُمْ.
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ خَلَقْنَاهَا مُسَخَّرَةً لَكُمُ اسْتِجْلَابًا لِأَنْ تَشْكُرُوا اللَّهَ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا تَعْرِيض بالمشركين إِذا وضعُوا الشُّكْر مَوْضِعَ الشُّكْرِ
وَالدَّابَّةُ: مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ مَشَى. وَغُلِّبَ هُنَا الْإِنْسَانُ فَأُتِي بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ مُرَادًا بِهِ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ مَرَّتَيْنِ.
وَتَنْكِيرُ ماءٍ لِإِرَادَةِ النَّوْعِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِ الْمَاءِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الدَّوَابِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى اخْتِلَافِ النُّطَفِ لِلزِّيَادَةِ فِي الِاعْتِبَارِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاء: ٣٠] إِذْ قَصَدَ ثَمَّةَ إِلَى أَنَّ أَجْنَاسَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ هُنَاكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ إِجْمَالًا وَيَعْهَدُونَهُ مِنْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطَفِ أُصُولِهِ. وَهَذَا مَنَاطُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّنْكِيرِ كَمَا هُنَا وَبَيْنَ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَمَا فِي آيَةِ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاء: ٣٠].
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ.
وَرُتِّبَ ذِكْرُ الْأَجْنَاسِ فِي حَالِ الْمَشْيِ عَلَى تَرْتِيبِ قُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْمَاشِيَ بِلَا آلَةِ مَشْيٍ مُتَمَكِّنَةٍ أَعْجَبُ مِنَ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَهَذَا الْمَشْيُ زَحْفًا. أَطْلَقَ الْمَشْيَ عَلَى الزَّحْفِ بِالْبَطْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ الْمُشَاهَدِ.
وَجُمْلَةُ: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ زِيَادَةٌ فِي الْعِبْرَةِ، أَيْ يَتَجَدَّدُ خَلْقُ اللَّهِ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِمَّا عَلِمْتُمْ وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا. فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ وَتَذْيِيلٌ. وَوَقَعَ فِيهِ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَار ليَكُون كلَاما مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ أَنْ يكون كالمثل.
[٤٦]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٤٦]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: إِنَّ الْمُلُوكَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، فَقَوْلُهَا إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها اسْتِدْلَالٌ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَلِهَذَا تَكُونُ إِذا ظَرْفًا لِلْمَاضِي بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١] وَقَوْلِهِ:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: ٩٢].
وَجُمْلَةُ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بِحُكْمِ الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ وَهُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَجَعْلِ الْأَعِزَّةِ أَذِلَّةً، أَيْ فَكَيْفَ نُلْقِي بِأَيْدِينَا إِلَى مَنْ لَا يَأْلُو إِفْسَادًا فِي حَالِنَا.
فَدَبَّرَتْ أَنْ تَتَفَادَى مِنَ الْحَرْبِ وَمِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ، بِطَرِيقَةِ الْمُصَانَعَةِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِإِرْسَالِ هَدِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَطْلِعْ رَأْيَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِأَنَّهُمْ فَوَّضُوا الرَّأْيَ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ عَلَى مَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ يُعَدُّ مُوَافَقَةً وَرِضًى.
وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَدِّمَةٌ لِمَا سَتُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ عَزْمِهَا، وَيَتَضَمَّنُ تَعْلِيلًا لِمَا عَزَمَتْ عَلَيْهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِهَدِيَّةٍ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ. وَمَفْعُولُ مُرْسِلَةٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ مُرْسِلَةٌ وَكَوْنُ التَّشَاوُرِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ. فَالتَّقْدِيرُ: مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَوَفْدًا مَصْحُوبًا بِهَدِيَّةٍ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَفْدُ مَصْحُوبًا بِكِتَابٍ تُجِيبُ بِهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنِ الْكِتَابِ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ، وَهُوَ مَنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُدَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ فِي كِتَابٍ بِالتَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلَامِ مِنَ الْحَاضِرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَدَّ الْكِتَابِ وَاجِبًا كَرَدِّ السَّلَامِ اه. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حُكْمٍ فِيهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَوَابَ إِنْ كَانَ عَنْ كِتَابٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى صِيغَةِ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْجَوَابِ وَاجِبًا وَأَنْ
يَشْتَمِلَ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْكِتَابَةِ يُقَاسُ عَلَى الرَّدِّ بِالْكَلَامِ مَعَ إِلْغَاءِ فَارِقِ مَا فِي الْمُكَالَمَةِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ الَّتِي يَكُونُ تَرْكُ الرَّدِّ مَعَهَا أَقْرَبَ لِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ. وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا عَنْ كِتَابٍ إِلَّا جَوَابَهُ عَنْ كِتَابِ مُسَيْلَمَةَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
وَيَخْرُجُ مِنَ النَّهْيِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِآخَرَ: أَنْتَ أَبِي وَأَنَا ابْنُكَ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقْرِيبِ وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِفَاءِ اللَّبْسِ، كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ يُرَقِّقُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ:
إِنَّمَا أَنْتَ وَالِدٌ وَالْأَبُ الْقَا طِعُ أَحَنَى مِنْ وَاصَلِ الْأَوْلَادِ
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الْأَحْزَاب: ٢٤] تَعْلِيلُ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَطَأِ بِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مِنْ آثَارِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بِخَلْقِهِ.
[٦]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤] وَقَوْلَهُ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٥] كَانَ قَدْ شَمِلَ فِي أَوَّلِ مَا شَمله فِي أول مَا شَمِلَهُ إِبْطَالَ بُنُوَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بِحَيْثُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ النَّاسِ عَنْ مَدَى صِلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَبِيئِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهل هِيَ علاقَة الْأَجَانِبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ سَوَاءٌ فَلِأَجَلِ تَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ حُقُوقَ النَّبِيءِ وَحُرْمَتَهُ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ النَّبِيءَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمن تَفْضِيلِيَّةٌ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْفُسَ مُرَادٌ بِهَا جَمْعُ النَّفْسِ وَهِيَ اللَّطِيفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: ١١٦]، وَأَنَّ الْجَمْعَ لِلتَّوْزِيعِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ آيِلٍ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَنْفُسِ، أَيْ: أَنَّ النَّبِيءَ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ، أَيْ: هُوَ أَشَدُّ وِلَايَةً، أَيْ: قُرْبًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ قُرْبِ نَفْسِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قُرْبٌ مَعْنَوِيٌّ يُرَادُ بِهِ آثَارُ الْقُرْبِ مِنْ مَحَبَّةٍ وَنُصْرَةٍ. فَ أَوْلى اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، أَيْ: أَشَدُّ قُرْبًا. وَهَذَا الِاسْمُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَحَقِّيَّةِ بِالشَّيْءِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ متعلّقه بِبِنَاء الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: أَوْلَى بِمَنَافِعِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِمَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا الْمُضَافُ حُذِفَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ كُلِّ شَأْن من شؤون الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحَةِ.
فَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الذَّهَابَ مُسْتَعَارٌ إِلَى التَّلَفِ وَالِانْعِدَامِ كَمَا يُقَال: طارت نَفسه شَعَاعًا، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ
لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ تَوْزِيعِ النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَكْرِيرُ الْخِطَابِ وَالنَّهْيِ لِكِلَيْهِمَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّجْرِيدِ الْمَعْدُودِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُوجِبِ تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩].
وَالْحَسْرَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٩].
وَانْتَصَبَ حَسَراتٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تُتْلِفْ نَفْسَكَ لِأَجْلِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣]، وَقَوْلِهِ:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يُوسُف: ٨٤] أَيْ مِنْ حُزْنِ نَفْسِهِ لَا مِنْ حُزْنِ الْعَيْنَيْنِ.
وَجُمِعَتِ الْحَسَرَاتُ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ صَالِحٌ للدلالة على تكْرَار الْأَفْرَادِ قَصْدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ جِنْسِ الْحَسْرَةِ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يَكُونُ عِنْدَ تَعَاقُبِ الْحَسَرَاتِ الْوَاحِدَةِ تِلْوَ الْأُخْرَى لِدَوَامِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْهُ فَكُلُّ تَحَسُّرٍ يَتْرُكُ حَزَازَةً وَكَمَدًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُطِيقُهُ النَّفْسُ فَيَنْفَطِرَ لَهُ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الطِّبِّ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ كَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ سَبَبُهُ اخْتِلَالُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ مِنْ تَوَارُدِ الْآلَامِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ نَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَنَصْبِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يُذْهِبَ نَفْسَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَاءَاتٍ أَرْبَعٍ كُلُّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ وَهِيَ الَّتِي بَلَغَ بِهَا نَظْمُ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَفِي اجْتِمَاعِهَا مُحَسِّنُ جَمْعِ النَّظَائِرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ التَّصَبُّرِ وَالتَّحَلُّمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ
وَالْبَنَّاءُ: الَّذِي يَبْنِي وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَصُوغٌ عَلَى زِنَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلِدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الصِّنَاعَةِ مِثْلُ نَجَّارٍ وَقَصَّارٍ وَحَدَّادٍ.
وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ فِي الْبَحْرِ لِاسْتِخْرَاجِ مَحَارِ اللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا صِيغَ عَلَى وَزْنِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الصِّنَاعَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ [الْأَنْبِيَاء: ٨٢].
وَقَدْ بَلَغَتِ الصِّنَاعَةُ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَبْلَغًا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْجَوْدَةِ وَالْجَلَالِ، وَنَاهِيكَ
بِبِنَاءِ هَيْكَلِ أُورْشَلِيمَ وَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَمَا جُلِبَ إِلَيْهِ مِنْ مَوَادِّ إِقَامَتِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الصَّرْحُ الَّذِي أَقَامَهُ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِيهِ مَمْلَكَةُ سَبَأٍ.
وآخَرِينَ عَطْفٌ عَلَى كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ. وَجَمْعُ آخَرٍ بِمَعْنَى مُغَايِرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُغَايَرَةُ فِي النَّوْعِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْجِنِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُغَايَرَةُ فِي الصِّفَةِ، أَيْ غَيْرَ بَنَّائِينَ وَغَوَّاصِينَ. وَقَدْ كَانَ يُجْلَبُ مِنَ الْمَمَالِكِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ وَالدَّاخِلَةِ تَحْتَ ظِلِّ سُلْطَانِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بِنَاءِ الْقُصُورِ وَالْحُصُونِ وَالْمُدُنِ وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ عَظِيمَةً وَكُلُّ الْمُلُوكِ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُ وَيُصَانِعُونَهُ.
وَالْمُقَرَّنُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ قَرَنَهُ مُبَالَغَةً فِي قَرْنِهِ أَيْ جَعْلُهُ قَرِينًا لِغَيْرِهِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.
والْأَصْفادِ: جَمْعُ صَفَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقَيْدُ. يُقَالُ: صَفَّدَهُ، إِذَا قَيَّدَهُ. وَهَذَا صِنْفٌ مِمَّنْ عُبِّرَ عَنْهُمْ بِالشَّيَاطِينِ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ يُخْشَى تَفَلُّتُهُ وَيُرَامُ أَنْ يَسْتَمِرَّ يَعْمَلُ أَعْمَالًا لَا يُجِيدُهَا غَيْرُهُ فَيُصَفَّدُ فِي الْقُيُودِ لِيَعْمَلَ تَحْتَ حِرَاسَةِ الْحُرَّاسِ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الْمُلُوكِ يَجْعَلُونَ أَصْحَابَ الْخَصَائِصِ فِي الصِّنَاعَاتِ مَحْبُوسِينَ حَيْثُ لَا يَتَّصِلُونَ بِأَحَدٍ لِكَيْلَا يَسْتَهْوِيَهُمْ جَوَاسِيسُ مُلُوكٍ آخَرِينَ يَسْتَصْنِعُونَهُمْ لِيَتَخَصَّصَ أَهْلُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ بِخَصَائِصِ تِلْكَ الصِّنَاعَاتِ فَلَا تُشَارِكُهَا فِيهَا مَمْلَكَةٌ أُخْرَى وَبِخَاصَّةٍ فِي صُنْعِ آلَاتِ الْحَرْبِ مِنْ سُيُوفٍ وَنِبَالٍ وَقِسِيٍّ وَدَرَقٍ وَمِجَانٍ وَخُوَذٍ وَبَيْضَاتٍ وَدُرُوعٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ
ابْتِدَاءٍ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ إِذا تُفِيدُ تَوْكِيدَ مَعْنَى إِذا مِنَ الِارْتِبَاطِ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ إِذا سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْطِيَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧]. وَيَظْهَرُ أَنَّ وُرُودَ مَا بَعْدَ إِذا يُقَوِّي مَعْنَى الشَّرْطِ فِي إِذا، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعْنَى الشَّرْطِ حِينَئِذٍ نَصًّا احْتِمَالًا.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِب فِي جاؤُها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ إِلَخْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا جَوَابُ إِذا، فَاقْتَضَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُوَجَّهُوا إِلَى النَّارِ، فَقَدَّرُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَسُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَأَنْكَرُوا فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، يَعْنِي: سَأَلَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ جَوَابَ إِذا مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ مَفَادِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَطَلَّبُ مَاذَا حَصَلَ بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّارِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حُوسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنْكَرُوهَا فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ. أَوْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذا قَوْلَهُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:
٢٤] إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَشَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ: شَهَادَةُ تَكْذِيبٍ وَافْتِضَاحٍ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ شَهَادَةً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّارَ اعْتَذَرُوا بِإِنْكَارِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ طَمَعًا فِي تَخْفِيفِ
وَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ يَصِفُونَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ:
قُلْ لَهُمْ إِنَّ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَ فَتَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وَجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤]. وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهَا نَزَّهَتِ اللَّهَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَصْفُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَقْوَى الْمَوْجُودَاتِ وَأَعَمِّهَا وَأَعْظَمِهَا، لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ الْوِلَادَةِ، فَقَدْ تَمَّ خَلْقُ الْعَوَالِمِ وَنِظَامِ نَمَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَعُلِمَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقَهَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، وَاقْتَضَى عَدَمَ السَّبْقِ بِعَدَمِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ فَوُجُودُ الْوَلَدِ لَهُ يكون عَبَثا.
[٨٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٣]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
اعْتِرَاضٌ بِتَفْرِيعٍ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ وَالشُّرَكَاءِ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ مِنْ إِجْدَاءِ الْحُجَّةِ فِيهِمْ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِ مُتَارَكَتُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَحِينَ يَوْمٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ. وَهَذَا مُتَحَقق فِي أيمة الْكُفْرِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَصَدِّينَ لمحاجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ وَالتَّشْغِيبِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضِرِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ مِمَّنْ قُتِلُوا يَوْم بدر.
و (الْيَوْم) هُنَا مُحْتَمِلٌ لِيَوْمِ بَدْرٍ وَلِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ وُعِدُوهُ، وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ: الدُّخُولُ فِي لُجَّةِ الْمَاءِ مَاشِيًا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْبَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
قَوْله: لم يُؤمنُوا.
وَقَوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِرْشَادٌ إِلَى دَوَاءِ مَرَضِ الْحَالِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ إِنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فَإِنَّ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ بِأَنْ يُقْبِلُوا عَلَى التَّعَلُّمِ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ عِوَضًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنِّ وَالتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الصَّدَقَاتِ.
وَمَعْنَى لَا يَلِتْكُمْ لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: لَاتَهُ مِثْلُ بَاعَهُ. وَهَذَا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَيُقَالُ: أَلَتَهُ أَلْتًا مِثْلَ: أَمَرَهُ، وَهِيَ لُغَةُ غَطَفَانَ قَالَ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٢١].
وَقَرَأَ بِالْأُولَى جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَبِالثَّانِيَةِ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ. وَلِأَبِي عَمْرٍو فِي تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ فِيهَا وَتَخْفِيفِهَا أَلِفًا رِوَايَتَانِ فَالدُّورِيُّ رَوَى عَنْهُ تَحْقِيقَ الْهَمْزَةِ وَالسُّوسِيُّ رَوَى عَنْهُ تَخْفِيفَهَا.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي يَلِتْكُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: لَا يَلِتَاكُمْ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُتَوَلِّي الْجَزَاءِ دون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ أَخْلَصْتُمُ الْإِيمَانَ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ أَعْمَالَكُمُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ جِئْتُمْ طَائِعِينَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيمٍ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْ كَذِبِهِمْ إِذَا تَابُوا، وَتَرْغِيبٌ فِي إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْغَفُورَ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ شَدِيدُهَا، وَمِنْ فَرْطِ مَغْفِرَتِهِ أَنَّهُ يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَدٍ بِهَا فَإِذَا آمَنَ عَامِلُهَا جُوزِيَ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ إِيمَانِهِ وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ.
وَتَرْتِيبُ رَحِيمٌ بَعْدَ غَفُورٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَصْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تُورَدَ بَعْدَ الْمُعَلل بهَا.
الْوَاوِ إِشْبَاعٌ لِلْفَتْحَةِ لَازِمٌ لِلْكَلِمَةِ. وَقِيلَ: الْأَلْفُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ أَصْلَ (ذَاتٍ) : ذَوَاتٌ فَخُفِّفَتْ فِي الْإِفْرَادِ وَرَدَّتْهَا التَّثْنِيَةُ إِلَى أَصْلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [١٦]. وَأَمَّا الْأَلِفُ الَّتِي بَعْدَ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فَهِيَ عَلَامَةُ رَفْعٍ نَائِبَةٌ عَنِ الضَّمَّةِ.
وَالْأَفْنَانُ: جَمْعُ فَنَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْغُصْنُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَفْنَانٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ الْإِيرَاقِ وَالْإِثْمَارِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأَفْنَانَ لَا تَخْلُو عَنْهَا الْجَنَّاتُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْأَفْنَانِ لَوْلَا قَصْدُ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَتَثْنِيَةُ عَيْنانِ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَثْنِيَةِ جَنَّتانِ، وَكَذَلِكَ تَثْنِيَةُ ضَمِيرِي فِيهِما وَضَمِيرُ تَجْرِيانِ تَبَعٌ لِتَثْنِيَةِ مَعَادِهِمَا فِي اللَّفْظِ.
فَإِنْ كَانَ الْجَنَّتَانِ اثْنَتَيْنِ لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَلِكُلِّ جَنَّةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ فَهُمَا عَيْنَانِ لِكُلِّ مَنْ خَافَ مَقَامَ ربه، وَإِن كَانَ الْجَنَّتَانِ جِنْسَيْنِ فَالتَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ، أَيْ عُيُونٍ عَلَى عَدَدِ الْجَنَّاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَثْنِيَةِ جَنَّتانِ الْكَثْرَةَ كَمَا تَثْنِيَةُ عَيْنانِ لِلْكَثْرَةِ.
وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَفْنَانِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ بِذِكْرِ الْعَيْنَيْنِ مَعَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ بِالْأَفْنَانِ أَنْسَبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْأَفْنَانِ، وَهِيَ مِنْ جَمَالِ مَنْظَرِ الْجَنَّةِ أَعْقَبَ بِمَا هُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ وَهُوَ
عُيُونُ الْمَاءِ جَمْعًا لِلنَّظِيرِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ جَمَالِ الْمَنْظَرِ، أَعْنِي: الْفَوَاكِهَ فِي أَفْنَانِهَا وَمِنْ مَلَذَّاتِ الذَّوْقِ.
وَأَمَّا تَثْنِيَةُ زَوْجَانِ فَإِنَّ الزَّوْجَ هُنَا النَّوْعُ، وَأَنْوَاعُ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ لِكُلِّ فَاكِهَةٍ نَوْعَانِ: فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَنَجْعَلَ إِيثَارَ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ وَلِأَجْلِ الْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَظَائِرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ إِلَى هُنَا.
وَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَ تَثْنِيَةَ زَوْجانِ لِكَوْنِ الْفَوَاكِهِ بَعْضُهَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَبَعْضُهَا يُؤْكَلُ يَابِسًا مِثْلَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ، وَأَخُصُّ الْجَوْزَ وَاللَّوْزَ وَجَافَّهُمَا.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ يَقْتَضِي الْإِيجَادَ فَأُعْقِبَ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْإِيجَادِ فَنَاءً ثُمَّ بَعْثًا لِلْجَزَاءِ.
وَالْمَصِيرُ مَصْدَرٌ ميمي لفعل صادر بِمَعْنَى رَجَعَ وَانْتَهَى، وَلِذَلِكَ يُعَدَّى بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ، أَيْ وَمَرْجِعَكُمْ إِلَيْهِ يَعْنِي بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ مَصِيرُ الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى الْمَصِيرُ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ إِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ ذَلِكَ الْمَصِيرِ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ الْمَحْضِ. وَلَيْسَ مُرَادًا بِالتَّقْدِيمِ قَصْرٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَذَا الْمَصِيرِ مِنْ أَصْلِهِ بَلْهَ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ مَصِيرٌ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِمْ بَالْقَصْرِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مِنْهَا بِجُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كَمَا يظْهر بِالتَّأَمُّلِ.
[٤]
[سُورَة التغابن (٦٤) : آيَة ٤]
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
كَانُوا يَنْفُونَ الْحَشْرَ بِعِلَّةِ أَنَّهُ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ الْجَسَدِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا وَلَا يُحَاطُ بهَا.
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠]، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ دَحْضًا لِشُبْهَتِهِمْ، أَيْ أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُعْجِزُهُ تَفَرُّقُ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ إِذَا أَرَادَ جَمْعَهَا. وَالَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَالسِّرُّ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنْ ذَرَّاتِ الْأَجْسَادِ الْمُتَفَرِّقَةِ، لَا تَخْفَى
عَلَيْهِ مَوَاقِعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الدَّقِيقَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: ٣، ٤].
فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ كَمَا يَقْتَضِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ عَلَى الرَّاجِحِ. وَذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ تَهْدِيدًا عَلَى مَا يُبْطِنُهُ النَّاسُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَجِيءَ بِهَذَا الْمَصْدَرِ عِوَضًا عَنِ التَّبَتُّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ حُصُولَ التَّبَتُّلِ، أَيِ الِانْقِطَاعِ يَقْتَضِي التَّبْتِيلَ أَيِ الْقَطْعَ. وَلَمَّا كَانَ التَّبْتِيلُ قَائِمًا بِالْمُتَبَتِّلِ تَعَيَّنَ أَنَّ تَبْتِيلَهُ قَطْعُهُ نَفْسَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ تَبَتَّلَ هُوَ إِلَيْهِ فَالْمَقْطُوعُ عَنْهُ هُنَا هُوَ مَنْ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَبَتَّلْ وتَبْتِيلًا مُشِيرٌ إِلَى إِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ التَّبَتُّلِ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ وَفَاءٌ بِرَعْيِ الْفَوَاصِلِ الَّتِي قَبْلَهُ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْقِطَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ انْقِطَاعٌ خَاصٌّ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَمَهَامِّ النَّهَارِ فِي نَشْرِ الدَّعْوَةِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قِيلَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى اللَّهِ فَكُلُّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَيَاةِ فَهُوَ لِدِينِ اللَّهِ فَإِنَّ طَعَامَهُ وَشَرَابه ونومه وشؤونه لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى نَشْرِ دِينِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ مُنْعِشَاتُ الرُّوحِ الْبَرِيئَةِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلَ الطِّيبِ، وَتَزَوُّجِ النِّسَاءِ، وَالْأُنْسِ إِلَى أَهْلِهِ وَأَبْنَائِهِ وَذَوِيهِ، وَقَدْ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ».
وَلَيْسَ هُوَ التَّبَتُّلَ الْمُفْضِيَ إِلَى الرَّهْبَانِيَّةِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ النِّسَاءِ وَعَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُلَاقِي صِفَةَ الرِّسَالَةِ.
وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ فِي «الصَّحِيحِ» «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»
يَعْنِي رَدَّ عَلَيْهِ اسْتَشَارَتَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ النِّسَاءِ.
وَمِنْ أَكْبَرِ التَّبَتُّلِ إِلَى اللَّهِ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا بِقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا تَخْلُوَ أَوْقَاتُهُ عَنْ إِقْبَالٍ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَالِانْقِطَاعِ لِلدَّعْوَةِ لِدِينِ الْحَقِّ، وَإِذْ قَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ هَذَا الِانْقِطَاعِ بِإِرْشَادٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا أَلْهَمَهُ التَّحَنُّثَ فِي غَارِ حِرَاءَ ثُمَّ بِمَا أَفَاضَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيمَا قَبْلُ فَإِنَّ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٥١] (وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ
عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ أَوَّلًا أَكْثَره إرشاد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَرَائِقِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ غَالِبُ مَا فِي هَذِه السُّورِ الْأُوَلِ مِنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَى سَنِّ التَّكَالِيفِ الْخَاصَّةِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سُورَة الطارق (٨٦) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]

وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)
بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ الدَّلِيلُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ أَعْقَبَ بِتَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَأَنَّ مَا فِيهِ قَوْلٌ فَصْلٌ إِبْطَالًا لِمَا مُوِّهَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّ أَخْبَارَهُ غَيْرُ صَادِقَةٍ إِذْ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِإِحْيَاءِ الرِّمَمِ الْبَالِيَةِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ.
وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقًا لِصِدْقِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الْقَسَمُ بِ السَّماءِ كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْغَيْثُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ النَّاسِ، فَإِنَّ إِصْلَاحَ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ كَإِصْلَاحِ الْمَطَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا»
. الْحَدِيثَ.
وَفِي اسْمِ الرَّجْعِ مُنَاسَبَةٌ لِمَعْنَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: ٨] وَفِيهِ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ وَفِي مُسَمَّى الرَّجْعِ وَهُوَ الْمَطَرُ الْمُعَاقِبُ لِمَطَرٍ آخَرَ مُنَاسَبَةً لِمَعْنَى الرَّجْعِ الْبَعْثِ فَإِنَّ الْبَعْثَ حَيَاةٌ مُعَاقَبَةٌ بِحَيَاةٍ سَابِقَةٍ.
وَعُطِفَ الْأَرْضِ فِي الْقَسَمِ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْأَرْضِ إِتْمَامَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُقْسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ.
والصَّدْعِ: الشق، وَهُوَ مصدر بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَصْدُوعِ عَنْهُ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْ شُقُوقِ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا [عبس: ٢٥- ٢٩].
وَلِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ إِيمَاءً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَائِلَ إِحْيَاءِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ فَكَانَ فِي هَذَا الْقَسَمِ دَلِيلَانِ.
وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمًا لِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ.


الصفحة التالية
Icon