فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: ٦] فَإِنَّ التَّعَدُّدَ مَقْصُودٌ بِقَرِينَةِ وَصْفِهِ بِثَلَاثٍ. وَلَكِنَّ بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَسْمَحُ بِاسْتِعْمَالِ جَمْعٍ غَيْرِ مُرَادٍ بِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَفْظِهِ الْمُفْرَدِ، وَيَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمْعَ (ظُلُمَاتٍ) أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَحْوَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ كُلُّ حَالَةٍ مِنْهَا تَصْلُحُ لِأَنْ تُشَبَّهَ بِالظُّلْمَةِ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ الْكُفْرِ، وَحَالَةُ الْكَذِبِ، وَحَالَةُ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَتْبَعُ تِلْكَ الْأَحْوَالَ مِنْ آثَارِ النِّفَاقِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ وَبَوَاطِنِ الْكُفْرِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ ظُهُورُ أَمْرٍ نَافِعٍ ثُمَّ انْعِدَامُهُ قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ صُورَةٌ مِنْ حُسْنِ الْإِيمَانِ وَبَشَاشَتِهِ لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ نُورًا وَبَرَكَةً ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَرْجِعُوا عِنْدَ خُلُوِّهِمْ بِشَيَاطِينِهِمْ فَيَزُولُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَيَرْجِعُوا فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَشَدَّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي كُفْرٍ فَصَارُوا فِي كُفْرٍ وَكَذِبٍ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنِ النِّفَاقِ مِنَ الْمَذَامِّ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَوْقِدُ النَّارَ فِي الظَّلَامِ يَتَطَلَّبُ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا انْطَفَأَتِ النَّارُ صَارَ أَشَدَّ حَيْرَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ضَوْءَ النَّارِ قَدْ عَوَّدَ بَصَرَهُ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الظُّلْمَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَقْوَى وَيَرْسَخُ الْكُفْرُ فِيهِمْ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ نُكْتَةُ الْبَيَانِ بِجُمْلَةِ: لَا يُبْصِرُونَ لِتَصْوِيرِ حَالِ مَنِ انْطَفَأَ نُورُهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ.
وَمَفْعُولُ لَا يُبْصِرُونَ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ عُمُومِ نفي المبصرات فتنزل الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا إِحْسَاسَ بَصَرٍ لَهُمْ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:

شَجْوُ حُسَّادِهِ وَغَيْظُ عِدَاهُ أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعِ
وَقَدْ أُجْمِلَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي تَشْبِيهِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ اعْتِمَادًا عَلَى فِطْنَةِ السَّامِعِ لِأَنَّهُ يَمْخَضُهُ
مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ حَالِهِمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨] إِلَخْ وَمِمَّا يَتَضَمَّنُهُ الْمَثَلَانِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى وُجُوهِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَحْوَالِهِمْ وَأَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَإِنَّ إِظْهَارَهُمُ الْإِيمَانَ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١١] وَقَوْلِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤمنِينَ: آمَنَّا [الْبَقَرَة: ١٤] أَحْوَالٌ وَمَظَاهِرُ حَسَنَةٌ تَلُوحُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ حِينَمَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَمَا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَيَصْدُرُ مِنْهُمْ طَيِّبُ الْقَوْلِ وَقَوِيمُ السُّلُوكِ وَتُشْرِقُ عَلَيْهِمُ الْأَنْوَارُ النَّبَوِيَّةُ فَيَكَادُ نُورُ الْإِيمَانِ يَخْتَرِقُ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا يَعْقُبُ تِلْكَ الْحَالَةَ الطَّيِّبَةَ حَالَةٌ تُضَادُهَا عِنْدَ انْفِضَاضِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ الزَّكِيَّةِ وَخُلُوصِهِمْ إِلَى بِطَانَتِهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ أَوْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَتُعَاوِدُهُمُ الْأَحْوَالُ الذَّمِيمَةُُُ
وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ لَا مَحَالَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي اخْتَلَفُوا عَائِدٌ لِلْمُخْتَلِفِينَ كُلِّهِمْ، سَوَاءٌ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرَائِعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَلذَلِك بَينه بقوله: مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ اخْتِلَافَ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ إِمَّا عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ حَسَدٍ وَبَغْيٍ.
وَالْإِذْنُ: الْخِطَابُ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ أَذِنَ إِذَا أَصْغَى أُذُنَهُ إِلَى كَلَامِ مَنْ يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْإِصْغَاءَ إِلَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ وَإِجَابَةَ مَطْلَبِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِذْنُ أَشْيَعَ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ، وَبِذَلِكَ صَارَ لَفْظُ الْإِذْنِ قَابِلًا لِأَنْ يُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي مَعَانٍ مِنْ مُشَابِهَاتِ الْخِطَابِ بِالْإِبَاحَةِ، فَأُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّمْكِينِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَتَيْسِيرِهِ بِمَا فِي الشَّرَائِعِ مِنْ بَيَانِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى وَسَائِلِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ مَنْ يُيَسِّرُ لَكَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُ أَبَاحَ لَكَ تَنَاوُلَهُ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ بِالْإِسْلَامِ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، أَوْ لِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتِ الرُّسُلُ لِتَحْصِيلِهِ، فَاخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُمْ فِيهِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُحَقِّقُوا بِأَفْهَامِهِمْ مَقَاصِدَ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، فَحَصَلَ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وُضُوحُ الْحَقِّ وَالْإِرْشَادُ إِلَى كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ، فَحَصَلَ بِمَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِتْمَامُ مُرَاد الله مِمَّا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَذْيِيلٌ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا إِجْمَالٌ، وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَتَأَخَّرَ تَمَامُ الْهُدَى إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا تَهَيَّأَ الْبَشَرُ بِمَجِيءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ لِقَبُولِ هَذِه الشَّرِيعَة الجامعة،
فَكَانَت الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَمْهِيدًا وَتَهْيِئَةً لِقَبُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ:
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَكَمَا كَانَ الْبَشَرُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى هُدًى بَسِيطٍ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ الضَّلَالَاتُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ، رَجَعَ الْبَشَرُ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ ارْتِقَاءِ الْأَفْكَارِ، وَهَذَا اتِّحَادٌ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، و
حَارَانَ. فَلَعَلَّ أَهْلَ حَارَانَ دَعَوْهُ آزَرَ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ صِقْعِ آزَرَ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَام- نبّىء فِي حَارَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ.
وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِلْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِيهِ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ.
وَلِذَا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ آزَرَ فِي الْآيَةِ مُنَادًى وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ آزَرَ مَضْمُومًا. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهُ أَإِزْرُ- بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ-، وَرُوِيَ: عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ- وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِهِ حِكَايَةً لِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ خِطَابَ غِلْظَةٍ، فَذَلِكَ مُقْتَضَى ذِكْرِ اسْمِهِ الْعَلَمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آزَرَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِضَمِّهَا-. وَاقْتَصَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى جَعْلِهِ فِي قِرَاءَةِ- فَتْحِ الرَّاءِ- بَيَانا من لِأَبِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ مَوْقِفُ غِلْظَةٍ، فَيَتَعَيَّنُ أنّه كَانَ عِنْد مَا أَظْهَرَ أَبُوهُ تَصَلُّبًا فِي الشِّرْكِ. وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ أَبُوهُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَم: ٤٦] وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْقِفِ الَّذِي خَاطَبَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٢].
وتَتَّخِذُ مُضَارِعُ اتَّخَذَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى التَّكَلُّفِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ الْفِعْلِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَاءً لِقَصْدِ الْإِدْغَامِ تَخْفِيفًا وَلَيَّنُوا الْهَمْزَةَ ثُمَّ اعْتَبَرُوا التَّاءَ كَالْأَصْلِيَّةِ فَرُبَّمَا قَالُوا: تَخِذَ بِمَعْنَى اتّخذ، وَقد قرىء بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الْكَهْف: ٧٧] ولَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً فَأَصْلُ فِعْلِ اتَّخَذَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَصْلُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي حَالًا، وَقَدْ وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧] بِأَنَّ نُبَيِّنَ اسْتِعْمَالَ (اتَّخَذَ) وَتَعَدِّيَتَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى تَتَّخِذُ هُنَا تَصْطَفِي وَتَخْتَارُ فَالْمُرَادُ أَتَعْبُدُ أَصْنَامًا.
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِجَابَةِ فِي إِجَابَةِ طَلَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي الْأَعَمِّ، فَأَمَّا الْإِجَابَةُ فَهِيَ إِجَابَةٌ لِنِدَاءٍ وَغَلَبَ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ، وَتقدم ذَلِك عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٥].
وَإِعَادَةُ حَرْفٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرَّسُولِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِقْلَالِ الْمَجْرُورِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الِاسْتِجَابَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَمُّ مِنَ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلَّهِ لَا تكون إلّا بِمَعْنَى الْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ بِخِلَافِ الِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقَةِ وَهُوَ اسْتِجَابَةُ نِدَائِهِ، وَلِلْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ فَأُرِيدَ أَمْرُهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ بِالْمَعْنَيَيْنِ كُلَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ دَعْوَةٌ تَقْتَضِي أَحَدَهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ اللَّامِ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمرَان: ١٧٢] فَإِنَّهَا الطَّاعَةُ لِلْأَمْرِ بِاللَّحَاقِ بِجَيْشِ قُرَيْشٍ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ، فَهِيَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ دَعاكُمْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ مُبَاشَرَةً، كَمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: ٢٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قَيْدًا لِلْأَمْرِ بِاسْتِجَابَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ وَإِحْيَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لِما يُحْيِيكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ دَعَاكُمْ لِأَجْلِ مَا هُوَ سَبَبُ حَيَاتِكُمُ الرُّوحِيَّةِ.
وَالْإِحْيَاءُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ فِي الْجَسَدِ، وَالْحَيَاةُ قُوَّةٌ بِهَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَالتَّحَرُّكُ بِالِاخْتِيَارِ وَيُسْتَعَارُ الْإِحْيَاءُ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَيَاةِ لِلصِّفَةِ أَوِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ مَوْصُوفِهَا فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ مِثْلَ حَيَاةِ الْأَرْضِ بِالْإِنْبَاتِ وَحَيَاةِ الْعَقْلِ بِالْعِلْمِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ، وَضِدُّهَا الْمَوْتُ فِي الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: ٢١] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٢].
وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَتُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ وَالْإِحْيَاءُ لِبَقَاءِ
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢]، وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: ١٧] قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود:
١١٤] الْآيَةَ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي بَعْضِ آيِهَا تَوَهُّمٌ لِاشْتِبَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي قِصَّةٍ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ كَمَا يَأْتِي، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ وَاضِحٌ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ وَقَبْلَ سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ
يُونُسَ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ فِيهَا وَقَعَ بِعَشْرِ سُوَرٍ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا.
وَقَدْ عُدَّتْ آيَاتُهَا مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْعَدَدِ الْمَدَنِيِّ الْأَخِيرِ. وَكَانَتْ آيَاتُهَا مَعْدُودَةً فِي الْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ.
وَأَغْرَاضُهَا: ابْتَدَأَتْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى التَّحَدِّي لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآن بِمَا تومىء إِلَيْهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَبِاتِّلَائِهَا بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ.
وَبِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَبِأَنَّ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نَذِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَتَاعٍ حَسَنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَإِثْبَاتِ الْحَشْرِ.
وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى خَفَايَا النَّاسِ.
وَجُمْلَةُ مَتاعٌ قَلِيلٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فِي صُورَةِ جَوَابٍ عَمَّا يَجِيشُ بِخَاطِرِ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنْ عَدَمِ فَلَاحِهِمْ مَعَ مُشَاهَدَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي حَالَةٍ مِنَ الْفَلَاحِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ، أَي نفع موقّت زَائِلٌ وَلَهُمْ بَعْدَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَالْآيَةُ تُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَتَقَوَّلُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ بِنَصٍّ صَرِيحٍ أَوْ بِإِيجَادِ مَعَانٍ وَأَوْصَافٍ لِلْأَفْعَالِ قَدْ جَعَلَ لِأَمْثَالِهَا أَحْكَامًا، فَمَنْ أَثْبَتَ حَلَالًا وَحَرَامًا بِدَلِيلٍ مِنْ مَعَانٍ تَرْجِعُ إِلَى مُمَاثَلَةِ أَفْعَالٍ تَشْتَمِلُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي فَقَدْ قَالَ بِمَا نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا.
وَقَدَّمَ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ زِيَادَةً فِي التَّحْذِيرِ. وَجِيءَ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَن الْعَذَاب خقّهم لأجل افترائهم.
[١١٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
لَمَّا شَنَّعَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ جَرْيًا عَلَى مَا اعْتَادَهُ قَوْمُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ، نَظَرَ أُولَئِكَ وَحَذَّرَ هَؤُلَاءِ. فَهَذَا وَجْهُ تَعْقِيبِ الْآيَةِ السَّالِفَةِ بِآيَةِ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ.
وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى تِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ قَوْلُهُ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، أَيْ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِمَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا النِّعْمَةَ فَحُرِمُوا مِنْ نَعَمٍ عَظِيمَةٍ. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ جَانِبَ التَّحْذِيرِ فِيهِ أَهَمُّ مِنْ جَانِبِ التَّنْظِيرِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا لِلِاهْتِمَامِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُرِّمَ
عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-
وَجُمْلَةُ يُحَلَّوْنَ فِي مَوضِع الصّفة «لجنات عَدْنٍ».
وَالتَّحْلِيَةُ: التَّزْيِينُ، وَالْحِلْيَةُ: الزِّينَةُ.
وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ مُحِلِّينَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سِوَارٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاس. وَقيل: أَصله جَمْعُ أَسْوِرَةٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سِوَارٍ. فَصِيغَةُ جَمْعِ الْجَمْعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِ مَا يُحَلَّوْنَ بِهِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْحِلْيَةَ تَكُونُ مُرَصَّعَةً بِأَصْنَافِ الْيَوَاقِيتِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَساوِرَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَسَيَأْتِي وَجْهُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ.
وَالسِّوَارُ: حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يُحِيط بِموضع من الذِّرَاعِ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ فِي الفارسية (دستواره) بَهَاءٍ فِي آخِرِهِ كَمَا فِي «كِتَابِ الرَّاغِبِ»، وَكُتِبَ بِدُونِ هَاءٍ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ».
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ ذَهَبٍ فَإِنَّ (مِنْ) فِيهِ لِلْبَيَانِ، وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ كَمَا اكْتَفَى فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ بِذِكْرِ الْفِضَّةِ عَنْ ذِكْرِ الذَّهَبِ بِقَوْلِهِ: وَحُلُّوا أَساوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ
[الْإِنْسَان: ٢١]، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَعْدِنَيْنِ جَمَالُهُ الْخَاصُّ.
وَاللِّبَاسُ: سَتْرُ الْبَدَنِ بِثَوْبٍ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلِلتَّجَمُّلِ.
وَالثِّيَابُ: جَمْعُ ثَوْبٍ، وَهُوَ الشُّقَّةُ مِنَ النَّسِيجِ.
وَاللَّوْنُ الْأَخْضَرُ أَعْدَلُ الْأَلْوَانِ وَأَنْفَعُهَا عِنْدَ الْبَصَرِ، وَكَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وُجُوهُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٣٩] أَيْ لَهُمْ. وَأَمَّا وُجُوهُ أَهْلِ الطَّاعَاتِ فَهِيَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيُرَادُ بِ عَنَتِ خَضَعَتْ، أَيْ خَضَعَ جَمِيعُ النَّاسِ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْحَيُّ: الَّذِي ثَبُتَ لَهُ وَصَفُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ حَاصِلَةٌ لِأَرْقَى الْمَوْجُودَاتِ، وَهِيَ قُوَّةٌ لِلْمَوْجُودِ بِهَا بَقَاءُ ذَاتِهِ وَحُصُولُ إِدْرَاكِهِ أَبَدًا أَوْ إِلَى أَمَدٍ مَا. وَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ حَيَاةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِضِدِّهَا وَلَا مُنْتَهِيَةٍ.
وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ، مُبَالَغَةً فِي الْقَيِّمِ، أَيِ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ تَدْبِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَتَقَدَّمَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً إِمَّا مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ أَنْ جُعِلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وُجُوهُ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: إِذْ قَدْ خَابَ كُلُّ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَإِمَّا احْتِرَاسٌ لِبَيَانِ اخْتِلَافِ عَاقِبَةِ عَنَاءِ الْوُجُوهِ، فَمَنْ حَمَلَ ظُلْمًا فَقَدْ خَابَ يَوْمَئِذٍ وَاسْتَمَرَّ عَنَاؤُهُ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا عَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْخَوْفُ بِالْأَمْنِ وَالْفَرَحِ. وَالظُّلْمُ: ظُلْمُ النَّفْسِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ: شَرْطِيَّةٌ مُفِيدَةُ قَسِيمَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وَصِيغَ هَذَا الْقَسِيمُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ، وفَلا يَخافُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُوَالَاةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، فَتَعَيَّنَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَا) الَّتِي فِيهَا نَاهِيَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِئْنَافِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ.
وَالْغَرَضُ مِنْهَا التَّهْيِئَةُ لِلْجِهَادِ وَالْوَعْدُ بِالنَّصْرِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ سَابِقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَج: ٣٩- ٤٠]، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ مُعْتَرِضًا فِي خِلَالِ النَّعْيِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَكُفْرِهِمُ النِّعَمَ، فَأُكْمِلَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ بِمَا فِيهِ مِنِ انْتِقَالَاتٍ، ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ لَمْحَةٌ فَعَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى الْوَعْدِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْقَوْمَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ كَمَا وَعَدَهُمْ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ.
وَجِيءَ بِإِشَارَةِ الْفَصْلِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا بعده.
وَمَا صدق (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ الْعُمُومُ لِقَوْلِهِ فِيمَا سَلَفَ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: ٣٩]، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى اعْتِدَاءٍ سَابِقٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: ٣٩].
وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْجَمْعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: ٣٩] إِلَى أُسْلُوبِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ عاقَبَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِرَادَةِ الْعُمُوم من هَذَا الْكَلَامُ لِيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ.
وَلَمَّا أَتَى فِي الصِّلَةِ هُنَا بِفِعْلِ عاقَبَ مَعَ قَصْدِ شُمُولِ عُمُومِ الصِّلَةِ لِلَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِهِ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى ظُلْمٍ سَابِقٍ.
وَفِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ لِقَانُونِ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْعُدْوَانِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ، أَيْ أَنْ لَا يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهُ.
وَسُمِّيَ اعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِقَابًا فِي قَوْلِهِ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي دَفَعَ الْمُعْتَدِينَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ قَصْدُ الْعِقَابِ عَلَى خُرُوجِهِمْ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ وَنَبْذِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ. وَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ
مَالِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ يُجَازِي عِبَادَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.
وَمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الْمُلَابِسِينَ لَهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَعَارٌ لِلتَّمَكُّنِ.
وَذَكَّرَهُمْ بِالْمَعَادِ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ مُنْكِرِينَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ إِعْلَامَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لَمَا كَانَتْ لَهُ جَدْوَى.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطِيفَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتُرُونَ نِفَاقَهُمْ.
صِفَةِ ذَلِكَ التَّسْلِيمِ. وَيُقَالُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ: النُّزُولُ عَلَى حُكم حَكم، فَأَرْسَلُوا شَاسَ بْنَ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُونَ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى مِثْلِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْجَلَاءِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبُولَ ذَلِكَ وَبَعْدَ مُدَاوَلَاتٍ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَأَنْ تَكُونَ دِيَارُهُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَكَمَ بِهِ سَعْدٌ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي السِّيرَةِ.
وَمَعْنَى ظاهَرُوهُمْ نَاصَرُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٤].
وَالْإِنْزَالُ: الْإِهْبَاطُ، أَيْ: مِنَ الْحُصُونِ أَوْ مِنَ الْمُعْتَصَمَاتِ كَالْجِبَالِ.
وَالصَّيَاصِي: الْحُصُونُ، وَأَصْلُهَا أَنَّهَا جَمْعُ صِيصَيَةٍ وَهِيَ الْقَرْنُ لِلثَّوْرِ وَنَحْوِهِ. قَالَ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ:
يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهَا بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ
فَأَصْبَحَتِ الثِّيرَانُ غَرْقَى وَأَصْبَحَتْ نِسَاءُ تَمِيمٍ يَلْتَقِطْنَ الصَّيَاصِيَا
أَيِ: الْقُرُونَ لِبَيْعِهَا. كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقُرُونَ فِي مَنَاسِجِ الصُّوفِ وَيَتَّخِذُونَ أَيْضًا مِنْهَا أَوْعِيَةً لِلْكُحْلِ وَنَحْوِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْقَرْنُ يُدَافِعُ بِهِ الثَّوْرُ عَنْ نَفْسِهِ سُمِّيَ الْمَعْقِلُ الَّذِي يَعْتَصِمُ بِهِ الْجَيْشُ صِيصَيَةً وَالْحُصُونُ صَيَاصِيَ.
وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ السَّرِيعُ، أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ بِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ فَاسْتَسْلَمُوا وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْفَرِيقُ الَّذِينَ قُتِلُوا هُمُ الرِّجَالُ وَكَانُوا زُهَاءَ سَبْعِمِائَةٍ وَالْفَرِيقُ الَّذِينَ أُسِرُوا هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.
وَالْخِطَابُ مِنْ قَوْلِهِ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ إِلَى آخِرِهِ... لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِلنِّعْمَةِ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الْأَحْزَاب: ٩] الْآيَةَ، أَيْ: فَأَهْلَكَنَا الْجُنُودَ وَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِغَيْظِهِنَّ وَسَلَّطَكُمْ عَلَى أَحْلَافِهِمْ
وَأَنْصَارِهِمْ.
جَمِيعَ أَصْنَافِهِمْ وَلَا يُظَنَّ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مَحْرُومٌ مِنْهَا، فَمَنَاطُ الِاصْطِفَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْقَوْلِ وَالِاسْتِسْلَامُ.
وَقُدِّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرُ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ حِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّتِهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الَخْ تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ أَيْ أُعْطَوُا الْقُرْآنَ. وَضَمِيرُ «مِنْهُمُ» الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ. وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ إِلَى عِبادِنا أَيْ وَمن عبادنَا علمه وَالْإِطْلَاق. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْكَافِرُ. وَيَسْرِي أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِي مَحْمَلِ ضَمِيرِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣] وَلِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُ الْحَسَنِ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَالظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَجُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ الْمَرْءِ رَبَّهُ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُوَرِّطُهَا فِي الْعُقُوبَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعَاصِي عَلَى تَفْصِيلِهَا وَذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَيْهَا إِذْ قَصَّرَ بِهَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْخَيِّرَاتِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَوَرَّطَهَا فِيمَا تَجِد جَزَاء ذَمِيمًا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ حِينَ خَالَفَا مَا نُهِيَا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَاف: ٢٣] وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النِّسَاء: ١١٠] وَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١١]، وَقَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٥٣].
وَاللَّامُ فِي لِنَفْسِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ إِذْ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ.
وَالْمُقْتَصِدُ: هُوَ غَيْرُ الظَّالِمِ نَفْسَهُ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ، فَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكِبَارَ وَلَمْ يَحْرِمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَقَدْ يُلِمُّونَ بِاللَّمَمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمُنْتَهَى الْقُرُبَاتِ الرَّافِعَةِ لِلدَّرَجَاتِ، فَالِاقْتِصَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَصْدِ وَهُوَ ارْتِكَابُ
فَبَلَغَتِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا تِسْعَ آيَاتٍ.
وَالْمُتَّجَهُ: أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا يُخَيَّلُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَصَصٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ صَحَّتْ أَسَانِيدُهُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ التَّمَثُّلُ بِهِ فِي تِلْكَ الْقَصَصِ فَاشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ بِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولٍ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ [الزمر: ١٠] أَنَّهَا نَزَلَتْ قُبَيْلَ هِجْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ، أَيْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَهِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ عَلَى الْمُخْتَارِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ سَبَأٍ وَقَبْلَ سُورَةِ غَافِرٍ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَمْسًا وَسَبْعِينَ.
أَغْرَاضُهَا
ابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِمَا هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا تَكَرَّرَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ (١) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِأَغْرَاضِهَا. وَأَغْرَاضُهَا كَثِيرَةٌ تَحُومُ حَوْلَ إِثْبَاتِ تفرد الله تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ فِيهَا. وَإِبْطَال تعلللات الْمُشْرِكِينَ لِإِشْرَاكِهِمْ وَأَكَاذِيبِهِمْ. وَنَفْيِ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا.
وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلِ تَفَرُّدِهِ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَبِتَدْبِيرِ نِظَامِهَا وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُنْكِرُ الْمُشْرِكُونَ انْفِرَادَهُ بِهِ.
_________
(١) هِيَ قَوْله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْآيَتَيْنِ وَقَوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الْآيَة، وَقَوله:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ الْآيَتَيْنِ، وَقَوله: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ الْآيَة، وَقَوله: اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الْآيَة، وَقَوله: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي الْآيَة. [.....]
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى قَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ١- ٤] فَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ وَوَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِصِفَةِ الْإِعْجَازِ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ وَمَطَاعِنِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَصَدُوا بِهِ أَنَّ حُجَّةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُقْنِعَةٍ لَهُمْ إِغَاظَةً مِنْهُم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ تمالئهم عَلَى الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وَهُوَ عَجْزٌ مَكْشُوفٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: ٤٠] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: ٤١] الْآيَاتِ. فَأَعْقَبَهَا بِأَوْصَافِ كَمَالِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يَجِدُونَ مَطْعَنًا فِيهَا بِقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١] الْآيَةَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِه المجادلات فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا إِبْطَالًا لِتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَكَانَ عِمَادُهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ مُفَصَّلُ الدَّلَالَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي لُغَتِهِمْ حَسَبَمَا ابْتُدِئِ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ:
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣] وَانْتُهِيَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤١، ٤٢]، فَقَدْ نَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِدَلَالَتِهِ عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَانْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى عِمَادُهَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْآنٍ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ
[فصلت: ٤١] عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا فِي مَوْقِعِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣] وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الْكَهْف: ١١٠] مِنَ التَّحَدِّي بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، أَيْ لَوْ جِئْنَاهُمْ بِلَوْنٍ آخَرَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الرَّسُولِ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا، وَلَيْسَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِتِلْكَ اللُّغَةِ مِنْ قَبْلُ، لَقَلَبُوا مَعَاذِيرَهُمْ فَقَالُوا: لَوْلَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ بِلُغَةٍ نَفْهَمُهَا وَكَيْفَ يُخَاطِبُنَا بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَرْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حِرَفِ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ. وَهَذَا إِبَانَةٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا تُجْدِي مَعَهُمُ الْحُجَّةُ وَلَا يَنْقَطِعُونَ عَنِ الْمَعَاذِيرِ لِأَنَّ جِدَالَهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِهِ تَطَلُّبَ الْحَقِّ وَمَا هُوَ إِلَّا تَعَنُّتٌ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُمْ.
لِجَزَائِهِمْ كُلِّهِمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَقْوِيَةً فِي الْوَعِيدِ وَتَأْيِيسًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ.
ويَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَفَتْحَةُ يَوْمَ لَا يُغْنِي فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّ يَوْمَ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ ذَاتِ فِعْلٍ مُعْرَبٍ.
وَالْمَوْلَى: الْقَرِيبُ وَالْحَلِيفُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٥]. وَتَنْكِيرُ مَوْلًى فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا يُغْنِي أَحَدٌ مِنَ الْمَوَالِي كَائِنًا مَنْ كَانَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَوَالِيهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وشَيْئاً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ شَيْئاً مِنْ إِغْنَاءٍ. وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّقْلِيلِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي تَنْكِيرِ لَفْظِ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: ١٦]. وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ أَيْضًا، يَعْنِي أَيَّ إِغْنَاءٍ كَانَ فِي الْقِلَّةِ بَلْهَ الْإِغْنَاءِ الْكَثِيرِ. وَالْمَعْنَى:
يَوْمَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّعْمِيمِ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ فَائِدَةً إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَالْإِغْنَاءُ: الْإِفَادَةُ وَالنَّفْعُ بِالْكَثِيرِ أَوِ الْقَلِيلِ، وَضَمِيرًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ رَاجِعَانِ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَهُمْ خَيْرٌ [الدُّخان: ٣٧]، وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدُّخان: ٣٤]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الْمَظْنُونُ بِهِمْ ذَلِكَ وَلَا يَنْصُرُهُمْ مُقَيَّضُونَ آخَرُونَ لَيْسُوا مِنْ مَوَالِيهِمْ تَأْخُذُهُمُ الْحَمِيَّةُ أَوِ الْغَيْرَةُ أَوِ الشَّفَقَةُ فَيَنْصُرُونَهُمْ.
وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْعَدْوِّ وَعَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْإِغْنَاءِ. فَعُطِفَ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَلَى لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً زِيَادَةً فِي نَفْيِ عَدَمِ الْإِغْنَاءِ.
فَمُحَصَّلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغْنِي مُوَالٍ عَنْ مُوَالِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْنَاءِ حَسَبَ مُسْتَطَاعِهِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ شَدِيدُ الِاسْتِطَاعَةِ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ غَلَبَ الْقَوِيِّ عَلَيْهِمْ، فَاللَّهُ هُوَ الْغَالِبُ لَا يَدْفَعُهُ غَالِبٌ. وَبُنِيَ فِعْلُ يُنْصَرُونَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِيَعُمَّ نَفْيَ كُلِّ نَاصِرٍ مَعَ إِيجَازِ الْعِبَارَةِ.
وَهَذَا أَمْرٌ بِأَنْ يَعُمَّ الْإِلْقَاءُ فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي الْحَشْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَالْكَفَّارُ: الْقَوِيُّ الْكُفْرِ، أَيِ الشِّرْكِ.
وَالْعَنِيدُ: الْقَوِيُّ الْعِنَادِ، أَيِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُدَافَعَةِ لِلْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ.
وَالْمَنَّاعُ: الْكَثِيرُ الْمَنْعِ، أَيْ صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْخَيْرِ، وَالْخَيْرُ هُوَ الْإِيمَانُ، كَانُوا يَمْنَعُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَذَوِيهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَقُولُ لِبَنِي أَخِيهِ «مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ مَا عِشْتُ». وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا مَنْعُ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّ الْخَيْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ الْفُقَرَاءَ وَيُعْطُونَ الْمَالَ
لِأَكَابِرِهِمْ تَقَرُّبًا وَتَلَطُّفًا.
وَالْمُعْتَدِي: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وعَلى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْقَوْلِ الْبَاطِلِ.
وَالْمُرِيبُ الَّذِي أَرَابَ غَيْرَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مُرْتَابًا، أَيْ شَاكًّا، أَيْ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ صُنُوفِ الْمُغَالَطَةِ لِيُشَكِّكُوهُمْ فِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَبَيْنَ لَفْظِي عَتِيدٌ [ق: ١٨] وعَنِيدٍ الجناس الْمُصحف.
[٢٦]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٢٦]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ بَدَلًا مِنْ كَفَّارٍ عَنِيدٍ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: ٥٢، ٥٣]، عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ هُنَا تَعْرِيفُهُ لَفْظِيٌّ مُجَرَّدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمُعَيَّنٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:
فَأَلْقِياهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: ٢٤] وَمَصَبُّ التَّفْرِيعِ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ، أَيْ فِي أَشَدِّ عَذَابِ جَهَنَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَمْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي جَهَنَّمَ تَفْرِيعُ بَيَانٍ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَلْقِيا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ تَفْرِيعِ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: ٩]
و (يَوْمَ الدِّينِ) يَوْمَ الْجَزَاءِ، أَيْ هَذَا جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ آنِفًا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَة: ٢٤]. وَجَعَلَ يَوْمَ الدِّينِ وَقْتًا لِنُزُلِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالنُّزُلِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا تَجْرِيدٌ لِلتَّشْبِيهِ التَّهَكُّمِيِّ وَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى التَّهَكُّمِ كَقَوْلِ
عَمْرِو بن كُلْثُوم: «مُرَادة طحونا».
[٥٧]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٥٧]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧)
أَعْقَبَ إبِْطَال نفيهم الْبَعْث بِالْاِسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِهِ وَتَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ الَّتِي أَحَالُوهَا فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعِيدَ خَلْقَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ.
وَهَذَا الكَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ مَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مُسْتَقِلًّا. وَالْخِطَابُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُوَجَّهٌ لِلسَّامِعِينَ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ خَلَقْناكُمْ الْتِفَات.
وَتقدم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ رَدًّا عَلَى إِحَالَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ فَنَاءِ مُعْظَمِ أَجْسَادِهِمْ حِينَ يَكُونُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، فَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا ذُهِلُوا عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خلقهمْ أول مرّة وَهُوَ الَّذِي يُعِيد خلقهمْ ثَانِي مرّة، فَإِنَّهُم وَإِن كَانُوا يعلمُونَ أَن الله خَلَقَهُمْ لَمَّا لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ الْعلم بإحالتهم إِعَادَة الْخَلْقِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ بِتَقَوِّي الْحُكْمِ الْإِفْضَاءُ إِلَى مَا سَيُفَرَّعُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الْوَاقِعَة: ٥٨- ٦١]. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَسْجِ نَظْمِهَا وَالتَّرْتِيبِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٨].
وَمَوْقِعُهَا اسْتِدْلَالٌ وَعِلَّةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [الْوَاقِعَة: ٤٩، ٥٠] وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ دَوَاعِي الْفِرَاقِ وَالْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا هُوَ مِنَ التَّقْتِيرِ فِي الْإِنْفَاقِ لِضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ فَكَانَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْمُرَاجَعَةِ عَارِضًا كَثِيرًا لِلنَّاسِ بَعْدَ التَّطْلِيقِ، أُتْبِعَ الْوَعْدُ بِجَعْلِ الْمَخْرَجِ لِلْمُتَّقِينَ بِالْوَعْدِ بِمَخْرَجٍ خَاصٍّ وَهُوَ مَخْرَجُ التَّوْسِعَةِ فِي الرِّزْقِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ طُرُقَ الرِّزْقِ مُعَطَّلَةٌ عَلَيْهِ فَيَسْتَبْعِدَ ذَلِكَ فَيُمْسِكَ عَنْ مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِلُ مَالًا يُنْفِقُ مِنْهُ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الرِّزْقَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ أعلم كَيفَ يهيىء لَهُ أسبابا غير مرتقبة.
فَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ: مِنْ مَكَانٍ لَا يَحْتَسِبُ مِنْهُ الرِّزْقَ أَيْ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُرْزَقُ مِنْهُ.
وحَيْثُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْأَحْوَالِ وَالْوُجُوهِ تَشْبِيهًا لِلْأَحْوَالِ بِالْجِهَاتِ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ مُقَارِنَةً لِلرِّزْقِ أَشْبَهَتِ الْمَكَانَ الَّذِي يَرِدُ مِنْهُ الْوَارِدُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ حَيْثُ. فَفِي حَرْفِ مِنْ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ إِذْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنَهُ سَالِمًا فَأَتَى عَوْف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ وَأَنَّ أُمَّهُ جَزِعَتْ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ» وَأَمَرَهُ وَزَوْجَهُ أَن يكثرا قولا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ فَغَفَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الِابْنِ فَسَاقَ عَنْزًا كَثِيرَةً مِنْ عَنْزِ الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ بِهَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ،
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَصَادَفَتِ الْغَرَضَيْنِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ.
تَكْمِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرَبِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَضَائِقِ، وَمُلَاحَظَةُ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ وَيَقِينُهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تُثَبِّطُهُ عَنِ التَّقْوَى يُحَقّق وَعْدَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
وَحَسْبُ: وَصَفٌ بِمَعْنَى كَافٍ. وَأَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرٌ.
وَ (مَا) الثَّانِيَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ عَنْ سَقَرُ.
وَجُمْلَةُ لَا تُبْقِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ التَّهْوِيلِ الَّذِي أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ، فَإِنَّ مِنْ أَهْوَالِهَا أَنَّهَا تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَصْلَاهَا. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ سَقَرَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ تُبْقِي لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ لَا تُبْقِي مِنْ أَجْزَائِهِمْ شَيْئًا.
وَجُمْلَةُ وَلا تَذَرُ عَطْفٌ عَلَى لَا تُبْقِي فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَمَعْنَى لَا تَذَرُ، أَيْ لَا تَتْرُكُ مَنْ يُلْقَى فِيهَا، أَيْ لَا تَتْرُكُهُ غَيْرَ مَصْلِيٍّ بِعَذَابِهَا. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِعَادَةِ حَيَاتِهِ بَعْدَ إِهْلَاكِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: ٥٦].
ولَوَّاحَةٌ: خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ سَقَرُ. ولَوَّاحَةٌ فَعَّالَةٌ، مِنَ اللَّوْحِ وَهُوَ تَغْيِيرُ الذَّاتِ مِنْ أَلَمٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «الْكَشَّافِ» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَائِلِهِ:
تَقول مَا لَا حك يَا مُسَافِرْ يَا ابْنة عمي لَا حني الْهَوَاجِرْ
وَالْبَشَرُ: يَكُونُ جَمْعَ بَشْرَةٍ، وَهِيَ جِلْدُ الْإِنْسَانِ، أَيْ تُغَيِّرُ أَلْوَانَ الْجُلُودِ فَتَجْعَلُهَا سُودًا، وَيَكُونُ اسْمَ جَمْعٍ لِلنَّاسِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ سَقَرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ.
وَمَعْنَى عَلَيْها عَلَى حِرَاسَتِهَا، فَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِتَشْبِيهِ التَّصَرُّفِ وَالْوِلَايَةِ بِالِاسْتِعْلَاءِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى الشُّرْطَةِ، أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، أَيْ يَلِي ذَلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَزَنَةَ سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا.
وَقَالَ جَمْعٌ: إِنَّ عَدَدَ تِسْعَةَ عَشَرَ: هُمْ نُقَبَاءُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِجَهَنَّمَ.
وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ صَفًّا. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» :
ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْعَدَدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِكْمَةِ: إِنَّ سَبَبَ فَسَادِ النَّفْسِ هُوَ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ أَمَّا الْحَيَوَانِيَّةُ فَهِيَ الْخَمْسُ الظَّاهِرَةُ وَالْخَمْسُ الْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، فَمَجْمُوعُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ. وَأَمَّا الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ: الْجَاذِبَةُ، وَالْمَاسِكَةُ، وَالْهَاضِمَةُ، وَالدَّافِعَةُ، وَالْغَاذِيَةُ، وَالنَّامِيَةُ،
عَلَامَةٌ عَلَى
أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ وَأَنَّ مَا فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَصَاصَةِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهَانَهُمْ.
وَأَنَّهُمْ أَضَاعُوا شُكْرَ اللَّهِ على النِّعْمَة فَلَمَّا يُوَاسُوا بِبَعْضِهَا الضُّعَفَاءِ وَمَا زَادَتْهُمْ إِلَّا حِرْصًا عَلَى التَّكَثُّرِ مِنْهَا.
وَأَنَّهُمْ يَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنْ لَمْ يُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ يَوْمَ لَا ينفع نفسا مَالُهَا وَلَا يَنْفَعُهَا إِلَّا إِيمَانُهَا وَتَصْدِيقُهَا بِوَعْدِ رَبِّهَا. وَذَلِكَ يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَصِيرِهِمْ إِلَى الْجنَّة.
[١- ٤]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)
الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهَا دَلَائِلُ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَسَعَةِ قُدْرَتِهِ فِيمَا أَوْجَدَ مِنْ نِظَامٍ يُظَاهِرُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ وَقْتُ الْفَجْرِ الْجَامِعِ بَيْنَ انْتِهَاءِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَابْتِدَاءِ نُورِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ اللَّيْل الَّذِي تمحضت فِيهِ الظُّلْمَةُ. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَوْقَاتٌ لِأَفْعَالٍ مِنَ الْبِرِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِثْلَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَاللَّيَالِي الشَّفْعِ، وَاللَّيَالِي الْوَتْرِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ فِي الْكَلَامِ مِنْ طُرُقِ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ إِذِ الْقَسَمُ إِشْهَادُ الْمُقْسِمِ رَبَّهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ.
وَقَسَمُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَمَحِّضٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الْفجْر: ٦] وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: ١٤].
وَلِذَلِكَ فَالْقَسَمُ تَعْرِيضٌ بِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْكِرِينَ.
وَالْمَقْصِدُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقَسَمِ بِأَشْيَاءَ، التَّشْوِيقُ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.
والْفَجْرِ: اسْمٌ لِوَقْتِ ابْتِدَاءِ الضِّيَاءِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ مِنْ أَوَائِلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يَتَزَحْزَحُ الْإِظْلَامُ عَنْ أَوَّلِ خَطٍّ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِنَ الْخُطُوطِ الْفَرْضِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي


الصفحة التالية
Icon