وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَمُدُّ) إِلَى ضَمِيرِهِمُ الدَّالِّ عَلَى أَدَبٍ أَوْ ذَوْقٍ مَعَ أَنَّ الْمَدَّ إِنَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى الطُّغْيَانِ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَتَمَكَّنَ التَّفْصِيلُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ مِثْلُ طَرِيقَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ أَصْلَهُ وَيَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ فَحَذَفَ لَامَ الْجَرِّ وَاتَّصَلَ الْفِعْلُ بِالْمَجْرُورِ عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ وَلَيْسَ بِذَلِكَ.
وَالطُّغْيَانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الطَّغْيِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي
الشَّرِّ وَالْكِبْرِ وَتَعْلِيقُ فِعْلِ يَمُدُّهُمْ هُنَا بِضَمِيرِ الذَّوَاتِ تَعْلِيقٌ إِجْمَالِيٍّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: فِي طُغْيانِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ يَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ أَيْ يُمْهِلُهُمْ فَيَكُونُ نَحْوَ بَعْضِ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْوَاحِدِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالْعَمَهُ انْطِمَاسُ الْبَصِيرَةِ وَتَحَيُّرُ الرَّأْيِ وَفِعْلُهُ عَمِهَ فَهُوَ عَامِهٌ وَأَعْمَهُ.
وَإِسْنَادُ الْمَدِّ فِي الطُّغْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
وَيَمُدُّهُمْ إِسْنَادُ خَلْقٍ وَتَكْوِينٍ مَنُوطٍ بِأَسْبَابِ التَّكْوِينِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُصُولِ الْمُسَبَّبَاتِ عِنْدَ أَسْبَابِهَا. فَالنِّفَاقُ إِذَا دَخَلَ الْقُلُوبَ كَانَ مِنْ آثَارِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ وَصْفِ النِّفَاقِ أَنْ تُنْمِي عَنْهُ الرَّذَائِلُ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانهَا كَانَ تكونها فِي نُفُوسِهِمْ مُتَوَلِّدًا مِنْ أَسْبَابٍ شَتَّى فِي طِبَاعِهِمْ مُتَسَلْسِلًا مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَهِيَ شَتَّى وَمُتَفَرِّعَةٌ وَذَلِكَ بِخُلُقٍ خَاصٍّ بِهِمْ مُبَاشَرَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ تَوْفِيقَهُ الَّذِي يَقْلَعُهُمْ عَنْ تِلْكَ الجبلة بمحارية نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ حِرْمَانُهُ إِيَّاهُمُ التَّوْفِيقَ مُقْتَضِيًا اسْتِمْرَارَ طُغْيَانِهِمْ وَتَزَايُدَهُ بِالرُّسُوخِ فَإِسْنَادُ ازْدِيَادِهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ النُّظُمِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ ازْدِيَادِهِ، وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ الشَّائِعَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ لِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ خَلْقِ الْأَسْبَابِ بِحَسَبِ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ إِسْنَادِ مَا خَفِيَ فَاعِلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْجَاعِلُ لِنَوَامِيسِهَا بِكَيْفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ سِرَّهَا وَلَا شَاهَدُوا مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ بَنَى الْأَمِير الْمَدِينَة لَا سِيمَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبِنَاءِ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ مَجَالٌ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ: يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا وَسَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فِي الْعُرْفِ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: إِنَّهُ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أَعْجَبُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ حَالَةُ التَّنَاهِي فِي الْغُرُورِ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى افْتِتَانِهِمْ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى سَخِرُوا بِمَنْ لَمْ يَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَا هَدَاهُمُ الدِّينُ إِلَى وُجُوبِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ وَأَنْوَاعٍ تَنْطَوِي عَلَى خَبَائِثَ.
وَالسَّخَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: كَالْفَرَحِ وَقَدْ تُسَكَّنُ الْخَاءُ تَخْفِيفًا وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْمُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ مَشُوبٌ بِاحْتِقَارِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى وَصْفٍ نَفْسِيٍّ مِثْلُ عَجِبَ، وَيَتَعَدَّى بِمِنْ جَارَّةٍ لِصَاحِبِ الْحَالِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهَا فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَعْنَوِيًّا، وَفِي لُغَةِ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَوَجْهُ سُخْرِيَتِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ احْتَقَرُوا رَأْيَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّذَّاتِ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَأَفْنَوْهُمْ فِي ذَلِكَ وَرَأَوْهُمْ قَدْ أَضَاعُوا حُظُوظَهُمْ وَرَاءَ أَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي غَيْرِ نِعْمَةٍ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَا خُلُودَ فِي الدُّنْيَا وَلَا حَيَاةَ بَعْدَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (أَنْشَدَهُ شِمْرُ) :

وَأَحْمَقُ مِمَّنْ يَلْعَقُ الْمَاءَ قَالَ لِي دَعِ الْخَمْرَ وَاشْرَبْ مِنْ نَقَاخٍ (١) مَبَرَّدِ
فَالسُّخْرِيَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ لِيُفِيدَ تَقْيِيدَ حَالَةِ التَّزْيِينِ بِحَالَةِ السُّخْرِيَةِ، فَتَتَلَازَمُ الْحَالَانِ وَيُقَدَّرُ لِلْجُمْلَةِ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وهم يَسْخَرُونَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ بِلَالًا وَعَمَّارًا وَصُهَيْبًا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ تَرَكُوا الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ لِطَلَبِ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْآخِرَةِ وَهِيَ شَيْءٌ
بَاطِلٌ، وَمِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَالْمُنَافِقُونَ.
وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّزْيِينِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ السُّخْرِيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ قَضَاءً لِحَقَّيِ الدَّلَالَةِ على أَن مَعْنيين فِعْلِ التَّزْيِينِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَاضِيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ، وَأَنَّ مَعْنَى يَسْخَرُونَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَيُعْلِمُ السَّامِعَ أَنَّ مَا هُوَ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هُوَ أَيْضًا مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّ الشَّيْءَ الرَّاسِخَ فِي النَّفْسِ لَا تَفْتُرُ عَنْ تَكْرِيرِهِ، وَيُعْلِمُ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَمِرًّا هُوَ أَيْضًا مُحَقَّقٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَمِرُّ إِلَّا وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نَفْسِ فَاعِلِهِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَتُزَيَّنُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَسَخِرُوا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا اخْتِيرَ لِفِعْلِ التَّزْيِينِ خُصُوصُ الْمُضِيِّ
_________
(١) النقاخ: المَاء العذب.
وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَمَصْدَرُهُ فِي غَالِبِ مَعَانِيهِ الدَّرْسُ، وَمَصْدَرُ دَرَسَ بِمَعْنَى قَرَأَ يَجِيءُ عَلَى الْأَصْلِ دَرْسًا وَمِنْهُ سُمِّيَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ دَرْسًا.
وَيَجِيءُ عَلَى وَزْنِ الْفِعَالَةِ دِرَاسَةٌ وَهِيَ زِنَةٌ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ، مِثْلَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ، إِلْحَاقًا لِذَلِكَ بِمَصَادِرِ الصِّنَاعَاتِ كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَأْمُرُكُمْ» بِالرَّفْعِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْأَصْلُ فِيمَا إِذَا أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ فِعْلٍ مَنْفِيٍّ، ثُمَّ انْتَقَضَ نَفْيُهُ بِلَكِنْ، احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ: أَيْ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا إِلَخْ وَلَا هُوَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ أَرْبَابًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَنْ يَقُولَ وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِأَنْ: لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أُوتِيَ الْكِتَابَ أَلَا يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا، وَالْمَقْصُودُ عَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَ، فَلِذَلِكَ اضْطُرَّ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى جَعْلِ لَا زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلَيْسَتْ لِنَفْيٍ جَدِيدٍ. وَقَرَأَهُ الدُّورِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الضَّمَّةِ إِلَى السُّكُونِ.
وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَصَوَّرُوا صُوَرَ النَّبِيئِينَ، مِثْلَ يَحْيَى وَمَرْيَمَ، وَعَبَدُوهُمَا، وَصَوَّرُوا صور الْمَلَائِكَة، واقتران التَّصْوِيرُ مَعَ الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ الصُّورَةِ وَالتَّعَبُّدِ عِنْدَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «إِنْ قِيلَ نَفْيُ الْأَمْرِ أَعَمُّ مِنَ النَّهْيِ فَهَلَّا قِيلَ وَيَنْهَاكُمْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُمْ وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَى الرُّسُلِ». وَأَقُولُ: لَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِلَا يَأْمُرُكُمْ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ:
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَلَمَّا نُفِيَ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ نُفِيَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ أَرْبَابًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ كَانَ سَائِرُ أَحْوَالِهِمْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهَا مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ هَذَا مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ تَتَلَبَّسَ بِهِ أُمَّةٌ مُتَدَيِّنَةٌ فَاقْتَصَرَ، فِي الرَّدِّ عَلَى الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَبِالظَّرْفِ الْمُفِيدِ مَزِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
سَرَى وَقَارُ الْآبَاءِ إِلَى أَخَوَاتِ الْآبَاءِ، وَهُنَّ الْعَمَّاتُ، وَوَقَارُ الْأُمَّهَاتِ إِلَى أَخَوَاتِهِنَّ وَهُنَّ الْخَالَاتُ، فَمَرْجِعُ تَحْرِيمِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى قَاعِدَةِ الْمُرُوءَةِ التَّابِعَةِ لِكُلِّيَّةِ حِفْظِ الْعِرْضِ، مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الضَّرُورِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَظَاهِرِ الرُّقِيِّ الْبَشَرِيِّ. وَ (الْ) فِي قَوْلِهِ: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ بَنَاتُ أَخِيكُمْ وَبَنَاتُ أُخْتِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سَمَّى الْمَرَاضِعَ أُمَّهَاتٍ جَرْيًا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا هُنَّ بِأُمَّهَاتٍ حَقِيقَةً. وَلَكِنَّهُنَّ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ بِلِبَانِهِنَّ تَغَذَّتِ الْأَطْفَالُ، وَلِمَا فِي فِطْرَةِ الْأَطْفَالِ مِنْ مَحَبَّةٍ لِمُرْضِعَاتِهِمْ مَحَبَّةَ أُمَّهَاتِهِمُ الْوَالِدَاتِ، وَلِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْعَرَبُ ثُمَّ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الأمّهات إِذْ لَوْلَا قَصْدُ إِرَادَةِ الْمُرْضِعَاتِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الْوَصْفِ جَدْوَى.
وَقَدْ أُجْمِلَتْ هُنَا صِفَةُ الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتُهُ وَعَدَدُهُ إِيكَالًا لِلنَّاسِ إِلَى مُتَعَارَفِهِمْ. وَمِلَاكُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ الْغِذَاءُ الَّذِي لَا غِذَاءَ غَيْرَهُ لِلطِّفْلِ يَعِيشُ بِهِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي دَوَامِ حَيَاةِ الطِّفْلِ مَا يُمَاثِلُ أَثَرَ الْأُمِّ فِي أَصْلِ حَيَاةِ طِفْلِهَا. فَلَا يُعْتَبَرُ الرَّضَاعُ سَبَبًا فِي حُرْمَةِ الْمُرْضِعِ عَلَى رَضِيعِهَا إِلَّا مَا اسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي مُدَّةِ عَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الطِّفْلِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»
. وَقد حُدِّدَتْ مُدَّةُ الْحَاجَّةِ إِلَى الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَلَا اعْتِدَادَ بِالرَّضَاعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ تَجَاوُزِ الطِّفْلِ حَوْلَيْنِ مِنْ عُمْرِهِ، بِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُدَّةُ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ:
حَوْلَانِ وَأَيَّامٌ يَسِيرَةٌ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: حَوْلَانِ وَشَهْرَانِ. وَرَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: وَالشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَلَا
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ الْقِيَاسِ، أَيْ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فاسِقُونَ. فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ وفاسِقُونَ كَافِرُونَ، فَلَا عَجَبَ فِي مُوَالَاتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لِاتِّحَادِهِمْ فِي مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ. فَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ أُعِيدَتِ النَّكِرَةُ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ إِعَادَتُهَا مَعْرِفَةً. أَلا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: ٥، ٦]. وَلَيْسَ ضَمِيرٌ مِنْهُمْ عَائِدًا إِلَى كَثِيراً إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْكَثِيرِ فَاسِقُونَ بَلِ المُرَاد كلّهم.
وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٢].
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَرِيقٌ عُرِفُوا بِحَالِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَاخْتُصَّتْ بِهِمْ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكِينَ كُلَّهُمْ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِالْمِلَّةِ وَالنِّحْلَةِ فَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فَبَيْنَهُمُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ. وَهَذَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ ذَرِ بِمَعْنَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِدِينِهِمْ لِقَصْدِ عَدَمِ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ فَرِيقًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سُفَهَاءَ اتَّخَذُوا دَأْبَهُمُ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِمَعْنَى الْعَادَةِ فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ.
وَغَرَّتْهُمُ أَيْ خَدَعَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَظَنُّوا أَنَّهَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَأَنَّ نَعِيمَهَا دَائِمٌ لَهُمْ بَطَرًا مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُرُورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦].
وَذِكْرُ الْحَيَاةِ هُنَا لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَنَّ هَمَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الْحَيَاةُ فِيهَا لَا مَا يتكسب فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا سَعَادَةُ الْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَأَوْهَمَتْهُمْ أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام:
٢٩].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي وَذَكِّرْ بِهِ عَائِد إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَبِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥]. وَحَذَفَ مَفْعُولَ ذَكِّرْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ ذَكِّرْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ،
هُوَ الرَّمْيُ بِمَعْنَى أَثَرِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُقُوعِ الرَّمْيِ مِثْلَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الرَّمْيَ وَاقِعٌ مِنْ يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْيِ إِصَابَةُ عُيُونِ أَهْلِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَحْصُلُ بِرَمْيِ الْيَدِ، لِأَنَّ أَثَرَ رَمْيِ الْبَشَرِ لَا يَبْلُغُ أَثَرُهُ مَبْلَغَ تِلْكَ الرَّمْيَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَثَرِهَا مَا عَمَّ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، عُلِمَ انْتِفَاءُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّمْيَةُ مَدْفُوعَةً بِيَدِ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهَا مَدْفُوعَةٌ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى كَالْقَوْلِ فِي وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ وَلكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِمَا.
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- وَما رَمَيْتَ الْآيَةَ.
فَإِنَّ قَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِصَابَةَ أَعينهم كَانَا الْغَرَض هَزْمِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُبْلِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا أَيْ يُعْطِيَهُمْ عَطَاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَنْ قِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمَّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهُمْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ هَذَا الْفِعْلِ هِيَ الْبَلَاءُ وَجَاءَ مِنْهُ الْإِبْلَاءُ بِالْهَمْزِ وَتَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ أَغْفَلَهُ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَمَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُضَارِعُ أَبْلَاهُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْبَلْوَى الَّذِي أَصله الِاخْتِيَار ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِصَابَةِ أَحَدٍ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ تَأَثُّرِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْإِصَابَةَ بِخَيْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ
وَشَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْكِنَائِيُّ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، وَبَقِيَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ صَالِحًا لِلْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْلَاهُ مَهْمُوزٌ أَيْ أَصَابَهُ بِخَيْرٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: «يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً وَمِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً».
قُلْتُ: جَعَلُوا الْهَمْزَةَ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْإِزَالَةِ أَيْ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ الَّذِي غَلَبَ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلاءً حَسَناً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفعل يبلي موكد لَهُ، لِأَنَّ فِعْلَ يُبْلِي دَالٌّ عَلَى بَلَاءٍ حَسَنٍ
وَالْفَيْضُ وَالْفَيَضَانُ: خُرُوجُ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَارِهِ وَوِعَائِهِ، وَيُسْنَدُ إِلَى الْمَائِعِ حَقِيقَةً.
وَكَثِيرًا مَا يُسْنَدُ إِلَى وِعَاءِ الْمَائِعِ، فَيُقَالُ: فَاضَ الْوَادِي، وَفَاضَ الْإِنَاءُ. وَمِنْهُ فَاضَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فَاضَ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا كُلَّهَا دَمْعٌ فَائِضٌ، فَقَوْلُهُ: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ جَرَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ.
ومِنَ لِبَيَانِ مَا مِنْهُ الْفَيْضُ. وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٨٣].
وحَزَناً نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لأَجله، وأَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ
مَحْذُوفٍ أَيْ حَزِنُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ.
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعَةٍ وَقِيلَ: فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي أَسْمَائِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ وَلُقِّبُوا بِالْبَكَّائِينَ لِأَنَّهُمْ بَكَوْا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمْلَانِ حَزَنًا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَرَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ يَسْتَحْمِلُونَهُ فَلَمْ يَجِدْ لَهُمْ حَمُولَةً وَصَادَفُوا سَاعَةَ غَضَبٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ ثُمَّ جَاءَهُ نَهْبُ إِبِلٍ فَدَعَاهُمْ وَحَمَلَهُمْ وَقَالُوا: اسْتَغْفَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعُوا وَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ:
«مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الْمَعْنِيِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ قَدْ حَمَلَهُمُ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ قِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ٩٩] الْآيَة.
وَمَاذَا بِمَعْنَى مَا الَّذِي، و (مَا) اسْتِفْهَام، و (ذَا) أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ، وَهُوَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا) قَامَ مَقَامَ اسْمٍ مَوْصُولٍ. وفِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَائِمٌ مَقَامَ صِلَةِ الْمَوْصُولِ.
وَأَصْلُ وَضْعِ التَّرْكِيبِ: مَا هَذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ فِي مَعْنَى: مَا الَّذِي. وَالْمَقْصُودُ: انْظُرُوا مَا يَدُلُّكُمْ عَلَى جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَالَةٌ فَهُوَ مُرَادٌ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ بِتَرْكِيبِهِ فِي صُورَةِ مَفْعُولَيْنِ، نَحْوَ: انْظُرُوا الشَّمْسَ طَالِعَةً، وَانْظُرُوا السَّحَابَ مُمْطِرًا، وَهَكَذَا، وَكُلُّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ آيَةٌ فَهُوَ مُرَادٌ بِالنَّظَرِ الْبَصَرِيِّ نَحْوَ: انْظُرُوا إِنْبَاتَ الْأَرْضِ بَعْدَ جَدْبِهَا فَهُوَ آيَةٌ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ. فَ (ذَا) لَمَّا قَامَ مَقَامَ اسْمِ الْمَوْصُولِ صَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَجْرَامِ وَأَعْرَاضِهَا الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَخَصُّ ذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْأَةِ دَعْوَتِهِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى كَمَالِهِ وَصِدْقِهِ.
وَقَدْ طُوِيَ فِي الْكَلَامِ جَوَابُ الْأَمْرِ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ عَقِبَ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ، فَالتَّقْدِيرُ:
انْظُرُوا تَرَوْا آيَاتٍ مُوصِلَةٍ إِلَى الْإِيمَانِ.
وَجُمْلَةُ: وَما تُغْنِي الْآياتُ مُعْتَرِضَةٌ ذُيِّلَتْ بِهَا جُمْلَةُ: انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً لِمَقُولِ الْقَوْلِ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى أَبْلِغْهُمْ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ تُغْنِي الْآيَاتُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ لَا تُؤْمِنُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ:
انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُفِيدًا أَنَّ ذَلِكَ آيَاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ حَسُنَ وَقْعُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْآيَاتِ هُنَا، فَمَعْنَى وَما تُغْنِي الْآياتُ: وَمَا يُغْنِي مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالْآيَاتِ كَالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَزِيدَتِ (النُّذُرُ) فَعُطِفَتْ عَلَى الْآيَاتِ لِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ دَلَالَةٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ كَالتَّذْيِيلِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠٧]

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِشَارَةُ ذَلِكَ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠٦].
وَضَمِيرُ بِأَنَّهُمُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ١٠٦] سَوَاء كَانَ مَا صدق مَنْ مُعَيَّنًا أَوْ مَفْرُوضًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَمَدْخُولُهَا سَبَبٌ.
واسْتَحَبُّوا مُبَالَغَةٌ فِي (أَحَبُّوا) مِثْلَ اسْتَأْخَرَ وَاسْتَكَانَ. وَضَمَّنَ (اسْتَحَبُّوا) معنى (فضّلوا) فعدي بِحَرْفِ (عَلَى)، أَيْ لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا نَفْعَ الدُّنْيَا عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ أَحَقِّيَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَا رَجَعُوا عَنْهُ إِلَّا خَوْفَ الْفِتْنَةِ أَوْ رَغْبَةً فِي رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، فَيَكُونُ كُفْرُهُمْ أَشَدَّ مَنْ كُفْرِ الْمُسْتَصْحِبِينَ لِلْكُفْرِ مِنْ قَبْلِ الْبَعْثَةِ.
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ سَبَبٌ ثَانٍ لِلْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، أَيْ وَبِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الْهِدَايَةَ فَهُمْ مُوَافُونَهُ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ [سُورَة النَّحْل: ١٠٤].
وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا فِي صِيغَةِ الْقَوْمَ الْكافِرِينَ مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَلَكِنَّهُ عُمُومٌ بَعْدَ خُصُوصٍ.
وَإِقْحَامُ لَفْظِ (قَوْمَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُمْ فَقَدْ عُرِفُوا بِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَصَارَ سَجِيَّةً حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَجْمَعُهُمْ هَذَا الْوَصْفُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَرَيَانَ وَصْفٍ أَوْ خَبَرٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمَ) يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ
يَأْذَنَ اللَّهُ لَكَ بِأَنْ تَقُولَهُ. وَعَلِيهِ فالمصدر المسبك مِنْ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْمَنْهِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولُ يَشاءَ اللَّهُ
مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا قَوْلًا شَاءَهُ اللَّهُ فَأَنْتَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ أَنْ تَقُولَهُ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَام النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ إِلَّا قَوْلًا مُقْتَرِنًا بِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ (أَنْ) وَالْفِعْلِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِ (أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أَيْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مُلَابسَة القَوْل لحقيقة الْمَشِيئَةِ مُحَالٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَلَبُّسُهُ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ بِلَفْظِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ إِذْنُ اللَّهِ لَهُ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَرَامَة للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْأُولَى: أَنَّهُ أَجَابَ سُؤْلَهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ إِيَّاهُ عَلَى خِلَافِ عَادَةِ اللَّهِ مَعَ الْمُكَابِرِينَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ عِلْمًا عَظِيمًا من أدب النبوءة.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَجَابَ سُؤْلَهُ اسْتِئْنَاسًا لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَادِرَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَهُ، كَيْلَا يَتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ إِجَابَةِ سُؤَالِهِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ تَأْدِيبِ الْحَبِيبِ الْمُكَرَّمِ. وَمِثَالُهُ مَا
فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ
وَالنَّبْذُ: إِلْقَاءُ مَا فِي الْيَدِ.
وَالْأَثَرُ: حَقِيقَتُهُ: مَا يَتْرُكُهُ الْمَاشِي مِنْ صُورَةِ قَدَمِهِ فِي الرَّمْلِ أَوِ التُّرَابِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه: ٨٤].
وعَلى حمل هَذِه الْكَلِمَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ الرَّسُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ، وَرَوَوْا قِصَّةٌ قَالُوا: إِنَّ السَّامِرِيَّ فَتَنَهُ اللَّهُ، فَأَرَاهُ اللَّهُ جِبْرِيلَ رَاكِبًا فَرَسًا فَوَطِئَ حَافِرُ الْفَرَسِ مَكَانًا فَإِذَا هُوَ مُخْضَرٌّ بِالنَّبَاتِ. فَعَلِمَ السَّامِرِيُّ أَنَّ أَثَرَ جِبْرِيلَ إِذَا أُلْقِيَ فِي جَمَادٍ صَارَ حَيًّا، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ وَصَنَعَ عجلا وَألقى القبضة عَلَيْهِ فَصَارَ جَسَدًا، أَيْ حَيًّا، لَهُ خُوَارٌ كَخُوَارِ الْعِجْلِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ بِالنَّبْذِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَا وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَلَعَلَّهَا تَسَرَّبَتْ لِلنَّاسِ مِنْ رِوَايَاتِ الْقَصَّاصِينَ.
فَإِذَا صُرِفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ السِّتُّ إِلَى مَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ كَانَ بَصُرْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَاهْتَدَيْتُ، أَيِ اهْتَدَيْتُ إِلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَهُوَ عِلْمُ صِنَاعَةِ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ الَّذِي بِهِ صُنِعَ الْعِجْلُ، وَعِلْمُ الْحِيَلِ الَّذِي أَوْجَدَ بِهِ خُوَارَ الْعِجْلِ، وَكَانَتِ الْقَبْضَةُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْقَلِيلِ، وَكَانَ الْأَثَرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ، أَيِ الشَّرِيعَةِ، وَكَانَ نَبَذْتُ بِمَعْنَى أَهْمَلْتُ وَنَقَضْتُ، أَيْ كُنْتُ ذَا مَعْرِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ فَانْخَلَعْتُ عَنْهَا بِالْكُفْرُ. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الرَّسُولِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ مِنَ اللَّهِ وُأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.
وَكَانَ الْمَعْنَى: إِنِّي بِعَمَلِيَ الْعِجْلَ لِلْعِبَادَةِ نَقَضْتُ اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ مُوسَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اعْتَرَفَ أَمَامَ مُوسَى بِصُنْعِهِ الْعِجْلَ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ جَهِلَ فَضَلَّ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ سَوَّلَتْهُ لَهُ نَفْسُهُ.
وَالتَّصْدِيرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُخَبَرَ عَنْهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لِأَنَّهُمْ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ (١) فَالنِّجَاءَ النِّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا (٢) وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ (٣)، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ من الحقّ»
. [٥٢- ٥٤]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : الْآيَات ٥٢ إِلَى ٥٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
_________
(١) الْعُرْيَان: الْمُجَرّد من الثِّيَاب- والنذير الْعُرْيَان مثل أَصله: أَن أحد الْقَوْم إِذا رأى عدوا يُرِيد غرَّة قومه وَلم يجد شَيْئا يُشِير بِهِ نزع ثَوْبه فألوى بِهِ أَي لوح.
(٢) أدلجوا بِهَمْزَة قطع مَفْتُوحَة وبسكون الدَّال أَي: سَارُوا فِي دلجة اللَّيْل، أَي: ظلامه.
(٣) الْمهل- بِفتْحَتَيْنِ- عدم العجلة، أَي: انْطَلقُوا غير فزعين.
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فِي مَوْقِعِ التَّصْرِيحِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي
قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْأَطْفَالَ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ تَغَيَّرَ حُكْمُهُمْ فِي الِاسْتِئْذَانِ إِلَى حُكْمِ اسْتِئْذَانِ الرِّجَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور: ٢٧] الْآيَاتِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَوِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمْ كَانُوا رِجَالًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أُولَئِكَ الْأَطْفَالُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ بِالتَّكْرِيرِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَالِامْتِنَانِ. وَإِنَّمَا أُضِيفَتِ الْآيَاتُ هُنَا لضمير الْجَلالَة تفننا وَلِتَقْوِيَةِ تَأْكِيدِ مَعْنَى كَمَالِ التَّبْيِينِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ. وَتَأْكِيدُ مَعْنَى الْوَصْفَيْنِ «الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ». أَيْ هِيَ آيَاتٌ مِنْ لَدُنْ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ وَمِنْ تِلْكَ صِفَات بَيَانه.
[٦٠]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٦٠]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: ٣١].
وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ هُنَا أَنَّهُ وَقَعَ بعد فرض الاستيذان فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَضَعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهَا ثِيَابَهُمْ عَنْ أَجْسَادِهِمْ، فَعَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ عَنْ لَابِسِهَا وَهُوَ وَضْعُ النِّسَاءِ الْقَوَاعِدِ بَعْضَ ثِيَابِهِنَّ عَنْهُنَّ فَاسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ النِّسَاءُ الْمُتَقَدِّمَاتُ فِي السِّنِّ بِحَيْثُ بَلَغْنَ إِبَّانَ الْإِيَاسِ مِنَ الْمَحِيضِ فَرَخَّصَ لَهُنَّ أَنْ لَا يَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، وَأَنْ لَا يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ:
الثِّيَابُ الْجِلْبَابُ، أَيْ الرِّدَاءُ وَالْمُقَنَّعَةُ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَجُوزُ لَهُنَّ وَضْعُ الْخِمَارِ أَيْضًا.
وَ (أَشِحَّةً) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَأْتُونَ. وَالشُّحُّ: الْبُخْلُ بِمَا فِي الْوُسْعِ مِمَّا يَنْفَعُ الْغَيْرَ.
وَأَصْلُهُ: عَدَمُ بَذْلِ الْمَالِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مَنْعِ الْمَقْدُورِ مِنَ النَّصْرِ أَوِ الْإِعَانَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَبْخُولِ بِهِ بِالْبَاءِ وب عَلَى قَالَ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الشَّخْصِ الْمَمْنُوعِ بِ عَلَى أَيْضًا لِمَا فِي الشُّحِّ مِنْ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فَتَعْدِيَتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ مِنَ التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَمْنُوعِ.
وَالْمَعْنَى: يَمْنَعُونَكُمْ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنَ الْمَالِ أَوِ الْمَعُونَةِ، أَيْ: إِذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ مَنَعُوا فَائِدَتَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَاعُوا وَمِنْ ذَلِكَ شُحُّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَكُلِّ مَا يُشَحُّ بِهِ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ عَلَى هُنَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى الْمُضْنُونِ بِهِ، أَيْ كَمَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ:
لَقَدْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ عَلَيْكَ أَشِحَّةً بِنَفْسِكَ إِلَّا أَنَّ مَا طَاحَ طَائِحُ
وَجَعَلَ الْمَعْنَى: أَشِحَّةً فِي الظَّاهِرِ، أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَيْكُمُ الْهَلَاكَ فَيَصُدُّونَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَيُحَسِّنُونَ إِلَيْكُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ». وَفُرِّعَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالشُّحِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ إِلَى آخِرِهِ.
وَالْمَجِيءُ: مَجَازٌ مَشْهُورٌ مِنْ حُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الْإِسْرَاء: ٧].
والْخَوْفُ: تَوَقُّعُ الْقِتَالِ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ. وَالْمَقْصُودُ:
وَصْفُهُمْ بِالْجُبْنِ، أَيْ: إِذَا رَأَوْا جُيُوشَ الْعَدُوِّ مُقْبِلَةً رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا حَصَلَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ مِنَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْفُرْسَانِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ مِنْ أَضْيَقِ جِهَاتِهِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْخطاب فِي رَأَيْتَهُمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حَالَةٍ وَقَعَتْ لَا فَرْضُ وُقُوعِهَا وَلِهَذَا أُتِيَ بِفِعْلِ رَأَيْتَهُمْ وَلَمْ يَقُل: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ يَنْظُرُونَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَادِي حَاجِزُ الْأَرْضِ. فَهَذَا إِطْنَابٌ أَفَادَ مَعْنًى لَا يُفِيدُهُ الْإِيجَازُ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ الْمَوْتَى.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ أُورِدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اسْمًا لَهُ أَفْرَادٌ بِخِلَافِ النُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَأَمَّا جَمْعُ الظُّلُماتُ فَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَهُ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَفَادَتْ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُعَالَجَةِ تَسْمِيعِهِمُ الْحَقَّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لِلْمُشَابِهِينَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَلَسْتَ بمدخل الْإِيمَان فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمَعْذِرَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ إِذْ كَانَ مُهْتَمًّا مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
وَالنَّذِيرُ: الْمُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ أَوْ مُؤْلِمٍ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَصْفِهِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُصَمِّمِينَ على الْكفْر.
[٢٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٤]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَصْرُهُ عَلَى النِّذَارَةِ قَصْرًا حَقِيقًا لِتَبَيُّنِ أَنَّ قَصْرَهُ عَلَى النِّذَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَابَهَ حَالُهُمْ حَالَ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، أَيْ إِنَّ رِسَالَتَكَ تَجْمَعُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً فَالْبِشَارَةُ لِمَنْ قَبِلَ الْهُدَى، وَالنِّذَارَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْقَبُولِ، فَهِيَ رِسَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا.
فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي أَرْسَلْناكَ أَيْ مُحِقِّينَ غَيْرَ لَاعِبِينَ، أَوْ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ، أَيْ مُحِقًّا أَنْتَ غَيْرَ كَاذِبٍ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا مُلَابَسًا بِالْحَقِّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا صَدَّهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ
خَلْقِ آدَمَ وَشَقَاءِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَمَا يَبِينُ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١] جُعِلَ هَذَا كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْقِصَّةِ تَشْوِيقًا لِتَلَقِّيهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّبَأِ نَبَأَ خَلْقِ آدَمَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ يَخْتَصِمُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى لِأَنَّ الْمَلَأَ جَمَاعَةٌ. وَيُرَادُ بِالِاخْتِصَامِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرُ اللَّهِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَكَانَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ فَعُدَّ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُطْرَدَ مِنَ السَّمَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ إِلَخْ تَذْيِيلًا لِلَّذِي سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٩] إِلَى هُنَا، تَذْيِيلًا يُشْعِرُ بِالتَّنْوِيهِ بِهِ وَبِطَلَبِ الْإِقْبَالِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ أُتِيَ لِتَعْرِيفِهِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّبَأِ: خَبَرُ الْحَشْرِ وَمَا أُعِدَّ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ حُسْنِ مَآبٍ، وَلِلطَّاغِينَ مِنْ شَرِّ مَآبٍ، وَمِنْ سُوءِ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَتَرَاشُقِهِمْ بِالتَّأْنِيبِ وَالْخِصَامِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَتَرَدُّدِهِمْ فِي سَبَبِ أَنْ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ
الْأَشْرَارِ. وَوَصْفُ النَّبَأِ ب عَظِيمٌ تهويل عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ١- ٣]. وَعَظَمَةُ هَذَا النَّبَأِ بَيْنَ الْأَنْبَاءِ مِنْ نَوْعِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الشَّرِّ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: ٧٣]، فَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.
فَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِلَى قَوْلِهِ: نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبَأِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ وَحْيٌ لَمَا كَانَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلٌ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمرَان: ٤٤]، وَنَظَائِرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُمْلَتَانِ أَنَّ مِثْلَكَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَمَا هِيَ بِالْأَمْرِ الْهَيِّنِ لكل أحد.
[٣٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٦]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: ٣٥]، فَبَعْدَ أَنْ أَرْشَدَ إِلَى مَا هُوَ عَوْنٌ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَبَعْدَ أَنْ شُرِحَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِقَوْلِهِ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:
٣٤] صَرَفَ الْعِنَانَ هُنَا إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَائِقِهَا الَّتِي تَجْتَمِعُ كَثْرَتُهَا فِي حَقِيقَةِ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، فَأُمِرَ بِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَدْعُوهُ إِلَى دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ دَوَاؤُهُ أَنْ تَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعِيذَهُ إِذَا اسْتَعَاذَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ تَجْدِيدُ دَاعِيَةِ الْعِصْمَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ اسْتِمْدَادٌ لِلْعِصْمَةِ وَصَقْلٌ لِزُكَاءِ النَّفْسِ مِمَّا قَدْ يَقْتَرِبُ مِنْهَا مِنَ الْكُدُرَاتِ. وَهَذَا سِرٌّ مِنَ الِاتِّصَالِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
، فَبِذَلِكَ تَسْلَمُ نَفْسُهُ مِنْ أَنْ يَغْشَاهَا شَيْءٌ مِنَ الْكُدُرَاتِ وَيَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»
. ثُمَّ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ
عِبادَ اللَّهِ مُبْطِلٌ لِحُسْبَانِ الْقِبْطِ إِيَّاهُمْ عَبِيدًا كَمَا قَالَ: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] وَإِنَّمَا هُمْ عِبَادُ
اللَّهِ، أَيْ أَحْرَارٌ فَعِبَادُ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحُرِّيَّةِ كَقَوْلِ بِشَارٍ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ:
أَصْبَحْتَ مَوْلَى ذِي الْجَلَالِ وَبَعْضُهُمْ مَوْلَى الْعَبِيدِ فَلُذْ بِفَضْلِكَ وَافْخَرِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَدُّوا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَدَّوْا إِلَيَّ الطَّاعَةَ وَيَكُونُ عِبادَ اللَّهِ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى دُعَاءِ فِرْعَوْنَ لِلْإِيمَانِ وَأَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُؤْمِنَ ثَبَتَتِ الْمُكَافَحَةُ فِي أَنْ يُرْسِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِتَسْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَيْهِ، أَيْ لِأَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَأَنَا أَمِينٌ، أَيْ مُؤْتَمَنٌ عَلَى أَنِّي رَسُولٌ لَكُمْ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى رَسُولٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ الْإِرْسَالِ بِأَنَّهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُعْطُوهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ إِرْسَالِهِ لِتَحْرِيرِ أُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: لَكُمْ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ مُوسَى قَدْ أَبْلَغَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ رِسَالَتَهُ مَعَ التَّبْلِيغِ إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يُونُس: ٨٣]، وَلِيَكُونَ امْتِنَاعُ فِرْعَوْنَ مِنْ تَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَرِّرًا لِانْسِلَاخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ طَاعَةِ فِرْعَوْنَ وَفِرَارِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ.
وَعَطَفَ عَلَى طَلَبِ تَسْلِيمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَهْيًا عَنِ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ إِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ أَنَفَةً مِنَ الْحَطِّ مِنْ عَظَمَتِهِ فِي أَنْظَارِ قَوْمِهِمْ فَقَالَ: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلُوَا عَلَى أَمْرِهِ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمَّا كَانَ الِاعْتِلَاءُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ تَرْفِيعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى وَاجِبِ امْتِثَالِ رَبِّهِمْ جَعَلُوا فِي ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ يَتَعَالَوْنَ عَلَى اللَّهِ.
وأَنْ لَا تَعْلُوا عَطْفٌ عَلَى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ. وَأُعِيدَ حَرْفُ أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ التَّفْسِيرِ لِمَدْلُولِ الرِّسَالَةِ. وَلَا نَاهِيَةٌ، وَفِعْلُ تَعْلُوا مَجْزُومٌ بِ لَا النَّاهِيَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عِلَّةٌ جَدِيرَةٌ بِالْعَوْدِ إِلَى الْجمل الثَّلَاث
وَهَذِهِ الْأُمَمُ أَصَابَهَا عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَالرَّسُّ: يُطْلَقُ اسْمًا لِلْبِئْرِ غَيْرِ الْمَطْوِيَّةِ وَيُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلدَّفْنِ وَالدَّسِّ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا. وأَصْحابُ الرَّسِّ قَوْمٌ عُرِفُوا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الرَّسِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَوْطِنِهِ مِثْلَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وأَصْحابُ الْحِجْرِ [الْحِجْرِ: ٨٠] وأَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةً إِلَى حَدَثٍ حَلَّ بِهِمْ مِثْلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: ٤]. وَفِي تَعْيِينِ أَصْحابُ الرَّسِّ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِضَافَةَ أَصْحابُ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ اسْمٍ إِلَى حَدَثٍ حَدَثَ فِيهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ عُوقِبُوا بِخَسْفٍ فِي الْأَرْضِ فَوَقَعُوا فِي مِثْلِ الْبِئْرِ. وَقِيلَ: هُوَ بِئْرٌ أَلْقَى أَصْحَابُهُ فِيهِ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ حَيًّا فَهُوَ إِذَنْ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ وَقِيلَ هُوَ فَلَجٌ مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسِّ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٨] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ.
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَقَوْمُ تُبَّعٍ هُمْ حِمْيَرُ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ.
وَجُمْلَةُ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى آخِرِهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَحَقَّ وَعِيدِ فَيكون تهديد بِأَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ كَمَا حَقَّ عَلَى أُولَئِكَ مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تشريف للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلرُّسُلِ السَّابِقِينَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحُورٌ عِينٌ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ حُورٌ عطف على بِأَكْوابٍ عُطِفَ مَعْنَى مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا بِتَقْدِيرِ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ، أَوْ يُعْطَفُ عَلَى جَنَّاتِ، أَيْ وَفِي حُورٍ عِينٍ، أَيْ هُمْ فِي حُورٍ عِينٍ أَوْ مُحَاطُونَ بِهِنَّ وَمُحَدِّقُونَ بِهِنَّ.
وَالْمُرَادُ: أَزْوَاجُ السَّابِقَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْمَقْصُورَاتُ فِي الْخِيَامِ.
وَالْأَمْثَالُ: الْأَشْبَاهُ. وَدُخُولُ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى (أَمْثَالِ) لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]. وَالْمَعْنَى: هُنَّ أَمْثَالُ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ.
واللُّؤْلُؤِ: الدُّرُّ، وَتَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٢٣].
والْمَكْنُونِ: الْمَخْزُونُ الْمُخَبَّأُ لِنَفَاسَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: الْمُقَرَّبُونَ
[الْوَاقِعَة: ١١]، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزاءً مَصْدَرًا جَاءَ بَدَلًا عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً.
وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اعْتِرَاضٌ تُفِيدُ إِظْهَارَ كَرَامَتِهِمْ بِحَيْثُ جَعَلَتْ أَصْنَاف النَّعيم الَّذين حَظُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ قَدَّمُوهُ وَذَلِكَ إِتْمَامٌ لِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ.
ثُمَّ أَكْمَلَ وَصْفَ النَّعِيمِ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، وَهِيَ نِعْمَةٌ رُوحِيَّةٌ فَإِنَّ سَلَامَةَ النَّفْسِ مِنْ سَمَاعِ مَا لَا يُحِبُّ سَمَاعَهُ وَمِنْ سَمَاعِ مَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ مِنَ الْأَذَى نِعْمَةٌ بِرَاحَةِ الْبَالِ وَشُغْلِهِ بِسَمَاعِ الْمَحْبُوبِ.
وَاللَّغْوُ: الكَّلَامُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالْهَذَيَانِ، وَالكَّلَامُ الَّذِي لَا مُحَصِّلَ لَهُ.
وَالتَّأْثِيمُ: اللَّوْمُ وَالْإِنْكَارُ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَثَّمَ، إِذَا نَسَبَ غَيْرَهُ إِلَى الْإِثْمِ.
إِرَاحَتِهِمَا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا فَأَحَلَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَاجِيٌّ وَلَكِنَّهُ مَا أَحَلَّهُ إِلَّا لِدَفْعِ الضُّرِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِذْنُ فِيهِ ذَرِيعَةً لِلنِّكَايَةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ. أَوْ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمَا، أَوْ لِقَصْدِ تَبْدِيلِ الْمَذَاقِ. وَلِذَلِكَ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»
. وَتَعْلِيقُ طَلَّقْتُمُ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الطَّلَاقَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي عَلَاقَةِ الزَّوْجَيْنِ
الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: ٢١].
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ وَجَزَمَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ فِي «شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : وَلَمْ يَثْبُتْ تطليق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ خَبَرَانِ، أَوَّلَهُمَا مَا
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بِسَنَدِهِمْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا
. وَفِي هَذَا السَّنَدِ ضَعْفٌ لِأَنَّ سُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ ضَعِيفٌ نَسَبَهُ ابْنُ مَعِينٍ إِلَى الْكَذِبِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ عَدِيِّ. وَقَبِلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو حَاتِمِ. وَكَذَلِكَ مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ يُضَعَّفُ أَيْضًا. وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ لَا مُتَكَلَّمَ فِيهِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ صَحِيحًا لَكِنَّهُ غَرِيبٌ وَهُوَ لَا يُقْبَلُ فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى رِوَايَتِهِ كَهَذَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ فِي مَبْدَئِهِ وَمُنْتَهَاهُ لِانْفِرَادِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَانْفِرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِرِوَايَتِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ عَدَمِ إِخْرَاجِ أَهْلِ الصَّحِيحِ إِيَّاهُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ وَلَكِنْ كَانَتْ قَضِيَّةُ الْإِيلَاءِ بِسَبَبِ حَفْصَةَ.
وَالْمَعْرُوفُ
فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ فَقَالَ النَّاسُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ نِسَاءَهُ. قَالَ عُمَرُ: «فَقَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟، قَالَ: «لَا آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا»
. فَلَعَلَّ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَبَّرَ عَنِ الْإِيلَاءِ بِلَفْظِ التَّطْلِيقِ وَعَنِ الْفَيْئَةِ بِلَفْظِ رَاجَعَ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ يَضْعُفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْدِ.
وَثَانِيهُمَا:
حَدِيثُ الْجُونِيَّةِ أَسْمَاءَ أَوْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ شَرَاحِيلَ الْكِنْدِيَّةِ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ يَبْنِي بِهَا قَالَتْ لَهُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ:
وَالْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ عَلَى جُمْلَةِ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ٢].
وَدَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى (كَبِّرْ) إِيذَانًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ (كَبِّرْ) جَوَابَهُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ وَهُيِّئَ لتقدير الشَّرْط بِتَقْدِيم الْمَفْعُولِ. لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ قَدْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
(يَعْنِي الْأَبَوَيْنِ).
فَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَكَبِّرْ رَبَّكَ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِعْلَانِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ. وَجَوَّزَ ابْنُ جِنِّي أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً قَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْ، تُرِيدُ:
زَيْدًا اضْرِبْ.
وَتَكْبِيرُ الرَّبِّ تَعْظِيمُهُ فَفِعْلُ (كَبِّرْ) يُفِيدُ مَعْنَى نِسْبَةِ مَفْعُولِهِ إِلَى أَصْلِ مَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي صِيغَةِ فَعِّلْ، أَيْ أَخْبِرْ عَنْهُ بِخَبَرِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَكْبِيرٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ بِشَيْءٍ كَبِيرٍ فِي نَوْعِهِ بِجَامِعِ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فِي صِفَاتِ مِثْلِهِ.
فَمَعْنَى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: صِفْ رَبَّكَ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهَذَا يَشْمَلُ تَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقَائِصِ فَيَشْمَلُ تَوْحِيدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَنْزِيهَهُ عَنِ الْوَلَدِ، وَيَشْمَلُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهَا.
وَمَعْنَى (كَبِّرْ) : كَبِّرْهُ فِي اعْتِقَادِكَ: وَكَبِّرْهُ بِقَوْلِكَ تَسْبِيحًا وَتَعْلِيمًا. وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَفَادَ وَصْفَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ، أَيْ أَجَلُّ وَأَنْزَهُ مِنْ كُلِّ جَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ افْتِتَاحًا لِلصَّلَاةِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ فِي ذِكْرِ التَّكْبِيرِ إِيمَاءً إِلَى شَرْعِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَوَّلُهَا التَّكْبِيرُ وَخَاصَّةً اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: ٤] فَإِنَّهُ إِيمَاءٌ إِلَى شَرْعِ الطَّهَارَةِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِشَرْعِ الصَّلَاةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ عَقِبَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ غَيْرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.
مَحْذُوفَةٌ عَوَّضَ عَنْهَا التَّنْوِينُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مَا فِي اسْمِ الْغاشِيَةِ مِنْ لَمْحِ أَصْلِ الْوَصْفِيَّةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّتِي تَغْشَى النَّاسَ فَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ يَوْمَ إِذْ تَغْشَى الْغَاشِيَةُ.
أَوْ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَتُقَدَّرُ الْجُمْلَةُ: يَوْمَ إِذْ تَحْدُثُ أَوْ تَقَعُ.
وخاشِعَةٌ: ذَلِيلَةٌ يُطْلَقُ الْخُشُوعُ عَلَى الْمَذَلَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى: ٤٥] وَقَالَ: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج: ٤٤].
وَالْعَامِلَةُ: الْمُكَلَّفَةُ الْعَمَلَ مِنَ الْمَشَاقِّ يَوْمَئِذٍ. وناصِبَةٌ: مِنَ النَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ.
وَأُوثِرَ وَصْفُ خاشِعَةٌ وعامِلَةٌ وناصِبَةٌ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الشَّقَاءِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْخُشُوعَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّصَبَ فِي الْقيام بِطَاعَتِهِ، فجزاؤهم خُشُوعٌ مذلّة، وَعَمَلُ مَشَقَّةٍ، وَنَصَبُ إِرْهَاقٍ.
وَجُمْلَةُ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ وُجُوهٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، يُقَالُ: صلي يصلّى، إِذا أَصَابَهُ حَرُّ النَّارِ، وَعَلَيْهِ فَذَكَرَ: نَارًا بَعْدَ تَصْلى لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ وَالْإِرْهَابِ وَلِيُجْرَى عَلَى نَارًا وَصْفُ حامِيَةً وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَصْلى بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ يُصِيبُهَا صِلِيُّ النَّارِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ «تُصْلَى» بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَصْلَاهُ النَّارَ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِذَا أَنَالَهُ حَرُّهَا.
وَوَصَفَ النَّارَ بِ حامِيَةً لِإِفَادَةِ تَجَاوُزِ حَرِّهَا الْمِقْدَارَ الْمَعْرُوفَ لِأَنَّ الْحَمْيَ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ النَّارِ فَلَمَّا وُصِفَتْ بِ حامِيَةً كَانَ دَالًّا عَلَى شِدَّةِ الْحِمَى قَالَ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: ٦].
وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُوهٌ خَبَرًا خَامِسًا بِجُمْلَةِ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ تَصْلى لِأَنَّ ذِكْرَ الِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ يُحْضِرُ فِي الذِّهْنِ تَطَلُّبَ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالشَّرَابِ فَجُعِلَ شَرَابُهُمْ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ.


الصفحة التالية
Icon