خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ نَسَبَ إِلَيْهِمُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ «الْفَصْلِ»، وَقَالَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ لَا يُوصَفُ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ فَيُفَارِقُ بِذَلِكَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَقَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَوَافَقَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ
عَلَى ذَلِكَ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بِسَبَبِهَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِوَاصِلٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ اعْتَزَلَ مَجْلِسَنَا. وَدَرَجَ عَلَى هَذَا جَمِيعُهُمْ، لَكِنَّهُمُ اضْطَرَبُوا أَوِ اضْطَرَبَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي مُسَمَّى الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَاد» إِن جُمْهُور هم قَالُوا إِنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَمَعْنَاهُ لَا مَحَالَةَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَبِذَلِك جزم التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَفِي «الْمَقَاصِدِ»، وَقَالَ إِنَّ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخُلُودِ وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا الْمَنْزِلَةَ لِعَدَمِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُفْرِ وَلِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صَاحِبِهَا فِي ظَاهِرِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ مُرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةِ كَالْمُرْتَدِّ فَيُقْتَلُ.
وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» وَمِثْلُهُ فِي «الْإِرْشَادِ» : الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ خِلَافُ الْمُشْتَهِرِ فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ وَابْنَهُ وَكَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ قَالُوا إِنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا تُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ إِذَا زَادَ عِقَابُهَا عَلَى ثَوَابِ الطَّاعَاتِ فَإِنْ أَرْبَتِ الطَّاعَاتُ عَلَى السَّيِّئَاتِ دَرَأَتِ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ النَّظَرُ إِلَى أَعْدَادِ الطَّاعَاتِ وَلَا الزَّلَّاتِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى مِقْدَارِ الْأُجُورِ وَالْأَوْزَارِ فَرُبَّ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ يَغْلِبُ وِزْرُهَا طَاعَاتٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ضَبْطِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ بَلْ أَمْرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَقَدِ اضْطَرَبُوا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مَحَلُّ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْفَصْلِ» عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فِيهِمْ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَلَهُمْ وَقْفَةٌ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُدَّةً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مُجَازَى بِقَدْرِ مَا رَجَحَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَمِنْ لَفْحَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى بَقَاءِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي النَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ الْخُلُودَ. وَقَدْ نَقَلَ الْبَعْضُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ إِلَّا أَن التفتازانيّ فِي «الْمَقَاصِدِ» غَلَّطَ هَذَا الْبَعْضَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ». وَقَدْ قَرَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَقِيقَةَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] وَالْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ وَهُوَ النَّازِلُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ بَيْنَ مَنْزِلَتَيِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَقَالُوا إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ لَهُ هَذَا الْحَدَّ أَبُو حُذَيْفَةَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وَكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ فِي أَنَّهُ يُنَاكَحُ وَيُوَارَثُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
مَعَ مَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلِينِ الْقَوْلِ إِذْ مِنْ شَأْنِ أَخْلَاقِ الْمَرْءِ أَنْ تَتَمَاثَلَ وَتَتَظَاهَرَ فَاللَّهُ لَا يَرْضَى بِإِضْرَارِ عَبِيدِهِ وَلَوْ كُفَّارًا ضُرًّا لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْعِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَغْزُهُمْ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بَلْ إِفْسَادًا وَإِتْلَافًا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ سَعى لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِالسَّعْيِ الْعَمَلُ وَالِاكْتِسَابُ فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّعْيَ هُوَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ لِلْفَسَادِ وَهُوَ الْغَارَةُ وَالتَّلَصُّصُ لِغَيْرِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ لِيُفْسِدَ فِيها فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْإِفْسَادَ مَقْصُودٌ لِهَذَا السَّاعِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَعى مَجَازًا فِي الْإِرَادَةِ وَالتَّدْبِيرِ أَيْ دَبَّرَ الْكَيْدَ لِأَنَّ ابْتِكَارَ الْفَسَادِ وَإِعْمَالَ الْحِيلَةِ لِتَحْصِيلِهِ مَعَ إِظْهَارِ النُّصْحِ بِالْقَوْلِ كَيْدٌ وَيَكُونُ لِيُفْسِدَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلِ سَعى وَالتَّقْدِيرُ أَرَادَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَدَبَّرَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] فَاللَّامُ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ وَمَا بَعْدَ اللَّامِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرَةِ مَعَهُ (أَنْ) مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَقَوْلِ جُزْءِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفَقْعَسِيِّ:

تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا
إِذِ التَّقْدِيرُ تَبَغَّى الِاسْتِيَادَ مِنَّا، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: أَتَى بِالْفِعْلِ وَاللَّامِ لِأَنَّ تَبَغَّى مِثْلُ أَرَادَ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَالْمَعْنَى يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ كَذَلِكَ قَالَ تَبَغَّى لِيَسْتَادَ أَيْ تَبَغَّى الِاسْتِيَادَ مِنَّا اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ يَتَأَتَّى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ فِيهِ مَفْعُولُ الْفِعْلِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ، فَالْبَلِيغُ يَأْتِي بِهِ مُقْتَرِنًا بِلَامِ الْعِلَّةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا بِهِ يُعْلَمُ مِنْ تَقْدِيرِ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِسَعَى لِإِفَادَةِ أَنَّ سَعْيَهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ أَهْلِ أَرْضِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ إِعَادَةُ فِيها مِنْ قَوْلِهِ: لِيُفْسِدَ فِيها بَيَانًا لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ مَعَ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ يُتْلِفُهُ.
وَالْحَرْثُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ الزَّرْعُ، وَالنَّسْلُ أَطْفَالُ الْحَيَوَانِ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسْلِ الصُّوفِ نُسُولًا
وَ (سَوَاءٌ) هُنَا اسْمُ مَصْدَرِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى قَصْدٍ لَا شَطَطَ فِيهَا، وَهَذَانِ يَكُونَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَانٌ سَوَاءٌ وَسِوًى وَسَوًى بِمَعْنَى مُتَوَسِّطٍ قَالَ تَعَالَى:
فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥]. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِمَعْنَى مَا يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا، لَا يَكُونُ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالٍ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. وَعَلَى كُلِّ مَعْنًى فَالسَّوَاءُ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ، وُصِفَ بِهِ كَلِمَةٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَصْدَرِ لَا مُطَابَقَةَ فِيهِ.
وأَلَّا نَعْبُدَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ سَوَاءٍ، وَرَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ، فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْجِهَةِ السَّادِسَةِ مِنْ جِهَاتِ قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ مِنْ مُغْنِي اللَّبِيبِ، وَاعْتَرَضَهُ الدَّمَامِينِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَرْدُودٌ مِنْ جِهَةِ مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ سَوَاء وصف لكلمة وألّا نَعْبُدَ لَوْ جُعِلَ بَدَلًا من سَوَاء ءال إِلَى كَوْنِهِ فِي قُوَّة الْوَصْف لكلمة وَلَا يَحْسُنُ وَصْفُ كَلِمَةٍ بِهِ.
وَضَمِيرُ بَيْنَنَا عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ: وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ، التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ كُلِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا جِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ بَعْدَ نُهُوضِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ غَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَالْمَقَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ صَالِحٌ لِاقْتِلَاعِ حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ نَادِرَ الْوُقُوعِ مَفْرُوضًا، وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ صَارُوا بِحَيْثُ يُؤْيَسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَأَمْسِكُوا أَنْتُمْ بِإِسْلَامِكُمْ، وَأَشْهِدُوهُمْ أَنَّكُمْ عَلَى إِسْلَامِكُمْ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِشْهَادِ التَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُظْهِرُوا إِعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَحَقِّيَّةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهَذَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَنا مُسلمُونَ.
(١٦)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وَافْتِتَاحُهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ أَعْضَلُ، لِاقْتِضَائِهِ اتِّصَالَهَا بِكَلَامٍ قَبْلَهَا. وَقَدْ جَاءَ حدّ الزِّنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ
غَزْوَة بني الْمُطلق عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي سُورَةِ النُّورِ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي فِي سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِمَا هُنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ. فَإِذَا مَضَيْنَا عَلَى مُعْتَادِنَا فِي اعْتِبَارِ الْآيِ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُوَرِهَا، قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَحِرَاسَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَجَعَلْنَا الْوَاوَ عَاطِفَةً هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاء: ٤] وَجَزَمْنَا بِأَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ شَرْعِ الْعقُوبَة على الزِّنَا فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ بِآيَةِ الْجَلْدِ فِي سُورَةِ النُّورِ. اهـ، وَحَكَى ابْنُ الْفُرْسِ فِي تَرْتِيبِ النَّسْخِ أَقْوَالًا ثَمَانِيَةً لَا نطيل بهَا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُنَاسَبَةٍ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَحْكَامِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامًا مِنَ النِّكَاحِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وَمَا النِّكَاحُ إِلَّا اجْتِمَاعُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى مُعَاشَرَةٍ عِمَادُهَا التَّآنُسُ وَالسُّكُونُ إِلَى الْأُنْثَى، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ إِلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ اجْتِمَاعِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِيهِ شرعا، وَهُوَ الزِّنَا الْمُعَبَّرُ عَنهُ بالفاحشة.
فالزنا هُوَ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ فِي خَرْقِ الْقَوَانِينِ الْمَجْعُولَةِ لِإِبَاحَةِ اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ.
ففِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ طَرِيقُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَرْأَةِ السَّبْيَ أَوِ الْغَارَةَ أَوِ التَّعْوِيضَ أَوْ رَغْبَةً الرجل فِي مُصَاهَرَةِ قَوْمٍ وَرَغْبَتَهُمْ فِيهِ أَوْ إِذْنَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَسْتَبْضِعَ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْإِسْلَامِ بَطَلَتِ الْغَارَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِبْضَاعُ، وَلذَلِك تَجِد الزِّنَا لَا يَقَعُ إِلَّا
وَقَدْ تَحَيَّرَ النَّاظِرُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَلِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَذَهَبَ النَّاظِرُونَ فِي تَأْوِيلِهِ مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا مَنْ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِمَنْ آمَنَ مَنْ دَامَ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَمْ يَرْتَدَّ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَصْحَابُ الْوَصْفِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِيمَانِ وَاشْتَهَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَعْدٌ بِجَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ وَالْمُتَظَاهِرَ بِالْإِيمَانِ نِفَاقًا.
فَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرُ (إِنَّ) مَحْذُوفًا. وَحَذْفُ خَبَرِ (إِنَّ) وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ غَيْرُ قَلِيلٍ، كَمَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ». وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ من قَوْله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «١» إِلَخْ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، وَلِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَالصَّابِئُونَ. وَهَذَا أَوْلَى من جعل وَالصَّابِئُونَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَتَقْدِيرِ خَبَرٍ لَهُ، أَيْ وَالصَّابُونَ كَذَلِكَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَافِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي الْحُكْمِ وَتَشْتِيتِهَا مَعَ إِمْكَان التفصّي عَنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَتَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَالرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفًا، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُم، وَجُمْلَة فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «٢» خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَاقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: ١٠] الْآيَةَ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِيهِ يُعَيِّنُ كَوْنَهُ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ خَبَرُ- إِنَّ-
عَلَى عَكْسِ قَوْلِ ضَابِي بْنِ الْحَارِثِ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّيَ وَقَبَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: «لَغَرِيبُ» عَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَقْدِيرُ خَبَرٍ عَنْ قَبَّارٍ، فَلَا يُنَظَّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: وَالصَّابِئُونَ.
(١، ٢) فِي المطبوعة [التونسية] فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْمُوَافقَة لـ[الْبَقَرَة: ٦٢] والمثبت هُوَ الْمَقْصُود وَالله أعلم.

وَالْفَصْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ عُمَرُ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى «فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ». وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: ٢٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣]. فَمَعْنَى خَيْرُ الْفاصِلِينَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَالْقَضَاء الْعدْل.
[٥٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٥٨]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٥٧] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَلَوْ كَانَ بِيَدِكَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِهِمْ مَاذَا تَصْنَعُ، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي إِلَخ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَهُ فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا بُنِيَ كُلُّهُ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ مَا يَقُولُهُ لَهُمْ فَالسَّائِلُ يَتَطَلَّبُ مِنَ الْمُلَقِّنِ مَاذَا سَيُلَقَّنُ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَمَعْنَى عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لَوْ كَانَ فِي عِلْمِي حِكْمَتُهُ وَفِي قُدْرَتِي فِعْلُهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى لَسْتُ إِلَهًا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ.
وَقَوْلُهُ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابُ لَوْ. فَمَعْنَى لَقُضِيَ تَمَّ وَانْتَهَى.
وَالْأَمْرُ مُرَادٌ بِهِ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ للْعهد، وَبني لَقُضِيَ الْأَمْرُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ قَاضِيَهُ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
وَتَرْكِيبُ (قُضِيَ الْأَمْرُ) شَاعَ فَجَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِيَصْلُحَ التَّمَثُّلُ بِهِ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يُوسُف: ٤١] وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: ٢١] وَقَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ [مَرْيَم:
٣٩] وَلِذَلِكَ إِذَا جَاءَ فِي غَيْرِ طَرِيقَةِ الْمَثَلِ يُصَرَّحُ بِفَاعِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الْحجر: ٦٦].
وَذَلِكَ الْقَضَاءُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَيُؤْمِنُوا، أَوْ أَنْ يَغْضَبَ فَيُهْلِكَهُمْ، أَوْ أَنْ يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يُجِيبُهُمْ إِلَيْهِ فَيَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا.

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ مَعْطُوفًا عَلَى كَما أَخْرَجَكَ [الْأَنْفَال: ٥] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُشَبَّهًا بِهِ التَّشْبِيهُ الْمُفَادُ بِالْكَافِ وَالْمَعْنَى: كَإِخْرَاجِكَ اللَّهُ مِنْ بَيْتِكَ وَكَوَقْتِ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْآيَةَ وَاسْمُ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَتُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَوَقْتِ وَعْدِ اللَّهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَ إِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُتَصَرِّفٌ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَجْرُورِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِذْ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ شَأْنَ إِذْ الْوَاقِعَةِ فِي مُفْتَتَحِ الْقَصَصِ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ [الْأَنْفَالُ: ١] وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ وَأَنَّ مَا كَرِهُوهُ هُوَ الْخَيْر لَهُم.
و «الطَّائِفَة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَجُمْلَةُ: أَنَّها لَكُمْ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ:
يَعِدُكُمْ مَصِيرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ، أَيْ كَوْنُهَا مُعْطَاةً لَكُمْ، وَهُوَ إِعْطَاءُ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهَا بَيْنَ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَهُوَ هُنَا مِلْكٌ عُرْفِيٌّ، كَمَا يَقُولُونَ كَانَ يَوْمُ كَذَا لِبَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ لَهُم فِيهِ غَلَبَةَ حَرْبٍ وَهِيَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَتَوَدُّونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ أَيْ إِذْ يَقَعُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَالْوُدُّ مِنْكُمْ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي حَالِ وُدِّكُمْ لِقَاءَ الطَّائِفَةِ غَيْرِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهَذَا الْوُدُّ هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ الَّذِي أَفَادَهُ عَطْفُ وَإِذْ يَعِدُكُمُ، مَجْرُورِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الْأَنْفَال: ٥] فَهُوَ مِمَّا شُبِّهَ
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
. فَكَلِمَةُ الْكُفْرِ جِنْسٌ لِكُلِّ كَلَامٍ فِيهِ تَكْذِيبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَالْكَلِمَاتُ الصَّادِرَةُ عَنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا، مَا هِيَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ.
فَعَنْ قَتَادَةَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَيٍّ إِذْ كَانَ لَا خَبَرَ يُوجِبُ الْحُجَّةَ وَنَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَلِمَةٌ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ تَدُلُّ عَلَى تَكْذِيبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْجُلَاسَ- بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ- بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحَنُّ أَشَرُّ مِنْ حَمِيرِنَا هَذِهِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ عَنْهُ رَبِيبُهُ النَّبِيءَ فَدَعَاهُ النَّبِيءُ وَسَأَلَهُ عَنْ مَقَالَتِهِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ لِقَوْلِهِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: ٨] فَسَعَى بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَسَأَلَهُ فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ يَكُونُ إِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعٍ كِنَايَةً عَنْ إِخْفَاءِ اسْمِ الْقَائِلِ كَمَا يُقَالُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا. وَقَدْ فَعَلَهُ وَاحِدٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَسَمَاعِ الْبَقِيَّةِ فَجُعِلُوا مُشَارِكِينَ فِي التَّبِعَةِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ وُقُوعِ كَلِمَةٍ مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى مَا يَخْتَلِقُونَهُ. وَكَانَ مَا يَصْدُرُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَلَقَّفُهُ جُلَسَاؤُهُ
وَأَصْحَابُهُ وَيُشَارِكُونَهُ فِيهِ.
وَأَمَّا إِسْنَادُ الْكُفْرِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ فَكَذَلِكَ.
وَمَعْنَى بَعْدَ إِسْلامِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ الْإِسْلَامُ إِلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التَّوْبَة: ٦٦].
والهمّ: نِيَّةُ الْفِعْلِ سَوَاءً فُعِلَ أَمْ لَمْ يُفْعَلْ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ، وَنُسِبَ إِلَى الْفَرَّاءِ، وَفَسَّرَ بِهِ الطَّبَرَيُّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ حَرْفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أَيْ فَضَلُّوا.
حَكَاهُ الْفَخْرُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الدُّعَاءِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَثْقَلُهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ آتَيْنَاهُمْ زِينَةً وَأَمْوَالًا تَقْرِيرًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَجُّبِ، قَالَهُ الْفَخْرُ.
الْخَامِسُ: تَأْوِيلُ مَعْنَى الضَّلَالِ بِأَنَّهُ الْهَلَاكُ، قَالَهُ الْفَخْرُ. وَهِيَ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ مُتَفَاوِتَةُ الضَّعْفِ فَلَا نُطِيلُ بِتَقْرِيرِهَا.
وَالزِّينَةُ: مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ النَّاسُ، وَمَا يَحْسُنُ فِي أَنْظَارِهِمْ مِنْ طَرَائِفِ الدُّنْيَا، كَالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْمَبَانِي الضَّخْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمرَان: ١٤] وَقَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٦] وَقَالَ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦].
وَالْأَمْوَالُ: مَا بِهِ قِوَامُ الْمَعَاشِ، فَالزِّينَةُ تُلْهِيهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْمَوَاعِظِ، وَتُعَظِّمُ شَأْنَهُمْ فِي أَنْظَارِ قَوْمِهِمْ، وَالْأَمْوَالُ يُسَخِّرُونَ بِهَا الرَّعِيَّةَ لِطَاعَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِلْفَرَاعِنَةِ مِنْ سَعَة الرزق ورفاعية الْعَيْشِ مَا سَارَ ذِكْرُهُ فِي الْآفَاقِ. وَظَهَرَتْ مُثُلٌ مِنْهُ فِي أَهْرَامِهِمْ وَنَوَاوِيسِهِمْ.
وَأُعِيدَ النِّدَاءُ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُعَلَّلَةِ وَالْجُمْلَةِ الْمُعَلِّلَةِ لِتَأْكِيدِ التَّذَلُّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْإِجَابَةِ وَلِإِظْهَارِ التَّبَرُّؤِ مِنْ قَصْدِ الِاعْتِرَاضِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ لِيُضِلُّوا بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الْيَاءِ- عَلَى مَعْنَى سَعْيِهِمْ فِي تَضْلِيلِ النَّاسِ.
وَكَانَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِنْ فُنُونِ عُلَمَائِهِمْ فَلِذَلِكَ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَيْنَهُمْ.
وَهَذَانَ الْفَتَيَانِ تَوَسَّمَا مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَالَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فَظَنَّا أَنَّهُ يُحْسِنُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا وَلَمْ يَكُونَا عَلِمَا مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ صَادَفَا الصَّوَابَ، وَلِذَلِكَ قَالَا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، أَيِ الْمُحْسِنِينَ التَّعْبِيرَ، أَوِ الْمُحْسِنِينَ الْفَهْمَ.
وَالْإِحْسَانُ: الْإِتْقَانُ، يُقَالُ: هُوَ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، أَيْ لَا يُتْقِنُهَا. وَمِنْ عَادَةِ الْمَسَاجِينِ حِكَايَةُ الْمَرَائِي الَّتِي يَرَوْنَهَا، لِفِقْدَانِهِمُ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، وَلِأَنَّهُمْ يَتَفَاءَلُونَ بِمَا عَسَى أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِالْخَلَاصِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَانَ عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَشْتَغِلُ بِهَا كَهَنَةُ الْمِصْرِيِّينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مَلِكِ مِصْرَ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [سُورَة يُوسُف: ٤٣] كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْعَصْرُ: الضَّغْطُ بِالْيَدِ أَوْ بِحَجْرٍ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ رُطُوبَةٌ لِإِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ زَيْتٍ أَوْ مَاءٍ. وَالْعَصِيرُ: مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْمَعْصُورِ سُمِّيَ بِاسْمِ مَحَلِّهِ، أَيْ مَعْصُورٍ مِنْ كَذَا.
وَالْخُبْزُ: اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ نَحْوِهِمَا يُعْجَنُ بِالْمَاءِ وَيُوضَعُ قُرْبَ النَّارِ حَتَّى يَنْضُجَ لِيُؤْكَلَ، وَيُسَمَّى رَغِيفًا أَيْضًا.
وَالضَّمِيرُ فِي بِتَأْوِيلِهِ لِلْمَذْكُورِ، أَوْ لِلْمَرْئِيِّ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ.
وَزَلَلُ الْقَدَمِ تَمْثِيلٌ لِاخْتِلَالِ الْحَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلضُّرِّ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّقُوطُ أَوِ الْكَسْرُ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْقَدَمِ تَمَكُّنُ الرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِاسْتِقَامَةِ الْحَالِ وَدَوَامِ السَّيْرِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ تَمْثِيلَ مَا يَجُرُّهُ نَقْضُ الْأَيْمَانِ مِنَ الدَّخَلِ شُبِّهَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ الْمَاشِي فِي طَرِيقٍ بَيْنَمَا كَانَتْ قَدَمُهُ ثَابِتَةً إِذَا هِيَ قَدْ زَلَّتْ بِهِ فَصُرِعَ. فَالْمُشَبَّهُ بِهَا حَالُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ نُكِّرَتْ قَدَمٌ وَأُفْرِدَتْ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُود قدما معيّنة وَلَا عَدَدًا مِنَ الْأَقْدَامِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ لِجَمَاعَةٍ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرٍ: أَرَاكُمْ تُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُونَ أُخْرَى.
تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ الشَّخْصِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْمَشْيِ إِلَى الشَّيْءِ.
وَزِيَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِها مَعَ أَنَّ الزَّلَلَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ لِتَصْوِيرِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُ انْحِطَاطٌ مَنْ حَالِ سَعَادَةٍ إِلَى حَالِ شَقَاءٍ وَمَنْ حَالِ سَلَامَةٍ إِلَى حَالِ مِحْنَةٍ.
وَالثُّبُوتُ: مَصْدَرُ ثَبَتَ كَالثَّبَاتِ، وَهُوَ الرُّسُوخُ وَعَدَمُ التَّنَقُّلِ، وَخَصَّ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْكُتَّابِ الثُّبُوتَ الَّذِي بِالْوَاوِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّحَقُّقُ مِثْلُ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ لَدَى الْقَاضِي، وَخَصُّوا الثَّبَاتَ الَّذِي بِالْأَلِفِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ.
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥].
وَالسُّوءُ: مَا يُؤْلِمُ. وَالْمُرَادُ بِهِ: ذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ النَّاكِثِينَ عَنِ الدِّينِ أَوِ الْخَائِنِينَ عُهُودَهُمْ.
وصَدَدْتُمْ هُنَا قَاصِر، أَي بكونكم مُعْرِضِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. ذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ فِي الْحِفَاظِ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي يُعَاهِدُونَ اللَّهَ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ.
فَسَبِيلُ اللَّهِ: هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْبَعْثُ: هُنَا الْإِيقَاظُ، أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ يَقَظَةَ مَفْزُوعٍ. كَمَا يُبْعَثُ الْبَعِيرُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ فِي ذِكْرِ لِفْظِ الْبَعْثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْإِفَاقَةِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ تَوَافَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْحِزْبَانِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مُصِيبٌ وَالْآخِرُ مُخْطِئٌ فِي عَدِّ الْأَمَدِ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ: هُمَا فَرِيقَانِ مِنْ أَهْلِ
الْكَهْفِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ [الْكَهْف:
١٩]. وَفِي هَذَا بُعْدٌ مِنْ لَفْظِ حِزْبٍ إِذْ كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا وَالْآخِرُونَ شَاكِّينَ، وَبَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ فِعْلِ أَحْصى لِأَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ مَا قَصَدُوا الْإِحْصَاءَ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ عِنْدَ إِفَاقَتِهِمْ بَلْ خَالُوهَا زَمَنًا قَلِيلًا. فَالْوَجْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِزْبَيْنِ حِزْبَانِ مِنَ النَّاسِ أَهْلِ بَلَدِهِمُ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا انْبِعَاثَهُمْ مِنْ نَوْمَتِهِمْ، أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُصِيبٌ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَالْمُخْطِئَ، فَهُمَا فَرِيقَانِ فِي جَانِبَيْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَحْصى.
وَلَا يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الْحِزْبَيْنِ بِأَنَّهُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْكَهْفِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ الْآيَة [الْكَهْف: ١٩].
وَجَعْلُ حُصُولِ عِلْمِ اللَّهِ بِحَالِ الْحِزْبَيْنِ عِلَّةً لِبَعْثِهِ إِيَّاهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا عَلِمَ اللَّهُ اخْتِلَافَهُمْ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ لِلْعِلْمِ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَنْجِيزِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فِي أول السُّورَة الْكَهْف [٧].
وأَحْصى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَن يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ مَصُوغًا مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الْأَوَّلَ تَجَنُّبًا لِصَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِقِلَّتِهِ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ
وَأَمَّا خُلُودُ غَيْرِ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى جَعَلَهَا غَيْرَ مَشْمُولَةٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَهَا أَدِلَّةٌ أُخْرَى اقْتَضَتْ خُلُودَ الْكَافِرِ وَعَدَمُ خُلُودِ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِي. وَنَازَعَنَا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عَدْنٍ وَتَفْسِيرُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٢].
وَالتَّزَكِّي: التَّطَهُّرُ من الْمعاصِي.
[٧٧]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٧٧]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)
افْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ لِيُلْقِيَ السَّامِعُونَ إِلَيْهَا أَذْهَانَهُمْ. وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَصَصًا طُوِيَتْ بَيْنَ ذِكْرِ الْقِصَّتَيْنِ، فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ حِكَايَةَ الْقِصَّةِ الْأُولَى لَمْ تَزَلْ مُتَّصِلَةً فَتُوُهِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخُرُوجِ وَقَعَ مُوَالِيًا لِانْتِهَاءِ مَحْضَرِ السَّحَرَةِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَصَصًا كَثِيرَةً ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْخُرُوجَ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِإِرْهَابِ فِرْعَوْنَ كُلَّمَا هَمَّ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ. ثُمَّ نَكَلَ إِلَى أَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِأَخَرَةٍ فَخَرَجُوا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَتْبَعَهُمْ.
وَتَعْرِضُ صُورَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَوْزِيعُ الْمَقَادِيرِ الْكَافِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى أَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلَاثَةِ بِحَيْثُ لَا يُتَعَجَّلُ بِنَحْرِ جَمِيعِ الْهَدَايَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ طَلَبًا لِفَضِيلَةِ الْمُبَادَرَةِ، فَإِنَّ التَّقْوَى الَّتِي
تَصِلُ إِلَى اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْهَدَايَا هِيَ تَسْلِيمُهَا لِلنَّفْعِ بِهَا.
وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ كَمَا فَرَضُوهُ فِي بَيْعِ الْفَرَسِ الْحُبُسِ إِذَا أَصَابَهُ مَا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ عدم النَّفْع، وَهِي الْمُعَاوضَة لربع الْحُبُسِ إِذَا خَرِبَ.
وَحُكْمُ الْهَدَايَا مُرَكَّبٌ مِنْ تَعَبُّدٍ وَتَعْلِيلٍ، وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِيهِ أَقْوَى، وَعِلَّتُهُ انْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسْلَكُ الْعِلَّةِ الْإِيمَاءُ الَّذِي فِي قَوْله تعال: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الْحَج: ٣٦].
وَاعْلَمْ أَنَّ تَوَهُّمَ التَّقَرُّبِ بِتَلْطِيخِ دِمَاءِ الْقَرَابِينِ وَانْتِفَاعِ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الدِّمَاءِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ قَدِيمَةٌ فَرُبَّمَا كَانُوا يَطْرَحُونَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ لَحْمٍ وَطَعَامٍ فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَأْكُلُهُ.
وَكَانَ الْيُونَانُ يَشْوُونَ لُحُومَ الْقَرَابِينِ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَصِيرَ رَمَادًا وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ تَسُرُّ الْآلِهَةَ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهَا بِالْقَرَابِينِ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ يُلْقُونَ الطَّعَامَ لِلتَّمَاسِيحِ الَّتِي فِي النِّيلِ لِأَنَّهَا مُقَدَّسَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنالَ، ويَنالُهُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِمَا. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ عَلَى مُرَاعَاةِ مَا يَجُوزُ فِي ضَمِيرِ جَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَرُبَّمَا كَانُوا يَقْذِفُونَ بِمُزَعٍ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ فَرُبَّمَا أَصَابَهَا مُحْتَاجٌ وَرُبَّمَا لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ أَوْ تَفْسُدُ.
وَيَشْمَلُ التَّقْوَى ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَالتَّصَدُّقَ بِبَعْضِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِينَ.
ويَنالُهُ مُشَاكِلَةٌ لِ يَنالَ الْأَوَّلِ، اسْتُعِيرَ النَّيْلُ لِتَعَلُّقَ الْعِلْمِ. شُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ تَقْوَاهُمْ بِوُصُولِ الشَّيْءِ الْمَبْعُوثِ إِلَى اللَّهِ تَشْبِيهًا وَجْهُهُ الْحُصُولُ فِي كُلٍّ وَحَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ.
وَالْخُصُومَاتُ فَلَا يَطْمَئِنُّونَ بِحُكْمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ إِشَارَةً إِلَى فَرِيقٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ لِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ.
فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا دُعُوا عَائِدٌ إِلَى مُعَادِ ضَمِيرِ يَقُولُونَ. وَإِسْنَادُ فِعْلِ دُعُوا إِلَى جَمِيعِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْمُعْرِضُونَ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَا جَمِيعَهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّهَيُّؤِ إِلَى الْإِعْرَاضِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يظهرونه إِلَّا عِنْد مَا تَحُلُّ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَالْمُعْرِضُونَ هُمُ الَّذِينَ حَلَّتْ بِهِمُ الْخُصُومَاتُ.
وَقَدْ شَمِلَتِ الْآيَةُ نَفَرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا حَلَّتْ بِهِمْ خُصُومَاتٌ فَأَبَوْا حكم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِم أَو بعد مَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْضِهِمْ حُكْمُهُ، فَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ بِشْرًا أَحَدَ الْأَوْسِ أَوِ الْخَزْرَجِ تَخَاصَمَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ يَهُودِيٍّ فَلَمَّا حَكَمَ النَّبِيءُ لِلْيَهُودِيِّ لَمْ يَرْضَ بِشْرٌ بِحُكْمِهِ وَدَعَاهُ إِلَى الْحُكْمِ عِنْدَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ فَأَبَى الْيَهُودِيُّ وَتَسَاوَقَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ أَنَّ بِشْرًا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ النَّبِيءِ قَالَ لَهُمَا: مَكَانَكُمَا حَتَّى آتِيَكُمَا. وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ وَضَرَبَ بِشْرًا بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ. فَرُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّبَ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمُشَاهَدَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَحَدَ الْمُنَافِقِينَ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ وَائِلٍ مِنَ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَوْسِيِّ تَخَاصَمَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي أَرْضٍ اقْتَسَمَاهَا ثُمَّ كَرِهَ أُمَيَّةُ الْقَسَمَ الَّذِي أَخَذَهُ فَرَامَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ وَأَبَى عَلِيٌّ نَقْضَهَا وَدَعَاهُ إِلَى الْحُكُومَة لَدَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَسْتُ آتِيهِ لِأَنَّهُ يُبْغِضُنِي وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَحِيفَ عَلَيَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ
وَمِنْ سَمَاجَةِ الْأَخْبَارِ مَا نَقَلَهُ الطُّبَرِسِيُّ الشِّيعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمُسَمَّى «مَجْمَعُ الْبَيَانِ» عَنِ الْبَلْخِيِّ!! أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ اشْتَرَاهَا
وَمَعْنَى: تَفْرَحُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُسَرُّونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْتَخِرُونَ، أَيْ أَنْتُمْ
تَعْظُمُ عِنْدَكُمْ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ لَا أَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي خَيْرًا مِنْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي «أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ» لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ أَنْتُمْ.
وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ.
وَتَوَعَّدَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسِلٌ إِلَيْهِمْ جَيْشًا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِحَرْبِهِ. وَضَمَائِرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ولَنُخْرِجَنَّهُمْ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَوْمِ، أَيْ لَنُخْرِجَنَّ مَنْ نُخْرِجُ مِنَ الْأَسْرَى.
وَقَوْلُهُ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ غَزْوَ بَلَدِهَا بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِرْسَالَ جُنُودٍ لِغَزْوِهَا فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧] أَيْ أَذْهَبَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَلْنُؤْتِيَنَّهُمْ جُنُودًا، أَيْ نَجْعَلُهَا آتِيَةً إِيَّاهُمْ.
وَالْقِبَلُ: الطَّاقَةُ. وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ فَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاقَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُطِيقُ شَيْئًا يَثْبُتُ لِلِقَائِهِ وَيُقَابِلُهُ. فَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ تَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ. وَلَعَلَّ أَصْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَاظِرٌ إِلَى الْمُقَابَلَةِ فِي الْقِتَالِ.
وَالْبَاءُ فِي بِها لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمْ بِسَبَبِهَا، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ انْتَفَى قِبَلَهُمُ الْمُصَاحِبُ لَهَا، أَيْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى لِقَائِهَا.
وَضَمِيرُ بِها لِلْجُنُودِ وَضَمِيرُ مِنْها لِلْمَدِينَةِ، وَهِيَ مَأْرِبَ، أَيْ يُخْرِجُهُمْ أَسْرَى وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مَدِينَتِهِ.
وَالصَّاغِرُ: الذَّلِيلُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى ذَلَّ وَمَصْدَرُهُ الصَّغَارُ. وَالْمُرَادُ: ذُلُّ الْهَزِيمَة والأسر.
الْحِجَابَ، فَعَلِمُوا أَنَّهَا إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُومَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِالْمَرْأَةِ، فَأَمَّا الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ مِثْلَ الْجَوْنِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَان الكندية فَلَا تعْتَبر من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. فَقَالَتْ: لِمَ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ النَّبِيءُ حِجَابًا وَلَا دُعِيتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَكَفَّ عَنْهَا.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ابْنَةُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيَّةُ تَزَوَّجَهَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: يَحْرُمُ تَزَوُّجُ كُلِّ امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ فِي «الرَّوْضَةِ»، واللاَّءِ طَلَّقَهُنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْبِنَاءِ بِهِنَّ فَاخْتُلِفَ فِيهِنَّ عَلَى قَوْلَيْنِ، قِيلَ: تَثْبُتُ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ لَهُنَّ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدْ أُكِّدَ حُكْمُ أُمُومَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الْأَحْزَاب: ٥٣]، وَبِتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْمُؤمنِينَ بقوله [تَعَالَى] : وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَاب: ٥٣]. وَسَيَجِيءُ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ بَعْدَهَا: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَ فِي الْحَرْفِ الأول «وَهُوَ أبوهم».
وَمَحْمَلُهَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ وَإِلَّا فَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيءُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ مفَاد هَذِه الْقُرَّاء.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
أَعْقَبَ نَسْخَ أَحْكَامِ التَّبَنِّي الَّتِي مِنْهَا مِيرَاثُ الْمُتَبَنِّي مَنْ تَبَنَّاهُ وَالْعَكْسُ بِإِبْطَالِ
أَوْ أَرْضِيَّةً أَو مَجْمُوعَة مِنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَقَامَتْ آثَارُهَا وَتَهَيَّأَتْ أَجْسَامٌ لِقَبُولِ أَرْوَاحِهَا أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا الْأَجْسَادُ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ نَظِيرَ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجِنَّةِ عِنْد استكمال تهيئها لِقَبُولِ الْأَرْوَاحِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ:
كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ مَرَرْتَ بِوَادٍ أُهْلِكَ مُمَحَّلًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ قيل: نعم. قَالَ: فَكَذَلِك يحيي اللَّهُ الْمَوْتَى وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ»

. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات عَن أبي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَن السَّائِل أَبُو رَزِينٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «الرّيح» بِالْإِفْرَادِ، والمعرّف بِلَامِ الْجِنْسِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ.
[١٠]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.
مَضَى ذِكْرُ غُرُورَيْنِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [فاطر: ٥]، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: ٥] فَأَخَذَ فِي تَفْصِيلِ الْغَرُورِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: ٦] وَمَا اسْتَتْبَعَهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْجَارِ كَيْدِهِ وَانْبِعَاثِ سُمُومِ مَكْرِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مَصَارِعِ مُتَابَعَتِهِ وَإِبْدَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاقِعِينَ فِي حَبَائِلِهِ وَالْمُعَافِينَ مِنْ أَدْوَائِهِ، بِدَارًا بِتَفْصِيلِ الْأَهَمِّ وَالْأَصْلِ، وَأَبْقَى تَفْصِيلَ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ إِلَى هُنَا.
وَإِذْ قَدْ كَانَ أَعْظَمُ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ فِي شِرْكِهِمْ نَاشِئًا عَنْ قَبُولِ تَعَالِيمِ كُبَرَائِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَكَانَ أَعْظَمُ دَوَاعِي الْقَادَةِ إِلَى تَضْلِيلِ دَهْمَائِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ، هُوَ مَا يَجِدُونَهُ من الْعِزَّة والافتنان بِحُبِّ الرِّئَاسَةِ فَالْقَادَةُ يَجْلِبُونَ الْعِزَّةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْأَتْبَاعُ يَعْتَزُّونَ بِقُوَّةِ قَادَتِهِمْ، لَا جَرَمَ كَانَتْ إِرَادَةُ الْعِزَّةِ مِلَاكَ تَكَاتُفِ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَتَأَلُّبِهِمْ عَلَى مُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ، فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِكَشْفِ اغْتِرَارِهِمْ بِطَلَبِهِمُ الْعِزَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مُسْتَمْسِكٍ بِحَبْلِ الشِّرْكِ مُعْرِضٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، لَا يُمَسِّكُهُ بِذَلِكَ إِلَّا إِرَادَةُ الْعِزَّةِ، فَلِذَلِكَ نَادَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ بِأَنَّ مَنْ
جَرَى عَلَى اعْتِبَارَاتِ الْإِعْرَابِ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَوْقِعِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ وَمَوْقِعِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةَ وَلِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ اطَّرَدَ وَجْهَا فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا فِي نَحْوِ «خَيْرُ الْقَوْلِ أَنِّيَ أَحْمَدُ».
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٩] رَأَيْنَا فِي كَوْنِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ مُرَكَّبَةً مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ (وَأَنَّ) النَّاسِخَةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ وَالشِّكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: ٣٦]، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨٣] أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَالنُّصْبُ، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ: الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي نَصَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ النَّصَبُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِنُصْبٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَهُوَ ضَمُّ إِتْبَاعٍ لِضَمِّ النُّونِ.
وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَرَضُ يَعْنِي: أَصَابَنِيَ الشَّيْطَانُ بِتَعَبٍ وَأَلَمٍ. وَذَلِكَ مِنْ ضُرٍّ حَلَّ بِجَسَدِهِ وَحَاجَةٍ أَصَابَتْهُ فِي مَالِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الْأَنْبِيَاء: ٨٣].
وَظَاهِرُ إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّ أَيُّوبَ بِهِمَا، أَيْ
أَصَابَهُ بِهِمَا حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ النُّصْبَ وَالْعَذَابَ هُمَا الْمَاسَّانِ أَيُّوبَ، فَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨٣] أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الضُّرِّ، وَالضُّرُّ هُوَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ. وَتَرَدَّدَتْ أَفْهَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بَنِي آدَمَ بِغَيْرِ الْوَسْوَسَةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ مُكَرَّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا مِنْ آثَارِهَا. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ تَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ وَفِي أَكْثَرِهَا سَمَاجَةٌ وَكُلُّهَا مَبْنِيٌّ عَلَى حَمْلِهِمُ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِنُصْبٍ عَلَى أَنَّهَا بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ مَسَّنِيَ، أَوْ بَاءُ الْآلَةِ مِثْلُ: ضَرَبَهُ بالعصا، أَو يؤول النُّصْبُ وَالْعَذَابُ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ أَعْطَى.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنْ تُحْمَلَ الْبَاءُ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ بِجَعْلِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ مُسَبِّبَيْنِ
قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]. وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُرْجَعُونَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ ورعاية الفاصلة.
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قَلَّ مَنْ تَصَدَّى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَنْ تَصَدَّى مِنْهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَوْلَى كَلَامٍ فِي ذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَكِنَّهُ وَجِيزٌ وَغَيْرُ مُحَرَّرٍ وَهُوَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِهَا فَزَادُوا بِذَلِكَ إِشْكَالًا وَمَا أَبَانُوا انْفِصَالًا.
وَلْنَبْدَأْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الِانْفِصَامِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بِتَمَامِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت: ٢١] إِلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِرَاضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْهَا: إِمَّا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَاتِ، وَإِمَّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤]، وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تخفون شرككم وتستترون مِنْهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَمَاذَا لَوْمُكُمْ عَلَى جَوَارِحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ أَنْ شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالِاسْتِتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ مَجَازًا
وَالْبَرَكَةُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ.
وَقَدْ ذُكِرَ مَعَ التَّنْزِيهِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِاقْتِضَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ التَّنْزِيهُ عَنِ الْوَلَدِ الْمَسُوقِ الْكَلَامِ لِنَفْيِهِ، وَعَنِ الشَّرِيكِ الْمَشْمُولِ لِقَوْلِهِ: عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: ٨٢]، وَذُكِرَ مَعَ التَّبْرِيكِ وَالتَّعْظِيمِ أَنَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُلْكِ لِلْعَظَمَةِ وَفَيْضِ الْخَيْرِ، فَلَا يَرِيبُكَ أَنَّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: ٨٢] مُغْنٍ عَنِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ غَرَضَ الْقُرْآنِ التَّذْكِيرُ وَأَغْرَاضُ التَّذْكِيرِ تُخَالِفُ أَغْرَاضَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْجَدَلِ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يُلَائِمُ التَّنْبِيهَ عَلَى مُخْتَلَفِ الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمْدَادِ مِنَ الْفَضْلِ. ثُمَّ إِنَّ صِيغَةَ تَبارَكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقْتَضِي اسْتِغْنَاءَهُ عَنِ الزِّيَادَةِ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَاتِّخَاذِ الشَّرِيكِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ
اسْتِدْلَالًا آخَرَ تَابِعًا لِدَلِيلِ قَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: ٨٢].
وَقَدْ تَأَكَّدَ انْفِرَادُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَعْظَمِ الْمُوجُودَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَوْلِهِ: رَبِّ الْعَرْشِ [الزخرف: ٨٢] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤] وَقَوْلِهِ:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما.
فَكَمْ مِنْ خَصَائِصَ وَنُكَتٍ تَنْهَالُ عَلَى الْمُتَدَبِّرِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُفِيدًا التَّصَرُّفَ فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُدَّةَ وُجُودِهَا وَوُجُودِ مَا بَيْنَهَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ مَعَ مُلْكِ الْعَوَالِمِ الْفَانِيَةِ مُلْكُ الْعَوَالِمِ الْبَاقِيَةِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا بِالتَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِقَصْدِ التَّقَوِّي إِذْ لَيْسَ الْمُخَاطَبُونَ بِمُثْبِتِينَ رُجْعَى إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ أَصْلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِلْأَصْنَامِ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ فِي
لَكَ الْخَيْرَانِ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَدْ أُيِّدَ التَّوْبِيخُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ إِذْ حَاوَلُوا إِخْفَاءَ بَاطِنِهِمْ عَنِ الْمُطَّلِعِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صِفَاتِهِ وَيَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَات كالعرش.
[١٧]
[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ١٧]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أُرِيدَ بِهِ إِبْطَالُ مَا أَظْهَرَهُ بَنُو أَسد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَزِيَّتِهِمْ إِذْ أَسْلَمُوا مِنْ دُونِ إِكْرَاهٍ بِغَزْوٍ.
وَالْمَنُّ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ لِيُرَاعِيَهُ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ لِلذَّاكِرِ، وَهُوَ يَكُونُ صَرِيحًا مِثْلَ قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
أَتَنْسَى دِفَاعِي عَنْكَ إِذْ أَنْتَ مُسْلَمٌ وَقَدْ سَالَ مِنْ ذُلٍّ عَلَيْكَ قَرَاقِرُ
وَيَكُونُ بِالتَّعْرِيضِ بِأَنْ يَذْكُرَ الْمَانُّ مِنْ مُعَامَلَته مَعَ الْمَمْنُون عَلَيْهِ مَا هُوَ نَافِعُهُ مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاعِي مُخَاطِبًا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ:
فَآزَرَتُ آلَ أَبِي خُبَيْبٍ وَافِدًا يَوْمًا أُرِيدَ لِبَيْعَتِي تَبْدِيلَا
أَبُو خُبَيْبٍ: كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَتْ مَقَالَةُ بَنِي أَسَدٍ مُشْتَمِلَةً عَلَى النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمَنِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ مُحَارِبٌ وَغَطَفَانُ وَهَوَازِنُ وَقَالُوا: وَجِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ.
وأَنْ أَسْلَمُوا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ التَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: مَنَّ عَلَيْهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسْتَبْرَقَ: صِنْفٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالدِّيبَاجُ: ثَوْبٌ مَنْسُوجٌ مِنَ الْحَرِيرِ مَنْقُوشٌ وَهُوَ أَجْوَدُ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ.
وَمِنْ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ: مَا يُجْنَى مِنْ ثِمَارِهِمَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَا يُقْطَفُ مِنَ الثَّمَرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ دَانٍ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ فَمَتَى شَاءُوا اقتطفوا مِنْهُ.
[٥٥]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٥٥]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥)
هُوَ مثل نَظَائِره.
[٥٦- ٥٨]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨)
ضَمِيرُ فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى فُرُشٍ وَهُوَ سَبَبُ تَأْخِيرِ نِعَمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَذَّةِ التَّأَنُّسِ بِالنِّسَاءِ عَنْ مَا فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْأَفْنَانِ وَالْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْفُرُشِ، لِيَكُونَ ذِكْرُ الْفُرُشِ مُنَاسِبًا لِلْاِنْتِقَالِ إِلَى الْأَوَانِسِ فِي تِلْكَ الْفُرُشِ وَلِيَجِيءَ هَذَا الضَّمِيرُ مُفِيدًا مَعْنًى كَثِيرًا مِنْ لَفْظٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ التَّرْتِيب فِي هَذَا التَّرْكِيبِ.
فَ قاصِراتُ الطَّرْفِ كَائِنَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَكَائِنَةٌ عَلَى الْفُرُشِ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ قَالَ تَعَالَى:
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً [الْوَاقِعَة: ٣٤- ٣٦] الْآيَةَ.
وقاصِراتُ الطَّرْفِ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نِسَاءٌ، وَشَاعَ الْمَدْحُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْاِسْمِ فَ قاصِراتُ الطَّرْفِ نِسَاءٌ فِي نَظَرِهِنَّ مِثْلُ الْقُصُورِ وَالْغَضُّ خِلْقَةٌ فِيهِنَّ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ مِرَاضُ الْعُيُونِ، أَيْ:
مِثْلِ الْمِرَاضِ خِلْقَةً. وَالْقُصُورُ: مِثْلُ الْغَضِّ مِنْ صِفَاتِ عُيُونِ الْمَهَا وَالظِّبَاءِ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة فالجملة فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ. وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ مَا يُفَسِّرُ الضَّمِيرُ، وَهُوَ جُمْلَةُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَبَشَرٌ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَإِبْطَالٍ فَهُمْ أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يَهْدُونَ بَشَرًا أَمْثَالَهُمْ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَنْ يَصْطَفِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَيَخْلُقُهُ مُضْطَلِعًا بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إِلَى عِبَادِهِ. كَمَا قَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧] وَجَهِلُوا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ نَوْعِهِمْ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٥] وَلَمَّا أَحَالُوا أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ أَهْلًا لِهِدَايَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِ جَعَلُوا ذَلِكَ كَافِيًا فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ.
وَالْبَشَرُ: اسْمُ جِنْسٍ لِلْإِنْسَانِ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْكَهْف: ١١٠] وَيُقَالُ عَلَى الْجَمْعِ كَمَا هُنَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣١] وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ [١٧] عِنْدَ قَوْلِهِ: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا.
وَتَنْكِيرُ بَشَرٌ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّ مَحَطَّ الْإِنْكَارِ عَلَى كَوْنِهِمْ يَهْدُونَهُمْ، هُوَ نَوْعُ الْبَشَرِيَّةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقَوِّي حُكْمِ الْإِنْكَارِ، وَمَا قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى اعْتَقَدُوهُ فَلِذَلِكَ أَقْدَمُوا عَلَى الْكُفْرِ بِرُسُلِهِمْ إِذْ قَدِ اعْتَقَدُوا اسْتِحَالَةَ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَجَزَمُوا بِكَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا.
وَالتَّوَلِّي أَصْلُهُ: الِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٤].
وَاسْتَغْنَى غَنِيَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: ٥].
وَالْمَعْنَى: غَنِيَ اللَّهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: ٧].
وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ مِنْ زَمَنٍ مَضَى فَإِنَّ غِنَى اللَّهِ عَنْ إِيمَانِهِمْ مُقْرَرٌ فِي الْأَزَلِ.
أَعْمَالِهِ كَانَ معرّضا لِأَن يعتلق بِهِ أَذًى مِنْ سَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَجْرِ الْمُشْرِكِينَ هَجْرًا جَمِيلًا، أَيْ أَنْ يَهْجُرَهُمْ وَلَا يَزِيدَ عَلَى هَجْرِهِمْ سَبًّا أَوِ انْتِقَامًا.
وَهَذَا الْهَجْرُ: هُوَ إِمْسَاكُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَافَأَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ.
وَلَيْسَ مُنْسَحِبًا عَلَى الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ فَإِنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ وَلَكِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدِ انْتَزَعَ فَخْرُ الدِّينِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعًا خُلُقِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِيحَاشِهِمْ لِأَنَّهُ إِنْ أَطْمَعَ نَفْسَهُ بِالرَّاحَةِ مَعَهُمْ لَمْ يَجِدْهَا مُسْتَمِرَّةً فَيَقَعُ فِي الْغُمُومِ إِنْ لَمْ يَرِضْ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَإِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَلِكَ هُوَ الهجر الْجَمِيل.
[١١]
[سُورَة المزمل (٧٣) : آيَة ١١]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٤٤]، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِتَكْذِيبِهِمْ وَلَا تَشْتَغِلْ بِتَكْرِيرِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلَا تَغْضَبْ وَلَا تَسُبَّهُمْ فَأَنَا أَكْفِيكَهُمْ.
وَانْتَصَبَ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْمَعِيَّةِ.
وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ عَنَاهُمْ بِضَمِيرِ يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ [المزمل: ١٠]، وهم المكذبون للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّهْدِيدِ.
وَوَصَفَهُمْ بِ أُولِي النَّعْمَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا لِغُرُورِهِمْ وَبَطَرِهِمْ بِسَعَةِ حَالِهِمْ، وَتَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي قَالَ ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ سَيُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّنَعُّمَ.
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهَكُّمِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ سَعَةَ الْعَيْشِ وَوَفْرَةَ الْمَالِ
قِيَاسُ مَصْدَرِهِ فَهُوَ رَوْدٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمَهْلُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ أَمْهِلْهُمْ فَقَدْ أَكَّدَ قَوْلَهُ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ مَرَّتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: انْتَظِرْ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ انْتِظَارَ تَرَبُّصٍ وَاتِّيَادٍ فَيَكُونُ رُوَيْداً كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْمُطْمَئِنَ لِحُصُولِ شَيْءٍ لَا يَسْتَعْجِلُ بِهِ.
وَتَصْغِيرُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ، أَيْ مُهْلَةٌ غَيْرُ طَوِيلَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوَيْداً هُنَا اسْمَ فِعْلٍ لِلْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: رُوَيْدَكَ، لِأَنَّ اقْتِرَانَهُ بِكَافِ الْخِطَابِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفِعْلِ لَيْسَ شَرْطًا وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: الْكافِرِينَ ورُوَيْداً كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، فَلَيْسَ وُجُودُ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْمَصْدَرُ، أَيْ تَصَبَّرْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْوَعْدِ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ