الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ وَمَعْنَى التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَنَحْوِهِ
إِنْ قُلْتَ أَتُرَاكَ بِمَا عَدَدْتَ مِنْ عُلُومِ التَّفْسِيرِ تُثْبِتُ أَنَّ تَفْسِيرًا كَثِيرًا لِلْقُرْآنِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى مَأْثُورٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَتُبِيحُ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ حَظًّا كَافِيًا وَذَوْقًا يَنْفَتِحُ لَهُ بِهِمَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ، أَنْ يُفَسِّرَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ هَؤُلَاءِ، فَيُفَسِّرُ بِمَعَانٍ تَقْتَضِيهَا الْعُلُومُ الَّتِي يَسْتَمِدُّ مِنْهَا عِلْمُ التَّفْسِيرِ، وَكَيْفَ حَالُ التَّحْذِيرِ الْوَاقِعِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
. وَالْحَدِيثُ الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ»
وَكَيْفَ مَحْمَلُ مَا رُوِيَ مِنْ تَحَاشِي بَعْضِ السَّلَفِ عَنِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّديق أَنه سَأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَبِّ فِي قَوْلِهِ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: ٣١] فَقَالَ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِي» وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ إِحْجَامُهُمَا عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: أَرَانِي كَمَا حَسِبْتَ أُثْبِتُ ذَلِكَ وَأُبِيحُهُ، وَهَلِ اتَّسَعَتِ التَّفَاسِيرُ وَتَفَنَّنَتْ مُسْتَنْبَطَاتُ مَعَانِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَا رُزِقَهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ فَهْمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ وَهَلْ يَتَحَقَّقُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا «إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» إِلَّا بِازْدِيَادِ الْمَعَانِي بِاتِّسَاعِ التَّفْسِيرِ؟ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا فِي وَرَقَاتٍ قَلِيلَةٍ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ إِيَّاهُنَّ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ التَّفْسِيرُ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ التَّفْسِيرُ نَزْرًا، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ كَثْرَةَ أَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ يَلِيهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا أَكْثَرَ ذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطَ بِرَأْيِهِمْ وَعِلْمِهِمْ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ فِي التَّفْسِيرِ مَسْمُوعًا مِنَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوَجْهَيْنِ: أحد هما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ إِلَّا تَفْسِيرُ آيَاتٍ قَلِيلَةٍ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ. الثَّانِي أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
فِي التَّفْسِيرِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا،
وَلِأَنَّ فِي اسْتِقْبَالِهَا إِيمَاءً إِلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الدِّينِ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا كَانَ الرِّضَى مُشْعِرًا بِالْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَعَقُّلٍ اخْتِيرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ تُحِبُّهَا أَوْ تَهْوَاهَا أَوْ نَحْوِهِمَا فَإِنَّ مَقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْبُو عَنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَيْلُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ الْعَارِضَةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِي جَانِبِ قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ جَاءَ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعْدِ وَتَعْجِيلٌ بِهِ وَالْمعْنَى فول وَجْهَكَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرِينَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُجَادَلَةِ مَعَ السُّفَهَاءِ فِي شَأْنِ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ.
وَالْخُطَّابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ إِرْضَاءِ رَغْبَتِهِ، وَسَيَعْقُبُهُ بِتَشْرِيكِ الْأُمَّةِ مَعَهُ فِي الْأَمر بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
وَالشَّطْرُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْجِهَةُ وَالنَّاحِيَةُ وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِتِلْقَاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَفَسَّرَ الْجُبَّائِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ الشَّطْرَ هُنَا بِأَنَّهُ وَسَطُ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ عَلَى نِصْفِ الشَّيْءِ فَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مَكَانٌ اقْتَضَى أَنَّ نِصْفَهُ عِبَارَةٌ عَنْ نِصْفِ مِقْدَارِهِ وَمِسَاحَتِهِ وَذَلِكَ وَسَطُهُ، وَجَعَلَا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كِنَايَةً عَنِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي نِصْفِ مِسَاحَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ (أَيْ تَقْرِيبًا) قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذكرنَا وَجْهَان أَحدهمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ وَقَفَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، الثَّانِي لَوْ لَمْ نُفَسِّرِ
الشَّطْرَ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الشَّطْرِ فَائِدَةٌ إِذْ يُغْنِي أَنْ يَقُولَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَلَكَانَ الْوَاجِبُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا إِلَى خُصُوصِ الْكَعْبَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قَبْلَ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ وهلا قَالَ: فِي السَّمَاءِ فَوَلِّ وَجْهَكَ إِلَخْ، قُلْتُ فَائِدَتُهُ إِظْهَارُ الِاهْتِمَامِ بِرَغْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا بِحَيْثُ يُعْتَنَى بِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْقِبْلَةِ بِجُمْلَةِ تَرْضاها.
وَمَعْنَى (نُوَلِّيَنَّكَ) نُوَجِّهَنَّكَ، وَفِي التَّوْجِيهِ قُرْبٌ مَعْنَوِيٌّ لِأَنَّ وَلَّى الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْقُرْبِ الْحَقِيقِيِّ فَهُوَ بِمَعْنَى الِارْتِبَاطِ بِهِ، وَمِنْهُ الْوَلَاءُ وَالْوَلِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ مِنْ قَبِيلِ الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرُ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى كَذَا ثُمَّ يُعَدُّونَهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَالِثٍ بِحَرْفِ عَنْ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حُصَيْنٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفٍ وَلَهُ ابْنَانِ جَاءَ تُجَّارٌ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَنَصَّرَا وَخَرَجَا مَعَهُمْ، فَجَاءَ أَبُوهُمَا فَشَكَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَرُدُّهُمَا مُكْرَهَيْنِ فَنَزَلَتْ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمَئِذٍ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِكْرَاهِ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ فِي إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ كُرْهًا فِرَارًا مِنَ السَّيْفِ، عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النِّسَاء:
٩٤]. وَهَذَا الْقَوْلُ تَأْوِيلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَحَمْلٌ لِلنَّفْيِ عَلَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ التَّوْحِيدُ وَدِينٌ لَهُ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ وَإِنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ نَهْيٌ،
وَالْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا السَّبَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُنَّ أَهْلُ دِينٍ وَأَكْرِهُوا الْمَجُوسَ مِنْهُمْ وَالْمُشْرِكَاتِ.
وَقَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
والرشد- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِفَتْحٍ فَفَتْحٍ- الْهُدَى وَسَدَادُ الرَّأْيِ، وَيُقَابِلُهُ الْغَيُّ وَالسَّفَهُ، وَالْغَيُّ الضَّلَالُ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ غَوَى الْمُتَعَدِّي فَأَصْلُهُ غَوِيٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتَا.
وَضُمِّنَ تَبَيَّنَ مَعْنَى تَمَيَّزَ فَلذَلِك عدي بِمن، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي بَلَدٍ مُسْتَقِلٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّبْيِينِ إِلَّا الْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ، وَفِيه بَيَان لنفي الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَفَرَّعَ عَنْ تَمَيُّزِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ ظُهُورُ أَنَّ مُتَّبِعَ الْإِسْلَامِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ اخْتِيَارًا.
وَالطَّاغُوتُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ، وَالْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ الطَّاغِيَةَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ»
، وَيَجْمَعُونَ الطَّاغُوتَ عَلَى طَوَاغِيتَ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّغْيَانِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغُلُوُّ فِي الْكِبْرِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَمَكْرُوهٌ. وَوَزْنُ طَاغُوتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ طَغَيُوتٌ- فَعَلُوتٌ- مِنْ أَوْزَانِ الْمَصَادِرِ
عَلَى حَادِثَةٍ حَدَثَتْ وَأَنَّ لِنُزُولِهَا سَبَبًا.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَخَاذَلُوا وَتَحَارَبُوا حَتَّى تَفَانَوْا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَآخِرُهَا يَوْمُ بُعَاثٍ الَّتِي انْتَهَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ زَالَتْ تِلْكَ الْأَحْقَادُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَصْبَحُوا عُدَّةً لِلْإِسْلَامِ، فَسَاءَ ذَلِكَ يَهُودَ يَثْرِبَ فَقَامَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ شَيْخٌ قَدِيمٌ مِنْهُمْ، فَجَلَسَ إِلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ حُرُوبَ بُعَاثٍ، فَكَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَنَادَى كُلُّ فَرِيقٍ: يَا لَلْأَوْسِ! وَيَا لَلْخَزْرَجِ! وَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَجَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْجَاهِلِيَّةَ- وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! وَفِي رِوَايَةٍ: أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! أَيْ أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ- وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
، فَمَا فَرَغَ مِنْهَا حَتَّى أَلْقَوُا السِّلَاحَ، وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ طُلُوعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْلَحَ اللَّهُ بَيْنَنَا
مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَأَصْلُ الرَّدِّ الصَّرْفُ وَالْإِرْجَاعُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الْحَج:
٥] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ بَعْدَ الْمُخَالَطَةِ فَيُفِيدُ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ، فِيمَا أَنْشَدَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ:

فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضًا وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودًا
وكافِرِينَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ يَرُدُّوكُمْ وَالْقَصْدُ من التّصريح بِهِ تَوْضِيحُ فَوَاتِ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا فِيهَا لَوْ يَكْفُرُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِبْعَادِ استبعادا لكفرهم ونفيا لَهُ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٢]

وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء:
٢٩].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: أَنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنَّاهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ أَتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرَامَ تَحْصِيلَهُ وَافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتَانُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وَإِلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْوَاجِبِ مِنْ إِعْطَاءِ الْحَقِّ صَاحِبَهُ وَعَنْ مَنَاهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا التَّمَنِّي فِي زَمَانِنَا هَذَا فِتْنَةً لِطَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهُمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْغُلَاةِ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ مِمَّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إِلَى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصَارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُعَانُونَ إِرْهَاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ على طائل.
فالنهي عَنِ التَّمَنِّي وَتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا، فَكَانَ كَالتَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرَائِعِهَا وَذَرَائِعِ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي دَرْءِ الشُّرُورِ. وَقَدْ كَانَ التَّمَنِّي مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْجَرَائِمِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَسَدِ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ نَشَأَ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَقَدْ كثر مَا انْتَبَهت أَمْوَالٌ، وَقُتِلَتْ نُفُوسٌ للرغبة فِي بسطة رِزْقٍ، أَوْ فِتْنَةِ نِسَاءٍ، أَوْ نَوَالِ مُلْكٍ، وَالتَّارِيخُ طَافِحٌ بِحَوَادِثَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذَا التَّمَنِّيَ هُوَ تَمَنِّي أَمْوَالِ الْمُثْرِينَ، وَتَمَنِّي أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِينَ، وَتَمَنِّي الِاسْتِئْثَارِ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَتَمَنِّي حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنَاسِبَ مَا سَبَقَ مِنْ إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ. وَإِنْصَافِ النِّسَاءِ فِي مُهُورِهِنَّ، وَتَرْكِ مُضَارَّتِهِنَّ إِلْجَاءً إِلَى إِسْقَاطِهَا، وَمِنْ إِعْطَاءِ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.
قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٥١] الْآيَاتِ.
وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ كَثِيراً حَالًا مِنْهُ.
وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذُوهُ مَنْ قَوْمِهِمْ خَاصَّةً وَيَسُوغُ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْ
غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ٢٣ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بربا رَبًّا قضّة أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا. لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا». وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ ٢٢ «إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا» وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَا فَيَشْمَلُ الرَّشْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ عِنْدَهُمْ، وَأَخْذَهُمُ الْفِدَاءَ عَلَى الْأَسْرَى مِنْ قَوْمِهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إِلَخ ناشيء عَلَى مَا يُوهِمُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ ابْتِدَاءً من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: ١٥٣] مِنْ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى لَا يُرْجَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ لَيْسُوا كَمَا تُوُهِّمَ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ.
وَالرَّاسِخُ حَقِيقَتُهُ الثَّابِتُ الْقَدَمِ فِي الْمَشْيِ، لَا يَتَزَلْزَلُ وَاسْتُعِيرَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ مِثْلُ الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَغُرُّهُ الشَّبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]. وَالرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ بَعِيدٌ عَنِ التَّكَلُّفِ وَعَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ حَاجِبٌ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ دَلَائِلَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ.
وَعَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الرَّاسِخُونَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ لِلْعَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ يُؤْمِنُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَكَفَاهُمْ بِهِ آيَةً، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَلَا يُعَادُونَ رُسُلَ اللَّهِ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً.
النَّهْيِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ بِوَاجِبٍ عَدَا مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَذَلِكَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَعَنِ الصَّلاةِ.
وَقَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ الْآيَةَ، فَإِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ مَفَاسِدِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ كَافٍ فِي انْتِهَاءِ النَّاسِ عَنْهُمَا فَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ لِإِعَادَةِ نَهْيِهِمْ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِاسْتِفْهَامِهِمْ عَنْ مَبْلَغِ أَثَرِ هَذَا الْبَيَانِ فِي نُفُوسِهِمْ تَرْفِيعًا بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الْفَطِنِ الْخَبِيرِ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ كُلِّهِ نَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِيهَا لَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَبِيِّ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنْ بَدِيعِ لُطْفِ الْخِطَابِ مَا بَلَغَ بِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
وَلِذَلِكَ اختير الِاسْتِفْهَام بهل الَّتِي أَصْلُ مَعْنَاهَا (قَدْ). وَكَثُرَ وُقُوعُهَا فِي حَيِّزِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام، فاستغنوا بهل عَنْ ذِكْرِ الْهَمْزَةِ، فَهِيَ لِاسْتِفْهَامٍ مُضَمَّنٍ تَحْقِيقَ الْإِسْنَادِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، دُونَ الْهَمْزَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: أَتَنْتَهُونَ، بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الْفرْقَان: ٢٠]. وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَ هَلْ اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ حُصُولِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَأُرِيدَ مَعَهَا مَعْنَاهُ الْكِنَائِيُّ، وَهُوَ التَّحْذِيرُ مِنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ الْآيَةَ قَالَ: «انْتَهَيْنَا! انْتَهَيْنَا!». وَمِنَ الْمَعْلُومِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ مُجَرَّدًا عَنِ الْكِنَايَةِ. فَمَا حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ مِنْ قَوْلِهِ «إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقُلْنَا: لَا» إِنْ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ. وَلِي فِي صِحَّتِهِ شَكٌّ، فَهُوَ خَطَأٌ فِي الْفَهْمِ أَوِ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ شَذَّ نَفَرٌ مِنَ السَّلَفِ نُقِلَتْ
عَنْهُمْ أَخْبَارٌ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، لَا يُدْرَى مَبْلَغُهَا مِنَ الصِّحَّةِ. وَمَحْمَلُهَا، إِنْ صَحَّتْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهَ تَعَالَى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ.
وَلَمْ يَطُلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.
وَالْخَرْصُ: الظَّنُّ النَّاشِئُ عَنْ وِجْدَانٍ فِي النَّفْسِ مُسْتَنِدٍ إِلَى تَقْرِيبٍ، وَلَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ: الْحَزْرَ، وَالتَّخْمِينَ، وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ، أَيْ تَقْدِيرُ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُهُ النَّاظِرُ فِيمَا تَعَوَّدَهُ. وَإِطْلَاقُ الْخَرْصِ عَلَى ظُنُونِهِمُ الْبَاطِلَةِ فِي غَايَةِ الرَّشَاقَةِ لِأَنَّهَا ظُنُونٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَا حَسُنَ لِظَانِّيهَا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ فَسَّرَ الْخَرْصَ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، نَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى حَاصِلِ مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: ١٠] وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِوَصْفِ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، بَلْ لِوَصْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الِاعْتِقَادَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ، فَالْخَرْصُ مَا كَانَ غَيْرَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠]، وَلَوْ أُرِيدَ وَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ لَكَانَ لَفْظُ (يَكْذِبُونَ) أَصْرَحَ مَنْ لَفْظِ يَخْرُصُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السِّيَاقَ اقْتَضَى ذَمَّ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ لَا يَنْضَبِطُ، وَيُعَارِضُهُ مَا
وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصَ التَّمْرُ»
. فَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ لِيَنْتَفِعُوا بِأَكْلِ ثِمَارِهِمْ رَطْبَةً، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ الْخَرْصُ، وَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَرِيَّةِ يَشْتَرِيهَا الْمُعْرِي مِمَّنْ أَعْرَاهُ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ حَدِيثَ عتاب مَنْسُوخا.
[١١٧]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١١٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [الْأَنْعَام: ١١٦] لِأَنَّ مَضْمُونَهُ التَّحْذِيرُ مِنْ نَزَغَاتِهِمْ وَتَوَقُّعُ التَّضْلِيلِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ الِاهْتِدَاءَ، فَلْيَجْتَنِبُوا الضَّالِّينَ، وَلْيَهْتَدُوا بِاللَّهِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي خَبَرٍ لَا يَحْتَاجُ لِرَدِّ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ: أَنَّ تُفِيدُ تَأْكِيدَ
بِالْأَخْبَارِ لَا تَكُونُ تَامَّةً عِنْدَهُ مِثْلَ الْمُشَاهِدِ، أَيْ: وَمَا كُنَّا جَاهِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّنَا مُطَّلِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّفْيُ لِلْغَيْبَةِ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْمَعِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤].
وَإِثْبَاتُ سُؤَالِ الْأُمَمِ هُنَا لَا يُنَافِي نَفْيَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [الْقَصَص: ٧٨]- وَقَوْلِهِ- فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَن: ٣٩] لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُنَا هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا غائِبِينَ.
[٨، ٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
عطف جُمْلَةُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ عَلَى جملَة فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧]، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَنَاتِ النَّاسِ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ مَظْهَرَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَأَثَرَهُ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ وَدَرَكَاتِهِمْ تَفَاوُتًا لَا يُظْلَمُ الْعَامِلُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَفُوتُ مَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ بِرَفْعِ دَرَجَةٍ أَوْ مَغْفِرَةِ زَلَّةٍ لِأَجْلِ سَلَامَةِ قَلْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جملَة: فَلَنَقُصَّنَّ [الْأَعْرَاف: ٧] بِجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَلَنُجَازِيَنَّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً لَا غَبْنَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ.
وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَيْهِ:
وَجُمْلَةُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ مُفْرَدٍ، هُوَ فَاعل يَهْدِ، ف (إِن) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ مِنْ حُرُوفِ التَّأْكِيدِ وَالْمَصْدَرِيَّةِ وَاسْمُهَا فِي حَالَةِ التَّخْفِيفِ، ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ، وَجُمْلَةُ شَرْطِ (لَوْ) وَجَوَابِهِ خَبَرُ (أَنْ).
وَ (لَوْ) حَرْفُ شَرْطٍ يُفِيدُ تَعْلِيقَ امْتِنَاعِ حُصُولِ جَوَابِهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ حُصُولِ شَرْطِهِ: فِي الْمَاضِي، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ هُنَا مُضَارِعًا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، إِذْ لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُ زَمَنَيْ فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، وَإِنَّمَا يُخَالَفُ بَيْنَهُمَا فِي الصُّورَةِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ انْتَفَى أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ فِي الْمَاضِي بِذُنُوبِ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَجْلِ انْتِفَاءِ مَشِيئَتِنَا ذَلِكَ لِحِكْمَةِ إِمْهَالِهِمْ لَا لِكَوْنِهِمْ أَعَزَّ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ أَوْ أَفْضَلَ حَالًا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [غَافِر: ٢١] الْآيَةَ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ غَالِبٌ، وَالْمَعْنَى: أَغَرَّهُمْ تَأَخُّرُ الْعَذَابِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ فَحَسِبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنْهُ، وَلَمْ
يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ نُزُولِهِ بِهِمْ مُعَلَّقٌ عَلَى انْتِفَاءِ مَشِيئَتِنَا وُقُوعه لحكمة، فَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ أَخْذَهُمْ، وَالْمَصْدَرُ الَّذِي تُفِيدُهُ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ، إِذَا كَانَ اسْمُهَا ضَمِيرَ شَأْنٍ، يُقَدِّرُ ثُبُوتًا مُتَصَيَّدًا مِمَّا فِي (أَنْ) وَخَبَرِهَا مِنَ النِّسْبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَهُوَ فَاعِلُ يَهْدِ فَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَة: أَو لم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ثُبُوتُ هَذَا الْخَبَرِ الْمُهِمِّ وَهُوَ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَعَجِبُوا كَيْفَ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِنَا وَأَنَّهُ يحِق عَلَيْهِم عِنْد مَا نَشَاؤُهُ.
وَجُمْلَةُ: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أَصَبْناهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِي حُكْمِ جَوَابِ (لَوْ) لِأَنَّ هَذَا يُفْسِدُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ تُجْدِ فِيهِمْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ بُعِثَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِ (لَوْ) لَصَارَ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
ثُمَّ إِنَّ الْمُشْركين لما يرزوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرَ لَهُمْ كَثْرَةُ الْمُسلمين فَبُهِتُوا، وكغان ذَلِكَ بَعْدَ الْمُنَاجَزَةِ، فَكَانَ مُلْقِيًا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ مَا حَكَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عمرَان [١٣] قَوْله: ترونهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.
وَخُولِفَ الْأُسْلُوبُ فِي حِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَحِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَنَاسَبَ أَنْ يُحْكَى تَقْلِيلُهُمْ بِإِرَاءَتِهِمْ قَلِيلًا، الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْقَلِيلِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِعَدُوِّهِمْ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِتَقْلِيلِهِمْ: أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ «تَقْلِيلٌ» الْمُؤَذِنُ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي قِلَّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذْيِيلٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْعَطْفُ يُسَمَّى: عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ لَيْسَتْ فِيهِ مُشَارَكَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَتُسَمَّى الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْأُمُورُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ.
وَالرُّجُوعُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَوَّلِ وَانْتِهَاءِ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ رُجُوعُ أَسْبَابِهَا، أَيْ إِيجَادُهَا، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَلُوحُ جَارِيَةً بِتَصَرُّفِ الْعِبَادِ وَتَأْثِيرِ الْحَوَادِثِ، وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْعَالِيَةَ، وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَتَصَاعَدُ إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ الْمُعْتَادَةُ، لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ مُؤَثِّرُهَا وَمُوجِدُهَا. عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ، عَالِيَهَا وَقَرِيبَهَا، مُتَأَثِّرٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالنَّوَامِيسِ وَالطَّبَائِعِ، فَرُجُوعُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رُجُوعٌ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ جَرْيِهِ عَلَى النِّظَامِ الْمُعْتَادِ، وَعَدَمِ جَرْيِهِ، فَإِيجَادُ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَلُوحُ حُصُولُهُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ وَالْعِبَادِ، وَهُوَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الْحَقِّ رَاجِعٌ إِلَى إِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقِ كُلِّ صَانِعٍ. وَالذَّوَاتُ وَأَحْوَالُهَا كُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ، وَمَآلُهَا كُلُّهُ رُجُوعٌ، فَهَذَا لَيْسَ رُجُوعَ ذَوَاتٍ وَلَكِنَّهُ رُجُوعُ تَصَرُّفٍ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: ١٥٦].
وَالْمَعْنَى: وَلَا عَجَبَ فِي مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَيْشَيْنِ عَلَى خِلَافِ حَالِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمر، فإنّ الإراءة الْمُعْتَادَةَ تَرْجِعُ إِلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة، والإراءة غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَسْبَابٍ يَضَعُهَا اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ مُرْجَوْنَ بِسُكُونِ الْوَاوِ بِدُونِ هَمْزٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْجَاهُ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ مُخَفَّفُ أَرْجَأَهُ بِالْهَمْزِ إِذَا أَخَّرَهُ، فَيُقَالُ فِي مُضَارِعِهِ الْمُخَفَّفِ: أَرْجَيْتُهُ بِالْيَاءِ، كَقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الْأَحْزَاب: ٥١] بِالْيَاءِ، فَأَصْلُ مُرْجَوْنَ مُرْجَيُونَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّة مُرْجَوْنَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْجِيمِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْل كَمَا قرىء ترجيء من تشَاء [الْأَحْزَاب: ٥١]. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَمْرِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُؤَخَّرُونَ لِأَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ. وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ، تَقْدِيرُهُ: لِأَجْلِ انْتِظَارِ
أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مُشْعِرٌ بِانْتِظَارِ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِ خَبَرِهَا وَهُوَ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إِمَّا تَعْذِيبُهُمْ، وَإِمَّا تَوْبَتُهُ عَلَيْهِمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ تَابُوا.
وَالتَّعْذِيبُ مُفِيدٌ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ حِينَئِذٍ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنَبٍ كَبِيرٍ.
وَذَنْبُهُمْ هُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨] الْآيَةَ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ عَمَّا مَضَى فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وإِمَّا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ. وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى (أَوِ) الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ، إِلَّا أَنَّ (إِمَّا) تَدْخُلُ عَلَى كِلَا الِاسْمَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا وَتَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تُتْلَى بِالْوَاوِ، وَ (أَوْ) لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى ثَانِي الِاسْمَيْنِ. وَكَانَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مَعَ (إِمَّا) أَظْهَرَ مِنْهُ مَعَ (أَوْ) لِأَنَّ (أَوْ) تُشْعِرُ بِأَنَّ الِاسْمَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مَقْصُودٌ ابْتِدَاءً. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١١٥].
ويُعَذِّبُهُمْ- ويَتُوبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَانِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ حُذِفَتْ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةُ مِنْهُمَا فَارْتَفَعَا كَارْتِفَاعِ قَوْلِهِمْ: «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» لِأَنَّ مَوْقِعَ مَا بَعْدَ (إِمَّا) لِلِاسْمِ نَحْوَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مَرْيَم: ٧٥] وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الْكَهْف: ٨٦].
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِإِبْهَامِ أَمْرِهِمْ عَلَى النَّاسِ، أَيْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، مُحْكَمٌ تَقْدِيرُهُ حِينَ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَته.
وَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْهُ شَاهِدٌ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ لِإِعْجَازِهِ
الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ آتٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شاهِدٌ أَيْ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ كَائِنٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ إِعْجَازُهُ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
ومِنْ قَبْلِهِ حَالٌ مِنْ كِتابُ مُوسى. وكِتابُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى شاهِدٌ مِنْهُ وَالْمُرَادُ تَلْوُهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقِ الِارْتِقَاءِ فَإِنَّ النَّصَارَى يَهْتَدُونَ بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى مَا فِي الْإِنْجِيلِ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا أَصْلُهُ وَفِيهَا بَيَانُهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا عُطِفَ كِتابُ مُوسى عَلَى شاهِدٌ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ يَتْلُوهُ قُيِّدَ كِتَابُ مُوسَى بِأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ. وَيَتْلُوهُ كِتَابُ مُوسَى حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّاهِدِ أَيْ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي النُّزُولِ. وَإِذَا كَانَ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى خَاصَّةً كَانَ لِذِكْرِ كِتابُ مُوسى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ كِتَابَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ كَامِلَةٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وإِماماً وَرَحْمَةً حَالَانِ ثَنَاءٌ عَلَى التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ يَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهَا فَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِجَزَاءِ الِاسْتِقَامَةِ إِذِ الْإِمَامُ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُعْمَلُ عَلَى مِثَالِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسُوا مِثْلَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: ٨٩].
وَإِقْحَامُ أُولئِكَ هُنَا يُشْبِهُ إِقْحَامَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ مُسَبَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُعَضَّدَةٍ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ.
بِالْمِقْدَارِ، يُقَدِّرُ كُلُّ شَارِبٍ لِنَفْسِهِ مَا اعْتَادَ أَنَّهُ لَا يَصْرَعُهُ، وَيَجْعَلُونَ آنِيَةَ الْخَمْرِ مُقَدَّرَةً بِمَقَادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَقُولُ الشَّارِبُ لِلسَّاقِي: رِطْلًا أَوْ صَاعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَتَسْمِيَةُ هَذَا الْإِنَاءِ سِقَايَةً وَتَسْمِيَتُهُ صُوَاعًا جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي التَّوْرَاةِ سُمِّيَ طَاسًا، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْ فِضَّةٍ.
وَتَعْرِيفُ السِّقايَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ سِقَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهَا مَجْلِسُ الْعَظِيمِ.
وَإِضَافَةُ الصُّوَاعِ إِلَى الْمَلِكِ لِتَشْرِيفِهِ، وَتَهْوِيلِ سَرِقَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَة، لِأَن شؤون الدَّوْلَةِ كُلَّهَا لِلْمَلِكِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ الْمَلِكُ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَعْظِيمًا لَهُ.
وَالتَّأْذِينُ: النِّدَاءُ الْمُكَرَّرُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٤].
وَالْعِيرُ: اسْمٌ لِلْحَمُولَةِ مِنْ إِبِلٍ وَحَمِيرٍ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ أَحْمَالٍ وَمَا مَعَهَا مِنْ رُكَّابِهَا، فَهُوَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَأُسْنِدَتِ السَّرِقَةُ إِلَى جَمِيعِهِمْ جَرْيًا عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْجَمَاعَةِ بِجُرْمِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ.
وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ أَيَّتُهَا لِتَأْوِيلِ الْعِيرِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الرُّكَّابَ هُمُ الْأَهَمُّ.
وَجُمْلَةُ قالُوا جَوَابٌ لِنِدَاءِ الْمُنَادِي إِيَّاهُمْ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، فَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَكَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْعِيرِ.
وَجُمْلَةُ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ قالُوا. وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ أَقْبَلُوا عَائِدٌ إِلَى فِتْيَانِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ الذَّاهِلِينَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فَأُكِّدَ لَهُمُ الْكَلَامُ بِمُؤَكِّدَيْنِ. وَمَرْجِعُ التَّأْكِيدِ إِلَى تَحْقِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَإِلَى الْإِلْجَاءِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ.
وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ- بِضَمِّ الْبَاءِ-. وَحَقِيقَتُهُ الْبِنَاءُ الْكَبِيرُ الْمُتَّخَذُ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلتَّحَصُّنِ. وَهُوَ يُرَادِفُ الْقَصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨].
وَأُطْلِقَ الْبُرْجُ عَلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سَمْتِ طَائِفَةٍ مِنَ النُّجُومِ غَيْرِ السَّيَّارَةِ (وَتُسَمَّى النُّجُومُ الثَّوَابِتُ) مُتَجَمِّعٌ بَعْضُهَا بِقُرْبِ بَعْضٍ عَلَى أَبْعَادٍ بَيْنَهَا لَا تَتَغَيَّرُ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْجَوِّ، فَتِلْكَ الطَّائِفَةُ تَكُونُ بِشَكْلٍ وَاحِدٍ يُشَابِهُ نُقَطًا لَوْ خُطِّطَتْ بَيْنَهَا خُطُوطٌ لَخَرَجَ مِنْهَا شِبْهُ صُورَةِ حَيَوَانٍ أَوْ آلَةٍ سَمَّوْا بِاسْمِهَا تِلْكَ النُّجُومَ الْمُشَابِهَةَ لِهَيْئَتِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي خَطِّ سَيْرِ الشَّمْسِ.
وَقَدْ سَمَّاهَا الْأَقْدَمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّوْقِيتِ بِمَا يُرَادِفُ مَعْنَى الدَّارِ أَوِ الْمَكَانِ. وَسَمَّاهَا الْعَرَبُ بُرُوجًا وَدَارَاتٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَجْعُولَةِ سَبَبًا لِوَضْعِ الِاسْمِ تَخَيَّلُوا أَنَّهَا مَنَازِلُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّهُمْ وَقَّتُوا بِجِهَتِهَا سَمْتَ مَوْقِعِ الشَّمْسِ مِنْ قُبَّةِ الْجَوِّ نَهَارًا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الشَّمْسَ تَسِيرُ فِي شِبْهِ قَوْسِ الدَّائِرَةِ. وَجَعَلُوهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَكَانًا بِعَدَدِ شُهُورِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا سُمُوتٌ لِجِهَاتٍ تُقَابِلُ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهَا الْأَرْضَ مِنْ جِهَةٍ وَرَاءَ الشَّمْسِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً. ثُمَّ إِذَا انْتَقَلَ مَوْقِعُ الْأَرْضِ مِنْ مَدَارِهَا كُلَّ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ تَتَغَيَّرُ الْجِهَةُ الْمُقَابِلَةُ لَهَا. فَبِمَا كَانَ لَهَا مِنَ النِّظَامِ تَسَنَّى أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ لِمَوَاقِيتِ حُلُولِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَحُلُولِ الْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فَهُمْ ضَبَطُوا لِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ حُدُودًا وَهْمِيَّةً عَيَّنُوا مَكَانَهَا فِي اللَّيْلِ مِنْ جِهَةِ مَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ وَأَعَادُوا رَصْدَهَا يَوْمًا فَيَوْمًا، وَكُلَّمَا
مَضَتْ مُدَّةُ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ ضَبَطُوا لِلشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَامَاتٍ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِمَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَهَكَذَا، حَتَّى رَأَوْا بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا إِلَى

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]

وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢]، أَيْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هُدًى، وَبَيَّنَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ مُخَالَفَةِ هَدْيِ التَّوْرَاةِ إِعْلَامًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْ أُولَئِكَ إِرْشَادًا وَنُصْحًا، فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَضَاءَ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَتَعْدِيَةُ قَضَيْنا بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ قَضَيْنا مَعْنَى (أَبْلَغْنَا)، أَيْ قَضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٦]. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ (الْكِتَابِ) كِتَابَ التَّوْرَاةِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكِتَابَ آنِفًا، وَيُوجَدُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ بِإِجْمَالٍ (انْظُرِ الْإِصْحَاحَ ٢٦ وَالْإِصْحَاحَ
٢٨ وَالْإِصْحَاحَ ٣٠)، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ (الْكِتَابِ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. فَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ اسْمَ الْكِتَابِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ آخَرُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ الْأَسْفَارُ الْمُسَمَّاةُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ: أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَا، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَهِيَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَذَلِكَ كِتَابُ النَّبِيِّ مَلَاخِي.
وَالْإِفْسَادُ مَرَّتَيْنِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ وَكِتَابِ أَرْمِيَاءَ.
مِنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُسْنى ثَوَابَ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مُخْبِرٌ بِهِ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي فَائِدَةِ الْخَبَرِ، عَلَى مَعْنَى. إِنَّا نُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، أَوْ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَنِّي أَعْلَمُ جَزَاءَهُ عِنْدَكَ الْحُسْنَى.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً لِبَيَانِ حَظِّ الْمَلِكِ مِنْ جَزَائِهِ وَأَنَّهُ الْبشَارَة وَالثنَاء.
[٨٩، ٩٠]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٨٩ إِلَى ٩٠]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠)
تَقَدَّمَ خِلَافُ الْقُرَّاء فِي فَأَتْبَعَ سَبَباً فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا.
وَمَطْلِعُ الشَّمْسِ: جِهَةُ الْمَشْرِقِ مِنْ سُلْطَانِهِ وَمَمْلَكَتِهِ، بَلَغَ جِهَةً قَاصِيَةً مِنَ الشَّرْقِ حَيْثُ يُخَالُ أَنْ لَا عُمْرَانَ وَرَاءَهَا، فَالْمَطْلِعُ مَكَانُ الطُّلُوعِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَلَغَ سَاحِلَ بَحْرِ الْيَابَانِ فِي حُدُودِ مَنْشُورْيَا أَوْ كُورْيَا شَرْقًا، فَوَجَدَ قَوْمًا تَطَلُعُ عَلَيْهِمُ الشَّمْس لَا يسترهم مِنْ حَرِّهَا، أَيْ لَا جَبَلَ فِيهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهِ وَلَا شَجَرَ فِيهَا، فَهِيَ أَرْضٌ مَكْشُوفَةٌ لِلشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عُرَاةً فَكَانُوا يَتَّقُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ فِي الْكُهُوفِ أَوْ فِي أَسْرَابٍ يَتَّخِذُونَهَا فِي التُّرَابِ. فَالْمُرَادُ بِالسِّتْرِ مَا يَسْتُرُ الْجَسَدَ.
وَكَانُوا قَدْ تَعَوَّدُوا مُلَاقَاةَ حَرِّ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْقُرِّ لَيْلًا.
اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِدَعْوَاهُمْ، أَيْ مَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ يَدْعُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ لِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: ١٣] لِأَنَّ شَأْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا الْخَائِفُ أَنْ يُكَرِّرَهَا إِذْ يَغِيبُ رَأْيُهُ فَلَا يَهْتَدِي لِلْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ آخَرَ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ جَوَابًا فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى إِعَادَتِهِ.
وَالْمَعْنَى: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ حَتَّى هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعْوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ، وَالدُّعَاءُ يُسَمَّى دَعْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فِي [سُورَةِ يُونُسَ: ١٠]. أَيْ فَمَا زَالَ يُكَرَّرُ دُعَاؤُهُمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُفُّوا عَنْهُ إِلَى أَنْ صَيَّرْنَاهُمْ كَالْحَصِيدِ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ.
وَحَرْفُ حَتَّى مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ.
وَالْحَصِيدُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَحْصُودُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ إِذَا جَرَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا كَمَا هُنَا.
وَالْحَصْدُ: جَزُّ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ بِالْمِنْجَلِ لَا بِالْيَدِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ الْحَصِيدِ عَلَى الزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ.
وَالْخَامِدُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ خَمَدَتِ النَّارُ تَخْمُدُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- إِذَا زَالَ لَهِيبُهَا.
شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حُصِدَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى سُوقِهِ خَضِرًا، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ بِزَرْعٍ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالطَّلْعَةِ،
لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ فِي مَوَاقِيتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: ٩٧]. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الطَّرَائِقِ طَرِيقَةُ الشَّمْسِ مَعَ مَا زَادَتْ بِهِ مِنَ النَّفْعِ بِالْإِنَارَةِ وَإِصْلَاحِ الْأَرْضِ وَالْأَجْسَادِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ لِحِكْمَةٍ لَا
تَعْلَمُونَهَا وَمَا أَهْمَلْنَا فِي خَلْقِهَا رَعْيَ مصالحكم أَيْضا.
والعدول عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَمَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ مَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ لِأَنَّكُمْ مَخْلُوقَاتُنَا فَنَحْنُ نُعَامِلُكُمْ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَن الْكفْر.
[١٨- ٢٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٨ إِلَى ٢٠]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ:
١٧] أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يَنْزِلُ مِنْ صَوْبِ السَّمَاءِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ.
وَفِي إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ دَلَالَةٌ عَلَى سِعَةِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِ الْقُدْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنَّةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَالْكَلَامُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ الرَّعْدِ وَسُورَةِ النَّحْلِ.
وَإِنْزَالُ الْمَاءِ هُوَ إِسْقَاطُهُ مِنَ السُّحُبِ مَاءً وَثَلْجًا وَبَرَدًا عَلَى السُّهُولِ وَالْجِبَالِ.
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وَسَمَّوْا بِالرَّسِّ مَا عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَإِضَافَةُ أَصْحابَ إِلَى الرَّسِّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ فِي رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ نَازِلُونَ عَلَى رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمُ احْتَفَرُوا رَسًّا، كَمَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ خَدُّوهُ وَأَضْرَمُوهُ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَامَةِ وَيُسَمَّى «فَلْجًا» (١).
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ مِنْ أَصْحابَ الرَّسِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي عَدَنٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ رَسُولًا.
وَكَانَتِ الْعَنْقَاءُ وَهِيَ طَائِرٌ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ (سُمِّيَتِ الْعَنْقَاءَ لِطُولِ عُنُقِهَا) وَكَانَتْ تَسْكُنُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ «فَتْحٌ» (٢)، وَكَانَتْ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطَفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ
فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ بِالصَّوَاعِقِ. وَقَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَقَتَلُوا نَبِيئَهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خُسِفَ بِهِمْ وَبِدِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ النَّجَّارُ فَقَتَلُوهُ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ يس [٢٠] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الرَّسُّ وَادٍ فِي «أَذْرَبِيجَانَ» فِي «أَرَّانَ» يَخْرُجُ مِنْ «قَالِيقَلَا» وَيَصُبُّ فِي بُحَيْرَةِ «جُرْجَانَ» وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَشَابُهِ الْأَسْمَاءِ يُقَالُ: كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ مَدِينَةٍ هَلَكَتْ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ.
وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ فَإِنَّ الْقَرْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [٦].
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
الْحَدِيثَ.
_________
(١) فلج بِفتْحَتَيْنِ. وَقَالَ ياقوت: بِفَتْح فَسُكُون اسْم بلد، وَيُقَال: بطن فلج من همى ضريّة.
(٢) وَهُوَ أول الدهناء بفاء أُخْت الْقَاف ومثناة فوقية بعْدهَا خاء مُعْجمَة، وَقيل حاء مُهْملَة: جبل أَو قَرْيَة لأهل الرسّ لم يذكرهُ ياقوت، وَذكر فتاح وَقَالَ: جمع فتح وَقَالَ: أَرض بالدهناء ذَات رمال.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَسْتَعْجِلُونَ أَيْ تَسْتَعْجِلُون بِهِ.
[٧٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٣]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣)
مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْل: ٧٢] أَيْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا خَبَرٌ خَاصٌّ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ أَزْمِنَةَ التَّأْخِيرِ أَزْمِنَةُ إِمْهَالٍ فَهُمْ فِيهَا بِنِعْمَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَدْ كُنَّا قَدَّمْنَا مَسْأَلَةَ أَنَّ نِعْمَةَ الْكَافِرِ نِعْمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَيْسَتْ نِعْمَةً وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ.
وَالتَّعْبِير ب لَذُو فَضْلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفضل من شؤونه. وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَاللَّامِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ النَّاسِ لَا إِلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالتَّأْكِيدُ وَاقع موقع التَّعْرِيض بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ.
ولَكِنَّ اسْتِدْرَاك ناشىء عَنْ عُمُومِ الْفَضْلِ مِنْهُ تَعَالَى فَإِنَّ عُمُومَهُ وَتَكَرُّرَهُ يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ فَيَشْكُرُوهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ كَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: ٧١] فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ تَهَكُّمًا وَتَعْجِيزًا فِي زَعْمِهِمْ غَيْرَ قَادِرِينَ قدر نعْمَة الْإِمْهَال.
[٧٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٤]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤)
مَوْقِعُ هَذَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: ٧٣] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ أَضْمَرُوا الْمَكْرَ وَأَعْلَنُوا الِاسْتِهْزَاءَ فَحَالُهُمْ لَا يَقْتَضِي إِمْهَالَهُمْ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي صُدُورِهِمْ وَمَا أَعْلَنُوهُ وَأَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا.
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: ٧]. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنْ هَاجَرْنَا لَمْ نَجِدْ مَا نُنْفِقُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ (مَنْ يَشَاءُ) عَامٌّ لَيْسَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ عُمُومَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِفَرِيقٍ وَيَقْدِرُ لِفَرِيقٍ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَارٍ عَلَى حِكْمَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَجَزَعَ الْجَازِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣]، قَالَ تَعَالَى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
[آل عمرَان: ١٨٦].
[٦٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٣]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أُعِيدَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَّصِلَ رَبْطُ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى قُرْبٍ. فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُنْزِلُ الْمَطَرَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ فَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهَا وَهِيَ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ.
وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْعَادِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْسُبُونَ الْإِنْبَاتَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ سَبَبَ الْإِنْبَاتِ وَهُوَ الْمَطَرُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْإِنْبَاتَ مِنَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَفِي هَذَا الْإِدْمَاجِ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ
وَكَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبِلَالٍ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا ثُمَّ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ»، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَشَرِبَ. فَمُرَاجَعَةُ بِلَالٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ عَزْمٍ.
وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: ٨٠]. فَالْمَقْصُودُ إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَمْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤١] إِذِ الْمَقْصُودُ: فَإِنَّ لِلرَّسُولِ خُمُسَهُ.
والْخِيَرَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَخَيَّرَ، كَالطِّيَرَةِ اسْمُ مَصْدَرِ تَطَيَّرَ. قِيلَ وَلَمْ يُسْمَعْ فِي هَذَا الْوَزْنِ غَيْرُهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٦٨].
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ وأَمْرِهِمْ بِمَعْنَى شَأْنِهِمْ وَهُوَ جِنْسٌ، أَيْ أُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ اخْتِيَار بعض شؤونهم مِلْكًا يَمْلِكُونَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا خَيرَةَ لَهُمْ.
وَ (مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ) لَمَّا وَقَعَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمَّانِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَلِذَلِكَ جَاءَ ضميرها ضَمِيرُهَا جَمْعٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِجَمْعِهِمْ وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخَيَرَةُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُمُومِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ لَفْظًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَهِشَام وَابْن عَامر بِتَحْتِيَّةٍ لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُؤَنَّثَ غَيْرَ الْحَقِيقِيِّ يَجُوزُ فِي فِعْلِهِ التَّذْكِيرُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً تَذْيِيلُ تَعْمِيمٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ الْخِيَرَةُ أَمْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ لِلْهَوَى فِي الْمُخَالَفَةِ
بِأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهَّلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِهِ لِبَقَاءِ ذُرِّيَّاتِ الْبَشَرِ فَكَانَ ذَلِكَ حَمْلًا لِذُرِّيَّاتِهِمْ مَا تَسَلْسَلَتْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
هَذَا هُوَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَدْ خَلَطَ بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى قَالُوا: الذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ مِنَ اللُّغَةِ» وَتَقْدَمَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ فَهُمَ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ صَرِيحًا وَكِنَايَةً أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَمِرَّةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ إِذْ يَشْهَدُونَ أَسْفَارَهُمْ وَأَسْفَارَ أَمْثَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخَاصَّةً سُكَّانَ الشُّطُوطِ وَالسَّوَاحِلِ مَثْلَ أَهْلِ جِدَّةَ وَأَهْلِ يَنْبُعَ إِذْ يُسَافِرُونَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّا حَمَلْنَا وَنَحْمِلُ وَسَنَحْمِلُ أَسْلَافَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ السُّفُنَ فِي مُعَلَّقَتِهِ.
وَجُمْلَةُ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ آيَةِ الْبَحْرِ اقْتَضَتْهَا مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِ الْإِبِلِ صَالِحَةً لِلْأَسْفَارِ فَحُكِيَتْ آيَةُ الْإِلْهَامِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ مِنْ
حَيْثُ الْحِكْمَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْإِلْهَامِ وَتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لَهَا وَإِيجَادِهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِحِفْظِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي جَانِبِهَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْإِيجَادِ دُونَ صُنْعِ النَّاسِ.
وَحُكِيَتْ آيَةُ اتِّخَاذِ الرَّوَاحِلِ بِفِعْلِ خَلَقْنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمُقَارنَة قَوْله تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف: ١٢]، فَمَا صدق مَا يَرْكَبُونَ هُنَا هُوَ الرَّوَاحِلُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْفُلْكَ فِي جَعْلِهَا قَادِرَةً عَلَى قَطْعِ الرِّمَالِ كَمَا جَعَلَ الْفُلْكَ صَالِحًا لِمَخْرِ الْبِحَارِ، وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الرَّوَاحِلَ سَفَائِنَ الْبَرِّ ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ بَيَانِيَّةٌ بِتَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ، أَوْ مُؤَكِّدَةٌ وَمَجْرُورُهَا أَصْلُهُ حَالٌ مِنْ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَرْكَبُونَ. وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْعَظَمَةِ وَقُوَّةِ الْحَمْلِ وَمُدَاوَمَةِ السَّيْرِ وَفِي الشَّكْلِ.
وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ لِلَّهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ قَصْرِ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ.
وجَمِيعاً حَالٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَا يَشِذُّ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ الشَّفَاعَةِ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلَّهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِلَازِمِ هَذِهِ لِحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِتَعْمِيمِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الشَّامِلِ لِلتَّصَرُّفِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَسْيِيرِ أُمُورِهِمْ فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ الْمُفِيدِ لِتَقْرِيرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَزِيَادَةٌ. وَالْمُرَادُ الْمُلْكُ بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ وَتَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ وَمَنْ فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْملك لَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ صَرَفَهُ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَ وُقُوعَهُ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي مُدَّةِ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِأَنْ تَكُونَ لِآلِهَتِهِمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَعُطِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْحَشْرِ إِلَّا مَنْ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَضْمُونَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَمُلْكُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ لِسَعَةِ مَمْلُوكَاتِهِ وَبَقَائِهَا. وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ [الزمر: ٤٣] لِإِظْهَارِ تَنَاقُضِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ أَقْضِيَةٌ سُفُسْطَائِيَّةٌ يَقُولُونَهَا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ دَمَغَاتِ الْحُجَجِ الَّتِي جَبَهَهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ تَارَةً عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِأَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ
فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ هُوَ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:
إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ إِدْمَاجٌ.
وَلَكَ أَنْ تَعْتَبِرَ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ مَنْظُورًا فِيهَا إِلَى مُتَعَلِّقَيِ الْإِيحَاءِ وَهُوَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، فَتَجْعَلَ الْمُضَارِعَ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَى الرُّسُلِ حَيْثُ اسْتَبْعَدَ الْمُشْرِكُونَ وُقُوعَهُ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: ٩] وَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُوحِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ فَاعِلٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ يُوحِي بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّ إِلَيْكَ نَائِبُ فَاعِلٍ، فَيَكُونُ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: يُوحَى إِلَيْكَ، قِيلَ: وَمَنْ يُوحِيهِ، فَقِيلَ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَيْ يُوحِيهِ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ (١) أَوِ الْحَارِثِ بْنِ نَهِيكٍ (٢) :
لَيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
إِذْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْبَيْتِ بِالْبِنَاءِ للنائب.
[٤]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٤]
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
جُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِوَصْفِهِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: ٣] لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكًا لَهُ تَتَحَقَّقُ لَهُ الْعِزَّةُ لِقُوَّةِ مَلَكُوتِهِ، وَتَتَحَقَّقُ لَهُ الْحِكْمَةُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي خَلْقَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِتْقَانَ ذَلِكَ النِّظَامِ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُقَرِّرَةً مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ فَلَمْ تُعْطَفْ عَلَيْهَا.
_________
(١) كَذَا نسب فِي كتب علم الْمعَانِي.
(٢) كَذَا عزاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه.
وأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجَنَّةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْجَنَّةُ لِمَا فِي أَصْحابُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَمَا فِي الْإِضَافَةِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ تَعْلِيلِ الصِّلَةِ فِي الْخَبَرِ وَمِنَ اقْتِضَاءِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جَدَارَتَهُمْ بِمَا بَعْدَهُ وَمَا أَفَادَهُ وَصْفُ أَصْحَابُ وَمَا أَفَادَتْهُ الْإِضَافَةُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعِنَايَةِ بِالتَّنْوِيهِ بِهِمْ.
[١٥]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً
تَطَلَّبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهَ مُنَاسِبَةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْتَجِيبَ بَعْضُ النَّاس للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْفُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ كَمَا اخْتَلَفَ حَالُ النَّاسِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِقَامَةَ عَطَفَ الْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مُقْنِعٍ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ. وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ عِنْدِي أَن هَذَا انْتِقَال إِلَى قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَجِدَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ بِمَحَلِّ الْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما إِلَى قَوْله: خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٧، ١٨].
وَصِيغَ هَذَا فِي أُسْلُوبِ قِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَالِدَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ وَوَلَدٍ كَافِرٍ، وَقِصَّةِ جِدَالٍ بَيْنَ وَلَدٍ مُؤْمِنٍ وَوَالِدَيْنِ كَافِرَيْنِ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْأُسْلُوبِ وَقْعًا فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ مَعَ مَا رُوِيَ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جِدَالٍ جَرَى بَين عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَبَيْنَ وَالِدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِذِكْرِ هَذَا الْجِدَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً إِلَى قَوْله: يُوعَدُونَ [الْأَحْقَاف: ١٥، ١٦] نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
نَزَلَتْ فِي
وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْجِنَّ هُنَا إِلَّا لِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْجِنِّ فِي سُورَة الْجِنّ قَول قَائِلُهُمْ: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً [الْجِنّ: ٤].
وَتَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْغَرِيبِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْجِنّ عباد لله تَعَالَى، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦].
وَجُمْلَةُ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بِإِبْطَالِ بَعْضِ الْعِلَلِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الصَّانِعُونَ شَيْئًا يَصْنَعُونَهُ أَو يتخذونه، فَإِن الْمَعْرُوفُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ يَتَّخِذُ شَيْئًا إِنَّمَا يَتَّخِذهُ لنفع نَفسه، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ لِإِفَادَةِ
الْجَانِبِ الْمَقْصُورِ دُونَهُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَصْرِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الضِّدِّ. وَلَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الضِّدِّ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
فَقَوْلُهُ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ أَشَدَّ الْحَاجَاتِ فِي الْعُرْفِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسَّكَنِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالرِّزْقِ وَهُوَ الْمَالُ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، أَيْ إِعْطَاءُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ، وَقَدْ لَا يَجِدُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِذَا قَحَطَ النَّاسُ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُسْلِفُهُ الطَّعَامَ أَوْ يُطْعِمُهُ إِيَّاهُ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ يُهْدُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ الْأَمْوَالَ وَالطَّعَام تتلقاه مِنْهُم سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ.
وَالرِّزْقُ هُنَا: الْمَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت: ١٧] وَقَوْلِهِ:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْد: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: ٧]، وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ عَلَى الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: ٦٢] وَيَمْنَعُ مِنْ إِرَادَتِهِ هُنَا عَطْفُ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا فَأَغْنَتْ أَنَّ غناء فَاء السبية كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنْ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ أَنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّنَاجِي كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا.
[٨]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نُهُوا عَنِ النَّجْوى مُؤْذِنًا بِأَنَّهُ سَبَقَ نَهْيٌ عَنِ النَّجْوَى قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ نَهَاهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّنَاجِي بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ نَزَلَتْ لِتَوْبِيخِهِمْ وَهُوَ مَا اعْتَمَدْنَاهُ آنِفًا.
وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِفَتْرَةٍ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [المجادلة: ٧] كَمَا تَقَدَّمَ، بِأَنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا الْوَعِيدَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: ٧] الْآيَةَ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ عَوْدَتَهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَن نهوا عَنْهَا أَعْظَمُ مِنِ ابْتِدَاءِ النَّجْوَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا كَانَ إِثْمًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نَجْوَاهُمْ مِنْ نَوَايَا سَيِّئَةٍ نَحْو النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا عَوْدَتُهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ نُهُوا عَنْهَا فَقَدْ زَادُوا بِهِ تَمَرُّدًا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَاقَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا اقْتَضَاهُ اسْتِمْرَارُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نَجْوَاهُمْ.
وَيُؤْخَذُ من هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قِوَامَ الصَّلَاحِ فِي حُسْنِ التَّلَقِّي وَحُسْنِ النَّظَرِ وَأَنَّ الْأَثَرَ وَالنَّظَرَ، أَيِ الْقِيَاسُ هُمَا أَصْلَا الْهُدَى، وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ: لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا وَلَا أَحْسُبُهُ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ الْاسْتِرْوَاحِ.
وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ بِاعْتِبَارِ نَوْعَيِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَقْتَضِي حُسْنَ الْاسْتِمَاعِ تَارَةً إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهَا إِرْشَادٌ، وَحُسْنَ التَّفَهُّمِ وَالنَّظَرِ تَارَةً إِذَا دُعِيَتْ إِلَى النَّظَرِ مِنْ دَاعٍ غَيْرِ أَنْفُسِهَا، أَوْ مِنْ دَوَاعِي أَنْفُسِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٧- ١٨].
وَوَجْهُ تَقْدِيمِ السَّمْعِ على الْعقل أَن الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيِّ وَالسَّمْعُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْئِيِّ وَرَعْيًا لِلتَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ سَمْعَ دَعْوَةِ النَّذِيرِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُنْذَرُونَ، ثُمَّ يُعْمِلُونَ عُقُولهمْ فِي التدبر فِيهَا.
[١١]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١١]
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
الْفَاءُ الْأُولَى فَصِيحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ قَالُوا بذلك فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا هُنَالِكَ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ فَهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَالسُّحْقُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْإِسْحَاقِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْإِبْعَادِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، أَيْ أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ إِسْحَاقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ هَذَا الدُّعَاء
التعجيب مِنْ حَالِهِمْ كَمَا يُقَالُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَوَيْلٌ لَهُ، فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ.
وَالْفَاءُ الثَّانِيَةُ لِلتَّسَبُّبِ، أَيْ فَهُمْ جَدِيرُونَ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ أَو جديرون بالتعجيب مِنْ بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَقِبَ اعْتِرَافِهِمْ، تَنْدِيمًا يَزِيدُهُمْ أَلَمًا فِي نُفُوسِهِمْ فَوْقَ أَلَمِ الْحَرِيقِ فِي جُلُودِهِمْ.
وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (سُحْقًا) لَامُ التَّقْوِيَةِ إِنْ جُعِلَ (سُحْقًا) دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ فِي الْفِعْلِ، وَيجوز أَن يكون الْلَّامُ لَامَ التَّبْيِينِ
أُسْنِدَ أَلْفَافٌ إِلَى جَنَّاتٍ بِطَرِيقِ الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذَ لَمْ أَرَ شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: أَلْفَافٌ جَمْعُ لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ بِوَزْنِ جِذْعٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مِنْهَا لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَاهِدٍ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ صَاحِبَ «الْإِقْلِيدِ» (١) ذَكَرَ بَيْتًا أَنْشَدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ (٢) وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (٣) أَنَّهُ لَفَّاءُ وَلُفٌّ ثُمَّ أَلْفَافٌ (أَيْ أَنَّ أَلْفَافًا جَمْعُ الْجَمْعِ) قَالَ: «وَمَا أَظُنُّهُ وَاجِدًا لَهُ نَظِيرًا» أَيْ لَا يُجْمَعُ
فُعْلٌ جَمْعًا عَلَى أَفْعَالٍ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ إِذْ لَا يُقَالُ خُضْرٌ وَأَخْضَارٌ وَحُمْرٌ وَأَحْمَارٌ. يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْكَلَامُ الْفَصِيحُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ لَمْ يَثْبُتْ وُرُودُ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ وُجُودِ تَأْوِيلٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ وَارِدٍ.
فَكَانَ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ أَنَّ أَلْفافاً اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ خُتِمَتُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي أُقِيمَتْ لَهُمْ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتِ الْإِيمَاءَ إِلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَمَا أُدْمِجَ فِيهَا مِنَ الْمِنَنِ عَلَيْهِمْ عَسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا النِّعْمَةَ فَيَشْعُرُوا بِوَاجِبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَلَا يَسْتَفْظِعُوا إِبْطَالَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَنْظُرُوا فِيمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَيَصْرِفُوا عُقُولَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ تَصْدِيقِ ذَلِكَ.
وَقَدِ ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَحَالَتِهَا وَجَالَتْ بِهِمُ الذِّكْرَى عَلَى أَهَمِّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، ثُمَّ مَا فِي الْأُفُقِ مِنْ أَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ثُمَّ تَصَاعَدَ بِهِمُ التَّجْوَالُ بِالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَبِخَاصَّةٍ الشَّمْسُ ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ فَنَزَلُوا مَعَهُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَمُنْتَهَى الْمَنَافِعِ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ مِنْ حَيْثُ صَدَرُوا وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ على الصَّدْر.
[١٧- ١٨]
_________
(١) الإقليد اسْم تَفْسِير كَذَا قَالَ الْقزْوِينِي فِي «الْكَشْف» على «الْكَشَّاف» وَرَأَيْت فِي طرة نُسْخَة فِيهِ أَن الإقليد لأبي الْفَتْح الهمذاني وَلم أعثر على تَرْجَمَة مُؤَلفه.
(٢) الْحسن بن عَليّ الطوسي لَعَلَّه الْوَزير الملقب نظام الْملك وَالْبَيْت هُوَ:
جنَّة لفّ وعيش مغدق وندامى كلهم بيض زهر
(٣) لَعَلَّه ذكر ذَلِك فِي غير كتاب أدب الْكتاب فإنّي لم أَجِدهُ فِيهِ. [.....]


الصفحة التالية
Icon