وَالْقَائِلُ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْضُ مَنْ وَقَفَ عَلَى حَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ اطِّلَاعٌ عَلَى شُؤُونِهِمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ، فَيُخْلِصُونَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالْمَوْعِظَةَ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ وَيَسْتُرُونَ عَلَيْهِمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَعِلْمًا بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي عَنْ زَلَّاتِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَفِي جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى حَرْفِ إِنَّمَا كَمَا سَيَأْتِي وَيَدُلُّ لِذَلِكَ عِنْدِي بِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: ٨] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لَهُمُ اللَّهُ- وَالرَّسُولُ- إِذْ لَوْ نَزَلَ الْوَحْيُ وَبَلَّغَ إِلَى مُعَيَّنِينَ مِنْهُمْ لَعُلِمَ كُفْرُهُمْ وَلَوْ نَزَلَ مُجْمَلًا كَمَا تَنْزِلُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْتَقِمْ جَوَابُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
وَقَدْ عَنَّ لِي فِي بَيَانِ إِيقَاعِهِمُ الْفَسَادَ أَنَّهُ مَرَاتِبٌ:
أَوَّلُهَا: إِفْسَادُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِيمَا مَضَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَذَامِّ وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَفَاسِدِ.
الثَّانِيَةُ: إِفْسَادُهُمُ النَّاسَ بِبَثِّ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَإِفْسَادُهُمْ أَبْنَاءَهُمْ وَعِيَالَهُمْ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي مَسَاوِيهِمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٢٧].
الثَّالِث: إِفْسَادُهُمْ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا فَسَادُ الْمُجْتَمَعِ، كَإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَتَسْعِيرِ الْفِتَنِ وَتَأْلِيبِ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِحْدَاثِ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ الْمُصْلِحِينَ.
وَالْإِفْسَادُ فِعْلُ مَا بِهِ الْفَسَادُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أَيْ جَعْلِ الْأَشْيَاءِ فَاسِدَةً فِي الْأَرْضِ. وَالْفَسَادُ أَصْلُهُ اسْتِحَالَةُ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ النَّافِعِ إِلَى مَضَرَّةٍ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَضَرَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ مِنْ قَبْلُ يُقَالُ فَسَدَ الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَالِحًا وَيُقَالُ فَاسِدٌ إِذَا وُجِدَ فَاسِدًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا عَمَدَ إِلَى شَيْءٍ صَالِحٍ فَأَزَالَ صَلَاحَهُ، وَيُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا أَوْجَدَ فَسَادًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَسَادَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ مِنَ الْوَضْعِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَيْسَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا هُنَا مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ مِنْهُ تَصْيِيرُ
الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ مُضِرَّةً كَالْغِشِّ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَمِنْهُ إِزَالَةُ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ كَالْحَرْقِ وَالْقَتْلِ لِلْبَرَاءِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْأَنْظِمَةِ كَالْفِتَنِ وَالْجَوْرِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْمَسَاعِي كَتَكْثِيرِ الْجَهْلِ وَتَعْلِيمِ الدَّعَارَةِ وَتَحْسِينِ الْكُفْرِ وَمُنَاوَأَةِ
وَ (الظُّلَلُ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ اسْمٌ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَالظُّلَّةُ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ وَالَّذِي تَلَخَّصَ لِي مِنْ حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِشِبْهِ صِفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ فِي الْهَوَاءِ تَتَّصِلُ بِجِدَارٍ أَوْ تَرْتَكِزُ عَلَى أَعْمِدَةٍ يُجْلَسُ تَحْتَهَا لِتَوَقِّي شُعَاعِ الشَّمْسِ، فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الظِّلِّ جُعِلَتْ عَلَى وَزْنِ فعلة بِمَعْنى مفعولة أَوْ مَفْعُولٍ بِهَا مِثْلَ الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ لِمَا يُقْبَضُ بِالْيَدِ.
وَالْغُرْفَةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ لِمَا يُغْتَرَفُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [الْبَقَرَة:
٢٤٩] فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الْعَشَرَةِ بِضَمِّ الْغَيْنِ.
وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ أَوْ مُشَبَّهٌ بِهَا تَشْبِيهًا بَلِيغًا: السَّحَّابَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُشْبِهُ كُلُّ سَحَابَةٍ مِنْهَا ظُلَّةَ الْقَصْرِ.
ومِنَ الْغَمامِ بَيَانٌ لِلْمُشَبَّهِ وَهُوَ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: ١٦].
وَالْإِتْيَانُ حُضُورُ الذَّاتِ فِي مَوضِع من مَوْضِعٍ آخَرَ سَبَقَ حُصُولُهَا فِيهِ وَأُسْنِدَ الْإِتْيَانُ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِثْبَاتِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ اتِّصَافَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ يَسْتَلْزِمُ التَّنَقُّلَ أَوِ التَّمَدُّدَ لِيَكُونَ حَالًّا فِي مَكَانٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِتْيَانُ وَكَانَ ذَلِك يسْتَلْزم التنقل الْجِسْمَ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، تَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا أَوْ تَهَكُّمًا فَلَا حَاجَةَ لِلتَّأْوِيلِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ بِالْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَعِيدًا مِنَ اللَّهِ لَزِمَ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ كَالتَّنَقُّلِ وَالتَّمَدُّدِ لِمَا عَلِمْتَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَصْلِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ إِمَّا فِي مَعْنَى الْإِتْيَانِ أَوْ فِي إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ أَوْ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنْ مُضَافٍ أَوْ مَفْعُولٍ، وَإِلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَرْجِعُ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ تَشْكِيكَاتِ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى إِقْرَارِ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ دُونَ تَأْوِيلٍ فَالْإِتْيَانُ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لَكِن بِلَا كَيْفَ فَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالرُّؤْيَةِ أَيْ هُوَ إِتْيَانٌ لَا كَإِتْيَانِ الْحَوَادِثِ. فَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ لِدَفْعِ مَطَاعِنِ الْمَلَاحِدَةِ فَتَجِيءُ وُجُوهٌ مِنْهَا:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَقُولُ يَجُوزُ تَأْوِيلُ إِتْيَانِ الله بِأَنَّهُ مجَاز فِي التَّجَلِّي وَالِاعْتِنَاءِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيِّ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ
وَاسِعٌ وَثَوْبٌ وَاسِعٌ، وَيُطْلَقُ الِاتِّسَاعُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ نَوْعُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ يُقَالُ: فُلَانٌ وَاسِعُ الْبَالِ، وَوَاسِعُ الصَّدْرِ، وَوَاسِعُ الْعَطَاءِ. وَوَاسِعُ الْخُلُقِ، فَتَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ أَوْ كَثْرَةِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ أَوْ يُوصَفُ بِهِ أَو يعلق بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ وَمَعَانٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى ثَانِيًا.
وواسِعٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْمِ عَدَمُ تَنَاهِي التَّعَلُّقَاتِ لِصِفَاتِهِ ذَاتِ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَاسِعُ الْعِلْمِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْعَطَاءِ، فَسِعَةُ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنَّهَا لَا حَدَّ لِتَعَلُّقَاتِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِوَصْفِ وَاسِعٍ، لِأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْمُطْلَقُ.
وَإِسْنَادُ وَصْفِ وَاسِعٍ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مجازي أَيْضا لأنّ الْوَاسِعُ صِفَاتُهُ وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بَعْدَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فِعْلِ السِّعَةِ بِمَا يُمَيِّزُ جِهَةَ السِّعَةِ مِنْ تَمْيِيزٍ نَحْوَ:
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. فَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ وَاسِعٌ هُوَ سِعَةُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِصِفَةِ وَاسِعٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: عَلِيمٌ صفة ثَانِيَة بِقُوَّة عِلْمِهِ أَيْ كَثْرَةِ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى.
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُؤْتِيَهُ فَضْلَهُ وَيَدُلَّ عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ مَا يَظْهَرُ مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ مَتَى ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ فَضَائِلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَجُمْلَةُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِجُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بَعْضٌ مِمَّا هُوَ فَضْلُهُ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٠٥].
النَّهْيَ عَنْ أَحْوَالٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْهَا أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَعْضُلُونَ النِّسَاءَ ذَوَاتِ الْمَالِ مِنَ التَّزَوُّجِ خَشْيَةَ أَنَّهُنَّ إِذَا تَزَوَّجْنَ يَلِدْنَ فَيَرِثُهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَأَوْلَادُهُنَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَاصِبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، وَهُنَّ يَرْغَبْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَأْبَوْنَ أَنْ
يُطَلِّقُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَنْ يَمُتْنَ عِنْدَهُمْ فَيَرِثُوهُنَّ، فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ لَهُنَّ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى حَالَةِ الْكَرَاهِيَةِ، إِذْ لَا تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ مُخْتَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَالنِّسَاءُ مُرَادٌ بِهِ جَمْعُ امْرَأَةٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَرْهًا- بِفَتْحِ الْكَافِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْكَافِ- وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.
عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا لِمُنَاسَبَةِ التَّمَاثُلِ فِي الْإِكْرَاهِ وَفِي أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ سُوءُ مُعَامَلَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي أَنَّ الْعَضْلَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَالٍ مِنْهُنَّ.
وَالْعَضْلُ: مَنْعُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِيَّاهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٣٢].
فَإِن كَانَ الْمنْهِي عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ فِعْلِ (تَرِثُوا)، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْمَرْأَةِ كَرْهًا عَلَيْهَا، فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ إمّا عطف خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، إِنْ أُرِيدَ خُصُوصُ مَنْعِ الْأَزْوَاجِ نِسَاءَهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، رَغْبَةً فِي بَقَاءِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَ مِنْهَا مَالَهَا، أَوْ عَطْفُ مُبَايِنٍ إِنْ أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهَا مِنَ الطَّلَاقِ حَتَّى يُلْجِئَهَا إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا آتَاهَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِطْلَاقُ الْعَضْلِ عَلَى هَذَا الْإِمْسَاكِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّهَا كَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَلَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّزَوُّجِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ الْمَعْنى الْمجَازِي لترثوا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مِيرَاثًا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ أَزْوَاجِ أَقَارِبِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَعَطْفُ وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عَطْفُ حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَامَلَةِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعْضُلَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لِتَبْقَى عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا،
وَالْمَسُّ مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَسِّ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْجِسْمِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِصَابَةِ بِجَامِعِ الِاتِّصَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: ٤٩]، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشِدَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الشِّدَّةِ أَوِ الضَّعْفِ إِلَى الْقَرِينَةِ، مِثْلَ أَلِيمٌ هُنَا، وَمِثْلَ قَوْلِهِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الْأَنْعَام: ٤٩] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْكِلَابِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

مَسِسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا وَكُلُّنَا إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعٍ
أَيْ تَتَبَّعْنَا أُصُولَ آبَائِنَا.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنُ الْمُرَادِ بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الصِّلَةِ الْمُقَرَّرَةِ لِمَعْنَى كُفْرِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِلَخْ، لِقَصْدِ تَكْرِيرِ تَسْجِيلِ كُفْرِهِمْ وَلِيَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُومِئًا إِلَى سَبَبِ الْحُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله مِنْهُمْ بَيَانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِكُفَّارٍ آخَرِينَ.
وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ أَعْقَبَ الْوَعِيدَ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْهِدَايَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ.
وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ مَغْفِرَةِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فِي الْمَاضِي وَالنَّدَمُ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ.
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ بِثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ مَا سَلَفَ مِنْهُ، لِأَنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ يَدُلَّانِ عَلَى شِدَّةِ الْغُفْرَانِ وَشِدَّةِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوهُ رَفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِرَحْمَتِهِ وَصَفَحَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُم بغفرانه.
[٧٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَفَادَ الْقَصْرَ، فَأَفَادَ اخْتِصَاصَهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَعْثِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْشَوُا الْأَصْنَامَ، وَلَوْ أَرَادُوا الْخَيْرَ لِأَنْفُسِهِمْ لَخَافُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَرْضَاتِهِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ إِضَافِيٌّ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقادِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ.
وَالْعَذَابُ الَّذِي مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الصَّوَاعِقِ وَالرِّيحِ، وَالَّذِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ مِثْلُ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَالطُّوفَانِ.
ويَلْبِسَكُمْ مُضَارِعُ لَبَسَهُ- بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ خَلَطَهُ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَلْبِسَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ وَمَرْجِهِ، أَيِ اضْطِرَابُ شُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ اسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ تُشْبِهُ انْتِظَامَ السِّلْكِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ النَّاسِ نِظَامًا. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَالْفَوْضَى تُشْبِهُ اخْتِلَاطَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَرْجًا وَلَبْسًا. وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْأَمْنِ وَدُخُولِ الْفَسَادِ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمَرْجِ، وَهُوَ الْخَلْطُ فَيُقَالُ:
هُمْ فِي هَرْجٍ وَمَرْجٍ، فَسُكُونُ الرَّاءِ فِي الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ.
وَانْتَصَبَ شِيَعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْبِسَكُمْ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي غَرَضٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ هَوًى فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ١٥٩].
وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [الصافات: ٨٣] أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ.
وَتَشَتُّتُ الشِّيَعِ وَتَعَدُّدُ الْآرَاءِ أَشَدُّ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ، لِأَنَّ اللَّبْسَ الْوَاقِعَ كَذَلِكَ لَبْسٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ انْتِظَامٌ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لِأَنَّ مِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ اللَّبْسِ التَّقَاتُلَ.
فَالْبَأْسُ هُوَ الْقَتْلُ وَالشَّرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: ٨١]. وَالْإِذَاقَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَلَمِ.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَاقُوا بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
وَالْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ إِطْلَاعًا لَهُمْ عَلَى حِكْمَةِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِمْ، وَلَا يَرِيبُكَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِالْمُتَعَيِّنِ، وَإِمَّا مَنْ تَبْلُغُهُمُ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَا فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفْرَادِ الْكَافِ هُوَ هُوَ إِذِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ خَاصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَقَطْعِ الْبَنَانِ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمُشَاقَّةُ الْعَدَاوَةُ بِعِصْيَانٍ وَعِنَادٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشْقُوقِ أَيِ الْمُفَرَّقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ وَالْمُعَادِي يَكُونُ مُتَبَاعِدًا عَنْ عَدُوِّهِ فَقَدْ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ آخَرَ، أَيْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبِ الِانْتِقَامِ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَسْتَزِيدُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ هَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَيُوشِكُ مَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بِدُونِ مُشَاقَّةٍ أَنْ يُوقِعَ فِي عَذَابٍ دُونَ ذَلِكَ، وَخَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ ضِدَّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ.
وَجُمْلَةُ: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَيَعُمُّ أَصْنَافَ الْعَقَائِدِ.
وَالْمُرَادُ من قَوْله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
الْكِنَايَةُ عَنْ عِقَابِ الْمُشَاقِّينَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ تَعَلُّقِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ عنترة:
إِن تغد فِي، دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
يُرِيدُ فَإِنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَنْ يَسْتُرُ وَجْهَهُ مِنِّي وَأَنِّي أتوسّمه وأعرفه.
[١٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الْخِطَابُ فِي ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذين قتلوا، وَالَّذين قُطِعَتْ بَنَانُهُمْ أَيْ يُقَالُ
اسْمِ الزَّمَانِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ انْتِصَابِهَا فِي قَوْله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التَّوْبَة: ١٣] وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التَّوْبَة: ٨٠] كَمَا تَقَدَّمَ. وأَوَّلَ مَرَّةٍ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ الَّتِي تَخَلَّفُوا عَنْهَا.
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ وَلَوْ كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُفْرَدٍ وَلَا مُذَكَّرٍ لِأَنَّ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى الْمَقْصُودِ كَافِيَةً.
وَالْفَاءُ فِي فَاقْعُدُوا تَفْرِيعٌ عَلَى إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ، أَيْ لَمَّا اخْتَرْتُمُ الْقُعُودَ لِأَنْفُسِكُمْ فَاقْعُدُوا الْآنَ لِأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ التَّخَلُّفَ.
والْخالِفِينَ جَمْعُ خَالِفٍ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ الْغَازِيَ فِي أَهْلِهِ وَكَانُوا يَتْرُكُونَ لِذَلِكَ.
مَنْ لَا غَنَاءَ لَهُ فِي الْحَرْبِ. فَكَوْنُهُمْ مَعَ الْخَالِفِينَ تعيير لَهُم.
[٨٤]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ النَّاشِئِ، عَنِ الِاعْتِذَارِ وَالْحَلِفِ الْكَاذِبَيْنِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ مَشُوبًا بِصُورَةِ التَّخْيِيرِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يُبْقِي شَيْئًا مِنْ طَمَعِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ الْمُعَامَلَةَ الرَّبَّانِيَّةَ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَلْفَاظِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ [التَّوْبَة: ٨١]، تَهَيَّأَ الْحَالُ لِلتَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ.
فَجُمْلَةُ وَلا تُصَلِّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٨٠] عَطْفُ كَلَامٍ مُرَادٍ إِلْحَاقُهُ بِكَلَامٍ آخَرَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْزِلُ مُرَاعًى فِيهِ مَوَاقِعُ وَضْعِ الْآيِ.
وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ الذِّكْرِ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اخْتَلَفُوا مِنْ وُجُودِ مُخَالِفٍ (بِكَسْرِ اللَّامِ) ومخالف (بِفَتْحِهَا).
[٩٤، ٩٥]
[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى سِيَاقِ الْقَصَصِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَعِظَةً بِمَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ.
انْتَقَلَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ كِلَاهُمَا تَعْرِيضٌ بِالْمُكَذِّبِينَ، فَالْأُسْلُوبُ السَّابِقُ تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ الْمَوَالِي تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَمَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمُرَاد من مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ هُوَ الْمُنَزَّلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ وَهُوَ مَا أُنْزِلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْقَصَصِ.
ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ مَا سِوَاهُمَا أَوَّلُهُمَا: أَنْ تَبْقَى الظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا (فِي) عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَيَكُونُ الشَّكُّ قَدْ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ أَصْحَابُهُ، أَيْ فَإِنْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ أَهْلِ شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، أَيْ يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِ هَذِهِ الْقَصَصِ، كَمَا يُقَالُ: دَخَلَ فِي الْفِتْنَةِ، أَيْ فِي أَهْلِهَا. وَيكون معنى فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فَاسْأَلْ أَهْلَ الْكِتَابِ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ وَإِشْهَادٍ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ يُخْبِرُوا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرْتَهُمْ بِهِ، فَيَزُولُ الشَّكُّ مِنْ نُفُوسِ أَهْلِ الشَّكِّ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ تَوَاطُؤَكَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ.
وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ بِخَبَرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ
حُصُولِ تَعْبِيرِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ، إِذْ لَيْسَ مِثْلُهُ مَظِنَّةَ أَنْ يَكُونَ بَين المساجين.
[٤٦]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٤٦]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)
الْخِطَابُ بِالنِّدَاءِ مُؤْذِنٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الَّذِي نَجَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. وَحُذِفَ مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرُ إِرْسَالِهِ وَمَشْيِهِ وَوُصُولِهِ، إِذْ لَا غَرَضَ فِيهِ مِنَ الْقِصَّةِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ.
والصِّدِّيقُ أَصْلُهُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧٥]، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ وَصْفِ الصِّدِّيقِ اسْتِعْمَالُ اللَّقَبِ الْجَامِعِ لِمَعَانِي الْكَمَالِ وَاسْتِقَامَةِ السُّلُوكِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ لَا تَجْتَمِعُ إِلَّا لِمَنْ قَوِيَ صِدْقُهُ فِي الْوَفَاءِ بِعَهْدِ الدِّينِ.
وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةُ الرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ قَالَ:
«الصِّدِّيقُونَ هُمْ دُوَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ». وَهَذَا مَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ:
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سُورَة النِّسَاء: ٦٩] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سُورَة الْمَائِدَة: ٧٥]. وَمِنْهُ مَا
لقّب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ رَجْفِ جَبَلِ أُحُدٍ «اسْكُنْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْك نبيء وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ»
. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَفْضَلُ الْأمة بعد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ هَذَا الْوَصْفَ مَعَ صفة النبوءة فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ
وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ لِلَّذِينِ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، أَيْ لَيْسَ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ لَا يعلمُونَ، أَي لَا يَفْهَمُونَ وَضْعَ الْكَلَامِ مَوَاضِعَهُ وَحَمْلَهُ مَحَامِلَهُ.
وَفُهِمَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ افْتِرَاءً وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا وَبُهْتَانًا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يُنَافِي إِبْطَالَ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَصَالِحُ أَوْ رُوعِيَ الرِّفْقُ.
وَيَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ أَكْثَرُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِه السُّورَة.
[١٠٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠٢]
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: ١٠١] فَلِذَلِكَ فُصِلَ فِعْلُ قُلْ لِوُقُوعِهِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ: لَسْتَ بِمُفْتَرٍ وَلَا الْقُرْآنُ بِافْتِرَاءٍ بَلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنَ اللَّهِ. وَفِي أَمْرِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُم ذَلِك شدّ لِعَزْمِهِ لكيلا يكون تجاوزه الْحَدَّ فِي الْبُهْتَانِ صَارِفًا إِيَّاهُ عَنْ مُحَاوَرَتِهِمْ.
فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ اللَّهُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُفْتَرٍ بِطَرِيقَةِ النَّقْضِ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَاهِيَّةَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ رَبِّكَ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ حِكَايَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ رَبِّي، فَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْخطاب تأنيسا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِيَادَةِ تَوَغُّلِ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي طَرِيقَةِ الْخِطَابِ.
وَاخْتِيرَ اسْمُ الرَّبِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِنَايَةِ وَالتَّدْبِيرِ.
ورُوحُ الْقُدُسِ: جِبْرِيلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٧]. وَالرُّوحُ: الْمَلَكُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[سُورَة مَرْيَم: ١٧]، أَيْ مَلَكًا منْ مَلَائِكَتِنَا.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِنَامَتِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهَا، أَيْ كَمَا أَنَمْنَاهُمْ قُرُونًا بَعَثْنَاهُمْ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ: أَنَّ فِي الْإِفَاقَةِ آيَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ آيَةِ الْإِنَامَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهُ الْبَعْثِ الْمَذْكُورِ بِنَفْسِهِ للْمُبَالَغَة فِي التعجيب كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْبَعْثِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي حُسْنِ مَوْقِعِ لَفْظِ الْبَعْثِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَفِي التَّعْلِيلِ من قَوْله: لِيَتَسائَلُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الْكَهْف: ١٢]. وَالْمَعْنَى: بَعَثْنَاهُمْ فَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ.
وَجُمْلَةُ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ بَيَان لجملة لِيَتَسائَلُوا. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ تَسَاؤُلًا لِأَنَّهَا تَحَاوُرٌ عَنْ تَطَلُّبِ كُلٍّ رَأْيَ الْآخَرِ لِلْوُصُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُدَّةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ هُمْ مَنْ عَدَا الَّذِي قَالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ.
وَأَسْنَدَ الْجَوَابَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَتِهِمْ: إِمَّا لأَنهم تواطؤوا عَلَيْهِ، وَإِمَّا عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ، أَيْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَبِثْنَا يَوْمًا، وَمِنْهُمْ قَالَ: لَبِثْنَا بَعْضَ يَوْمٍ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ فِي الْقَوْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، أَيْ لَمَّا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا فَعَدَلُوا عَنِ الْقَوْلِ بِالظَّنِّ إِلَى تَفْوِيضِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِمْ. فَالْقَائِلُونَ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ صَوَابًا.
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَدَعُوا الْخَوْضَ فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَخُذُوا فِي شَيْءٍ آخَرَ مِمَّا يَهُمُّكُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. وَهُوَ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِحَالِهِ، وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لَكَانَ قَوْلُهُمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عَيْنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ.
وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بَعْضُهُمْ، تَصَدُّوا مُجِيبِينَ عَنِ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ وَهُمْ كُبَرَاءُ الْقَوْمِ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ بِمَلْكِنا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْمِيمِ-. وَهِيَ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَمَعْنَاهَا: بِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، أَيْ لِإِخْلَافِ مَوْعِدِكَ، أَيْ مَا تَجَرَّأْنَا وَلَكِنْ غَرَّهُمُ السَّامِرِيُّ وَغَلَبَهُمْ دَهْمَاءُ الْقَوْمِ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنَ الْمُجِيبِينَ بِمَا فَعَلَهُ دَهْمَاؤُهُمْ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ إِخْلَافُهُمُ الْعَهْدَ عَنْ قَصْدٍ لِلضَّلَالِ وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهُ وَقَعَتْ بِإِيجَازٍ عَنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّنَصُّلِ مِنْ تَبِعَةِ نَكْثِ الْعَهْدِ.
وَمَحَلُّ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ قَوْلُهُ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمَلُ قَبْلَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِتَضْلِيلِ السَّامِرِيِّ.
فَأُدْمِجَتْ فِي هَذَا الِاعْتِذَارِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَضِيَّةِ صَوْغِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدُوهُ وَاغْتَرُّوا بِمَا مُوِّهَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِلَهُهُمُ الْمَنْشُودُ مِنْ كَثْرَةِ مَا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ أَوْ أَمَامَهُمْ، وَمِمَّا جَاشَ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ حُمِّلْنا- بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَكْسُورَةٍ، أَيْ حَمَّلَنَا مَنْ حَمَّلَنَا، أَوْ حَمَّلْنَا أَنْفُسَنَا.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً-.
قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ أَتَمُّ شَبَهًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رسولهم وآذوه. وألجئوه إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْطِنِهِ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩]. فَكَانَ ذِكْرُ إِلْجَاءِ قُرَيْشٍ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْطِنِهِمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَج: ٤٠] مُنَاسَبَةً لِذِكْرِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.
وَالْإِمْلَاءُ: تَرْكُ الْمُتَلَبِّسِ بِالْعِصْيَانِ دُونَ تَعْجِيلِ عُقُوبَتِهِ وَتَأْخِيرِهَا إِلَى وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ حَتَّى يَحْسَبَ أَنَّهُ قَدْ نَجَا ثُمَّ يُؤْخَذَ بِالْعُقُوبَةِ.
وَالْفَاءُ فِي فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ لِلتَّعْقِيبِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ هَلَاكِهِمْ حَاصِل من وَقْتِ تَكْذِيبِهِمْ وَإِنَّمَا أُخِّرَ لَهُمْ، وَهُوَ تَعْقِيبٌ مُوَزَّعٌ، فَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَعْقِيبُ إِمْلَائِهِ، وَالْأَخْذُ حَاصِلٌ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ بِمُهْلَةٍ، فَلِذَلِكَ عُطِفَ فِعْلُهُ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ حَقَّ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ، أَيْ فَاعْجَبْ مِنْ نَكِيرِي كَيْفَ حَصَلَ. وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ مِنْهُ أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا بِالنِّعْمَةِ مِحْنَةً، وَبِالْحَيَاةِ هَلَاكًا، وَبِالْعِمَارَةِ خَرَابًا فَهُوَ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ.
وَالنَّكِيرُ: الْإِنْكَارُ الزَّجْرِيُّ لِتَغْيِيرِ الْحَالَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الَّذِي يُنْكَرُ عَلَيْهِ:
ونَكِيرِ- بِكَسْرَةٍ فِي آخِرِهِ- دَالَّة على يَاء الْمُتَكَلِّمِ الْمَحْذُوفَةِ تَخْفِيفًا.
وَكَانَ مُنَاسَبَةُ اخْتِيَارِ النَّكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْعَذَابِ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِالنَّهْيِ عَن الْمُنكر لِيُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَبْذُلُوا فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مُنْتَهَى اسْتِطَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ
اللَّهَ عَاقَبَ عَلَى الْمُنْكَرِ بِأَشَدِّ الْعِقَابِ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الِائْتِسَاءُ بِصُنْعِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ:
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥] وَقَوْلُهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمّد: ٢٢]. وَبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُور فِي شؤون الرَّعِيَّةِ وَمَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْغَزْوِ وَالصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ.
فَمَتَى اهْتَمَّ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَعُمُومُ الْأُمَّةِ بِاتِّبَاعِ مَا وَضَّحَ لَهُمُ الشَّرْعُ تَحَقَّقَ وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْوَعْدِ الْجَلِيلِ.
وَهَذِهِ التَّكَالِيفُ الَّتِي جعلهَا الله قواما لِصَلَاحِ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَوَعَدَ عَلَيْهَا بِإِعْطَاءِ الْخِلَافَةِ وَالتَّمْكِينِ وَالْأَمْنِ صَارَتْ بِتَرْتِيبِ تِلْكَ الْمَوْعِدَةِ عَلَيْهَا أَسْبَابًا لَهَا. وَكَانَتِ الْمَوْعِدَةُ كَالْمُسَبَّبِ عَلَيْهَا فَشَابَهَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ خِطَابَ الْوَضْعِ، وَجُعِلَ الْإِيمَانُ عَمُودَهَا وَشَرْطًا لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا وَتَوْثِيقًا لِحُصُولِ آثَارِهَا بِأَنْ جَعَلَهُ جَالِبَ رِضَاهُ وَعِنَايَتِهِ. فَبِهِ يَتَيَسَّرُ لِلْأُمَّةِ تَنَاوُلُ أَسْبَابِ النَّجَاحِ، وَبِهِ يَحُفُّ اللُّطْفُ الْإِلَهِيُّ بِالْأُمَّةِ فِي أَطْوَارِ مُزَاوَلَتِهَا وَاسْتِجْلَابِهَا بِحَيْثُ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَرَاقِيلَ وَالْمَوَانِعَ، وَرُبَّمَا حَفَّ بِهِمُ اللُّطْفُ وَالْعِنَايَةُ عِنْدَ تَقْصِيرِهِمْ فِي الْقِيَامِ بِهَا. وَعِنْدَ تَخْلِيطِهِمُ الصَّلَاحَ بِالْفَسَادِ فَرَفَقَ بِهِمْ وَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الشَّرَّ وَتَلَوَّمَ لَهُمْ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥- ١٠٧] يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء وَقَوله: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٨].
فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ عَمِلُوا فِي سيرتهم وشؤون رَعِيَّتِهِمْ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّالِحَاتِ بِحَيْثُ لَمْ يُعْوِزْهُمْ إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَاجْتَنَوْا مِنْ سِيرَتِهِمْ صُوَرًا تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي يَجْتَنِيهَا الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ
ذِكْرِهِ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ فِي وَقْتٍ تَآمَرَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ التَّآمُرُ
الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَال: ٣٠] فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِتَآمُرِ الرَّهْطِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَمَكْرِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَى بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تُشَابُهًا وَتَرَى تَكْرِيرَ ذِكْرِ مَكْرِهِمْ وَمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، وَذِكْرِ أَنَّ فِي قِصَّتِهِمْ آيَةً لقوم يعلمُونَ.
[٥٠- ٥٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٣]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
سَمَّى اللَّهُ تَآمُرَهُمْ مَكْرًا لِأَنَّهُ كَانَ تَدْبِيرَ ضُرٍّ فِي خَفَاءٍ. وَأَكَّدَ مَكْرَهُمْ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّتِهِ فِي جِنْسِ الْمَكْرِ، وَتَنْوِينِهِ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْمَكْرُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَكْرٌ مَجَازِيٌّ. اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَكْرِ لِمُبَادَرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَبْيِيتِ صَالِحٍ وَأَهْلِهِ، وتأخيره استئصالهم إِلَى الْوَقْتُ الَّذِي تَآمَرُوا فِيهِ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ لِشَبَهِ فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ فِي تَأْجِيلِ فِعْلٍ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْعَارِ مَنْ يُفْعَلُ بِهِ.
وَأُكِّدَ مَكْرُ اللَّهِ وَعُظِّمَ كَمَا أُكِّدَ مَكْرُهُمْ وَعُظِّمَ، وَذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ جِنْسَهُ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا يُدَانِيهِ عَذَابُ النَّاسِ فَعَظِيمُهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْجَلَالَةِ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَأْكِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكْرِ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْصَالِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَلَا تَجْرِيدٌ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاقْتِرَانُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ
وَقَوْلُ الْمُنَافِقِينَ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ عَلَنًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدُوا بِهِ إِدْخَالَ الشَّكِّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَرُدُّونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَأَوْهَمُوا بِقَوْلِهِمْ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَخْ... أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنِسْبَةُ الْغُرُورِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِمَّا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ بِجَهْلِهِمْ يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغُرَّ عِبَادَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ فَيَكُونُ نِسْبَةُ الْوَعْدِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَهَكُّمًا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: ٢٧].
وَالْغُرُورُ: ظُهُورُ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ فِي صُورَةِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ فَكَانَ الْأَمْرُ هَزِيمَةً وَهُمْ يَعْنُونَ الْوَعْدَ الْعَامَّ وَإِلَّا فَإِنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ جَاءَتْ بَغْتَةً وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُمْ وُعِدُوا فِيهَا بِنَصْرٍ. والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَأَخْلَصُوا يَوْمَئِذٍ النِّفَاقَ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ. كَذَا قَالَ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ،
وَهُوَ وَالِدُ عَرَابَةَ بْنِ أَوْسٍ الْمَمْدُوحِ بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ:
رَأَيْتُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ
فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مُنَافِقِي قَوْمِهِ. وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَدْعُو أَهْلَ يَثْرِبَ كُلَّهُمْ.
وَقَوْلُهُ لَا مُقامَ لَكُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَكَانِ الْقِيَامِ، أَيِ:
الْوُجُودِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ: مَحَلُّ الْإِقَامَةِ. وَالنَّفْيُ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمَّا رَأَى هَذَا الْفَرِيقُ قِلَّةَ جَدْوَى وُجُودِهِمْ جَعَلَهَا كَالْعَدَمِ، أَيْ لَا فَائِدَةَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يروم تخذيل النَّاسِ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ أُحُدٍ.
ويَثْرِبَ: اسْمُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَثْرِبُ: اسْمُ أَرْضٍ وَالْمَدِينَةُ
وَالْكُفْرُ: جُحْدٌ فِي كَرَاهَةٍ.
وَالشِّرْكُ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ بِشِرْكِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ مَوْصُولُ الْعَاقِلِ وَضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ [فاطر: ١٣] إِلَى قَوْلِهِ: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ عَلَى تَنْزِيلِ الْأَصْنَامِ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ تَذْيِيلٌ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا هُوَ الْخَبِيرُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا وَلَا يُخْبِرُكَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا يُخْبِرُكَ هُوَ.
وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الْإِنْبَاءِ لِأَنَّ النَّبَأَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ حَدَثٍ خَطِيرٍ مُهِمٍّ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يُنَبِّئُكَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أُرْسِلَتْ مُرْسَلَ الْأَمْثَالِ فَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ مَضْمُونِهَا بِمُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ.
وخَبِيرٍ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَبُرَ، بِضَمِّ الْبَاءِ، فُلَانٌ الْأَمْرَ، إِذَا عَلِمَهُ عِلْمًا لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِ خَبِيرٍ جِنْسُ الْخَبِيرِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ هَذَا الْقَوْلَ مَثَلًا وَكَانَ شَأْنُ الْأَمْثَالِ أَنْ تَكُونَ مُوجَزَةً صِيغَ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ فَحُذِفَ مِنْهُ متعلّق فعل (ينبّىء) ومتعلّق وَصْفِ خَبِيرٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ وَجْهُ الْمُمَاثَلَةِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُعِلَ خَبِيرٍ نَكِرَةً مَعَ أَن المُرَاد بِهِ خَبِيرٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ فَكَانَ حَقُّهُ التَّعْرِيفَ، فَعُدِلَ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ إِضَافَةَ كَلِمَةِ مِثْلُ إِلَى خَبِير لَا تفيده تَعْرِيفًا. وَجُعِلَ نَفْيُ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُنْبِئِ. وَلَعَلَّ التَّرْكِيبَ: وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ يُمَاثِلُ هَذَا الْخَبِيرَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِهِ، فَإِذَا أَرْدَفَ مُخْبِرٌ خَبَرَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِالْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ يُرِيدُ بِ خَبِيرٍ نَفْسَهُ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ وَبَيْنَ تَمَثُّلِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ.
فَالْمَعْنَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ مِثْلِي لِأَنِّي خَبِرْتُهُ، فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذَا التَّرْكِيب وَقد أغفل المفسّرون بَيَان هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَالْمِثْلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ: الْمُسَاوِي إِمَّا فِي قَدْرٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى ضَعْفٍ، وَإِمَّا الْمُسَاوِي فِي صِفَةٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى شَبِيهٍ وَهُوَ بِوَزْن فعل بِمَعْنى فَاعل وَهُوَ قَلِيلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شِبْهٌ، وندّ، وخدن.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ فِي مَحَلِّ حَالٍ ثَانِيَةٍ مِنَ «الْمُتَّقِينَ». وَالتَّقْدِيرُ: مَقُولًا لَهُمْ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَالْقَوْلُ: إِمَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٣٢]، وَإِمَّا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى نَظِيرُ قَوْلِهِ لِضِدِّهِمْ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمرَان:
١٨١].
وَالْإِشَارَةُ إِذَنْ إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُوعَدُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِتَشْرِيفِ الْمُتَّقِينَ بِعِزِّ الْحُضُورِ لِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي الْخِطَابُ لَهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ «يُوعَدُونَ» بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْتِفَاتٌ عَنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلِطَّاغِينَ لِزِيَادَةِ التَّنْكِيلِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ من «حسن المئاب»، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي كَذَلِكَ وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى أَهْلِ الْمَحْشَرِ لِتَنْدِيمِ الطَّاغِينَ وَإِدْخَالِ الْحَسْرَةِ وَالْغَمِّ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُشَاهَدِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْحِسابِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ وُعِدْتُمُوهُ لِأَجْلِ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَالْمَعْنَى لِأَجْلِ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَلَمَّا كَانَ الْحِسَابُ مُؤْذِنًا بِالْجَزَاءِ جُعِلَ الْيَوْمُ هُوَ الْعِلَّةُ. وَهَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ تَبَعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] تَنْزِيلًا لِلْوَقْتِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَوْقَاتُ الصَّلَوَات أَسبَاب.
[٥٤]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ٥٤]
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
يَجْرِي مَحْمَلُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ وَتَوْجِيهِ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَيْهِ. وَأُطْلِقَ الرِّزْقُ عَلَى النِّعْمَةِ كَمَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَالَ حِينَ
وَيَسْتَمِرُّ كَذَلِكَ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَبْرِيِّ وَالْقَدَرِيِّ، وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّفْرِيطِ.
وَتَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمُ:
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، وَكَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ لَهُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخَطَّابِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْله: وَيَوْم نحْشر أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: ١٩]، فَأُولَئِكَ تُلَاقِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْوَزْعِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَمْنِ. وَذِكْرُ التَّنَزُّلِ هُنَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنْ عُلْوِيَّاتِهِمْ لِأَجْلِهِمْ فَأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَهُمْ يَجِدُونَ الْمَلَائِكَةَ حُضَّرًا فِي الْمَحْشَرِ يَزَعُونَهُمْ وَلَيْسُوا يَتَنَزَّلُونَ لِأَجْلِهِمْ فَثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا كَرَامَةٌ كَكَرَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إِذْ يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَلَكَانِ هُمَا الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ كَانَا يَكْتُبَانِ أَعْمَالَهُ فِي الدُّنْيَا. وَلِتَضَمُّنِ تَتَنَزَّلُ مَعْنَى الْقَوْلِ وَرَدَتْ بَعْدَهُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ تَنَزُّلٌ خَفِيٌّ يُعْرَفُ بِحُصُولِ آثَارِهِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونَ الْخِطَابُ بِ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا بِمَعْنَى إِلْقَائِهِمْ فِي رُوعِهِمْ عَكْسَ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ الْقُرَنَاءِ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ يُلْقُونَ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ فَتَحِلُّ فِيهِمُ السَّكِينَةُ فَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ بِالثِّقَةِ بِحُلُولِهَا، وَيُلْقُونَ فِي نُفُوسِهِمْ نَبْذَ وِلَايَةِ مَنْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ فَإِنَّهُ تَقْيِيضٌ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ، وَيُوقِنُونَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: الَّتِي كُنْتُمْ تُعْتَبَرُ (كَانَ) فِيهِ مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ الْمُضَارِعُ فِي تُوعَدُونَ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِهِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
تَأْيِيدًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَوَعْدًا بِنَفْعِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٨]

لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
جُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ نَتِيجَةٌ لِلدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِرُبُوبِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ نَتِيجَةً لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِشِدَّةِ اقْتِضَاءِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِيَّاهَا.
وَجُمْلَةُ يُحْيِي وَيُمِيتُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِتَفَرُّدِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ فَكَمَا اسْتَدِلَّ عَلَيْهِمْ بِتَفَرُّدِهِ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ أَعْظَمِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَهِيَ حَالَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي شُرِّفَ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَكُرِّمَ أَيْضًا بِإِعْطَائِهَا لِلْحَيَوَانِ لِتَسْخِيرِهِ لِانْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ بِسَبَبِهَا، وَبِتَفَرُّدِهِ بِالْإِمَاتَةِ وَهِيَ سَلْبُ الْحَيَاةِ عَنِ الْحَيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لِلْحَيِّ. وَلَمَّا كَانَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ دَلِيلًا وَاضِحًا فِي أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ وَفِيمَا حَوْلَهُمْ مِنْ ظُهُورِ الْأَحْيَاءِ بِالْوِلَادَةِ وَالْأَمْوَاتِ بِالْوَفَاةِ يَوْمًا فَيَوْمًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَجْهَلُوا دَلَالَتَهُ بَلْهَ جُحُودِهِمْ إِيَّاهَا وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْمُخَاطَبِينَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِجَحْدِ الْأَدِلَّةِ وَبِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
وَعَطَفَ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لِيُسَجِّلَ عَلَيْهِمُ الْإِلْزَامَ بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]. وَوَصَفَهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَقْدَمَ الْآبَاءِ حُجَّةً أَعْظَمَ مِنَ الْآبَاءِ الْأَقْرَبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ:
٢٤].
[٩]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٩]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
بَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ رُدَّ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ وَمُقِرِّينَ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ إِقْرَارَهُمْ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ ثَابِتٍ بَلْ هُوَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ خَلَطُوهُ بِالشَّكِّ وَاللَّعِبِ فَارْتَفَعَتْ عَنْهُ خَاصِّيَّةُ الْيَقِينِ وَالْإِقْرَارِ الَّتِي هِيَ الْجَرْيُ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَجُرَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَتَجْدِيدِ مُلَاحَظَتِهِ

[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٥]

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
إِضْرَابٌ ثَانٍ تَابِعٌ لِلْإِضْرَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق:
٢] عَلَى طَرِيقَةِ تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ فِي مَقَامِ التَّنْدِيدِ وَالْإِبْطَالِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجَبَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ يَقْتَضِيَانِ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدُونِ عَاطِفٍ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَفْظَعَ مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَذَلِكَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْقُرْآنُ لِأَنَّ فِعْلَ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُدِّيَ إِلَى الْخَبَرِ وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ كَانَ لِتَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ.
ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتٍ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى رَبْطِ حُصُولِ جَوَابِهَا بِوَقْتِ حُصُولِ شَرْطِهَا فَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِمُبَادَرَةِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، وَقَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩] وَقَدْ مَضَيَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى جاءَهُمْ بَلَغَهُمْ وَأُعْلِمُوا بِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا نَظَرٍ فِيمَا حَوَاهُ مِنَ الْحَقِّ بَلْ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَكَذَّبُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ حَقٍّ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق: ٦- ١١]. فَالتَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ يَعُمُّ التَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ وَغَيْرِهِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِالْإِضْرَابِ وَصَفُ حَالِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمُبَادَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ بِأَنَّهَا أَمْرٌ مَرِيجٌ أَحَاطَ بِهِمْ وَتَجَلْجَلُوا فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ.
وأَمْرٍ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ شَيْءٍ، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا بَعْدَ حَرْفِ فِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْحَالَ الْمُتَلَبِّسُونَ هُمْ بِهِ تَلَبُّسَ الْمَظْرُوفِ بِظَرْفِهِ وَهُوَ تَلَبُّسُ الْمَحُوطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ فَاسْتِعْمَالُ فِي اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.

[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٤ إِلَى ٧]

إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةُ: ١] وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
وَالرَّجُّ: الْاِضْطِرَابُ وَالتَّحَرُّكُ الشَّدِيدُ، فَمَعْنَى: رُجَّتِ رَجَّهَا رَاجٌّ، وَهُوَ مَا يَطْرَأُ فِيهَا مِنَ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِهِ وَلِيَتَأَتَّى التَّنْوِينُ الْمُشْعِرُ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ.
وَالْبَسُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْتَّفَتُّتِ وَهُوَ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ الْمَجْمُوعَةِ، وَمِنْهُ الْبَسِيسَةُ مِنْ أَسْمَاءِ السَّوِيقِ أَيْ فُتِّتَتِ الْجِبَالُ وَنُسِفَتْ فَيَكُونُ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً [طه: ١٠٥، ١٠٦].
وَيُطْلَقُ الْبَسُّ أَيْضًا عَلَى السَّوْقِ لِلْمَاشِيَةِ، يُقَالُ: بَسَّ الْغَنَمَ، إِذَا سَاقَهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»
فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧]، وَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: ٢٠] وَتَأْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ: بَسًّا كَالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: رَجًّا لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ بِالتَّنْوِينِ.
وَتَفْرِيعُ فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا عَلَى بُسَّتِ الْجِبالُ لَائِق بمعنيي الْبَسِّ لِأَنَّ الْجِبَالَ إِذَا سُيِّرَتْ فَإِنَّمَا تَسِيرُ تَسْيِيرًا يُفَتِّتُهَا وَيُفَرِّقُهَا، أَيْ تَسْيِيرَ بَعْثَرَةٍ وَارْتِطَامٍ.
وَالْهَبَاءُ: مَا يَلُوحُ فِي خُيُوطِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مِنْ دَقِيقِ الْغُبَارِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢٣].
وَالْمُنْبَثُّ: اسْمُ فَاعِلِ انْبَثَّ، مُطَاوِعُ بَثَّهُ، إِذَا فَرَّقَهُ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْمُطَاوِعُ لِمُنَاسَبَتِهِ مَعَ قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ فِي أَنَّ الْمَبْنِيَّ لِلنَّائِبِ مَعْنَاهُ كَالْمُطَاوَعَةِ، وَقَوْلُهُ: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ فَكَانَتْ كَالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ.
وَالْخِطَابُ فِي: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وَهُوَ الْمَوْعِظَةُ.
فَأَيْقَظَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ فِيمَا تُوُهِّمَ مِنْ جَانِبِ غُرُورِهِمْ فَيَكُونُ ضُرُّهُمْ أَشُدَّ عَلَيْهِمْ وَفِي هَذَا الْإِيقَاظِ مَصْلَحَةٌ لِلدِّينِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
فَاحْذَرُوهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَنْ يَضُرُّوهُمْ، وَأَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَذَرِ وَبَيْنَ الْمُسَالَمَةِ وَذَلِكَ مِنَ الْحَزْمِ.
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيقٍ إِلَى الِاسْمِ لِيَتَمَكَّنَ مَضْمُونُ هَذَا الْخَبَرِ فِي الذِّهْنِ أَتَمَّ تَمَكُّنٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالْأَهَمِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨].
وعدوّ وَصْفٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِوَزْنِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَلِذَلِكَ لَزَمَ حَالَةَ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ إِذَا كَانَ وَصْفًا، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢]. فَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ فَيُطَابِقُ مَا أُجْرِي عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً [الممتحنة: ٢].
وَالْإِخْبَارُ عَنْ بَعْضِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ بِأَنَّهُمْ عَدُوٌّ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يُضْمِرُ عَدَاوَةً لِزَوْجِهِ وَبَعْضَهُمْ لِأَبَوَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ الْمُعَامَلَةِ بِمَا لَا يَرُوقُ عِنْدَهُ مَعَ خَبَاثَةٍ فِي النَّفْسِ وَسُوءِ تَفْكِيرٍ فَيَصِيرُ عَدُوًّا لِمَنْ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقًا، وَيَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ هَذِهِ الْعَدَاوَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَمِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَعْدَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْعَدُوِّ فِي الْمُعَامَلَةِ بِمَا هُوَ مِنْ شَأْنِ مُعَامَلَةِ الْأَعْدَاءِ كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: يَفْعَلُ الْجَاهِلُ بِنَفْسِهِ مَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ لِعَدُوِّهِ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَعُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَاحْذَرُوهُمْ جُمْلَةُ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إِلَى آخِرِهَا عَطْفَ الِاحْتِرَاسِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَفْوُ مَطْلُوبًا مَحْبُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الذَّنْبِ فَإِنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مُجَرَّدِ ظَنِّ الْعَدَاوَةِ أَجْدَرُ بِالطَّلَبِ فَفُهِمَ النَّهْيُ عَنْ مُعَامَلَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ لِأَجْلِ إِيجَاسِ الْعَدَاوَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْذِيرِ التَّوَقِّي وَأَخَذُ الْحِيطَةِ لِابْتِدَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: «الْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ»، أَيْ لَكِنْ دُونَ أَنْ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ مُعَامَلَةُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مَا ظَنَنْتَ
صَلُّوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] أَيْ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَفِي الْكِنَايَةِ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ وَالتَّرْغِيبِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ.
وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَهُوَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ كُلِّهِ وَشَيْءٌ مِنَ الْمَدَنِيِّ، وَلَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: ٤] كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ.
وَقَوْلُهُ: مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مِقْدَار مَا يجزىء مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُهَا فِي هَذَا الْمَهِيعِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ مَا تَيَسَّرَ مُجْمَلٌ وَقَدْ بَيَّنَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
، وَأَمَّا السُّورَةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ سُورَةٍ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْمُصَلِّي بَعْضَ سُورَةٍ فِي الْفَرِيضَةِ. وَيَجُوزُ فِي الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ وَفِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ،
فَفِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فَرَكَعَ»
، أَيْ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَة عَنهُ: تجزىء قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَتْ قَصِيرَةً وَمَثَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ [الرَّحْمَن: ٦٤] وَلَا تَتَعَيَّنُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي الْأَمْرَيْنِ.
وَتَعْيِينُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ مُنْفَرِدٍ وَإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَفِعْلُ (تَابَ) إِذَا أُرِيدَ بِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ التَّائِبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى مِنْ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ مِنْهُ عُدِّيَ بِمَا يُنَاسِبُ.
وَقَدْ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْدِيدَ مُدَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ بِنِصْفِهِ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أقل من ثلثه، وَأَصْحَاب التَّحْدِيدُ بِالْمِقْدَارِ الْمُتَيَسِّرِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، أَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ الْقِيَامِ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
التَّذْكِيرِ بِشَرَاشِرِهِ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ إِذَا عَاضَدَهُ إِقْبَالُ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمَأْمُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِرْضَاءِ الْخَاطِرِ.
فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعُ النَّتِيجَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ.
وَالْأَمْرُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ.
وَالتَّذْكِيرُ: تَبْلِيغُ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ عَبَسَ.
وَمَفْعُولُ فَذَكِّرْ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ فَذَكِّرِ النَّاسَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الْآيَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُعَلَّلَةِ وَعِلَّتِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْعُمُومِ الَّذِي اقْتَضَاهُ حَذْفُ مَفْعُولِ فَذَكِّرْ، أَيْ فَدُمْ عَلَى تَذْكِيرِ
النَّاسِ كُلِّهِمْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى جَمِيعَهُمْ، أَيْ وَهِيَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا الْبَعْضَ وَهُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى الْآيَةَ.
فَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ وَلَا تَقْيِيدًا لِمَضْمُونِهَا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: فَذَكِّرْ إِذَا كَانَ لِلذِّكْرَى نَفْعٌ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا تُذَكِّرَ إِذَا لَمْ تَنْفَعِ الذِّكْرَى، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ التَّذْكِيرِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الذِّكْرَى نَافِعَةً إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى تَعَرُّفِ مَوَاقِعِ نَفْعِ الذِّكْرَى، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥] مُؤَوَّلًا بِأَنَّ الْمَعْنَى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فَيَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ، بَلِ الْمُرَادُ فَذَكِّرِ النَّاسَ كَافَّةً إِنْ كَانَتِ الذِّكْرَى تَنْفَعُ جَمِيعَهُمْ، فَالشَّرْطُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْكِيكِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّرْطِ بِ (إِنْ) أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ، فَالدَّعْوَةُ عَامَّةٌ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْهُدَى وَعَدَمِهِ أَمْرٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَأَبُو جَهْلٍ مَدْعُوٌّ لِلْإِيمَانِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخُصَّ بِالدَّعْوَةِ مَنْ يُرْجَى مِنْهُمُ الْإِيمَانُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يَكْشِفُ الْمَقْدُورَ.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ فِي الْقَوْمِ مَنْ لَا تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنِ اجْتِلَابِ حَرْفِ (إِنِ) الْمُقْتَضِي عَدَمَ احْتِمَالِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ نُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ:


الصفحة التالية
Icon