هَيْئَةُ مَنْ يَعْمَلُ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بِهَيْئَةِ الْمَاشِي عَلَى أَثَرِ غَيْرِهِ شُبِّهَ مَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الضُّرِّ فِي ذَلِكَ الْمَشْيِ بِزَلَلِ الرِّجْلِ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ الْمُزْلَقَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ هُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمُزْلَقَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَقَوْلُهُ:
زَلَلْتُمْ تَخْيِيلٌ وَهُوَ تَمْثِيلِيَّةٌ فَهُوَ مِنَ التَّخْيِيلِ الَّذِي كَانَ مَجَازًا وَالْمَجَازُ هُنَا فِي مُرَكَّبِهِ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الْأَدِلَّةُ وَالْمُعْجِزَاتُ وَمَجِيئُهَا ظُهُورهَا وَبَيَانُهَا، لِأَنَّ الْمَجِيءَ ظُهُورُ شَخْصِ الْجَائِي بَعْدَ غَيْبَتِهِ.
وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِإِنْ لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذَا الزَّلَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ لِعَدَمِ رَغْبَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي حُصُولِهِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ بِظَاهِرِهِ دُونَ قَلْبِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا خَامَرَ نُفُوسَهُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ الصُّلْحِ هُوَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، وأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مفعول فَاعْلَمُوا، وَالْمَقْصُودُ عِلْمُ لَازِمِهِ وَهُوَ الْعِقَابُ.
وَالْعَزِيزُ فَعِيلٌ مِنْ عَزَّ إِذَا قَوِيَ وَلَمْ يُغْلَبْ، وَأَصله مِنَ الْعِزَّةِ وَقَدْ مر الْكَلَام عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [الْبَقَرَة: ٢٠٦] وَهُوَ ضِدٌّ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ مُسْتَلْزِمًا تَحَقُّقَهُمْ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ لَا يُفْلِتُهُمْ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يَنْجُو مَنْ يُنَاوِئُهُ.
وَالْحَكِيمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ حَكَمَ أَيْ قَوِيُّ الْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ فَهُوَ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ الْمُتْقِنَ لِلْأُمُورِ لَا يُفْلِتُ مُسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: فَاعْلَمُوا تَنْزِيلًا لِعِلْمِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْ مِنَ الِامْتِعَاضِ بِالصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ الرَّسُولُ.
وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ إعذار لَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِإِبْرَامِ الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْنٍ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يَهِنُ لِأَحَدٍ، وَلِأَنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَيَخْتَارُ لِلْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ نَصْرُ دِينِهِ وَقَدْ رَأَيْتُمُ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِنَايَةِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهِ وَلَا يُضَيِّعُ أَمْرَهُ وَمِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، أَغْوَاهُمُ الْعُجْبُ بِدِينِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُكَابَرَةِ دَبَّرُوا لِلْكَيْدِ مَكِيدَةً أُخْرَى، فَقَالُوا لِطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ: «آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ مُظْهِرِينَ أَنَّكُمْ صَدَّقْتُمُوهُ ثُمَّ اكْفُرُوا آخِرَ النَّهَارِ لِيَظْهَرَ أَنَّكُمْ كَفَرْتُمْ بِهِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ فَيَقُولَ الْمُسْلِمُونَ مَا صَرَفَ هَؤُلَاءِ عَنَّا إِلَّا مَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدِّينَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ» فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ لَفْظِ الْحِكَايَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ قَالُوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ فَحَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا تَنْوِيهًا بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ أَطْلَقُوا هَذِهِ الصِّلَةَ عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ إِذْ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَوجه النَّهَارِ أَوَّلُهُ وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [آل عمرَان: ٤٥].
وَقَوْلُهُ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا بِهِ الِاحْتِرَاسَ أَلَّا يَظُنُّوا مِنْ قَوْلِهِمْ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ أَنَّهُ إِيمَانٌ حَقٌّ، فَالْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقًّا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ دِينَكُمْ فَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ.
وَهَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ بَشَّرَتْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مُقَفٍّ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَا يَجِيءُ إِلَّا بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَضَلُّوا عَنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَجِيئِهِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ تَحْصِيل الْحَاصِل، فينزّه فِعْلُ اللَّهِ عَنْهُ، فَالرَّسُولُ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ مُوسَى لَا يَكُونُ إِلَّا نَاسِخًا لِبَعْضِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَجَمْعُهُمْ بَيْنَ مَقَالَةِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ مَقَالَةِ: وَلا تُؤْمِنُوا مِثْلَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الْأَنْفَال: ١٧].
وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، أُمِرَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِبْعَادِ حُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِهِمْ، لِأَنَّ هُدَى غَيْرِهِ أَيْ مُحَاوَلَتَهُ هُدَى النَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ، إِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ. فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ: لِأَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ فَهُوَ صُورَةُ الْهُدَى وَلَيْسَ بِهُدًى وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ:
لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى صَلَاحِهِ. وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ وَيُرَادُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا أَحْسَبُهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَونه سميعا لَا عَقْلِيًّا، إِذِ الْعَقْلُ لَا يَقْتَضِي الصَّفْحَ عَنِ الذُّنُوبِ الْفَارِطَةِ عِنْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ إِتْيَانِ أَمْثَالِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَيُطْلَقُ الْقَبُولُ عَلَى مَعْنَى قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا فِي ذَاتِهَا عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ كُلُّ مُذْنِبٍ، أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهَا إِبْطَالُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَ مُصِرًّا عَلَى إِتْيَانِهَا، فَإِنَّ إِبْطَالَ الْإِصْرَارِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذُنُوبِ الْقَلْبِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْهُ، فَالتَّائِبُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُعْتَبَرُ مُمْتَثِّلًا لِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَالْقَبُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَعْنَى الْإِجْزَاءِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى عَمَلًا مَأْمُورًا بِهِ بِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّة كَانَ عمله مَقْبُولًا بِمَعْنَى ارْتِفَاعِ آثَارِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى الظَّنِّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ إِذْ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ «إِنَّكَ إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى الْقَبُولِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّ كُلَّ تَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ هِيَ مَقْبُولَةٌ إِذِ الْقَلْبُ خُلِقَ سَلِيمًا فِي الْأَصْلِ، إِذْ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَإِنَّمَا تَفُوتُهُ السَّلَامَةُ بِكَدِرَةٍ ترهقه من غيرَة الذُّنُوبِ، وَأَنَّ نُورَ النَّدَمِ يَمْحُو عَنِ الْقَلْبِ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَمَا يَمْحُو الْمَاءُ والصابون عَن الثَّوَاب الْوَسَخَ.
فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامُ لَا يَزُولُ، أَوْ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ وَالْوَسَخُ لَا يَزُولُ، نَعَمْ قَدْ يَقُولُ التَّائِبُ بِاللِّسَانِ تُبْتُ وَلَا يُقْلِعُ، فَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَهُوَ لَمْ يَغْسِلْهُ فَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ»
. وَهَذَا الْكَلَامُ تَقْرِيبٌ إِقْنَاعِيٌّ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّا إِنَّمَا نَبْحَثُ عَنْ طَرْحِ عُقُوبَةٍ ثَابِتَةٍ هَلْ حَدَثَانُ التَّوْبَةِ يَمْحُوهَا.
وَالْإِشَارَةُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَالِغَةِ غَايَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى
طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَدْلُولِ الْمُسْنَدِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَالْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُسْتَحِقِّينَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ إِلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَهِيَ الَّتِي
وَهَذَا تَوَهُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ اسْمَهَا الْمَحْذُوفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَهَذَا أَيْضًا تَوَهُّمٌ عَلَى تَوَهُّمٍ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا لِأَنَّهُ مُجْتَلَبٌ لِلتَّأْكِيدِ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ ظُهُورِهِ فِي أَيِّ اسْتِعْمَالٍ يُفَنِّدُ دَعْوَى تَقْدِيره.
[٧٢]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى، يُنَاسِبُ الِانْتِهَاءَ مِنْ إِبْطَالِ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ آنِفًا فِي نَظِيرِ قَوْلِهِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ١٧] وَمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ طَوَائِفِ النَّصَارَى.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَقالَ الْمَسِيحُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ نِدَاءِ الْمَسِيحِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، أَيْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ، فَهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ فِي حَالِ أَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَالَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ قَدْ كَذَّبَهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّي وَرَبَّكُمْ، يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرْبُوبًا، وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْلِهِ: رَبِّي، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ آخَرُ، وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْله وَرَبَّكُمْ، وَذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حِكَايَةً لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَتَكُونُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَوُقُوعُ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ. وَفِي حِكَايَتِهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَدْ أَوْقَعَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَإِنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمُ اجْتَنَبُوهُ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ
وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْحُكْمُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ جِنْسَ الْحُكْمِ فَقَصْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِمَّا حَقِيقِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ
الْحُكْمِ الْحِسَابَ، أَيِ الْحُكْمُ الْمَعْهُودُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ أَيْ أَلَا لَهُ الْحِسَابُ، وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ يُحَاسِبُ فَلَا يَتَأَخَّرُ جَزَاؤُهُ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا وَوَعِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا أُتِيَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ صَالِحٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ طَمَاعِيَةٍ وَمُخَالَفَةٍ فَالصَّالِحُونَ لَا يُحِبُّونَ الْمُهْلَةَ وَالْكَافِرُونَ بِعَكْسِ حَالِهِمْ، فَعُجِّلَتِ الْمَسَرَّةُ لِلصَّالِحِينَ وَالْمُسَاءَةُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلُهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَهْدِيدًا وَافْتُتِحَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ الْمُشْرِكُونَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ.
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُنَازَعُونَ فِيهِ بِحَسْبِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ.
وَالظُّلُمَاتُ قِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ إِضْرَارِ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَظُلُمَاتُ الْبَرِّ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ الَّتِي يَلْتَبِسُ فِيهَا الطَّرِيقُ لِلسَّائِرِ وَالَّتِي يُخْشَى فِيهَا الْعَدُوُّ
وَالنَّجَاسَةُ تُلَائِمُ طَبْعَ الشَّيْطَانِ.
وَتَقْدِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى مَدٍّ وَحَرْفٍ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر.
و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ.
وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ الرَّبْطِ فَهِيَ ترشيح للمجاز.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
[الْأَنْفَال: ٩].
وَجَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطُّفًا بِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَفْصِيلِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحَقُّ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْعِلْمِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَصْرُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَقَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ مِنْ آيَةِ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَغَاثَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ عُرِّفَ اللَّهُ هَنَا بَاسِمِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَ أُسْلُوبَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِقَدْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لُطْفًا بِهِ وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ.
وَالْوَحْيُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ إِلْقَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فِي نُفُوسِهِمْ بِتَكْوِينٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا بِإِبْلَاغِهِمْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.
وَمَعْنَى وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ لَهُمُ الْهَدْيَ إِلَى الْإِيمَانِ لِأَجْلِ فِسْقِهِمْ، أَيْ بُعْدِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ النُّبُوءَةِ، وَعَنِ الْإِنْصَافِ فِي الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْدَنُهُ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَقْبَلُ الْهُدَى فَمَعْنَى لَا يَهْدِي لَا يَخْلُقُ الْهُدَى فِي قُلُوبهم.
[٨١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ عِنْدَ الِاسْتِنْفَارِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخَلَّفِينَ خُصُوصُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فَرَحَهُمْ بِتَخَلُّفِهِمْ قَدْ قَوِيَ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْفَلُوهُ فَقَضَوْا مَأْرَبَهُمْ ثُمَّ حَصَّلُوا الِاسْتِغْفَارَ ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ.
فَالْمُخَلَّفُونَ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَأْذَنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُمْ وَكَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ وَصْفُ الْمُخَلَّفِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّ النَّبِيءَ خَلَّفَهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ إِلَّا لِعِلْمِهِ بِفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا كَمَا قَالَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التَّوْبَة: ٤٧].
وَذِكْرُ فَرَحِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَكَانَ التَّخَلُّفُ نَكَدًا عَلَيْهِمْ وَنَغْصًا كَمَا وَقَعَ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَقْعَدُ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ بِقُعُودِهِمْ.
وخِلافَ لُغَةٌ فِي خَلْفَ. يُقَالُ: أَقَامَ خِلَافَ الْحَيِّ بِمَعْنَى بَعْدَهُمْ، أَيْ ظَعَنُوا وَلَمْ يَظْعَنْ. وَمِنْ نُكْتَةِ اخْتِيَارِ لَفْظِ خِلَافٍ دُونَ خَلْفَ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قُعُودَهُمْ كَانَ
وَالْمُرَادُ مِنْهُ: دَفْعُ تَوَهُّمِ النَّقْصِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ عِنْدَ مَا يُحْرَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الِاهْتِدَاءَ بِهَا، فَهِيَ فِي ذَاتِهَا دَلَائِلُ هُدًى سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْرَحُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى وَالَّذِي اتَّبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ قَدْ أَصَابَهُ الْغَرَقُ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي، وَيُقَالُ لَهُ (ميرنبتا) - بياء فَارِسِيَّةٍ- أَوْ (مِنْفِتَاحُ)، أَوْ (مِنِيفْتَا) وَهُوَ ابْنُ رَعَمْسِيسَ الثَّانِي الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْيُونَانِ بَاسِمِ (سِيزُوسْتِرِيسَ)، مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الْأُسَرِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَكَانُوا فِي حُدُودِ سَنَةِ ١٤٩١ قَبْلَ الْمَسِيحِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ هَذَا قَصِيرًا أَحْمَرَ فَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ مِنِفْطَاحَ الثَّانِي مَاتَ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهُ خَرَجَتْ جُثَّتُهُ بَعْدَ الْغَرَقِ فَدُفِنَ فِي وَادِي الْمُلُوكِ فِي صَعِيدِ مِصْرَ.
فَذَكَرَ الْمُنَقِّبُونَ عَنِ الْآثَارِ أَنَّهُ وُجِدَ قَبْرُهُ هُنَاكَ، وَذَلِكَ يُومِئُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. وَوُجُودُ قَبْرٍ لَهُ إِنْ صَحَّ بِوَجْهٍ مُحَقَّقٍ، لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مَاتَ غَرِيقًا، وَإِنْ كَانَ مُؤَرِّخُو الْقِبْطِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصِفَةِ مَوْتِهِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَهَنَةَ أَجْمَعُوا عَلَى إِخْفَائِهَا كَيْلَا يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَى الْأُمَّةِ فِيمَا يُمَجِّدُ بِهِ الْكَهَنَةُ كُلَّ فِرْعَوْنَ مِنْ صِفَاتِ بُنُوَّةِ الْآلِهَةِ.
وَخَلَفَتْهُ فِي مُلْكِ مِصْرَ ابْنَتُهُ الْمُسَمَّاةُ (طُوسِيرُ) لِأَنَّهُ تَرَكَهَا وَابْنًا صَغِيرًا.
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الصَّرَاحَةِ وَالْإِغْلَاقِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَهِيَ عِبَارَةٌ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهَا فِيمَا كُتِبَ مِنْ أَخْبَارٍ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّهَا لَمِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ فِي
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْعَهْدِ، أَيْ مَلِكُ مِصْرَ. وَسَمَّاهُ الْقُرْآنُ هُنَا مَلِكًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ مُلُوكِ مِصْرَ الْقِبْطِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَلِكًا لِمِصْرَ أَيَّامَ حَكَمَهَا (الْهِكْسُوسُ)، وَهُمُ الْعَمَالِقَةُ، وَهُمْ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُمْ مُؤَرِّخُو الْإِغْرِيقِ بِمُلُوكِ الرُّعَاةِ، أَيِ الْبَدْوُ. وَقَدْ مَلَكُوا بِمِصْرَ مِنْ عَامِ ١٩٠٠ إِلَى عَامِ ١٥٢٥ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَكَانَ عَصْرُهُمْ فِيمَا بَيْنَ مُدَّةِ الْعَائِلَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ وَالْعَائِلَةِ الثَّامِنَةِ عَشْرَةَ مِنْ مُلُوكِ الْقِبْطِ، إِذْ كَانَتْ عَائِلَاتُ مُلُوكِ الْقِبْطِ قَدْ بَقِيَ لَهَا حُكْمٌ فِي مِصْرَ الْعُلْيَا فِي مَدِينَةِ (طِيبَةَ) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ [سُورَة يُوسُف:
٢١]. وَكَانَ مَلِكُهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ضَعِيفًا لِأَنَّ السِّيَادَةَ كَانَتْ لِمُلُوكِ مِصْرَ السُّفْلَى. وَيُقَدِّرُ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ السُّفْلَى فِي زَمَنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ فِي مُدَّةِ الْعَائِلَةِ السَّابِعَةِ عَشْرَةَ.
فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَلِكِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِفِرْعَوْنٍ مَعَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مَلِكِ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَقَبِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ. وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ إِذْ عَبَّرَ فِيهَا عَنْ مَلِكِ مِصْرَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السّلام- فِرْعَوْن وَمَا هُوَ بِفِرْعَوْنَ
لِأَنَّ أُمَّتَهُ مَا كَانَتْ تَتَكَلَّمُ بِالْقِبْطِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لُغَتُهُمْ كَنْعَانِيَّةً قَرِيبَةً مِنَ الْآرَامِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، فَيَكُونُ زَمَنُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي آخِرِ أَزْمَانِ حُكْمِ مُلُوكِ الرُّعَاةِ عَلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: سِمانٍ جَمْعُ سَمِينَةٍ وَسَمِينٍ، مِثْلَ كِرَامٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِ بَقَراتٍ.
وعِجافٌ جَمْعُ عَجْفَاءَ. وَالْقِيَاسُ فِي جَمْعِ عَجْفَاءَ عُجْفٌ لَكِنَّهُ صِيغَ هُنَا بِوَزْنِ فِعَالٍ لِأَجْلِ الْمُزَاوَجَةِ لِمُقَارِنِهِ وَهُوَ سِمانٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبَوِيَةٍ وَالْقِيَاسُ أَبْوَابٌ لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَخْبِيَةٍ.
وَالْعَجْفَاءُ: ذَاتُ الْعَجَفِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْهُزَالُ الشَّدِيدُ.
وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ صِفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لِأَنَّ قَرَارَهَا الْقَلْبُ، بِخِلَافِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَظَاهِرَهَا الْجَوَارِحُ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَشُدُّ وَأَدْوَمُ لِأَنَّ سَبَبَهُ ثَابِتٌ وَدَائِمٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مُشْرِكُونَ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ مَا أَشْرَكُوا إِلَّا بِسَبَبِهِ، رَدًّا عَلَيْهِمْ إِذْ يَقُولُونَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا [سُورَة الْأَنْعَام: ١٤٨] وَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: ٣٥] وَقَوْلُهُمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [سُورَة الْأَعْرَاف: ٢٨].
[١٠١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠١]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
اسْتَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى شَأْنِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ فِي الصَّدِّ عَنْ مُتَابَعَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ مَنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبَيَانُ فَضْلِهِ وَهَدْيِهِ فَابْتُدِئَ فِيهَا بِآيَةِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سُورَة النَّحْل: ٢]، ثُمَّ
قُفِيَتْ بِمَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ بَعْدَ تَنَقُّلَاتٍ جَاءَ فِيهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]، وَأُتْبِعُ ذَلِكَ بِتَنَقُّلَاتٍ بَدِيعَةٍ فَأُعِيدُ الْكَلَامَ عَلَى الْقُرْآنِ وَفَضَائِلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [سُورَة النَّحْل: ٦٤] ثُمَّ قَوْلُهُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل:
٨٩]. وَجَاءَ فِي عَقِبِ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ يَجْمَعُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ آيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [سُورَة النَّحْل: ٩٠]، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَا يَقْتَضِي تَقَرُّرَ فَضْلِ الْقُرْآنِ فِي النُّفُوسِ نَبَّهَ عَلَى نَفَاسَتِهِ وَيُمْنِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [سُورَة النَّحْل: ٩٨]، لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِإِبْطَالِ اخْتِلَاقٍ آخَرَ مِنِ اخْتِلَاقِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ اخْتِلَاقًا مُمَوَّهًا بِالشُّبَهَاتِ كَاخْتِلَاقِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]. ذَلِكَ الِاخْتِلَاقُ هُوَ تَعَمُّدُهُمُ التَّمْوِيهَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ
وَعُمُومُ (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ يَشْمَلُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ لِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ فِيمَنْ هَدَى، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَيْسِيرَ ذَلِكَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ هُوَ أَثَرُ تَيْسِيرِهِمْ لِلْيُسْرَى وَالْهُدَى، فَأَبْلَغَهُمُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ، وَرَزَقَهُمْ أَفْهَامًا تُؤْمِنُ بِالْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَعَلَى كِتَابَةِ الْمُهْتَدِ بِدُونِ يَاءٍ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَالْمُرْشِدُ: الَّذِي يُبَيِّنُ لِلْحَيْرَانِ وَجْهَ الرُّشْدِ، وَهُوَ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْخَيْرِ.
[١٨]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ١٨]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ عَطْفٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالْخِطَابُ فِيهِ كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
وَتَرَى الشَّمْسَ [الْكَهْف: ١٧]. وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى مَا فِي حَالِهِمْ مِنَ الْعِبْرَةِ لِمَنْ لَوْ رَآهُمْ مِنَ النَّاسِ مُدْمَجٌ فِيهِ بَيَانُ كَرَامَتِهِمْ وَعَظِيمُ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِمْ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ لَوْ رَآهُ مِنَ النَّاسِ.
وَمَعْنَى حُسْبَانِهِمْ أَيْقَاظًا: أَنَّهُمْ فِي حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَ الْيَقَظَةِ وَتَخَالُفِ حَالَ النَّوْمِ، فَقِيلَ:
كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً.
وَصِيغَ فِعْلُ تَحْسَبُهُمْ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ، بِوَزْنِ كَتِفٍ، وَبِضَمِّ الْقَافِ بِوَزْنِ عَضُدٍ.
وَالرُّقُودُ: جَمْعُ رَاقِدٍ.
وَالتَّقْلِيبُ: تَغْيِيرُ وَضْعِ الشَّيْءِ مِنْ ظَاهِرِهِ إِلَى بَاطِنِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الْكَهْف: ٤٢].
فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَى سَامِرَةَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَعُدُّونَهَا مَدِينَةَ كُفْرٍ وَجَوْرٍ، لِأَنَّ (عَمْرِي) بَانِيهَا وَابْنَهُ (آخاب) قد أفسدا دِيَانَةَ التَّوْرَاةِ وَعَبَدَا الْأَصْنَامَ الْكَنْعَانِيَّةَ. وَأَمَرَ اللَّهُ النَّبِيءَ إِلْيَاسَ بِتَوْبِيخِهِمَا وَالتَّثْوِيرِ عَلَيْهِمَا، فَلَا جَرَمَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً زَمَنَ مُوسَى وَلَا كَانَتْ نَاحِيَتُهَا مِنْ أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَمَنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ نَسَبًا إِلَى قَرْيَةٍ اسْمُهَا السَّامِرَةُ مِنْ قُرَى مِصْرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَيَكُونُ فَتًى قِبْطِيًّا انْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعَلُّقِهِ بِهِمْ فِي مِصْرَ أَوْ لِصِنَاعَةٍ يَصْنَعُهَا لَهُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَهْلِ (كِرْمَانَ)، وَهَذَا يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ تَعْرِيبَ كِرْمَانِيٍّ بِتَبْدِيلِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي التَّعْرِيبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ مِنَ السَّامِرِيِّ غَيْرَ يَاءِ نَسَبٍ بَلْ حَرْفًا مِنِ اسْمٍ مِثْلَ: يَاءُ عَلِيٍّ وَكُرْسِيٍّ، فَيَكُونُ اسْمًا أَصْلِيًّا أَوْ مَنْقُولًا فِي الْعَبْرَانِيَّةِ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِي أَوَّلِهِ زَائِدَةً.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ خَلِيطًا مِنَ الْقِصَّةِ: أَنَّ السَّامِرِيَّ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَرٍ- بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ- وَأَنَّهُ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوِ ابْنُ خَالِهِ، وَأَنَّهُ كَفَرَ بِدِينِ مُوسَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ على بعض تفاصيل تَشْمَئِزُّ النَّفْسُ مِنْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّامِرِيِّينَ لَقَبٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا السَّامِرَةُ، لَهُمْ مَذْهَبٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ جَمَاعَةِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَا مُوسَى وَهَارُونَ وَيُوشَعَ، وَمَا كَانَتْ هَذِهِ الشُّذُوذَاتِ فِيهِمْ إِلَّا مِنْ بَقَايَا تَعَالِيمِ الْإِلْحَادِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا فِي مَدِينَةِ السَّامِرَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّسَاهُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَالتَّرَخُّصِ فِي تَعْظِيمِ آلِهَةِ
بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: ٤١] الْمُهَاجِرُونَ فَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَشَهَادَةٌ لَهُمْ بِكَمَالِ دِينِهِمْ. وَعَنْ عُثْمَانَ: «هَذَا وَاللَّهِ ثَنَاءٌ قَبْلَ بَلَاءٍ»، أَيْ قَبْلَ اخْتِبَارٍ، أَيْ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ الَّذِي عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَالِهِمْ. وَمَعْنَى إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: ٤١] أَيْ بِالنَّصْرِ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الْحَج: ٣٩].
[٤١]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٤١]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِنْ الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: ٤٠] فَيَكُونُ الْمُرَادُ: كُلَّ مَنْ نَصْرَ الدِّينَ مِنْ أَجْيَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ مَكَّنَّاهُمْ بِالنَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ إِنْ نَصَرُوا دِينَ اللَّهِ: وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ النَّصْرِ بِأَنْ يَأْتُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ بِذَلِكَ دَوَامَ نَصْرِهِمْ، وَانْتِظَامَ عَقْدِ جَمَاعَتِهِمْ، وَالسَّلَامَةَ مِنِ اخْتِلَالِ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ حَادُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّطُوا فِي ضَمَانِ نَصْرِهِمْ وَأَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ.
فَأَمَّا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فَلِدَلَالَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِالدِّينِ وَتَجْدِيدٍ لِمَفْعُولِهِ فِي النُّفُوسِ، وَأَمَّا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَهُوَ لِيَكُونَ أَفْرَادُ الْأُمَّةِ مُتَقَارِبِينَ فِي نِظَامِ مَعَاشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلِتَنْفِيذِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ.
وَالتَّمْكِينُ: التَّوْثِيقُ، وَأَصْلُهُ إِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّسْلِيطِ وَالتَّمْلِيكِ، وَالْأَرْضُ لِلْجِنْسِ، أَيْ تَسْلِيطُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شَأْنَهُمْ فِيمَا هُوَ من مِلْكُهُمْ وَمَا بُسِطَتْ فِيهِ أَيْدِيهُمْ.
وَرَسُولِهِ فِيمَا كَلَّفَهُمْ دُونَ مَا تَبَرَّعُوا بِهِ كَذِبًا، وَيَخْتَلِفُ مَعْنَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَمْرِ بِإِيجَادِ الطَّاعَةِ الْمَفْقُودَةِ أَوْ إِيهَامِ طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمْ.
وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَقَعُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ مَعْطُوفٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ أَطِيعُوا فَيَكُونَ فِعْلُ تَوَلَّوْا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَكُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَأَصْلُهُ: تَتَوَلَّوْا بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ مِنْهُمَا تَاءُ الْخِطَابِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْكَلَامُ تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، فَيكون ضميرا ف عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ عَائِدَيْنِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ قُلْ أَيْ فَإِذَا قُلْتَ ذَلِكَ فَتَوَلَّوْا وَلَمْ يُطِيعُوا إِلَخْ، فَيَكُونُ فِعْلُ تَوَلَّوْا مَاضِيًا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُوَاجِهًا بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا مِنْ تَبِعَةِ التَّكْلِيفِ. كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٢] فَيَكُونُ فِي ضَمَائِرِ فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ الْتِفَاتٌ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا. وَالِالْتِفَاتُ مُحَسَّنٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكْتَةٍ.
وَبِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْآيَةُ مُفِيدَةً مَعْنَيَيْنِ: مَعْنًى مِنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، وَمَعْنًى مِنْ موعظة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ وَمُوَادَعَةٍ لَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ تَبْكِيتٌ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِتَوَلِّيهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣- ٣٢] : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ (هُمُ الْيَهُودُ) يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ
وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ جَعْلِهِمْ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الْوَعِيدِ بِهِ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا امْتِدَادَ السَّلَامَةِ أَمَارَةً عَلَى إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَيَتَّقُوا حُلُولَ الْعَذَابِ، أَيْ لِمَ تَبْقَوْنَ عَلَى التَّكْذِيبِ مُنْتَظَرِينَ حُلُولَ الْعَذَابِ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا بِالتَّصْدِيقِ مُنْتَظَرِينَ عَدَمَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْمَرَّةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ صَالِحٍ إِيَّاهُمْ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِجَعْلِ يَقِينِهِمْ بِكَذِبِهِ مَحْمُولًا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ حَالٌ مِنَ السَّيِّئَةِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحٌ صَادِقًا فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ لَعَجَّلَ لَهُمْ بِهِ، فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَعِيدٍ حَقٍّ، لِأَنَّ الْعَذَابَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ تَحْتَ احْتِمَالِهِ فِي مَجَارِي الْعُقُولِ. فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ الْحَسَنَةِ مَجَازٌ فِي اخْتِيَارِ الْأَخْذِ بِجَانِبِ احْتِمَالِ السَّيِّئَةِ وَتَرْجِيحِهِ عَلَى الْأَخْذِ بِجَانِبِ الْحَسَنَةِ، فَكَأَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا الْحَسَنَةَ.
وَظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عِلَّةِ اسْتِعْجَالِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَعْلُولِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِعِلَّتِهِ.
ثُمَّ أُعْقِبَ الْإِنْكَارُ الْمُقْتَضِي طَلَبَ التَّخْلِيَةِ عَنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا مَضَى مِنْهُمْ وَيَرْجُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فَلَا يُعَذِّبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ جَعَلَ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لم يُذنب.
[٤٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٧]
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
هَذَا مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ مَعَ صَالِحٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ فِعْلَا الْقَوْلِ وَجَاءَ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأَصْلُ اطَّيَّرْنا تَطَيَّرْنَا فَقُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا وَسُكِّنَتْ لِتَخْفِيفِ
أَنَّ مُفْرَدَهُ مُؤْذِنٌ بِالْجَمَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: ١١] فَجَمَعَهُ هُنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَجَمِّعِينَ مِنْ عِدَّةِ قَبَائِلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ جَيْشٌ خَرَجُوا مُتَسَانِدِينَ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَالْجُنُودُ الثَّانِي جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوب الْمُشْركين.
[١٠- ١١]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
إِذْ جاؤُكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: ٩] بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ.
وَالْمُرَادُ بِ (فَوْقِ) وأَسْفَلَ فَوْقُ جِهَةِ الْمَدِينَةِ وأسفلها.
ووَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عَطْفٌ عَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَبْصارُ والْقُلُوبُ والْحَناجِرَ لِلْعَهْدِ، أَيْ: أَبْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَقُلُوبُهُمْ وَحَنَاجِرَهُمْ، أَوْ تُجْعَلُ اللَّامُ فِيهَا عِوَضًا عَنِ الْمُضَافَاتِ إِلَيْهَا، أَيْ: زَاغَتْ أَبْصَارُكُمْ وَبَلَغَتْ قُلُوبُكُمْ حَنَاجِرَكُمْ.
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْاسْتِوَاءِ إِلَى الِانْحِرَافِ. فَزَيْغُ الْبَصَرِ أَنْ لَا يَرَى مَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يُرِيدَ التَّوَجُّهَ إِلَى صَوْبٍ فَيَقَعَ إِلَى صَوْبٍ آخَرَ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ وَالِانْذِعَارِ.
والْحَناجِرَ: جَمَعُ حَنْجَرَةٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ-: مُنْتَهَى الْحُلْقُومِ وَهِيَ رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ. وَبُلُوغُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ الْقُلُوبِ مِنَ
الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِاضْطِرَابِهَا تَتَجَاوَزُ مَقَارَّهَا وَتَرْتَفِعُ طَالِبَةً الْخُرُوجَ مِنَ الصُّدُورِ فَإِذَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ لَمْ تَسْتَطِعْ تُجَاوُزَهَا مِنَ الضِّيقِ فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ قَلْبِ الْهُلُوعِ الْمَرْعُودِ بِهَيْئَةِ قَلْبٍ تَجَاوَزَ مَوْضِعَهُ وَذَهَبَ مُتَصَاعِدًا طَالِبًا الْخُرُوجَ، فَالْمُشَبَّهُ الْقَلْبُ نَفْسُهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْهَيْئَتَيْنِ.
فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ بِالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ. وَالتَّخَالُفُ فِي بَعْضِ مُسْتَخْرَجَاتِهِمَا وَالتَّمَاثُلُ فِي بَعْضِهَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ حَلَاوَةً مَقْبُولَةً فِي الذَّوْقِ.
وَالْمِلْحُ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام: الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالْمُلُوحَةِ بِذَاتِهِ لَا بِإِلْقَاءِ مِلْحٍ فِيهِ، فَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الْمِلْحُ حَتَّى يَكْتَسِبَ مُلُوحَةً فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: مَالِحٌ، وَلَا يُقَالُ: مِلْحٌ.
وَمَعْنَى: سائِغٌ شَرابُهُ أَنَّ شُرْبَهُ لَا يُكَلِّفُ النَّفْسَ كَرَاهَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَاغَةِ وَهِيَ اسْتِطَاعَةُ ابْتِلَاعِ الْمَشْرُوبِ دُونَ غُصَّةٍ وَلَا كُرْهٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ:

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَاب وَكنت قبلا أَكَادُ أَغُصُّ بِالْمَاءِ الْحَمِيمِ
وَالْأُجَاجُ: الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٩]، وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ مَواخِرَ عَلَى عَكْسِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَأُدْمِجَ فِيهِ الامتنان
بقوله: تَأْكُلُونَ.... وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وَقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فَكَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ سِيَاقِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ فَهُوَ الْأَهَمُّ هُنَا. وَلَمَّا كَانَ طَفْوُ الْفُلْكِ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى لَا يَغْرَقَ فِيهِ أَظْهَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّرْفِيَّةُ فِي الْبَحْرِ. وَالْمَخْرُ فِي الْبَحْرِ آيَةُ صُنْعِ اللَّهِ أَيْضًا بِخَلْقِ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَالْإِلْهَامِ لَهُ، إلّا أَن خطور السَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ أَوْ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ فَأُخِّرَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْغَرَضِ لَا مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ يَسْتَتْبِعُ نِعْمَةَ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ لِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي لَوْ قُطِعَتْ بِسَيْرِ الْقَوَافِلِ لَطَالَتْ مُدَّةُ الْأَسْفَارِ.
وَمِنْ هُنَا يَلْمَعُ بَارِقُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي كَوْنِ فِعْلِ لِتَبْتَغُوا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ هُنَا وَمَعْطُوفًا نَظِيرُهُ فِي آيَةِ النَّحْلِ لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ عُلِّقَ
فَبِنَا أَنْ نَطْلُبَ الدَّقِيقَةَ الَّتِي حَسَّنَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَطْفَ الْيَسَعَ وَذِي الْكِفْلِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ. فَأَمَّا عَطْفُ الْيَسَعَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ فَلِأَنَّ الْيَسَعَ كَانَ مَقَامُهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَقَامِ إِسْمَاعِيلَ فِي بَنِي إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْيَسَعَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ لِلِرَّسُولِ إِلْيَاسَ (إِيلِيَا) وَكَانَ إِلْيَاْسُ يدافع مُلُوك يهوذا وملوك إِسْرَائِيلَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ الْيَسَعُ فِي إِعَانَتِهِ كَمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ فِي إِعَانَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِلْيَاْسُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَامَ الْيَسَعُ مَقَامَهُ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سِفْرِ «الْمُلُوكِ الثَّانِي» الْأَصْحَاحِ (١- ٢).
وَأَمَّا عَطْفُ ذِي الْكِفْلِ عَلَى إِسْمَاعِيلَ فَلِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِإِسْمَاعِيلَ فِي صِفَةِ الصَّبْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨٥] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْيَسَعَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مِنْ أَصْلِ الِاسْمِ فِي اللُّغَةِ الْعَبْرَانِيَّةِ فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ وَلَيْسَتْ لَامَ التَّعْرِيفِ، فَدَعْ عَنْكَ مَا أَطَالُوا بِهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِلَامَيْنِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَصْلِهِ الْعَبْرَانِيِّ وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْهَمْزَةُ وَاللَّامُ، أَوْ وَاللَّامَانِ أَصْلِيَّةُ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ فِي قَوْلِهِ: وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَكُلُّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْأَخْيَارِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذِكْرُ ذِي الْكِفْلِ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء.
[٤٩- ٥٢]
[سُورَة ص (٣٨) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٢]
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هَذَا ذِكْرٌ جُمْلَةٌ فَصَلَتِ الْكَلَامَ السَّابِقَ عَنِ الْكَلَامِ الْآتِيَ بَعْدَهَا قَصْدًا لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ مِثْلُ جُمْلَةِ: أَمَّا بَعْدُ فَكَذَا وَمِثْلُ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
[ص: ٥٥]، وَقَوْلِهِ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ [الْحَج:
٣٠]، وذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٢]. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْكَاتِبُ إِذَا فَرَغَ مِنْ فَصْلٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي آخَرَ: هَذَا
وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
أَيْ وَالرَّحْمَنُ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ.
والْخُلْدِ: طُولُ الْبَقَاءِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَانْتَصَبَ جَزاءُ عَلَى الْحَالِ مِنْ دارُ الْخُلْدِ. وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِنَا.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَجْحَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْجُحُودِ حِينًا فَحِينًا وَتَكَرُّرِهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَكْذِبُونَ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
عطف على جملَة لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، أَيْ وَيَقُولُونَ فِي جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَالْقَائِلُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا: هُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وَمَعْنَى أَرِنَا عَيِّنْ لَنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِرَادَةِ انْتِقَامِهِمْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَزَمَ نَجْعَلْهُما فِي جَوَابِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ تُرِنَاهُمَا نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا.
وَالْجَعْلُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ: الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالرَّفْسُ، أَيْ نَجْعَلُ آحَادَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِ آحَادِ جَمَاعَتِنَا، فَإِنَّ الدَّهْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَادَةِ فَلَا يَعُوزُهُمُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْوَطْءُ بِالْأَرْجُلِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الِانْتِقَامِ وَالِامْتِهَانِ، قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيُّ:
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
[٢٥]، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَقْتًا لِإِنْفَاذِ وُقُوعِ أُمُورٍ هَامَّةٍ مِثْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لِتِلْكَ الْمُقَضَّيَاتِ وَتَشْرِيفًا لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَكَلِمَةُ كُلُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا مِنَ الشُّمُولِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا هِيَ الْأُمُورُ الْحَكِيمَةُ فَجَمَعَهَا لِلْقَضَاءِ بِهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَعْظَمُهَا ابْتِدَاءً نُزُولُ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ كَافَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٣] وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ فِيهَا تُفْرَقُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تُوَافِقُ عَدَّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ كُلِّ عَامٍ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يُفْرَقُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ الْمُضَارِعِ فِي يُفْرَقُ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَظِيمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨].
وَالْأَمْرُ الْحَكِيمُ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى حِكْمَة من حِكْمَةٍ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ الْأَمْرِ الَّذِي أَحْكَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتْقَنَهُ بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ النُّظُمِ الْمُدَبِّرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ وَعُمُومِهِ. وَبَعْضُ تِلْكَ الْأُمُورِ الْحَكِيمَةِ يَنْفُذُ الْأَمْرُ بِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الموكلين بأنواع الشؤون، وَبَعْضُهَا يَنْفُذُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَعْضًا يُلْهَمُ إِلَيْهِ مَنْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَفْعَالًا حَكِيمَةً، وَاللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا عَلَى الْحَالِ مِنْ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ أَمْراً لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِنا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقَعَ مِنْ عِنْدِنا صِفَةً لِ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَخُولِفَ ذَلِكَ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا فَخْمًا إِذَا وُصِفَ بِ حَكِيمٍ. ثُمَّ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ، وَيَنْصَرِفُ هَذَا التَّشْرِيفُ وَالتَّعْظِيمُ ابْتِدَاءً وَبِالتَّعْيِينِ إِلَى الْقُرْآنِ إِذْ كَانَ بِنُزُولِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَشْرِيفُهَا وَجَعْلُهَا وَقْتًا لِقَضَاءِ الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ الْحَكِيمَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي مَقَامِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ مِنْ دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّجْعِ، أَيِ الْبَعْثِ وَهُوَ الَّذِي بَينته جملَة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَخْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِبْطَالِ، يُرِيدُونَ تَعْجِيبَ السَّامِعِينَ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيبَ إِحَالَةٍ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. وَجَعَلُوا مَنَاطَ التَّعْجِيبِ الزَّمَانَ الَّذِي أَفَادَتْهُ (إِذَا) وَمَا أُضِيفَ
إِلَيْهِ، أَيْ زَمَنَ مَوْتِنَا وَكَوْنِنَا تُرَابًا.
وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ظرف أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَالتَّقْدِيرُ: أَنَرْجِعُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي حِينِ انْعِدَامِ الْحَيَاةِ مِنَّا بِالْمَوْتِ وَحِينِ تَفَتُّتِ الْجَسَدِ وَصَيْرُورَتِهِ تُرَابًا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَقْصَى الِاسْتِبْعَادِ. وَمُتَعَلِّقُ (إِذَا) هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْمَحْذُوفُ الْمُقَدَّرُ، أَيْ نَرْجِعُ أَوْ نَعُودُ إِلَى الْحَيَاةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مُؤَكدَة لجملة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالذِّكْرِ، بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَالْحَذْفِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ أَجْلَى دَلَالَةً.
وَالرَّجْعُ: مَصْدَرُ رَجَعَ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ. وَمَعْنَى بَعِيدٌ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَقْلِ، أَيْ هُوَ أَمر مُسْتَحِيل.
[٤]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٤]
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] فَإِنَّ إِحَالَتَهُمُ الْبَعْثَ نَاشِئَةٌ عَنْ عِدَّةِ شُبَهٍ مِنْهَا:
أَنَّ تَفَرُّقَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ فِي مَنَاحِي الْأَرْضِ وَمَهَابِّ الرِّيَاحِ لَا تُبْقِي أَمَلًا فِي إِمْكَانِ جَمْعِهَا إِذْ لَا يُحِيطُ بِهَا مُحِيطٌ وَأَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ مَوَاقِعُهَا لَتَعَذَّرَ الْتِقَاطُهَا وَجَمْعُهَا، وَلَوْ جُمِعَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى صُوَرِهَا الَّتِي كَانَتْ مُشْكِلَةً بِهَا، وَأَنَّهَا لَوْ عَادَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَيْهَا، فَاقْتَصَرَ فِي إِقْلَاعِ شُبَهِهِمْ عَلَى إِقْلَاعِ أَصْلِهَا وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَرَّاتِهَا.
وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ طه وَقَبْلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَقَدْ عَدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ آيُّهَا تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَعَدَّهَا أَهَّلُ الْبَصْرَةِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ سِتًّا وَتِسْعِينَ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ جَامِعَةٌ لِلتَّذْكِيرِ قَالَ مَسْرُوقٌ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ نَبَأً الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَنَبَأً أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَبَأً أَهْلِ النَّارِ وَنَبَأً أَهْلِ الدُّنْيَا وَنَبَأً أَهْلِ الْآخِرَةِ فَلْيَقْرَأْ سُورَةَ الْوَاقِعَة» اه.
أغراض هَذِه السُّورَة
التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَحْقِيقُ وُقُوعِهِ.
وَوَصْفُ مَا يُعْرَضُ وَهَذَا الْعَالِمِ الْأَرْضِيِّ عِنْدَ سَاعَةِ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْضُ نَعِيمِهِمْ.
وَصِفَةُ أَهْلِ النَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَإِثْبَاتُ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ وَالْاِسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي بِمَا أَبْدَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ.
وَالْاِسْتِدْلَالُ بِدَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْاِسْتِدْلَالُ بِنَزْعِ اللَّهِ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ وَالنَّاسُ كَارِهُونَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مَنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي قَدِرَ عَلَى نَزْعِهَا بِدُونِ مُدَافِعٍ قَادِرٌ عَلَى إِرْجَاعِهَا مَتى أَرَادَ على أَنْ يُمِيتَهُمْ.
وَتَأْكِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ نعْمَة أنعم الله بِهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَشْكُرُوهَا وَكَذَّبُوا بِمَا فِيهِ.
[١، ٢]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُرْتَاضٌ بِالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُتَّبِعٌ لِوَصَايَا اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَاف لفاسد الْأَخْلَاقِ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ يَتَلَقَّى مَا يُصِيبُهُ مِنْ مُصِيبَةٍ بِالصَّبْرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَخْلُو مِنْ عَوَارِضَ مُؤْلِمَةٍ أَوْ مُكَدِّرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: ١٥٥- ١٥٧]، أَيْ أَصْحَابَ الْهُدَى الْكَامِلِ لِأَنَّهُ هُدًى مُتَلَقًّى مِنَ التَّعَالِيمِ الْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ الْمَعْصُومَةِ مِنَ الْخَطَلِ كَقَوْلِهِ هُنَا: يَهْدِ قَلْبَهُ.
وَهَذَا الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ إِيمَاءٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَدْيِ اللَّهِ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ تَرْغِيبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّبَاتِ وَالتَّصَبُّرِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَارِدٌ عَلَى مُرَاعَاةِ جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْمَصَائِبَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمِنْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِلثَّبَاتِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَمِنَ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، أَيْ يَعْلَمُ جَمِيعَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاةِ الصَّابِرِينَ بِالثَّوَابِ لِأَنَّ فَائِدَةَ عِلْمِ اللَّهِ الَّتِي تُهِمُّ النَّاسَ هُوَ التَّخَلُّقُ وَرَجَاءُ الثَّوَابِ وَرفع الدَّرَجَات.
[١٢]
[سُورَة التغابن (٦٤) : آيَة ١٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: ١١] لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُتَهَيِّئُونَ لِطَاعَةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَيْهِ من مصَالح الْأَعْمَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمرَان: ١٢٢]، وَلِأَنَّ طَلَبَ الطَّاعَةِ فَرْعٌ عَنْ
تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ كَمَا
فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً»
الْحَدِيثَ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي قَامُوهُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدُومُوا عَلَيْهِ وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِوَاجِبٍ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَوْقِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ كَانَ مَفْرُوضًا لَكَانَ قِيَامُهُمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَاءً لِذَلِكَ الْمَفْرُوضِ، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَفْصَةَ وَقَدْ قَصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا رَآهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرٍ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يَقُومُ فِي اللَّيْلِ»
. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ يُشْعِرُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِوَفَائِهِ بِحَقِّ الْقِيَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَأَنَّهُ كَانَ يَبْسُطُ إِلَيْهِ وَيَهْتَمُّ بِهِ ثُمَّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ النِّصْفُ أَوْ أَنْقَصُ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بَلْ أَخَذَ بِالْأَقْصَى وَذَلِكَ مَا يَقْرُبُ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أُولِي الْعَزْمِ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [الْقَصَص: ٢٩] أَنَّهُ قَضَى أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ الْعَشْرُ السِّنُونَ.
وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ»
. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِذَلِكَ وَتَوْطِئَةٌ لِلتَّخْفِيفِ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ تَخْفِيفُ رَحْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَلِإِفْرَاغِ بَعْضِ الْوَقْتِ مِنَ النَّهَارِ لِلْعَمَلِ وَالْجِهَادِ.
وَلَمْ تَزَلْ تَكْثُرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَشْغَالُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَحِمَايَةِ الْمَدِينَةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ فِي نَهَارِهِ مِنَ السَّعَةِ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ أَيَّامَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ الْوَاجِبِ مِنْهُ وَالرَّغِيبَةِ.
وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آوَى إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ:
كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ»
.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ تَمْهِيدًا لِلْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ: فَلا تَنْسى وَإِدْمَاجًا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي تَزَايُدٍ مُسْتَمِرٍّ، فَإِذَا كَانَ قَدْ خَافَ مِنْ نِسْيَانِ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَلَى حِينِ قِلَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَتَتَابَعُ وَيَتَكَاثَرُ فَلَا يَخْشَ نِسْيَانَهُ فَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُ عَدَمَ نِسْيَانِهِ مَعَ تَزَايُدِهِ.
وَالسِّينُ عَلَامَةٌ عَلَى اسْتِقْبَالِ مَدْخُولِهَا، وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ الْفِعْلِ وَخَاصَّةً إِذَا اقْتَرَنَتْ بِفِعْلٍ حَاصِلٍ فِي وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ وَيَتَجَدَّدُ وَذَلِكَ تَأْكِيد لحصوله وَإِذ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِقْرَاءً، فَالسِّينُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَاءَ يَسْتَمِرُّ وَيَتَجَدَّدُ.
وَالِالْتِفَاتُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَنْسَبُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْمُبَشَّرِ.
وَإِسْنَادُ الْإِقْرَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ جَاعِلٌ الْكَلَامَ الْمَقْرُوءَ وَآمِرٌ بِإِقْرَائِهِ.
فَقَوْلُهُ: فَلا تَنْسى خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْوَعْدُ وَالتَّكَفُّلُ لَهُ بِذَلِكَ.
وَالنِّسْيَانُ: عَدَمُ خُطُورِ الْمَعْلُومِ السَّابِقِ فِي حَافِظَةِ الْإِنْسَانِ بُرْهَةً أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مفرّع مِنْ فعل تَنْسى، و (مَا) مَوْصُولَةٌ هِيَ الْمُسْتَثْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ جَرْيًا عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠].
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ يَنْسَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ. وَذَلِكَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ نَسَخَ تِلَاوَةَ بَعْضِ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَتَهُ فَأَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِأَن لَا يقرأوه حَتَّى يَنْسَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون. وَهَذَا مثل مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا» قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ قَرَأْنَاهَا، وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا أُنْزِلُ: «لَا ترغبوا عَن ءابائكم فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ ترغبوا عَن ءابائكم». وَهَذَا مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فِي قِرَاءَةِ مَنْ
قَرَأَ: نُنْسِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَوَطْئِنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ