أَوْفَرَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ لِيَكْتَسِبَ مِنْ ذَلِكَ الْوَفْرِ مَا يُنْفِقُهُ أَوْ يَتَأَثَّلُهُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْجَحُ إِلَّا بِالْمُثَابَرَةِ وَالتَّجْدِيدِ صِيغَ لَهُ وزن الضائع وَنَفْيُ الرِّبْحِ فِي الْآيَةِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَصَدُوا مِنَ النِّفَاقِ غَايَةً فَأَخْفَقَتْ مَسَاعِيهِمْ وَضَاعَتْ مَقَاصِدُهُمْ بِحَالِ التُّجَّارِ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلُوا مِنْ تِجَارَتِهِمْ عَلَى رِبْحٍ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى رَأْسِ مَالٍ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَرْبَحُوا فَقَدْ بَقِيَ لَهُمْ نَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ وَيُجَابُ بِأَنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ يَسْتَلْزِمُ ضَيَاعَ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ فِي النَّفَقَةِ مِنَ الْقُوتِ وَالْكُسْوَةِ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ إِذِ الِاسْتِعَارَةُ تَعْتَمِدُ عَلَى مَا يُقْصَدُ مِنْ وَجْهِ الشَّبَهِ فَلَا تَلْزَمُ الْمُشَابِهَةُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي فَنِّ الْبَيَانِ.
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الرِّبْحُ إِلَى التِّجَارَةِ حَتَّى نُفِيَ عَنْهَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَمَّا كَانَ مُسَبَّبًا عَنِ التِّجَارَةِ وَكَانَ الرَّابِحُ هُوَ التَّاجِرُ صَحَّ إِسْنَادُهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا
الْإِسْنَادُ الْمَجَازِيُّ لَمَا صَحَّ أَنْ يُنْفَى عَنِ الشَّيْءِ مَا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْلُومِ ضَرُورَةً، فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ النَّفْيَ فِي مِثْلِ هَذَا حَقِيقَةٌ فَتَتْرُكَهُ، إِنَّ انْتِفَاءَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجَارَةِ وَاقِعٌ ثَابِتٌ لِأَنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالرِّبْحِ وَهَكَذَا تَقُولُ فِي نَحْوِ قَوْلِ جَرِيرٍ:
«وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ» بِخِلَافِ قَوْلِكَ مَا لَيْلُهُ بِطَوِيلٍ، بَلِ النَّفْيُ هُنَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنِ اعْتِبَارِ وَصْفِ التِّجَارَةِ بِأَنَّهَا إِلَى الْخُسْرِ وَوَصْفُهَا بِالرِّبْحِ مَجَازٌ وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي النَّفْيِ إِلَى الْمَنْفِيِّ لَوْ كَانَ مُثْبَتًا فَإِنْ وَجَدْتَ إِثْبَاتَهُ مَجَازًا عَقْلِيًّا فَاجْعَلْ نَفْيَهُ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْعَلْ نَفْيَهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُنْفَى إِلَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يُثْبَتَ. وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي انْفَصَلَ عَلَيْهَا الْمُحَقق التفتازانيّ فِي «الْمُطَوَّلِ»، وَعَدَلَ عَنْهَا فِي «حَوَاشِي الْكَشَّافِ» وَهِيَ أَمْثَلُ مِمَّا عَدَلَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ أَفَادَ قَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ فِي اشْتَرَوُا فَإِنَّ مَرْجِعَ التَّرْشِيحِ إِلَى أَنْ يُقَفِّيَ الْمَجَازَ بِمَا يُنَاسِبُهُ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ التَّرْشِيحُ حَقِيقَةً بِحَيْثُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةُ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ لَهُ يَدٌ طُولَى أَوْ هُوَ أَسَدٌ دَامِي الْبَرَاثِنِ أم كَانَ التشريح مُتَمَيِّزًا بِهِ أَوْ مُسْتَعَارًا لِمَعْنًى آخَرَ هُوَ مِنْ مُلَائَمَاتِ الْمَجَازِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ حَسُنَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِقْلَالُهُ بِالِاسْتِعَارَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ تُرَشِّحَ بِهِ اشْتَرَوُا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ كَمَا فِي «أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ» لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَلَمْ يَعْزُهُ:
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةَ فِي الضلال وَالْكفْر يكون اللَّهُ قَدْ نَبَّهَهُمْ أَنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ تَقَعُ لِأَجْلِ إِزَالَةِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ الَّذِي يَحْدُثُ فِي قُرُونِ الْجَهَالَةِ، فَكَذَلِكَ انْتَهَتْ تِلْكَ الْقُرُونُ إِلَى الْقَرْنِ الَّذِي أَعْقَبَتْهُ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: ٢١٢]. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَى إِلَى شَرِيعَةٍ تَجْمَعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَبْيِينًا لِفَضِيلَةِ هَذَا الدِّينِ وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهِ إِلَى مَا لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَأْنِيسٌ بِهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالنَّاسُ اسْمُ جَمْعٍ لَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ، وَ (الْ) فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ هُنَا لِلْعُمُومِ أَيِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ فَرِيقٌ مَعْهُودٌ وَلَكِنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْغَالِبِ الْأَغْلَبِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالنَّادِرِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الْخَيْرُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ شِرِّيرًا مِثْلَ عَصْرِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَخْلُو زَمَنٌ غَلَبَ فِيهِ الشَّرُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ خَيِّرًا مِثْلَ نُوحٍ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ٤].
وَالْأمة بضمة الْهَمْزَةِ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْقَصْدُ أَيْ يَؤُمُّونَ غَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْجَمَاعَةُ أُمَّةً إِذَا اتَّفَقُوا فِي الْمَوْطِنِ أَوِ الدِّينِ أَوِ اللُّغَةِ أَوْ فِي جَمِيعهَا.
وَالْوَصْف ب (وَاحِدَةٌ) فِي الْآيَةِ لِتَأْكِيدِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ (أُمَّةً) لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ مِنَ الْأُمَّةِ الْقَبِيلَةَ، فَيُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ كَانَ النَّاسُ أَهْلَ نَسَبٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَجْمَعُهُمْ نَسَبٌ مُتَّحِدٌ.
وَالْوَحْدَةُ هُنَا: مُرَادٌ بِهَا الِاتِّحَادُ وَالتَّمَاثُلُ فِي الدِّينِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعٍ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ إِلَخْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْحَقِّ وَالْهُدَى أَيْ كَانَ النَّاسُ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى رَوَى الطَّبَرِيُّ تَفْسِيرَهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ الْفَخْرُ: وَهُوَ مُخْتَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ قَالَ الْقَفَّالُ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْخَبَرِ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّينَ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَتَعْلِيلَ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ انْتَظَمَ مِنْ ذَلِكَ كَلَامٌ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَجَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَر: آتينكم- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ آتَيْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَجُمْلَةُ قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ.
وَالْإِقْرَارُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّحْقِيقِ بِالْوَفَاءِ مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْمِيثَاقِ.
وَالْإِصْرُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُوَثَّقُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِصَارِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ مَا يُعْقَدُ وَيُسَدُّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦].
وَقَوْلُهُ: فَاشْهَدُوا إِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَهِيَ بِمَعْنَى التَّوَثُّقِ وَالتَّحْقِيقِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى أُمَمِهِمْ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَالْمَعْنَى فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا شَهِدَ النَّبِيئُونَ عَلَى الْأُمَمِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَنْ تَوَلَّى مِمَّنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْأُمَمُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي خُوطِبَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٢] : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ فِسْقَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَشَدُّ فِسْقٍ فَجَعَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْفسق كَالْعدمِ.
[٨٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
تَفْرِيعٌ عَنِ التَّذْكِيرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تَبْغُونَ بتاء الْخطاب فَهُوَ خِطَابٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ [آل عمرَان: ٨٠] وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ،
يُوَجِّهُوا مَذْهَبَهُمْ بِعِلَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَا أَنْ يَسْتَظْهِرُوا عَلَيْهِ بِأَثَرٍ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا تُسَاوِي عِلَّةَ تَحْرِيمِ رَبِيبَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الرَّبَائِبَ، فَلَوْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِ بَنَاتِهِنَّ لَذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ مَعَ الرَّبَائِبِ.
وَهُنَالِكَ رِوَايَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهُ التَّزَوُّجُ بِابْنَتِهَا، وَإِذَا مَاتَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا. وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ عُدُولٌ عَنِ الْعَقْدِ، وَالْمَوْتَ أَمْرٌ قَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ كَانَ نَاوِيًا الدُّخُولَ بِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الْحَلَائِلُ جَمْعُ الْحَلِيلَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ إِذْ أَبَاحَهَا أَهْلُهَا لَهُ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ فَعِيلٍ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِي قَوْلِهِمْ حَكِيمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَمَا نَكَحَ أَبْنَاؤُكُمْ- أَوْ- وَنِسَاءُ أَبْنَائِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ تَكْرِيرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ سُمِّيَ الزَّوْج أَيْضا بالحليل وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَاضِحُ الْعِلَّةِ، كَتَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْأَبْنَاءِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُتَبَنَّى ابْنًا، وَتَجْعَلُ لَهُ مَا لِلِابْنِ، حَتَّى أَبْطَلَ الْإِسْلَام ذَلِك وَقَوله تَعَالَى:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٥] فَمَا دُعِيَ أَحَدٌ لِمُتَبَنِّيهِ بَعْدُ، إِلَّا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُدَّتْ خُصُوصِيَّةً. وَأَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالتَّشْرِيعِ الْفِعْلِيِّ بِالْإِذْنِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ تَبَنَّاهُ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ. وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ، وَإِنْ سَفَلَا، أَبْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلَابِ لِأَنَّ لِلْجِدِّ عَلَيْهِمْ وِلَادَةً لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ هَذَا تَحْرِيمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَحِكْمَتُهُ دَفْعُ
الْغَيْرَةِ عَمَّنْ يُرِيدُ الشَّرْعُ بَقَاءَ تَمَامِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
مُشِيرَةً إِلَى ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ صَرْفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يُرْضُونَهُ بِمَا أَحَبَّ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَأْيِيسٌ، وَجِيءَ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ- لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلّق ب نَدْعُوا. وَالْمُرَادُ بِمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ الْأَصْنَامُ، فَإِنَّهَا حِجَارَةٌ مَشَاهَدٌ عَدَمُ نَفْعِهَا وَعَجْزُهَا عَنِ الضُّرِّ، وَلَوْ كَانَتْ تَسْتَطِيعُ الضُّرَّ لَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ خَلَعُوا عِبَادَتَهَا وَسَفَّهُوا أَتْبَاعَهَا وَأَعْلَنُوا حَقَارَتَهَا، فَلَمَّا جَعَلُوا عَدَمَ النَّفْعِ وَلَا الضُّرِّ عِلَّةً لِنَفْيِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَدْ كَنَّوْا بِذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِهِمُ النَّافِعَ الضَّارَّ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عطف على نَدْعُوا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ.
وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: ٣٣].
وَالْأَعْقَابُ جَمْعُ عَقِبٍ وَهِيَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ. وَعَقِبُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ وَعَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ بِمَعْنَى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ جَاعِلًا إِيَّاهُ وَرَاءَهُ فَرَجَعَ.
وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ رَجَعَ عَلَى طَرِيقِ جِهَةِ عَقِبِهِ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ وَرَاءَهُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ تَمْثِيلًا شَائِعًا فِي التَّلَبُّسِ بِحَالَةٍ ذَمِيمَةٍ كَانَ فَارَقَهَا صَاحِبُهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا وَتَلَبَّسَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَارِجَ إِلَى سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ فَإِنَّمَا يَمْشِي إِلَى غَرَضٍ يُرِيدُهُ فَهُوَ يَمْشِي الْقُدُمِيَّةَ فَإِذَا رَجَعَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى غَرَضِهِ فَقَدْ أَضَاعَ مَشْيَهُ فَيُمَثَّلُ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ».
فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ هُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْتَدِّ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ بِحَالِ مَنْ خَرَجَ فِي مُهِمٍّ فَرَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَمْ يَقْضِ مَا خَرَجَ لَهُ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ سُوءِ الْحَالَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَنَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ أُضِيفَ (بَعْدَ) إِلَى إِذْ هَدانَا وَكِلَاهُمَا اسْمُ زَمَانٍ، فَإِنَّ (بَعْدَ) يَدُلُّ عَلَى
عِمْرَانَ [١٥٥]، وَبَعْدُ فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ بِشَارَةٌ أَن النَّصْرَ الْحَاسِمَ سَيَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَصْرُ يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ زِيَادَةٌ فِي تَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي انْتَصَرُوهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ لَا بِأَسْبَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنُسِبَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ، لِكَوْنِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَدْ صَارَ نَادِرًا، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا بُعَدَاءَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُمْ لَمَّا ذُكِّرُوا بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ بِقَوْلِهِ:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] الْآيَاتِ، وَأُمِرُوا بِالثَّبَاتِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذُكِّرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
١٧، ١٨] كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيَكُونُ كَذَلِكَ شَأْنُنَا كُلَّمَا جَاهَدْنَا أَمْ هَذِهِ مَزِيَّةٌ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا التَّسَاؤُلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُهُ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ دَلِيلًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَنْصُرْكُمْ فَقَدْ نَصَرْنَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ النَّصْرِ وَمَعْنَى وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنْ تُمْسِكُوا عَنِ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهُوَ أَيِ الْإِمْسَاكُ، خَيْرٌ لَكُمْ لِتَسْتَجْمِعُوا قُوَّتَكُمْ وَأَعْدَادَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حَالِ الْجِهَادِ مُنْتَصِرُونَ، وَفِي حَالِ السِّلْمِ قَائِمُونَ بِأَمْرِ الدَّين وتدبير شؤونكم الصَّالِحَةِ، فَيَكُونُ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
، وَقِيلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِانْتِصَارِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ وُقُوعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ إِنْ تَعُودُوا إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ نَعُدْ فَنَنْصُرَكُمْ أَيْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ عَطَائِنَا كَمَا قَالَ زُهَيْر:
سَأَلنَا فأعطيتكم وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ | وَمَنْ أَكْثَرَ التَّسْآلَ يَوْمًا سَيُحْرَمُ |
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا | وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ |
فَجُمْلَةُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ إِلَى قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت: ٣٨]. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَدَا ابْنَ وَهْبٍ: السُّجُودُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَابْنُ وَهْبٍ: هِيَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: ٣٨]، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بن الْمسيب.
[٣٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٨]
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى نَهْيِهِمْ عَنِ السُّجُودِ للشمس وَالْقَمَر وَأمر هم بِالسُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أَنْ يَتْبَعُوكَ وَصَمَّمُوا عَلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ
بِالْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُ لَهُ اسْتِشْرَافَ الْمُتَرَدِّدِ السَّائِلِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: ٣٧].
وَأُسْنِدَ الِاتِّبَاعُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِي سَيَتْبَعُهُمْ هُوَ فِرْعَوْن وَجُنُوده.
[٢٤]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٢٤]
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا [الدُّخان: ٢٣] فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ صَدَرَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ بِأَنْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَمْرَهُ بِالْإِسْرَاءِ بِأَنَّهُ يَضْرِبُ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ فَيَنْفَلِقُ عَنْ قَعْرِهِ الْيَابِسِ حَتَّى يَمُرَّ مِنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ طَمَّنَهُ بِأَنْ لَا يَخْشَى بَقَاءَهُ مُنْفَلِقًا فَيَتَوَقَّعَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِرْعَوْنُ بَلْ يَجْتَازُ الْبَحْرَ وَيَتْرُكُهُ فَإِنَّهُ سَيَطْغَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ فَيَغْرَقُونَ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا سَرَيْتَ بِعِبَادِي فَسَنَفْتَحُ لَكُمُ الْبَحْرَ فَتَسْلُكُونَهُ فَإِذَا سَلَكْتَهُ فَلَا تَخْشَ أَنْ يَلْحَقَكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ وَاتْرُكْهُ فَإِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ صَدَرَتْ وَقْتَ دُخُولِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فِي طَرَائِقَ الْبَحْرِ فَيُقَدَّرُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُ: اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا، أَيْ سَيَدْخُلُهُ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِ مَفْرُوقًا حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ دُخُولُ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ فِي طَرَائِقِهِ طَمَعًا مِنْهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطُوهُ انْضَمَّ عَلَيْهِمْ، فَتَحْصُلُ فَائِدَةُ إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفَائِدَةُ إِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً قَوْلًا مَحْذُوفًا عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالتَّرْكُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ: دَعْهُ يَفْعَلْ كَذَا، وَذَرْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَقَالَتْ كَبْشَة بنت
معديكرب:
وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمٌ | وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرِ الْمَطْعَمِ |
وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَنَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَأْكِيدُ عَامِلِهَا وَتَحْقِيقُ اسْتِمْرَارِ الْعِلْمِ بِبَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمَعْنَى تُوَسْوِسُ تَتَكَلَّمُ كَلَامًا خَفِيًّا هَمْسًا. وَمَصْدَرُهُ الْوَسْوَاسُ وَالْوَسْوَسَةُ أُطْلِقَتْ هُنَا مَجَازًا عَلَى مَا يَجُولُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَالْعَزَائِمِ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ أَقْرَبُ شَيْءٍ تُشَبَّهُ بِهِ تِلْكَ الْخَوَاطِرُ وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ مُخْتَلِفَ أَحْوَالِ مَا يَجُولُ فِي الْعَقْلِ مِنَ التَّقَادِيرِ وَمَا عَدَاهَا مِنْ نَحْوِ أَلْفَاظِ التَّوَهُّمِ وَالتَّفَكُّرِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الْخَوَاطِرِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْحَبْلُ: هُنَا وَاحِدُ حِبَالِ الْجِسْمِ. وَهِيَ الْعُرُوقُ الْغَلِيظَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الطِّبِّ بِالشَّرَايِينِ، وَاحِدُهَا: شَرْيَانٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتُكْسَرُ وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَتُعْرَفُ بِالْعُرُوقِ الضَّوَارِبِ وَمَنْبَتُهَا مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَجْوِيفَيِ الْقَلْبِ. وَلِلشَّرَايِينِ عَمَلٌ كَثِيرٌ فِي حَيَاةِ الْجِسْمِ لِأَنَّهَا الَّتِي تُوصِلُ الدَّمَ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى أَهَمِّ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ مِثْلَ الرِّئَةِ وَالدِّمَاغِ وَالنُّخَاعِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ. وَلِلشَّرَايِينِ أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ مَصَابِّهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ.
وَالْوَرِيدُ: وَاحِدٌ مِنَ الشَّرَايِينِ وَهُوَ ثَانِي شَرْيَانَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ. وَاسْمُهُ فِي علم الطّلب أَوُرْطِيٌّ وَيَتَشَعَّبُ إِلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ ثَالِثَتُهُمَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٍ أَكْبَرَ وَقِسْمٍ أَصْغَر. وَهَذَا الْأَصْغَر يَخْرُجُ مِنْهُ شَرْيَانَانِ يُسَمَّيَانِ السُّبَاتِيَّ وَيَصْعَدَانِ يَمِينًا
وَيَسَارًا مَعَ الْوَدَجَيْنِ، وَكُلُّ هَذِه الْأَقْسَام تسمى الْوَرِيدَ. وَفِي الْجَسَدِ وَرِيدَانِ وَهُمَا عِرْقَانِ يَكْتَنِفَانِ صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ فِي مُقَدَّمِهِمَا مُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ يَرِدَانِ مِنَ الرَّأْسِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ أَجْزَائِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْجَسَدِ فَهُوَ فِي الْعُنُقِ يُسَمَّى الْوَرِيدَ، وَفِي الْقَلْبِ يُسَمَّى الْوَتِينَ، وَفِي الظَّهْرِ يُسَمَّى الْأَبْهَرَ، وَفِي الذِّرَاعِ وَالْفَخِذِ يُسَمُّونَهُ الْأَكْحَلَ وَالنَّسَا، وَفِي الْخِنْصَرِ يُدْعَى الْأَسْلَمَ.
وَإِضَافَةُ حَبْلِ إِلَى الْوَرِيدِ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْحَبَلُ الَّذِي هُوَ الْوَرِيدُ، فَإِنَّ إِضَافَةَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً كَقَوْلِهِمْ: شَجَرُ الْأَرَاكِ.
وَسَكْبُ الْمَاءِ: صَبَّهُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَرْيِهِ بِقُوَّةٍ يُشْبِهُ السَّكْبَ وَهُوَ مَاءُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ.
وَالْفَاكِهَةُ: تَقَدَّمَتْ آنِفًا.
وَوُصِفَتْ بِ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَصْفًا بِانْتِفَاءِ ضِدِّ الْمَطْلُوبِ إِذِ الْمَطْلُوبُ أَنَّهَا
دَائِمَةٌ مَبْذُولَةٌ لَهُمْ. وَالنَّفْيُ هُنَا أَوْقَعُ مِنَ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة وصف وتوكيده، وَهُمْ لَا يَصِفُونَ بِالنَّفْيِ إِلَّا مَعَ التَّكْرِيرِ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور:
٣٥]. وَفِي حَدِيثِ أَمِّ زَرْعٍ: «قَالَتِ الْمَرْأَةُ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَةٌ».
ثُمَّ تَارَةً يَقْصِدُ بِهِ إِثْبَاتَ حَالَةٍ وُسْطَى بَيْنَ حَالَيِ الْوَصْفَيْنِ الْمَنْفِيَّيْنِ كَمَا فِي قَوْلِ أَمِّ زَرْعٍ: «لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ»، وَفِي آيَةِ: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَتَارَةً يُقْصَدُ بِهِ نَفْيُ الْحَالَيْنِ لِإِثْبَاتِ ضِدَّيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَقَوْلُهُ الْآتِي: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: ٤٤]، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ فِي حَدِيثِ أَمِّ زَرْعٍ: «وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ».
وَجَمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ فَاكِهَةَ الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ ضِدِّي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا يَمْنَعُونَهَا فَإِنْ لَمْ يَمْنَعُوهَا فَإِنَّ لَهَا إِبَّانًا تَنْقَطِعُ فِيهِ.
وَالْفُرُشُ: جَمْعُ فِرَاشٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَهُوَ مَا يُفْرَشُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
ومَرْفُوعَةٍ: وَصْفٌ لِ فُرُشٍ، أَيْ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَيْ لَيْسَتْ مَفْرُوشَةً فِي الْأَرْضِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُرُشِ الْأَسِرَّةُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يحل فِيهِ.
[٣٥- ٣٨]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٨]
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْفُرُشِ وَهِيَ مِمَّا يُعَدُّ لِلْاِتِّكَاءِ وَالْاِضْطِجَاعِ وَقْتَ الرَّاحَةِ فِي الْمَنْزِلِ يخْطر بالبال بادىء ذِي بَدْءٍ مُصَاحَبَةُ الْحُورِ الْعِينِ مَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْفُرُشِ فَيَتَشَوَّفُ إِلَى
مُقْتَضَى الْآيَةِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا سَوَاءً كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا سُكْنَى إِلَّا لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَعَلَّلَ وُجُوبَ الْإِسْكَانِ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِعِدَّةِ أُمُورٍ: حَفِظُ النَّسَبِ، وَجَبْرُ خَاطِرِ الْمُطَلَّقَةِ وَحِفْظُ عِرْضِهَا. وَسَيَجِيءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ [الطَّلَاق: ٦] الْآيَةَ. وَتَعْلَمُ أَن ذَلِك تَأْكِيدًا لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ الْإِسْكَانِ فِي الْعِدَّةِ أُعِيدَ لِيُبَيَّنَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ وُجْدِكُمْ [الطَّلَاق: ٦] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِيهِ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ جُمَلٍ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِضَمِيرِهَا إِذْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي كِلْتَيْهِمَا ضَمِيرَ النِّسْوَةِ. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا عُمُومُ الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ وَلا يَخْرُجْنَ. فَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ فَأَخْرَجُوهُنَّ أَوْ لِيَخْرُجْنَ، أَيْ يُبَاحُ لَكُمْ إِخْرَاجُهُنَّ وَلَيْسَ لَهُنَّ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْخُرُوجِ وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ.
وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الشَّدِيدَةُ السُّوءِ بِهِذَا غَلَبَ إِطْلَاقُهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ فَتَشْمَلُ الزِّنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥].
وَشَمِلَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْفَسَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا [الْأَعْرَاف: ٢٨]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٣]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْفَاحِشَةُ مَتَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفَةً فَهِيَ الزِّنَا (يُرِيدُ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ) كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٠] وَمَتَى وَرَدَتْ مُنَكَّرَةً فَهِيَ الْمَعَاصِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُبَيِّنَةٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ هِيَ تُبَيِّنُ لِمَنْ تَبْلُغُهُ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَيْهَا مَجَازٌ بِاسْتِعَارَةِ التَّبْيِينِ لِلْوُضُوحِ أَوْ تَبْيِينٌ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ صُدُورَهَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى الْفَاحِشَةِ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَإِنَّمَا الْمُبِيِّنُ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الصَّبْرِ، أَيْ اصْبِرْ لِأَجْلِ رَبِّكَ عَلَى كُلِّ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ.
وَتَقْدِيمُ لِرَبِّكَ عَلَى « (اصْبِرْ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَصْبِرُ لِأَجْلِهَا مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ اللَّامَ فِي لِرَبِّكَ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِأَجْلِهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى: إِنَّهُ يَصْبِرُ تَوَكُّلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ مَا لَحِقَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَالصَّبْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي [الْبَقَرَةِ: ٤٥].
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنِ اللَّهِ بِوَصْفِ (رَبِّكَ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الصَّبْرَ بِرٌّ بِالْمَوْلَى وَطَاعَةٌ لَهُ.
فَهَذِهِ سِتُّ وَصَايَا أَوْصَى اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَبْدَأِ رِسَالَتِهِ وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْقُرْآنِ أَرَادَ اللَّهُ بِهَا تَزْكِيَةَ رَسُولِهِ وَجَعْلَهَا قدوة لأمته.
[٨- ١٠]
[سُورَة المدثر (٧٤) : الْآيَات ٨ إِلَى ١٠]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
الْفَاءُ لِتَسَبُّبِ هَذَا الْوَعِيدِ عَنِ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ فِي قَوْله فَأَنْذِرْ [المدثر: ٢]، أَيْ فَأَنْذِرِ الْمُنْذَرِينَ وَأَنْذِرْهُمْ وَقْتَ النَّقْرِ فِي النَّاقُورِ وَمَا يَقَعُ يَوْمَئِذٍ بِالَّذِينَ أُنْذِرُوا فَأَعْرَضُوا عَنِ التَّذْكِرَةِ، إِذِ الْفَاءُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرْتَبِطَةً بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا على فَاصْبِرْ [المدثر: ٧] بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
والنَّاقُورِ: الْبُوقُ الَّذِي يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَيُسَمَّى الصُّورَ وَهُوَ قَرْنٌ كَبِيرٌ، أَوْ شِبْهُهُ يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ لِنِدَاءِ نَاسٍ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ خُفَافُ بْنُ نَدْبَةَ:
إِذَا نَاقُورُهُمْ يَوْمًا تَبَدَّى | أَجَابَ النَّاسُ مِنْ غَرْبٍ وَشَرْقِ |
وَنَفْيُ سَمَاعِ لاغِيَةً مُكَنَّى بِهِ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ بَابِ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أَيْ لَا ضَبَّ بِهَا إِذِ الضَّبُّ لَا يَخْلُو مِنَ الِانْجِحَارِ.
وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ لَهُ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ جِدٍّ وَحَقِيقَةٍ فَلَا كَلَامَ فِيهَا إِلَّا لِفَائِدَةٍ لِأَنَّ النُّفُوسَ فِيهَا تَخَلَّصَتْ مِنَ النَّقَائِصِ كُلِّهَا فَلَا يَلَذُّ لَهَا إِلَّا الْحَقَائِقُ وَالسُّمُوُّ الْعَقْلِيُّ وَالْخُلُقِيُّ، وَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا مَا يَزِيدُ النُّفُوسَ تَزْكِيَةً.
وَجُمْلَةُ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ ل جَنَّةٍ [الغاشية: ١٠] تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ النُّعُوتَ الْمُتَعَدِّدَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَفَ وَيَجُوزَ أَنْ تُفْصَلَ دُونَ عِطْفٍ قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» :«وَيَجُوزُ عَطْفُ بَعْضِ النُّعُوتِ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِهِ» نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى [الْأَعْلَى: ٢- ٤]. وَقَالَ: وَلَا يُعْطَفُ إِلَّا بِالْوَاوِ مَا لَمْ يَكُنْ تَرْتِيبٌ: فَبِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِبِ ال | صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ |
ابْتُدِئَ فِي تَعْدَادِ صِفَاتِ الْجَنَّةِ بِصِفَتِهَا الذَّاتِيَّةَ وَهُوَ كَوْنُهَا عَالِيَةً، وَثُنِّيَ بِصِفَةِ تَنْزِيهِهَا عَمَّا يُعَدُّ مِنْ نَقَائِصِ مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَسَاكِنِ الْجَمَاعَاتِ وَهُوَ الْغَوْغَاءُ وَاللَّغْوُ، وَقَدْ جُرِّدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ أَنْ تُعْطَفَ على عالِيَةٍ [الغاشية: ١٠] مُرَاعَاةً لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ
وَالْجُمَلِ وَذَلِكَ حَقِيقٌ بِعَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ كَمَالِ الِانْقِطَاعِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجَنَّةِ بِحُسْنِ سُكَّانِهَا.
الصفحة التالية