الْمَثَلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يُونُس: ٢٤] الْآيَةَ وَذَلِكَ لِيَتَبَادَرَ لِلسَّامِعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ لَا ذَاتٍ بِذَاتٍ وَلَا حَالَةٍ بِذَاتٍ فَصَارَ لَفْظُ الْمَثَلِ فِي تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ مَنْسِيًّا مِنْ أَصْلِ وَضْعِهِ وَمُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْحَالَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ حَتَّى مَعَ وُجُودِ لَفْظِ الْمَثَلِ فَصَارَتِ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ دَالَّةً عَلَى التَّشْبِيهِ وَلَيْسَتُ زَائِدَةً كَمَا زَعَمَهُ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ»، وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: ١٩] وُقُوفًا مَعَ أَصْلِ الْوَضْعِ وَإِغْضَاءً عَنِ الِاسْتِعْمَالِ أَلَا تَرَى كَيْفَ اسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ الْمَثَلِ عِنْدَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ وَلَمْ يُسْتَغْنَ عَنِ الْكَافِ.
وَمِنْ أَجْلِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَثَلِ اقْتَبَسَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مُصْطَلَحَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ بِتَشْبِيهِ التَّمْثِيلِ وَتَسْمِيَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ مَجْمُوعَةً بِعَلَاقَةِ الْمُشَابِهَةِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَإِنَّنِي تَتَبَّعْتُ كَلَامَهُمْ فَوَجَدْتُ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ يَعْتَرِيهِ مَا يَعْتَرِي التَّشْبِيهَ الْمُفْرَدَ فَيَجِيءُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ حُذِفَتْ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: ١٦] إِذَا قَدَّرْنَا أُولَئِكَ كَالَّذِينَ اشْتَرَوْا كَمَا قَدَّمْنَا.
الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّفْظَ الدَّالَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَيُحْذَفُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ نَحْوُ الْمَثَّالِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنِّي أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى.
الثَّالِثُ: تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَهِيَ أَنْ تُشَبَّهَ هَيْئَةٌ وَلَا يُذْكَرُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بَلْ يُرْمَزُ إِلَيْهِ بِمَا هُوَ لَازِمٌ مُشْتَهِرٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعُدُّ مِثَالًا لِهَذَا النَّوْعِ خُصُوصَ الْأَمْثَالِ الْمَعْرُوفَةِ بِهَذَا اللَّقَبِ نَحْوَ الصَّيْفُ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ وَبِيَدِي لَا بَيْدَ عَمْرٍو وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَمْثَالِ فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ قِيلَتْ عِنْدَ أَحْوَالٍ وَاشْتَهَرَتْ وَسَارَتْ حَتَّى صَار ذكرهَا ينبىء بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ عِنْدَهَا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ، وَمُوجِبُ شُهْرَتِهَا سَيَأْتِي. ثُمَّ لَمْ يَحْضُرْنِي مِثَالٌ لِلْمَكْنِيَّةِ التَّمْثِيلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَابِ الْأَمْثَالِ حَتَّى كَانَ يَوْمُ حَضَرْتُ فِيهِ جِنَازَةً، فَلَمَّا
الْأُول: خَلَلٌ يَعْرِضُ عِنْدَ تَكْوِينِ الْفَرْدِ فِي عَقْلِهِ أَوْ فِي جَسَدِهِ فَيَنْشَأُ مُنْحَرِفًا عَنِ الْفَضِيلَةِ لِتِلْكَ الْعَاهَةِ.
الثَّانِي: اكْتِسَابُ رَذَائِلَ مِنَ الْأَخْلَاقِ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ قُوَاهُ الشَّهْوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَمِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ بِدَاعِيَةِ اسْتِحْسَانِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَفَاسِدَ يَخْتَرِعُهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا.
الثَّالِثُ: خَوَاطِرُ خَيَالِيَّةٌ تَحْدُثُ فِي النَّفْسِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ كَالشَّهَوَاتِ وَالْإِفْرَاطِ فِي حُبِّ الذَّاتِ أَوْ فِي كَرَاهِيَةِ الْغَيْرِ مِمَّا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ فَيُفَكِّرُ صَاحِبُهَا فِي تَحْقِيقِهَا.
الرَّابِعُ: صُدُورُ أَفْعَالٍ تَصْدُرُ مِنَ الْفَرْدِ بِدَوَاعٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَكْمِيلِيَّةٍ وَيَجِدُهَا مُلَائِمَةً لَهُ أَوْ لَذِيذَةً عِنْدَهُ فَيُلَازِمُهَا حَتَّى تَصِيرَ لَهُ عَادَةً وَتَشْتَبِهَ عِنْدَهُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ إِذَا صَادَفَتْ سَذَاجَةً مِنَ الْعَقْلِ غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِالنَّوَاهِي رَسَخَتْ فَصَارَتْ طَبْعًا.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ لِلِانْحِطَاطِ عَنِ الْفِطْرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْأَوَّلُ كَانَ نَادِرَ الْحُدُوثِ فِي الْبَشَرِ، لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَبْدَانِ وَشَبَابَ وَاعْتِدَالَ الطَّبِيعَةِ وَبَسَاطَةَ الْعَيْشِ وَنِظَامَ الْبِيئَةِ كُلُّ تِلْكَ كَانَتْ مَوَانِعَ مِنْ طُرُوِّ الْخَلَلِ التَّكْوِينِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَوْعَ كُلِّ حَيَوَانٍ يُلَازِمُ حَالَ فِطْرَتِهِ فَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ الْبَشَرَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا عَائِلَةً وَاحِدَةً فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ يَسِيرُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ وَتَرْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْسَاسٍ وَاحِدٍ فَمِنْ أَيْنَ يَجِيئُهُ الِاخْتِلَافُ؟
وَالثَّالِثُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لَكِنَّ الْمَحَبَّةَ النَّاشِئَةَ عَنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَعَنِ الْإِلْفِ، وَالشَّفَقَةَ
النَّاشِئَةَ عَنِ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَاعِظَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْأَبَوَيْنِ كَانَتْ حَجْبًا لِمَا يَهْجِسُ مِنْ هَذَا الْإِحْسَاسِ.
وَالرَّابِعُ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَكْثُرُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُودِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الْحَاجَاتِ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ الطِّبَاعِ الْأَصْلِيَّةِ وَلِأَنَّ التَّحْسِينَاتِ كَانَتْ مَفْقُودَةً، وَإِنَّمَا هَذَا السَّبَبُ الرَّابِعُ مِنْ مُوجِبَاتِ الرُّقِيِّ وَالِانْحِطَاطِ فِي أَحْوَالِ الْجَمْعِيَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ الطَّارِئَةِ.
أَمَّا حَادِثَةُ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ فَمَا هِيَ إِلَّا فَلْتَةٌ نَشَأَتْ عَنِ السَّبَبِ الثَّالِثِ عَنْ إِحْسَاسٍ وِجْدَانِيٍّ هُوَ الْحَسَدُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَغَبَّةِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَعْرِفِ الْمَوْتَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَلِذَلِكَ أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ النَّدَامَةُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ حَالُ الْأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ أَوْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٨٧ إِلَى ٨٩]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
الْإِشَارَةُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦١]. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٠]، وَمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ وَقِيلَ بِنَصَارَى الشَّامِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْأَلَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَسْلَمَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عِلَّةٌ لِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُور رَحِيم.
[٩٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
قَالَ قَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ، فَالْيَهُودُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِمُوسَى كَفَرُوا بِعِيسَى وَازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَالْيَهُودُ كَمَا عَلِمْتَ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا فَعَبَدُوهُ وَأَلَّهُوهُ ثمَّ ازدادوا كفرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَأْوِيلُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِمَّا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٤٨] أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا فَتُقْبَلُ وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ.
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَدَلِيلُهُ الْحَصْرُ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. وَإِمَّا أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُظْهِرُونَهُ
هُدَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٠]، أَيِ الْقُرْآنُ هُوَ الْهُدَى لَا كُتُبُهُمْ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَصْرِ جِنْسِ الْهُدَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِأَنَّ السِّيَاقَ لِرَدِّ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى دِينِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ هُدًى، فَالْقَصْرُ لِلْقَلْبِ إِذْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، فَلَا يَكُونُ قَصْرُ الْهُدَى عَلَى هُدَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهُدَى الْكَامِلِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ عَطْفٌ عَلَى الْمَقُولِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ٥٦]، وَقَوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَاللَّامُ فِي لِنُسْلِمَ أَصْلُهَا لِلتَّعْلِيلِ وَتُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَصَارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُرُودُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْأَمْرِ وَمَادَّةِ الْإِرَادَةِ. وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ لَامَ أَنْ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ. فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِذَا حَذَفُوهَا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مَعَ (أَنْ). وَأَمَّا أَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا وَقَعَ الْأَمْرُ. يَعْنِي وَأَغْنَتِ الْعِلَّةُ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّلِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ف (أَن) مضرَّة بَعْدَهَا، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَالْمَعْنَى: وَأُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ، أَيْ أُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّ الْعالَمِينَ متعلّقة ب لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ مَعْنَى تَخَلُّصٍ لَهُ، قَالَ:
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١]. وَفِي ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَأَحَقِّيَّتِهِ.
مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ أَهْلُ الْعُقُولِ كَانَ مُجَرَّدُ سَمَاعِهِ مُقْتَضِيًا عَدَمَ التولي عَنهُ، ضمن تَوَلَّى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ فَأَمْرٌ عَجَبٌ ثُمَّ زَادَ فِي تَشْوِيهِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِفِئَةٍ ذَمِيمَةٍ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَمِعْنَا، وَهُمْ لَا يَصَدِّقُونَهُ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرهُم وينهاهم.
و (إِن) لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّنْظِيرِ فِي الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي حَثِّ النَّفس على التَّشَبُّه أَوِ التَّجَنُّبِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً [الْأَنْفَال: ٤٧] وَسَيَأْتِي وَأَصْحَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَتِهِمْ، وَبِإِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: ٣١] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: ٢٥]، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَبَقِيَّتُهُمْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أُحُدٍ، وَكَانُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقُولُوا سَمِعْنَا بَلْ قَالُوا: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ، فَلَا يَصْحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلِ الْمُرَادُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ، وَقَدْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَاجَهُوا بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا [النِّسَاء:
٤٦] وَقِيلَ: أُرِيدَ الْمُنَافِقُونَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: ٨١] وَإِنَّمَا يَقُولُونَ سَمِعْنَا لِقَصْدِ إِيهَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا، لِأَنَّ السَّمْعَ يُكَنَّى بِهِ عَن الِانْتِفَاع بالسموع وَهُوَ مَضْمُونُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ طاعَةٌ وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ السَّمْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا سَمِعُوهُ، فَالْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى السَّمْعِ الَّذِي أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا وَهُوَ إِيهَامُهُمْ أَنَّهُمْ مُطِيعُونَ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَاوُ الْحَالِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَتَقَرَّرَ مَفْهُومُهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَيُرَسَّخُ اتِّصَافُهُ بِمَفْهُومِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ السَّمْعِ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هُوَ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ لَا خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
وَصِيَغَ فِعْلُ لَا يَسْمَعُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ،
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَهْيٌ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ تَصْرِيحًا بِمَعْنَى حَنِيفاً. وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ اعْتِنَاءً بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَهُ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ مِنْ نَحْوِ: لَا تَكُنْ مُشْرِكًا، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ نحلة الْإِشْرَاك.
[١٠٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٠٦]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)
عَطْفٌ عَلَى وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُونُس: ١٠٥]. وَلَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِئَلَّا يَمْنَعَ وُجُودُهَا مِنْ حَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ بِأَنَّ حَذْفَهُ تَخْفِيفٌ وَفَصَاحَةٌ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَمَّا اقْترن بِمَا يومىء إِلَى التَّعْلِيلِ كَانَ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ يومىء إِلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ دُعَائِكَ، إِذْ دُعَاءُ أَمْثَالِهَا لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ فِعْلِ تَدْعُ وَمَفْعُولِهِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلْحَثِّ عَلَى دُعَائِهِ اللَّهَ.
وَتَفْرِيعُ فَإِنْ فَعَلْتَ عَلَى النَّهْيَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا مَعْذِرَةَ لِمَنْ يَأْتِي مَا نُهِيَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أُكِّدَ نَهْيُهُ وَبُيِّنَتْ عِلَّتُهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَاعْتَدَى عَلَى حَقِّ رَبِّهِ.
وَأَكَّدَ الْكَوْنَ مِنَ الظَّالِمِينَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِ (إِنَّ) لِزِيَادَةِ التَّحْذِيرِ، وَأُتِيَ بِ (إِذَنْ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: فَإِنْ فَعَلْتَ فَمَاذَا يَكُونُ؟.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةَ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ [سُورَة النَّحْل: ١١١]
إِلَخْ. عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيرِ (اذْكُرْ)، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ هَوْلَ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ إِلَخْ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا شَأْنَ قَرْيَةٍ كَانَتْ آمِنَةً إِلَخْ.
وضَرَبَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَيْ جَعَلَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَيْهِ وكوّن نَظْمِهِ، وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يُقَالُ: أَرْسَلَ فُلَانٌ مَثَلًا قَوْلُهُ: كَيْتٌ وَكَيْتٌ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ بِصِيغَة الْمَاضِي لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي الْحَالِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ١] أَوْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، مِثْلَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ، أَيِ اضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مَثَلًا قَرْيَةً إِلَى آخِرِهِ، كَمَا سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٢٩]. وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ تَوَسُّلًا إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْوِيهًا بِهِ. وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ نَحْوُ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [سُورَة يس: ١٣] بِمَا سَيُذْكَرُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فَرَاجِعْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٤] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً.
وَجَعَلَ الْمَثَلَ قَرْيَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ تُبَيِّنُ حَالَهَا الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ، فَاسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ الْقَرْيَةِ.
وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْلُحَ هَذَا الْمَثَلُ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ قَرْيَتَهُمْ أَعْنِي مَكَّةَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا لِلنَّاسِ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ الْجُوعُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] وَقَوْلِهِ: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي الْأَنْفَالِ [٢].
وَالْمُلْتَحَدُ: اسْمُ مَكَانٍ مِيمِيٌّ يَجِيءُ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ فِعْلِهِ. وَالْمُلْتَحَدُ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ، وَالِالْتِحَادُ: الْمَيْلُ إِلَى جَانِبٍ. وَجَاءَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ لِأَنَّ أَصْلَهُ تَكَلُّفُ الْمَيْلِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ صِيغَةِ التَّكَلُّفِ أَنَّهُ مَفَرٌّ مِنْ مَكْرُوهٍ يَتَكَلَّفُ الْخَائِفُ أَنْ يَأْوِيَ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُلْتَحَدُ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ. وَالْمَعْنَى: لَنْ تَجِدَ شَيْئًا يُنْجِيكَ مِنْ عِقَابِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَأْيِيسُهُمْ مِمَّا طَمِعُوا فِيهِ.
[٢٨]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.
هَذَا مِنْ ذُيُولِ الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَهُوَ مُشَارِكٌ لِقَوْلِهِ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ [الْكَهْف: ٢٧]. الْآيَةَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
أَنَّ سَادَةَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا زَعَمُوا أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَاسًا أَهْلُ خَصَاصَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَرِقَّاءُ لَا يُدَانُوهُمْ وَلَا يَسْتَأْهِلُونَ الْجُلُوسَ مَعَهُمْ لَأَتَوْا إِلَى مجالسة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَطْرُدَهُمْ مِنْ حَوْلِهِ إِذَا غَشِيَهُ سَادَةُ قُرَيْشٍ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمَا هُنَا آكَدُ إِذْ أَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، أَيِ احْبِسْهَا مَعَهُمْ حَبْسَ مُلَازِمَةٍ. وَالصَّبْرُ: الشَّدُّ بِالْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُفَارِقُهُ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ
لَدُنَّا ذِكْراً [طه: ٩٩] وَمَا تَبِعَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [طه: ١١٣]، تَخَلُّصٌ لِذِكْرِ الْبَعْثِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ وَالنِّذَارَةِ بِمَا يَحْصُلُ لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ.
وَالصُّورُ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ لِبَعْضِ فَضَائِهِ فَإِذَا نَفَخَ فِيهِ النَّافِخُ بِقُوَّةٍ
خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ، وَقَدِ اتُّخِذَ لِلْإِعْلَامِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلْحَرْبِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِيَاءِ الْغِيبَةِ مَبْنِيًّا للْمَجْهُول، أَي ينْفخ نَافِخٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ نَنْفُخُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ- وَإِسْنَادُ النَّفْخِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، مِثْلَ: بَنَى الْأَمِيرُ الْقَلْعَةَ.
وَالْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ وَالْكَفَرَةُ.
وَالزُّرْقُ: جَمْعُ أَزْرَقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ الزُّرْقَةُ. وَالزُّرْقَةُ: لَوْنٌ كَلَوْنِ السَّمَاءِ إِثْرَ الْغُرُوبِ، وَهُوَ فِي جَلْدِ الْإِنْسَانِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ لَوْنَ مَا أَصَابَهُ حَرْقُ نَارٍ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الزُّرْقَةَ لَوْنُ أَجْسَادِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمرَان: ١٠٦]، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَوْنُ عُيُونِهِمْ، فَقِيلَ: لِأَنَّ زُرْقَةَ الْعَيْنِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْأَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُرَادَ شِدَّةُ زُرْقَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ بِشَارٍ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالزُّرْقِ الْعُمْيُ، لِأَنَّ الْعَمَى يُلَوِّنُ الْعَيْنَ بِزُرْقَةٍ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي بَيْتِ بِشَارٍ أَيْضًا.
وَالتَّخَافُتُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوِهُ. وَتَخَافُتُهُمْ لِأَجْلِ مَا يَمْلَأُ صُدُورَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:
١٠٨].
النَّجْمِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: ١٩، ٢٠] أَلْقَى الشَّيْطَانُ بَيْنَ السَّامِعِينَ عَقِبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقَ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِأَنْ ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ سَجْدَةٌ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَلَمَّا سَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ سَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا حَتَّى شَاعَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَجَعَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ نَفَرٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّ الشَّيْطَان ألْقى فِي الْقَوْم، فَأَعْلَمَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ تَسْلِيَةً لَهُ.
وَهِيَ قِصَّةٌ يَجِدُهَا السَّامِعُ ضِغْثًا عَلَى إِبَّالَةٍ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهَا النِّحْرِيرُ بَالَهُ. وَمَا رُوِيَتْ
إِلَّا بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ وَمُنْتَهَاهَا إِلَى ذِكْرِ قِصَّةٍ، وَلَيْسَ فِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا سَمَاعُ صَحَابِيٍّ لِشَيْءٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَدُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدٌ مَطْعُونٌ. عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ كَانَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ تُعَارِضُ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أَصْلَ عصمَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْتِبَاسَ عَلَيْهِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَيَكْفِي تَكْذِيبًا لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: ٣] وَفِي مَعْرِفَةِ الْملك. فَلَو رووها الثِّقَاتُ لَوَجَبَ رَفْضُهَا وَتَأْوِيلُهَا فَكَيْفَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ. وَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: ٢٣] فَيَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَدْحُهَا بِأَنَّهَا «الْغَرَانِيقُ العلى وَأَن شفاعتهن لَتُرْتَجَى». وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَلَامٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَاكُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ كُلَّهَا
عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالَحٍ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ»
. وَأَمَّا السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ التَّحِيَّةُ كَمَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً وَلَا يُؤْمَرُ أَحَدٌ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالتَّحِيَّةُ: أَصْلُهَا مَصْدَرُ حَيَّاهُ تَحِيَّةً ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْيَاءَانِ تَخْفِيفًا وَهِيَ قَوْلُ: حَيَّاكَ اللَّهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٦].
فَالتَّحِيَّةُ مَصْدَرُ فِعْلٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فِعْلِ (حَيَّا) مِثْلُ قَوْلِهِمْ: جَزَاهُ.
إِذَا قَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي فِعْلِ وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّور: ٢٧] آنِفًا.
وَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ تَحِيَّةَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَحِيَّةَ الْعَامَّةِ قَالَ النَّابِغَةُ:
حَيَّاكَ رَبِّي فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا لَهْوُ النِّسَاءِ وَإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وَكَانَتْ تَحِيَّةُ الْمُلُوكِ «عِمْ صَبَاحًا» فَجَعَلَ الْإِسْلَامُ التَّحِيَّةَ كَلِمَةَ «السَّلَامُ عَلَيْكُم»، وَهِي جائية من الحنيفية قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩] وسماها تَحِيَّة الْإِسْلَام، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّحِيَّةِ تَأْنِيسُ الدَّاخِلِ بِتَأْمِينِهِ إِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ وَبِاللُّطْفِ لَهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا.
وَلَفْظُ «السَّلَامِ» يَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ فَهُوَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَتَأْمِينٌ بِالسَّلَامِ لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا لَهُ بالسلامة فَهُوَ مسالم لَهُ فَكَانَ الْخَبَرُ كِنَايَةً عَنِ التَّأْمِينِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْأَمْرَانِ حَصَلَ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ السَّلَامَةَ لَا تُجَامِعُ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ فِي ذَاتِ السَّالِمِ، وَالْأَمَانُ لَا يُجَامِعُ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْمُعْتَدِي فَكَانَتْ دُعَاءً تُرْجَى إِجَابَتُهُ وَعَهْدًا بِالْأَمْنِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَفِي كَلِمَةِ عَلَيْكُمْ مَعْنَى التَّمَكُّنِ، أَيِ السَّلَامَةُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْكُمْ.
وَلِكَوْنِ كَلِمَةِ (السَّلَامِ) جَامِعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَا بِأَنْ جَعَلَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا رَسُولَهُ بِالْوَحْيِ.

[٢٢]

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٢٢]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)
لَمَّا ذُكِرَتْ أَقْوَالُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُؤْذِنَةُ بِمَا يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ وَقِلَّةِ الْإِيمَانِ وَالشَّكِّ فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: ١٢] قُوبِلَتْ أَقْوَالُ أُولَئِكَ بِأَقْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَمَا نَزَلَتْ بِهِمُ الْأَحْزَابُ وَرَأَوْا كَثْرَتَهُمْ وَعَدَدَهَمْ وَكَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ تَفَوُّقِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ أَضْعَافًا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدِ ابْتُلُوا وَزُلْزِلُوا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُخِرْ عَزَائِمَهُمْ وَلَا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَكًّا فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ.
وَكَانَ الله وعدهم بالنصر غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْبَقَرَة: ٢١٤]. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْأَحْزَابَ وَابْتُلُوا وَزُلْزِلُوا وَرَأَوْا مِثْلَ الْحَالَةِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِعَامٍ، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ الْأَحْزَابَ سَائِرُونَ إِلَيْكُمْ بَعْدَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ وَزُلْزِلُوا رَاجَعَهُمُ الثَّبَاتُ النَّاشِئُ عَنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَقَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَيْ: مِنَ النَّظَرِ وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِمَسِيرِ الْأَحْزَابِ وَصَدَّقُوا وَعْدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ وَإِخْبَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِ الْأَحْزَاب، فالإشارة ب هَذَا إِلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ جُيُوشِ الْأَحْزَابِ وَإِلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ وَعْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أُخْبِرُوا عَنْ صِدْقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ وَصَدَّقُوا اللَّهَ فِيمَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الْأَحْزَاب: ١٢] فَالْوَعْدُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْرَيْنِ وَالصِّدْقُ كَذَلِكَ.
وَالْوَعْدُ: إِخْبَارُ مُخْبِرٍ بِأَنَّهُ سَيَعْمَلُ عَمَلًا لِلْمُخْبَرِ- بِالْفَتْحِ-.
فَفِعْلُ صَدَقَ فِيمَا حُكِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَذلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَمْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدِ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الِاسْتِنْتَاجِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفَةِ أَلْوَانُهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، فَجُمْلَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ. وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ دَلَّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ فِي أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مُخْتَلِفُونَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨].
وَأُوثِرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الدَّلَالَةِ تَخَلُّصًا لِلتَّنْوِيهِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِيَنْتَقِلَ إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: ٢٩] الْآيَةَ...
فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، أَوْ كَذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١] : كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَهُوَ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيُسْتَأْنَفُ مَا بَعْدَهُ.
وَأَمَّا جَعْلُ كَذلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يُنَاسِبُ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِضَعْفِهِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا يَخْشَاهُ الْجُهَّالُ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَإِنَّ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ عَدَمِ الْعِلْمِ فَالْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْمُشْرِكُونَ جَاهِلُونَ نُفِيَتْ عَنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي مَرَاتِبِ الْخَشْيَةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَتَقْدِيمُ مَفْعُولِ يَخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْمَحْصُورَ فِيهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ هُمُ الْعُلَمَاءُ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَلَى سُنَّةِ تَأْخِيرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَبِالشَّرِيعَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ تَقْوَى الْخَشْيَةُ فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِعُلُومٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ مَعْرِفَةً عَلَى
مَاهِيَّتِهِ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ، ثُمَّ تَمْتَزِجُ تِلْكَ الذَّرَّةُ بِعَنَاصِرَ أُخْرَى مِثْلَ الْهَوَاءِ وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ آدَمَ مَخْلُوقًا مِنَ الطِّينِ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ ذَرَّاتِ جُثْمَانِهِ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ وَأُدْخِلَ عَلَى تِلْكَ الذَّرَّاتِ مَا امْتَزَجَتْ بِهِ عَنَاصِرُ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْكِيبِ مِنْ عَنَاصِرَ كِيمَاوِيَّةٍ وَقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ تَتَقَوَّمُ بِمَجْمُوعِهَا مَاهِيَّةُ الْإِنْسَانِ.
وَتَكُونُ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةً لَا تَبْعِيضِيَّةً.
وَقَدْ جَزَمَ الْفَلَاسِفَةُ الْأَوَّلُونَ وَالْأَطِبَّاءُ بِأَنَّ عُنْصُرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ- وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَرْضِ- لِأَنَّ النَّارَ لَطِيفَةٌ مُضِيئَةُ اللَّوْنِ وَالتُّرَابَ كَثِيفٌ مُظْلِمُ اللَّوْنِ.
وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ كُلِّيَّاتِ الْقَانُونِ» : إِنَّ النَّارَ وَإِنْ تَرَجَّحَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِمَا ذُكِرَ فَالْأَرْضُ رَاجِحَةٌ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا خَيْرٌ لِلْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرُ مُفْسِدَةٍ بِبَرْدِهَا، بِخِلَافِ النَّارِ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ بِحَرِّهَا لِكَوْنِهِ فِي الْغَايَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعَنَاصِرِ لَا تَقْتَضِي أَفْضَلِيَّةَ الْكَائِنَاتِ الْمُنْشَأَةِ مِنْهَا لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ أَجْرَامٌ بَسِيطَةٌ لَا تَتَكَوَّنُ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ مُجَرَّدِهَا بَلِ الْمَخْلُوقَاتُ تَتَكَوَّنُ بِالتَّرْكِيبِ بَيْنَ الْعَنَاصِرِ، وَالْأَجْسَامُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ كُلِّهَا. وَالرُّوحُ الْآدَمِيُّ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ تَفَوَّقَ بِهَا الْإِنْسَانُ عَلَى جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ بِأَنْ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مَلَكِيٌّ شَارَكَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَلِذَلِكَ طَلَبَ مِنْهُ خَالِقُهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يُلْحِقَ نَفْسَهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَتَحَقَّقَ ذَلِكَ الِالْتِحَاقُ كَامِلًا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ أَفْضَلُ من الْمَلَائِكَة لَا ستواء الْفَرِيقَيْنِ فِي تَمَحُّضُ النُّورَانِيَّةِ وَتَمَيَّزَ فَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُمْ لَحِقُوا تِلْكَ الْمَرَاتِبَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالطَّاعَةِ، فَلَيْسَ لِإِبْلِيسَ دَلِيلٌ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى آدَمَ وَإِنَّمَا عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ ضَالَّةٌ وَلِذَلِكَ جُوزِيَ عَلَى إِبَائِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَيْهِ بِالطَّرْدِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى.
وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَا لِرَدِّ شُبَهِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُصَوِّبُونَ شُبْهَةَ إِبْلِيسَ طَعْنًا فِي الدِّينِ لَا إِيمَانًا بِالشَّيَاطِينِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنْ يَكُونَ مَا يَنْشَأُ مِنَ النَّارِ أَفْضَلُ مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الطِّينِ لِأَنَّ
وَقَوْلُهُ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْوَعِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ كَائِنٍ، وَهُوَ مُتَّصِلُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ آنِفًا: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ [فصلت: ٢٢] الْآيَةَ.
وَالْإِلْحَادُ حَقِيقَتُهُ: الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْكَوْنِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: ٣٧] إِلَخْ. وتشمل الْآيَات الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦]. فَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِهَا وَلِلطَّعْنِ فِي صِحَّتِهَا وَصَرْفِ النَّاسِ عَنْ سَمَاعِهَا.
وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْله: فِي آياتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِ إِلْحَادِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُمَا كَانَتْ أَوْ كُلَّمَا سَمِعُوهَا. وَمَعْنَى نَفْيِ خَفَائِهِمْ: نَفِيُ خَفَاءِ إِلْحَادِهِمْ لَا خَفَاءِ ذَوَاتِهِمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ.
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا لِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ بِنَارِ جَهَنَّمَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِك.
والاستفهام تقريع مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَرْتَبَتَيْنِ.
وَكُنِّيَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِي آمِناً أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ مَصِيرُهُ الْجَنَّةُ إِذْ لَا غَايَةَ لِلْآمِنِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَعِيمٍ. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِالَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ.
وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الِاحْتِبَاكِ، إِذْ حُذِفَ مُقَابِلُ: (مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) وَهُوَ: مَنْ
وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّحْقِيرِ لَهُمْ، وَقَرِيب مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيم: ٤٦]، وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ اللَّبَّانَةِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي رِثَاءِ الْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ مَلِكِ إِشْبِيلِيَّةَ:
تَبْكِي السَّمَاءُ بِمُزْنٍ رَائِحٍ غَادِ عَلَى الْبَهَالِيلِ مِنْ أَبْنَاءِ عَبَّادِ
وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانَ هَلَاكُهُمْ إِلَّا كَهَلَاكِ غَيْرِهِمْ وَلَا أُنْظِرُوا بِتَأْخِيرِ هَلَاكِهِمْ بَلْ عُجِّلَ لَهُم الاستئصال.
[٣٠، ٣١]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدُّخان:
٢٤] الَّذِي تَقْدِيرُهُ: فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٦٤- ٦٦] وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.
وَالْمَعْنَى: وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ وَقَسَاوَتِهِ، أَيْ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَحْرِ هَلَاكًا لِقَوْمٍ وَإِنْجَاءً لِآخَرِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْجِي الَّذِينَ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ، كَمَا نَجَّى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ.
وَجُعِلَ طُغْيَانُ فِرْعَوْنَ وَإِسْرَافُهُ فِي الشَّرِّ مَثَلًا لِطُغْيَانِ أَبِي جَهْلٍ وَمَلَئِهِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِاللَّامِ. وَقَدْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقَدَّرِ لِلْمُشْرِكِينَ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: ١٢].
والْعَذابِ الْمُهِينِ: هُوَ مَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الاستعباد والإشفاق عَلَيْهِمْ فِي السُّخْرَةِ، وَكَانَ يُكَلِّفُهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا لَهُ اللَّبِنَ كُلَّ يَوْمٍ لِبِنَاءِ مَدِينَتَيِ فَيْثُومَ ورعمسيس وَكَانَ اللَّبِنُ يُصْنَعُ مِنَ الطُّوبِ وَالتِّبْنِ فَكَانَ يُكَلِّفُهُمُ اسْتِحْضَارَ التِّبْنِ اللَّازِمِ لِصُنْعِ اللَّبِنِ وَيَلْتَقِطُونَ مُتَنَاثِرَهُ وَيُذِلُّونَهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً، فَذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُهِينُ لِأَنَّهُ عَذَابٌ فِيهِ إِذْلَالٌ.
وَ (عَتِيدٌ) فَعِيلٌ مِنْ عَتَدَ بِمَعْنَى هَيَّأَ، وَالتَّاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنَ الدَّالِ الْأَوَّلِ إِذْ أَصْلُهُ عَدِيدٌ، أَيْ مُعَدٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يُوسُف: ٣١]. وَعِنْدِي أَنَّ عَتِيدٌ هُنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ (عَتُدَ) بِضَمِّ التَّاءِ إِذَا جَسُمَ وَضَخُمَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ شَدِيدًا وَبِهَذَا يَحْصُلُ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] وَيَحْصُلُ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ.
وَقَدْ تَوَاطَأَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَفْسِيرِ التَّلَقِّي فِي قَوْلِهِ: الْمُتَلَقِّيانِ بِأَنَّهُ تَلَقِّي الْأَعْمَالِ لِأَجْلِ كَتْبِهَا فِي الصَّحَائِفِ لِإِحْضَارِهَا لِلْحِسَابِ وَكَانَ تَفْسِيرًا حَائِمًا حَوْلَ جَعْلِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ لِفِعْلٍ يَتَلَقَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ بِدَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَقْدِيرِهِمْ مُنْفَصِلَةً عَنْ جُمْلَةٍ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: ١٩] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَلِفَخْرِ الدِّينِ مَعْنًى دَقِيقٌ فَبَعْدَ أَنْ أَجْمَلَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا يُسَايِرُ تَفْسِيرَ الْجُمْهُورِ قَالَ:
«وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّلَقِّي الِاسْتِقْبَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ تَلَقَّى الرَّكْبَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَاهُ: وَقْتَ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّيَانِ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ قَعِيدٌ، فَالْمُتَلَقِّيَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الصَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى السُّرُورِ وَالْآخَرُ يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الطَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، أَيْ وَقْتِ تَلَقِّيهِمَا وَسُؤَالِهِمَا أَنَّهُ مِنْ أَيِ الْقَبِيلَيْنِ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَعِيدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنِ الشِّمَالِ مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، وَعِنْدَهُ مَلَكَانِ آخَرَانِ كَاتِبَانِ لِأَعْمَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١]. فَالشَّهِيدُ هُوَ الْقَعِيدُ وَالسَّائِقُ هُوَ الْمُتَلَقِّي يَتَلَقَّى رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ فَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ، وَهَذَا أَعْرَفُ الْوَجْهَيْنِ وَأَقَرَبُهُمَا إِلَى الْفَهْمِ» اهـ.
وَكَأَنَّهُ يَنْحُو بِهِ مَنْحَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الْوَاقِعَة: ٨٣- ٨٥]. وَلَا نُوقِفُ فِي سَدَادِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِ مَلَكَيْنِ يَتَسَلَّمَانِ رُوحَ الْمَيِّتِ مِنْ يَدِ مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ قَبْضِهَا وَيَجْعَلَانِهَا فِي الْمَقَرِّ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهَا. وَالْمَظْنُونُ بِفَخْرِ الدِّينِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ

[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٤]

وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤)
إفضاء إِلَى الصِّنْف الثَّالِثِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشَاقَّةِ. وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ: مَا أَصْحابُ الشِّمالِ وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ فِي سَمُومٍ بَعْدَهَا كَالْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الْوَاقِعَة: ٢٧، ٢٨].
وَالسُّمُومُ: الرِّيحُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي لَا بَلَلَ مَعَهُ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّمِّ، وَهُوَ مَا يهْلك إِذْ لَاقَى الْبَدَنَ.
وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ.
وَالْيَحْمُومُ: الدُّخَّانُ الْأَسْوَدُ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحُمَمِ بِوَزْنِ صُرَدٍ اسْمٌ لِلْفَحْمِ. وَالْحُمَمَةُ: الْفَحْمَةُ، فَجَاءَتْ زِنَةُ يفعول فِيهِ اسْمًا مَلْحُوظًا فِيهِ هَذَا الْاِشْتِقَاقُ وَلَيْسَ يَنْقَاسُ.
وَحَرْفُ مِنْ بَيَانِيَّةٌ إِذِ الظِّلُّ هُنَا أُرِيدُ بِهِ نَفْسُ الْيَحْمُومَ، أَيِ الدُّخَّانِ الْأَسْوَدِ.
وَوَصَفَ ظِلٍّ بِأَنَّهُ مِنْ يَحْمُومٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ ظِلُّ دُخَّانِ لَهَبِ جَهَنَّمَ، وَالدُّخَّانُ الْكَثِيفُ لَهُ ظِلٌّ لِأَنَّهُ بِكَثَافَتِهِ يَحْجُبُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنَ الدُّخَانِ ظِلُّهُ لِمُقَابَلَتِهِ بِالظِّلِّ الْمَمْدُودِ الْمُعَدِّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَة: ٣٠]، أَيْ لَا ظِلَّ لِأَصْحَابِ الشَّمَالِ سِوَى ظِلِّ الْيَحْمُومِ. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّهَكُّمِ.
وَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّهَكُّمِ وُصِفَ هَذَا الظِّلُّ بِمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْبَرْدِ عَنْهُ وَنَفْيَ الْكَرَمِ، فَبَرْدُ الظِّلِّ مَا يَحْصُلُ فِي مَكَانِهِ مِنْ دَفْعِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَكَرَمُ الظِّلِّ مَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ فِي الظِّلَالِ مِثْلَ سَلَامَتِهِ مِنْ هُبُوبِ السَّمُومِ عَلَيْهِ، وَسَلَامَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَظِلُّهُ مِنَ الْحَشَرَاتِ
وَالْأَوْسَاخِ، وَسَلَامَةِ أَرْضِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذِ الْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ هُوَ الْجَامِعُ لِأَكْثَرِ مَحَاسِنِ نَوْعِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَة سُلَيْمَان [٢٩]، فَوَصَفَ ظِلَّ الْيَحْمُومِ بِوَصْفٍ
وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي أَنَّ حِكْمَةَ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ أَنَّهَا حِفْظُ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَكْثُرُ الْتِفَاتُ الْعُيُونِ لَهَا وَقَدْ يَتَسَرَّبُ سُوءُ الظَّنِّ إِلَيْهَا فَيَكْثُرُ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهَا وَلَا تَجِدُ ذَا عِصْمَةٍ يَذُبُّ عَنْهَا فَلِذَلِكَ شُرِعَتْ لَهَا السُّكْنَى وَلَا تَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجِيَاتِهَا فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مِنْ قَبِيلِ الْمَظِنَّةِ فَإِذَا طَرَأَ عَلَى الْأَحْوَالِ مَا أَوْقَعَهَا فِي الْمَشَقَّةِ أَوْ أَوْقَعَ النَّاسَ فِي مَشَقَّةٍ مِنْ جَرَّائِهَا أُخْرِجَتْ
مِنْ ذَلِكَ الْمَسْكَنِ وَجَرَى عَلَى مُكْثِهَا فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ مُطَلِّقِهَا لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ قَدْ عَارَضَتْهَا مَئِنَّةٌ. وَمِنَ الْحُكْمِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ لَا تَجِدُ مَسْكَنًا لِأَنَّ غَالِبَ النِّسَاءِ لَمْ تَكُنْ لَهُنَّ أَمْوَالٌ وَإِنَّمَا هُنَّ عِيَالٌ عَلَى الرِّجَالِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةً مِنَ التَّزَوُّجِ كَانَ إِسْكَانُهَا حَقًّا عَلَى مُفَارِقِهَا اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ حَتَّى تَحِلَّ لِلتَّزَوُّجِ فَتَصِيرَ سُكْنَاهَا عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا. وَيُزَادُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ قَصْدُ اسْتِبْقَاءِ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُطَلِّقِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يَثُوبَ إِلَيْهِ رُشْدُهُ فَيُرَاجِعَهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِي مُرَاجَعَتِهَا إِلَى إِعَادَةِ التَّذَاكُرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا. فَهَذَا مَجْمُوعُ عِلَلٍ فَإِذَا تَخَلَّفَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا لَمْ يَتَخَلَّفِ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِعِلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ لَا يُبْطِلُهُ سُقُوطُ بَعْضِهَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ إِذَا تَخَلَّفَ جُزْءٌ مِنْهَا.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.
الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلا يَخْرُجْنَ، وَجُمْلَةِ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أُرِيدَ بِهِذَا الِاعْتِرَاضِ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى إِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِقَامَةً لَا تَقْصِيرَ فِيهَا وَلَا خِيَرَةَ لِأَحَدٍ فِي التَّسَامُحِ بِهَا، وَخَاصَّةً الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُطَلِّقُ أَنْ يَحْسَبَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمَا انْفِرَادًا أَوِ اشْتِرَاكًا.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا بِتَأْوِيلِ الْقَضَايَا.
وَالْحُدُودُ: جَمْعُ حَدٍّ وَهُوَ مَا يَحُدُّ، أَيْ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِيَازِ إِلَى مَا وَرَائِهِ لِلْأَمَاكِنِ الَّتِي لَا يُحِبُّونَ الِاقْتِحَامَ فِيهَا إِمَّا مُطْلَقًا مِثْلَ حُدُودِ الْحِمَى وَإِمَّا لِوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْحَالَةِ مِثْلَ حُدُودِ الْحَرَمِ لِمَنْعِ الصَّيْدِ وَحُدُودِ الْمَوَاقِيتِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُشَابِهَةٌ الْحُدُودَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ فِي هَذَا.
وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يُلَقَّبُ فِي قُرَيْشٍ بِالْوَحِيدِ لِتَوَحُّدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِاجْتِمَاعِ مَزَايَا لَهُ لَمْ تَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ من طبقته وَهِي كَثْرَةُ الْوَلَدِ وَسَعَةُ الْمَالِ، وَمَجْدُهُ وَمَجْدُ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَانَ مَرْجِعَ قُرَيْشٍ فِي أُمُورِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ بِلَقَبِ الْوَحِيدِ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ إِيمَاءً إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمُشْتَهِرِ بِهِ. وَجَاءَ هَذَا الْوَصْفُ بَعْدَ فِعْلِ خَلَقْتُ، لِيَصْرِفَ هَذَا الْوَصْفَ عَمَّا كَانَ مُرَادًا بِهِ فَيَنْصَرِفَ إِلَى مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُقَارِنَ فِعْلَ خَلَقْتُ أَيْ أَوْجَدْتُهُ وَحِيدًا عَنِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ وَالْبَسْطَةِ، فَيُغَيَّرُ عَنْ غَرَضِ الْمَدْحِ
وَالثَّنَاءِ الَّذِي كَانُوا يَخُصُّونَهُ بِهِ، إِلَى غَرَضِ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ حَالُ كُلِّ مَخْلُوقٍ فَتَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النَّحْل: ٧٨] الْآيَةَ.
وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
وَالْمَمْدُودُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ مَدَّ الَّذِي بِمَعْنَى: أَطَالَ، بِأَنْ شُبِّهَتْ كَثْرَةُ الْمَالِ بِسَعَةِ مِسَاحَةِ الْجِسْمِ، أَوْ مِنْ مَدَّ الَّذِي بِمَعْنَى: زَادَ فِي الشَّيْءِ مِنْ مِثْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَدَّ الْوَادِي النَّهْرَ، أَيْ مَالًا مَزِيدًا فِي مِقْدَارِهِ مَا يَكْتَسِبُهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْمَكَاسِبِ. وَكَانَ الْوَلِيدُ مِنْ أَوْسَعِ قُرَيْشٍ ثَرَاءً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مَالُ الْوَلِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالْجِنَانِ وَكَانَتْ غَلَّةُ مَالِهِ أَلْفَ دِينَارٍ (أَيْ فِي السَّنَةِ).
وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْبَنِينَ وَوَصَفَهُمْ بِشُهُودٍ جَمْعِ شَاهِدٍ، أَيْ حَاضِرٍ، أَيْ لَا يُفَارِقُونَهُ فَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ لَا يَشْتَغِلُ بَالُهُ بِمَغِيبِهِمْ وَخَوْفِ مَعَاطِبِ السَّفَرِ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا بِغِنًى عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ بِتِجَارَةٍ أَوْ غَارَةٍ، وَكَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَحَافِلَ فَكَانُوا فَخْرًا لَهُ، قِيلَ: كَانَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ وَقِيلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، وَهُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَخَالِدٌ، وَعُمَارَةُ، وَهِشَامٌ، وَالْعَاصِي، وَقَيْسٌ أَوْ أَبُو قَيْسٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ (وَبِهِ يُكَنَّى). وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَزْمٍ فِي «جَمْهَرَةِ الْأَنْسَابِ» : الْعَاصِيَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى سِتَّةٍ.
وَالتَّمْهِيدُ: مَصْدَرُ مَهَّدَ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْمَهْدِ. وَالْمَهْدُ: تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِزَالَةُ مَا يُقِضُّ جَنْبَ الْمُضْطَجِعِ عَلَيْهَا، وَمَهْدُ الصَّبِيِّ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ.
وَالتَّمْهِيدُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَيْسِيرِ أُمُورِهِ وَنَفَاذِ كَلِمَتِهُ فِي قَوْمِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ مَطْلَبٌ وَلَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ أَمْرٌ.
تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ الْأَحْجَامِ، فَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ مَجْلَبَةً لِمَا يُجَشِّمُهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَذَا التَّفْرِيعِ، وَبَيْنَ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية: ٨] كَانَ فِي مَوْقِعِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا عَلِمْتَ.
فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْحَالِ إِلَى دَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَيْنِ الْمُفِيدِ الِاعْتِبَارَ بِدَقَائِقِ الْمَنْظُورِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) تَنْبِيهٌ عَلَى إِمْعَانِ النَّظَرِ لِيَشْعُرَ النَّاظِرُ مِمَّا فِي الْمَنْظُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ نَظَرَ إِلَى كَذَا أَشَدُّ فِي تَوْجِيهِ النَّظَرِ مِنْ نَظَرَ كَذَا، لِمَا فِي (إِلَى) مِنْ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ حَتَّى كَأَنَّ النَّظَرَ انْتَهَى عِنْدَ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) انْتِهَاءَ تَمَكُّنٍ وَاسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الْأَحْزَاب: ١٩] وَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَة: ٢٣].
وَلِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْكَارِ هَذَا الْإِهْمَالِ قُيِّدَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ بِالْكَيْفِيَّاتِ الْمَعْدُودَةِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ خُلِقَتْ، كَيْفَ رُفِعَتْ، كَيْفَ نُصِبَتْ، كَيْفَ سُطِحَتْ أَيْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى دَقَائِقِ هَيْئَاتِ خَلْقِهَا.
وَجُمْلَةُ: كَيْفَ خُلِقَتْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلُ يَنْظُرُونَ لَا حَرْفُ الْجَرِّ، فَإِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ آلَةٌ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَالْفِعْلُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى حَرْفِ الْجَرِّ فِي التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِ فِي الْبَدَلِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ الْمَتْبُوعِ وَمَا يَقْتَضِيهِ إِعْمَالُ التَّابِعِ فَكُلٌّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَاهُ وَمَوْقِعُهُ، فَكَيْفَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَالْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ هَيْئَةَ خَلْقِهَا.
وَقَدْ عُدَّتْ أَشْيَاءُ أَرْبَعَةٌ هِيَ مِنَ النَّاظِرِينَ عَنْ كَثَبٍ لَا تَغِيبُ عَنْ أَنْظَارِهِمْ، وَعُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ اشْتِرَاكُهَا فِي مَرْآهُمْ جِهَةً جَامِعَةً بَيْنَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، فَالَّذِي حَسَّنَ اقْتِرَانَ الْإِبِلِ مَعَ


الصفحة التالية
Icon