ذُكِرَ ذَلِكَ فِي «الْمُزْهِرِ» فَأَبَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَنْ سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ أَسْرَى ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَلَا فِي أَنَّ عَصَفَتِ الرِّيحُ وَأَعْصَفَتْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لِأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ: الَّذِي سَمِعْتُهُ فِي مَعْنَى الْخَلِيلِ أَنَّهُ أَصْفَى الْمَوَدَّةِ وَأَصَمَّهَا وَلَا أَزِيدُ فِيهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ فِي الْقُرْآنِ اهـ.
فَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْوَرَعِ يَعْتَرِي بَعْضَ النَّاسِ لِخَوْفٍ، وَإِنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ إِلَى بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَتَجِدُ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَعْتَرِيهِ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ تَجِدُ الْعَكْسَ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ مَا كَلَّفَنَا فِي غَيْرِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ بِأَكْثَرَ مِنْ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَدِلَّةُ مُتَنَوِّعَةٌ عَلَى حَسَبِ أَنْوَاعِ الْمُسْتَنَدِ فِيهِ. وَأَدِلَّةُ فَهْمِ الْكَلَامِ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا.
أَمَّا الَّذِينَ جَمُدُوا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَا هُوَ مَأْثُورٌ فَهُمْ رَمَوْا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى عَوَاهِنِهَا وَلَمْ يَضْبُطُوا مُرَادَهُمْ مِنَ الْمَأْثُورِ عَمَّنْ يُؤْثَرُ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ آيَاتٍ إِنْ كَانَ مَرْوِيًّا بِسَنَدٍ مَقْبُولٍ مِنْ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ، فَإِذَا الْتَزَمُوا هَذَا الظَّنَّ بِهِمْ فَقَدْ ضَيَّقُوا سَعَةَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَيَنَابِيعَ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ عُلُومِهِ، وَنَاقَضُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا دَوَّنُوهُ مِنَ التَّفَاسِيرِ، وَغَلَّطُوا سَلَفَهُمْ فِيمَا تَأَوَّلُوُهُ، إِذْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُقْصِرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْوُوا مَا بَلَغَهُمْ مِنْ تَفْسِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ مَعَانِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوا لَهُ بَلَغَهُمْ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالْمَأْثُورِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنِ الصَّحَابَةِ خَاصَّةً وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ صَنِيعِ السُّيُوطِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ»، لَمْ يَتَّسِعْ ذَلِكَ الْمُضَيَّقُ إِلَّا قَلِيلًا وَلَمْ يُغْنِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَتِيلًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ لَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ سِوَى مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدِي مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ. وَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُرْوَى عَنْهُ قَوْلًا بِرَأْيِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ رُوَاتِهِ. وَإِنْ أَرَادُوا بِالْمَأْثُورِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا قَبْلَ تَدْوِينِ التَّفَاسِيرِ الْأُوَلِ مِثْلَ مَا يُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَدْ أَخَذُوا يَفْتَحُونَ الْبَابَ مِنْ شِقِّهِ، وَيُقَرِّبُونَ مَا
بَعُدَ مِنَ الشُّقَّةِ. إِذْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ التَّابِعِينَ قَالُوا أَقْوَالًا فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ
فِي ذِكْرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، أَيْ لِأَنَّهُ أُسِّسَ بِنِيَّةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: ٩٦] فَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ فَالْبُيُوتُ الَّتِي أُقِيمَتْ بَعْدَهُ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ آثَارِ اهْتِدَاءٍ اهْتَدَاهُ بَانُوهَا بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِلْعِبَادَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِعْلَانِ ذَلِكَ وَإِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ هُوَ الْكَعْبَةُ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنْ حَاجَّ الْوَثَنِيِّينَ بِالْأَدِلَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ قَاوَمَ الْوَثَنِيَّةَ بِقُوَّةِ يَدِهِ فَجَعَلَ الْأَوْثَانَ جِذَاذًا، ثُمَّ أَقَامَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ذَلِكَ الْهَيْكَلَ الْعَظِيمَ لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ يَأْتِي أَنَّ سَبَبَ بِنَائِهِ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَدْ مَضَتْ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ الْعُصُورُ فَصَارَتْ رُؤْيَتُهُ مُذَكِّرَةً بِاللَّهِ تَعَالَى، فَفِيهِ مَزِيَّةُ الْأَوَّلِيَّةِ، ثُمَّ فِيهِ مَزِيَّةُ مُبَاشَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَاءَهُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ دُونَ مَعُونَةِ أَحَدٍ، فَهُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَعْرَقُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ مَعًا وَهُمَا قُطْبَا إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ.
ثُمَّ سُنَّ الْحَجُّ إِلَيْهِ لِتَجْدِيدِ هَذِهِ الذِّكْرَى وَلِتَعْمِيمِهَا فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى الْمَوْجُودَاتِ بِالِاسْتِقْبَالِ لِمَنْ يُرِيدُ اسْتِحْضَارَ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ الْحَقَّةِ وَمَا بُنِيَتْ بُيُوتُ اللَّهِ مِثْلُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَّا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ طَوِيلَةٍ، فَكَانَ هُوَ قِبْلَةَ الْمُسْلِمِينَ.
قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّ شَرْطَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بُنِيَ بَعْدَ مُوسَى بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَغَايَةُ مَا كَانَ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ بَعْدَ دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ اسْتِقْبَالٌ لِأَجْلِ تَحَقُّقِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا، ثُمَّ إِنِ اخْتِيَارَ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ كَانَ دَعْوَةً فَهِيَ دَعْوَةُ نَبِيءٍ لَا تَكُونُ إِلَّا
عَنْ إِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ فَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ تَعْمِيرَ الْبَلَدِ الْمُقَدَّسِ كَمَا وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ وَوَعَدَ مُوسَى فَأَرَادَ زِيَادَةَ تَغَلْغُلِ قُلُوبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ فَبَيَّنَ لَهُمُ اسْتِقْبَالَ الْهَيْكَلِ الْإِيمَانِيَّ الَّذِي أَقَامَهُ فِيهِ نَبِيُّهُ سُلَيْمَانُ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْبَدُ مِمَّا يَدْعُو نُفُوسَهُمْ إِلَى الْحِرْصِ عَلَى بَقَاءِ الْأَقْطَارِ بِأَيْدِيهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَعَ اللَّهُ لَهُمُ الِاسْتِقْبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِزِيَادَةٍ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَإِنَّمَا أَتَوا معززين فتشريعه اللَّهِ تَعَالَى
فِعْلٌ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا يعرف لحاجّ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى وُقُوعِ الْخِصَامِ وَلَا تُعْرَفُ الْمَادَّةُ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُرْهَانُ الْمُصَدِّقُ لِلدَّعْوَى مَعَ أَنَّ حَاجَّ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إِلَّا فِي مَعْنَى الْمُخَاصَمَةِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ [غَافِر: ٤٧] مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤]، وَأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْخِصَامَ بِبَاطِلٍ، قَالَ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الْأَنْعَام: ٨٠] وَقَالَ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَمَعْنَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أَنَّهُ خَاصَمَهُ خِصَامًا بَاطِلًا فِي شَأْنِ صِفَاتِ اللَّهِ رَبِّ إِبْرَاهِيمَ.
وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نُمْرُودُ بْنُ فَالِخِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِحِ بْنِ أَرْفَخَشْدَ بْنِ سَامِ بْنِ كَوْشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، فَيَكُونُ أَخَا (رَعوَ) جَدِّ إِبْرَاهِيمَ. وَالَّذِي يُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَلِكٌ جَبَّارٌ، كَانَ مَلِكًا فِي بَابِلَ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَبَنَى الصَّرْحَ الَّذِي فِي بَابِلَ، وَاسْمُهُ نُمْرُودُ- بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي آخِرِهِ- وَيُقَالُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ كُتُبُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَهِيَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ رَبٍّ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْإِضَافَةُ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الَّذِي، وَالْإِضَافَةُ لِإِظْهَارِ غَلَطِهِ كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غَارِزًا رَأْسَهُ فِي سِنَةٍ يُوعِدُ أَخْوَالَهُ
أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُظْهِرَ شَرًّا لِأَهْلِ رَحِمِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ تَعْلِيلٌ حُذِفَتْ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَاجَّ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ الْعَظِيمِ الَّذِي سَهَّلَهُ عِنْدَهُ ازْدِهَاؤُهُ وَإِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ عِلَّةً غَائِيَّةً مَقْصُودَةً لِلْمُحَاجِّ مِنْ حِجَاجِهِ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ
يَكُونَ تَعْلِيلًا غَائِيًّا أَيْ حَاجَّ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ الْمُلْكَ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنًى يُؤَدَّى بِحَرْفٍ غَيْرِ اللَّامِ، وَالدَّاعِي لِهَاتِهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمُ، أَيْ أَنَّهُ وَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ كَمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢]، أَيْ جَزَاءَ رِزْقِكُمْ. وَإِيتَاءُ الْمُلْكِ مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ جَعَلَهُ مَلِكًا وَخَوَّلَهُ ذَلِكَ، وَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٣]. قِيلَ: كَانَ نُمْرُودُ أَوَّلَ مَلِكٍ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ.
لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ إِلَّا قُوَّةً. وَلَيْسَت الِاسْتِعَارَةُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى جَدِيدٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ الْجَدِيدَةَ، الْحَاصِلَةَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الثَّانِيَةِ، صَارَتْ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا هِيَ اعْتِبَارَاتٌ لَطِيفَةٌ تَزِيدُ كَثْرَتُهَا الْكَلَامَ حُسْنًا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّوْرِيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا حُسْنًا بِإِيهَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْآخَرُ مَقْصُودًا، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ صَرِيحًا فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الدِّينِ
بَلْ ظَاهِرُهُ أنّه أَمر للْمُؤْمِنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إِلَى أَمْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: جَمِيعاً مُحْتَمِلًا لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ اعتصموا جَمِيعًا كَقَوْلِهِم: ذَمَمْتُ وَلَمْ تُحْمَدْ.
عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَفَرَّقُوا أَمْرًا ثَانِيًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الِاتِّحَادِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٠] وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
وَقَوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَصْوِير لِحَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِفْظَاعِهَا انْكِشَافُ فَائِدَةِ الْحَالَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا وَهِيَ الِاعْتِصَامُ جَمِيعًا بِجَامِعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نَجَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي اخْتَارَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، وَفِي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى إِجَابَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ مَوَاعِظِ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩] وَقَالَ عَنْ شُعَيْبٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٦] وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥]. وَهَذَا التَّذْكِيرُ خَاصٌّ بِمن أسلم من الْمُسلمين بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ
وَالنَّصِيبَ: الْحَظُّ وَالْمِقْدَارُ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْحَظِّ فِي الْآخِرَةِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالِاكْتِسَابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ وَلَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وَعِلَاجٍ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الْأجر وَالثَّوَاب المنجرّ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّي فَرِيقٍ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ وَسَائِلَ الثَّوَابِ كَثِيرَةٌ فَلَا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، حَظَّهُ مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا المنجرّ لَهُ مِمَّا سَعَى إِلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ
بَعْضُ مَا سَعَى إِلَيْهِ، فَتَمَنِّي أَحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِهِ، هُوَ تَمَنٍّ غَيْرُ عَادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، أَيْ مِمَّا شُرِعَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَحْسُدْ أَحَدٌ أَحَدًا عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَحَقِّيَّةِ بَعْضِكُمْ عَلَى بعض.
وَقَوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إِلَخْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فَالْمَعْنَى: لِلرِّجَالِ مَزَايَاهُمْ وَحُقُوقُهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ مَزَايَاهُنَّ وَحُقُوقُهُنَّ، فَمَنْ تَمَنَّى مَا لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، لَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ الْمَزَايَا، وَيَجْعَلَ ثَوَابَهُ مُسَاوِيًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَالْمَعْنَى: لَا تَتَمَنَّوْا مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الْإِنْعَامَ عَلَى الْكُلِّ، فَلَا أَثَرَ لِلتَّمَنِّي إِلَّا تَعَبُ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور:
وَسْئَلُوا- بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ- بِفَتْحِ السِّينِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السِّينِ السَّاكِنِ قَبْلَهَا تَخْفِيفًا-.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِهَذَا التَّكْلِيفِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لَا يُرَاقِبُ فِيهِ إلّا ربّه.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي مَعْنَى الرَّسُولِ وَالنَّبِيءِ. فَفِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَائِنَا لَا نَجِدُ تَفْرِقَةً، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيءٍ فَهُوَ رَسُولٌ لِأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَبْلِيغِهِ وَلَوْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ. وَقَدْ يَكُونُ حَالُ الرَّسُول مُبْتَدأ بنبؤة ثُمَّ يَعْقُبُهَا إرْسَاله، فَتلك النُّبُوَّة تمهيد الرسَالَة كَمَا كَانَ أَمْرُ مَبْدَأِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ خَدِيجَةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤]. وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ، وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ، وَالنَّبِيءُ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُبَلِّغُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالدُّعَاءِ لِلْخَيْرِ، يَعْنِي بِدُونِ إِنْذَارٍ وَتَبْشِيرٍ.
وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: الْأَنْبِيَاءُ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَعَدُّ الرُّسُلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَسُولًا
. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ آدَمَ وَأَنَّ الْجَزَاءَ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، فَقَدْ قَرَّبَ ابْنَا آدَمَ قُرْبَانًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَة: ٢٧]، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٢٨، ٢٩]. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْمُعْتَدِي وَيَنْتَصِفُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، فَإِنَّمَا كَانَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَانَتْ رِسَالَةً عَائِلِيَّةً.
وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَمَكُ بْنُ مُتُوشَالِحَ بْنِ أَخْنُوخَ. وَيُسَمِّيهِ الْمِصْرِيُّونَ هُرْمُسَ، وَيُسَمِّيهِ الْعَرَبُ إِدْرِيسُ بْنُ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَنْوَشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ، حَسَبَ- قَوْلِ التَّوْرَاةِ-. وَفِي زَمَنِهِ وَقَعَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ. وَعَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَاتَ نُوحٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَتِسْعمِائَة سنة وَأَرْبع وَسَبْعِينَ سَنَةً عَلَى حَسَبِ حِسَابِ الْيَهُودِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ كِتَابِهِمْ.
وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْخَلِيلُ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارِحَ- وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ آزَرَ- بْنَ نَاحُورَ بْنِ ساروغ بن أرغو بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالِحَ بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وُلِدَ سَنَةَ ٢٨٩٣ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فِي بَلَدِ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمَاتَ فِي بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَهِيَ سُورِيَا، فِي حَبْرُونَ حَيْثُ مَدْفَنُهُ الْآنَ الْمَعْرُوفُ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ سَنَةَ ٢٧١٨ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
(٩٣)
هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِمَا عَرَضَ مِنْ إِجْمَالٍ فِي فَهْمِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِذْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَلَبَّسَ بِإِثْمٍ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْخَمْرَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. فَقَدْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْبَرَاءِ بن عَازِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ- أَوْ قَالَ- وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الْآيَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ، وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَقَدْ يَلُوحُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ حَالَ الَّذِينَ تُوُفُّوا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَيْسَ حَقِيقًا بِأَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِعَمَلٍ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلِ فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا عَلَى ارْتِكَابِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّحْرِيمِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْحَاب
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا شَدِيدِي الْحَذَرِ مِمَّا يُنْقِصُ الثَّوَابَ حَرِيصِينَ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ فَلَمَّا نَزَلَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ خَشَوْا أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ حَظٌّ فِي الَّذِينَ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ بِالْمَيْسِرِ وَتُوُفُّوا قَبْلَ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ مَاتُوا وَالْخَمْرُ فِي بُطُونِهِمْ مُخَالِطَةٌ أَجْسَادَهُمْ، فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهِمْ لِشِدَّةِ إِشْفَاقِهِمْ عَلَى إِخْوَانِهِمْ. كَمَا سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النِّسَاء: ٩٥] فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ وَأَنَا أَعْمَى لَا أُبْصِرُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ١٤٣]. وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ لَمَّا غُيِّرَتِ الْقِبْلَةُ مِنَ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ قَالَ نَاسٌ: فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
أَوْ لِلْجِنِّ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ. فَصَارَ قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُفِيدًا النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وَلَا اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ تَجَنُّبِ ذِكْرِهِ.
وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ أَوِ اسْمِ غَيْرِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمْ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَعْيِينِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ دُونَ الْمَيْتَةِ، بِنَاءً عَلَى عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ النَّهْيَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا فِي «الْكَشَّافِ»، أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ الْآتِي: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَيْتَةَ، وَبِنَاءً عَلَى فَهْمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَكَاتِهِ دُونَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، أَخْذًا مِنْ مَقَامِ الْإِبَاحَةِ وَالِاقْتِصَارِ فِيهِ عَلَى هَذَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ قَصْرٍ، وَلَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا مِنْ دَلَالَةِ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَبَعْضَهَا مِنْ سِيَاقِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْعَقْلِ الَّتِي لَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِلْآيَةِ بِحُكْمِ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَهَا أَدِلَّتُهَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ التَّشْرِيعِ الْقُرْآنِيِّ التَّعَرُّضُ لِلْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ.
وَ «عَلَى» لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِي، تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ فِعْلِ الذِّكْرِ بِذَاتِ الذَّبِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ لَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ تَقْيِيدٌ لِلِاقْتِصَارِ الْمَفْهُومِ: مِنْ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ، وَتَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِهِ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِيهِ، حَتَّى جُعِلَ مِنْ عَلَامَاتِ كَوْنِ فَاعِلِهِ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ شِعَارُ أَهْلِ الشِّرْكِ ذِكْرَ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مُعْظَمِ الذَّبَائِحِ.
فَقَدُوا فَوَائِدَهَا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو مِنْ مَوَاهِبِهِ، وَهِيَ مَجْمُوعُ نَفْسِهِ، أَنْ تَجْلِبَ لَهُ النَّفْعَ وَتَدْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ: بِالرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَابْتِكَارِ الْعَمَلِ الْمُفِيدِ، وَنُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ سَوَّلَتْ لَهُمْ أَعْمَالًا كَانَتْ سَبَبَ خِفَّةِ مَوَازِينِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ سَبَبَ فَقْدِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ كَرَأْسِ مَالِ التَّاجِرِ الَّذِي رَجَا مِنْهُ زِيَادَةَ الرِّزْقِ فَأَضَاعَهُ كُلَّهُ فَهُوَ خَاسِرٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ أَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعَذَابِ الْمُقِيمِ، وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٠]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا بِآيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا، فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي تَجَدُّدِ الظُّلْمِ فِيمَا مَضَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ [فاطر: ٩].
وَالظُّلْمُ- هُنَا- ضِدُّ الْعَدْلِ: أَيْ يَظْلِمُونَ الْآيَاتِ فَلَا يُنْصِفُونَهَا حَقَّهَا مِنَ الصِّدْقِ.
وَضُمِّنَ يَظْلِمُونَ مَعْنَى يُكَذِّبُونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ فَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل:
١٤].
وَإِنَّمَا جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ تَكْذِيبُ مَا قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِ فَتَكْذِيبُهُ ظُلْمٌ لِلْأَدِلَّةِ
بِدَحْضِهَا وَعَدَمِ إِعْمَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ يَظْلِمُونَ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَتِ الْآيَةُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَحَالَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ النَّاسُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عَامِلُونَ بِالصَّالِحَاتِ، مُسْتَكْثِرُونَ مِنْهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَبَقِيَ بَيْنَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ
وَإِظْهَارُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ يَطْبَعُ اللَّهُ دُونَ الْإِضْمَارِ: لِمَا فِي إِسْنَادِ الطَّبْعِ إِلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ صَرَاحَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ طَبْعٌ رَهِيبٌ لَا يُغَادِرُ لِلْهُدَى مَنْفَذًا إِلَى قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١] دُونَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا خَلْقِي، وَلِهَذَا اخْتِيرَ لَهُ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَتْمِ وَتَجَدُّدِهِ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ، وَالْقَلْبُ، فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: مِنْ أَسْمَاءِ الْعَقْلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: جَمِيعُ الْكَافِرِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، تَسْلِيَة لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا لِضَعْفِ آيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لِلْخَتْمِ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وَمَا رتب عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى رُسُوخِ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَقْلَعْهُ مِنْهُمْ لَا مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَلَا مَا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ اعْتِقَادِ وُجُودِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَلَا الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ الرُّسُلَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ أَتَوْهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَالْوِجْدَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ، فَصَارَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَنَفْيُهُ فِي الْأَوَّلِ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، أَيْ وَفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَعْلَمَهُ وَيَبْحَثَ عَنْهُ عِنْدَ طَلَبِ الْوَفَاءِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْأَنْعَام: ١٤٥] الْآيَةَ، أَيْ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا مَا ذُكِرَ،
فَمَعْنَى وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ مَا لِأَكْثَرِهِمْ عَهْدٌ.
وَالْعَهْدُ: الِالْتِزَامُ وَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ، وَالْمُوَثَّقُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ إِخْلَافِهِ: مِنْ يَمِينٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ خَشْيَةِ مَسَبَّةٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَهِدَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى عَرَفَهُ، لِأَنَّ الْوَعْدَ الْمُؤَكَّدَ يَعْرِفُهُ مُلْتَزِمُهُ وَيَحْرِصُ أَنْ لَا يَنْسَاهُ.
وَيُسَمَّى إِيقَاعُ مَا الْتَزَمَهُ الْمُلْتَزِمُ مِنْ عَهْدِهِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَالْعَهْدُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ
وَالْمَعْنَى: وَتَزُولُ قُوَّتُكُمْ وَنُفُوذُ أَمْرِكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنَازُعَ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ، وَهُوَ يُوهِنُ أَمْرَ الْأُمَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْفَشَلِ.
ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَعُمُّ نَفْعُهُ الْمَرْءَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عَلَاقَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمُ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ، الَّتِي أُمِرُوا بِهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَفِي قَوْلِهِ:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا الْآيَةَ. أَلَا وَهُوَ الصَّبْرُ، فَقَالَ: وَاصْبِرُوا لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ تَحَمُّلُ الْمَكْرُوهِ، وَمَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتِلْكَ الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، فَالصَّبْرُ يَجْمَعُ تَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ وَالْمَصَاعِبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرُوا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى مَنْفَعَةٍ لِلصَّبْرِ إِلَهِيَّةٍ، وَهِيَ إِعَانَةُ اللَّهِ لِمَنْ صَبَرَ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّأْكِيدِ فِي مِثْلِ هَذَا قَائِمٌ مُقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِع.
[٤٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
جُمْلَةُ: وَلا تَكُونُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا تَنازَعُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى نَهْيٍ.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جملَة فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى أَمْرٍ، إِكْمَالًا لِأَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا يُدْنِيهِمْ مِنَ النَّصْرِ، وَأَنْ يَتَجَنَّبُوا
مَا يُفْسِدُ إِخْلَاصَهُمْ فِي الْجِهَادِ.
وَجِيءَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْبَطَرِ وَالرِّئَاءِ بِطَرِيقَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ إِدْمَاجًا لِلتَّشْنِيعِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَتَكْرِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الذَّمِيمَةَ تَتَّضِحُ مَذَمَّتُهَا، وَتَنْكَشِفُ مَزِيدَ الِانْكِشَافِ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَحْوَالِ قَوْمٍ مَذْمُومِينَ
وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا»
. يَعْنِي الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِالْمَدِينَةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِأَنَّهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَصْحَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ هُوَ مَسْجِدُهُمْ، لِقَوْلِهِ: فِيهِ رِجالٌ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ لَا مَسْجِدًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ كُلِّيًّا انْحَصَرَ فِي فَرْدَيْنِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ، فَأَيُّهُمَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ كَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ وَأَجْدَرَ، فَيَحْصُلُ النَّجَاءُ مِنْ حَظِّ الشَّيْطَانِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَمِنْ مَطَاعِنِهِمْ أَيْضًا، وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ هُوَ دَأْبَهُ.
وَمِنْ جَلِيلِ الْمَنَازِعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِيهَا مِنْ حُجَّةٍ لِصِحَّةِ آرَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلُوا الْعَامَ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمُ الْهِجْرَةِ مَبْدَأَ التَّارِيخِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ مَا انْتَزَعَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» فِي فَصْلِ تَأْسِيسِ مَسْجِدِ قُبَاءَ إِذْ قَالَ: «وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَلَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ فِي اللَّفْظِ الظَّاهِرِ فِيهِ) مِنَ الْفِقْهِ صِحَّةُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقَ هَذَا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ»
.
وَجُمْلَةُ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ثَنَاءٌ عَلَى مُؤْمِنِي الْأَنْصَارِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ بِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَسْجِدِ قُبَاءَ. وَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ (مَسْجِدٍ) الَّذِي هُوَ جِنْسٌ، كَالْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمرَان: ١١٩].

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ مِنْ إِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- افْتَرَى الْقُرْآنَ وَنَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْجِيزُهُمْ عَنْ بُرْهَانٍ لِمَا زَعَمُوهُ، كَرَّ عَلَيْهِمْ أَنْ قَدْ وَضَّحَ أَنَّهُمُ الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ عِدَّةَ أَكَاذِيبَ، مِنْهَا نَفْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ.
فَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: ١٧] لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ النَّارَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ إِذْ نَسَبُوا الْقُرْآنَ إِلَى غَيْرِ مَنْ أَنْزَلَهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَاهُ، فَكَانُوا بَالِغِينَ غَايَةَ الظُّلْمِ حَتَّى لَقَدْ يُسْأَلُ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ أَظْلَمَ مِنْهُمْ سُؤال إِنْكَار يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدٌ أَظْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٤]، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧] فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ.
وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ هُوَ مَا وَضَعُوهُ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: ٢٨]. وَقَالَ تَعَالَى:
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الْمَائِدَة: ١٠٣] أَيْ إِذْ يَقُولُونَ: أَمَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ اسْتِئْنَافٌ. وَتَصْدِيرُهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ بِسَبَبِ مَا قَبْلَ اسْمِ
وَجُمْلَةُ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بَيَانٌ لِلْكَيْدِ بِاعْتِبَارِ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ وَضْعِ السِّقَايَةِ وَمِنْ حُكْمِ إِخْوَتِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُلَائِمُ مَرْغُوبَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِبْقَاءِ أَخِيهِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ شَرِيعَةُ الْقِبْطِ تُخَوِّلُهُ ذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ شَرْعَهُمْ فِي جَزَاءِ السَّارِقِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الشَّيْءُ وَيُضْرَبَ وَيُغَرَّمَ ضِعْفَيِ الْمَسْرُوقِ أَوْ ضِعْفَيْ قِيمَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ حُكْمِهِ وَهُوَ استرقاق السراق. وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ لَوْلَا حِيلَةُ وَضْعِ الصُّوَاعِ فِي مَتَاعِ أَخِيهِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا شَائِعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [سُورَة يُوسُف: ٧٥] كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَنَّ مَلِكَ
مِصْرَ كَانَ عَادِلًا فَلَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ فِي بِلَادِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَمِثْلُهُ مَا كَانَ فِي شَرْعِ الرُّومَانِ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْمَدِينِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الشَّرِيعَةٌ لَا مُطْلَقُ السُّلْطَانِ.
وَمَعْنَى لَامِ الْجَحُودِ هُنَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ يُخَوِّلُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْذَ أَخِيهِ عِنْدَهُ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَسْبَابِ أَخْذِ أَخِيهِ الْمَنْفِيَّةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَرْفُ جَرٍّ مَحْذُوفٌ قَبْلَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا نَفْيُ الْأَخْذِ، أَيْ أَسْبَابُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَيْ يُلْهِمَ تَصْوِيرَ حَالَتِهِ وَيَأْذَنَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عَمَلِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْجَمَّةِ لِيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ تَذْيِيلٌ لِقِصَّةِ أَخْذِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخَاهُ لِأَنَّ فِيهَا رَفْعَ دَرَجَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْحَالِ بِالتَّدْبِيرِ الْحَكِيمِ مِنْ وَقْتِ مُنَاجَاتِهِ أَخَاهُ إِلَى وَقْتِ اسْتِخْرَاجِ السِّقَايَةِ مِنْ رَحْلِهِ. وَرَفْعَ دَرَجَةِ أَخِيهِ فِي الْحَالِ بِإِلْحَاقِهِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْعَيْشِ الرَّفِيهِ وَالْكَمَالِ بِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ مِنْ فِيهِ. وَرَفْعَ دَرَجَاتِ إِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِسَبَبِ رَفْعِ دَرَجَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحُنُوِّهِ عَلَيْهِمْ. فَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ الشَّرَفِ مِنِ
هُرَيْرَةَ- رَضِي الله عَنْهُم- مِنَ اسْتِرَاقِ الْجِنِّ السَّمْعَ وَصْفًا لِلْكِهَانَةِ السَّابِقَةِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» وَصْفًا لِآخِرِ أَمْرِهِمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتٍ تُسَمَّى بِالْجِنِّ وَبِالشَّيَاطِينِ مَعَ قَوْلِهِ:
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [سُورَة ص: ٣٧] الْآيَةَ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الْجِنِّ نَوْعٌ لَا يُخَالِطُ خَوَاطِرَ الْبَشَرِ، وَيُخَصُّ بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ نَوْعٌ دَأْبُهُ الْوَسْوَسَةُ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ بِإِلْقَاءِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ.
وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْنَافٌ، وَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْأَجْوَاءِ وَفِي طَبَقَاتٍ مِمَّا وَرَاءَ الْهَوَاءِ وَتَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَصْنَافًا لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ دُونَ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْوَسْوَاسُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ.
وَبَعْضُ ظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِنَ السُّنَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ صِنْفًا لَهُ اتِّصَالٌ بِنُفُوسٍ ذَاتِ اسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ لِاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْوَاقِعَاتِ قَبْلِ وُقُوعِهَا أَوِ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بُلُوغُ وُقُوعِهَا، فَتَسْبِقُ بَعْضُ النُّفُوسِ بِمَعْرِفَتِهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا الْمُعْتَادِ. وَهَذِهِ النُّفُوسُ هِيَ نُفُوسُ الْكُهَّانِ وَأَهْلِ الشَّعْوَذَةِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْمُسَمَّى
بِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. فَهَذَا الصِّنْفُ إِذَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِ حُجِزَ بَعْضُ قُوَاهَا الْعَقْلِيَّةِ عَنْ بَعْضٍ فَأُكْسِبَ الْبَعْضُ الْمَحْجُوزُ عَنْهُ ازْدِيَادَ تَأْثِيرٍ فِي وَظَائِفِهِ بِمَا يَرْتَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ تَفَرُّغِ الْقُوَّةِ الذِّهْنِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمُزَاحَمَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَتُكْسِبُهُ قُدْرَةً عَلَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ لِأَمْثَالِهِ، فَيَخْتَرِقُ الْحُدُودَ الْمُتَعَارَفَةَ لِأَمْثَالِهِ اخْتِرَاقًا مَا، فَرُبَّمَا خَلُصَتْ إِلَيْهِ تَمَوُّجَاتٍ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ تَمَوُّجَاتِ كُرَةِ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجَاتِ الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، مِمَّا وَرَاءَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ.
وَلْنَفْرِضْ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتِ هِيَ تَمَوُّجَاتُ الْأَثِيرِ فَإِنَّهَا تَحْفَظُ الْأَصْوَاتَ مَثَلًا.
مَعْنًى، لِأَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: نَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا فَيَجُوسُونَ وَنَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَنُمْدِدُكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَنَجْعَلُكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا.
وَ (ثُمَّ) تُفِيدُ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ وَالتَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مَعًا.
وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ رَدَدْنا مَاضِيا جَريا عَلَى الْغَالِبِ فِي جَوَابِ (إِذَا) كَمَا جَاءَ شَرْطُهَا فِعْلًا مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا [الْإِسْرَاء: ٥] أَيْ إِذَا يَجِيءُ يَبْعَثُ.
وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ.
فَقَوْلُهُ: عَلَيْهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَرَّةَ، لِأَنَّ رُجُوعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أُورْشَلِيمَ كَانَ بِتَغَلُّبِ مَلِكِ فَارِسَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ.
وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَسْرِ الْبَابِلِيِّينَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ سَلَّطَ اللَّهُ مُلُوكَ فَارِسَ عَلَى مُلُوكِ بَابِلَ الْأَشُورِيِّينَ فَإِنَّ الْمَلِكَ (كُورَشَ) مَلِكَ فَارِسَ حَارَبَ الْبَابِلِيِّينَ وَهَزَمَهُمْ فَضَعُفَ سُلْطَانُهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ (دَارِيُوسُ) مَلِكُ فَارِسَ وَفَتَحَ بَابِلَ سَنَةَ ٥٣٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَذِنَ لِلْيَهُودِ فِي سَنَةِ ٥٣٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَيُجَدِّدُوا دَوْلَتَهُمْ. وَذَلِكَ نَصْرٌ انْتَصَرُوهُ عَلَى الْبَابِلِيِّينَ إِذْ كَانُوا أَعْوَانًا لِلْفُرْسِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَعْدُ بِهَذَا النَّصْرِ وَرَدَ أَيْضًا فِي كتاب أشعياء فِي الْإِصْحَاحَاتِ: الْعَاشِرِ، وَالْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ، وَغَيْرِهَا، وَفِي كِتَابِ أَرْمِيَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْقَهُونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ- أَيْ لَا يَفْهَمُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِىُّ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ- أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْهَامَ غَيْرِهِمْ قَوْلَهُمْ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَهَذَا كَمَا
فِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ: «نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْهَمُ مَا يَقُولُ».
وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُجَاوِرُونَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ، وَكَانُوا أَضْعَفَ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنْ يَقِيَهُمْ مِنْ فَسَادِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ تَعْيِينَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَلَا أَسمَاء قبيلهم سِوَى أَنَّهُمْ قَالُوا: هُمْ فِي مُنْقَطَعِ بِلَادِ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَكَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنْ قَبَائِلِ بِلَادِ الصِّينِ الَّتِي تُتَاخِمُ بِلَادَ الْمَغُولِ وَالتَّتَرِ.
وَجُمْلَةُ قالُوا اسْتِئْنَافٌ لِلْمُحَاوَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ جُمَلَ حِكَايَةِ الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ لَا تَقْتَرِنُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: ٣٠] الْآيَةَ. فَعَلَى أَوَّلِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةٍ وَنِظَامٍ وَمَعَ ذَلِكَ يُعْرِبُونَ عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْأَغْرَاضِ مِثْلَ إِعْرَابِ الْأَطْفَالِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنَّهُمْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادُهُمْ بَعْدَ لَأْيٍ.
وَافْتِتَاحُهُمُ الْكَلَامَ بِالنِّدَاءِ أَنَّهُمْ نَادَوْهُ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِينَ الْمُضْطَرِّينَ، وَنِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِلَقَبِ ذِي القرنين يدل عَلَى أَنَّهُ مَشْهُورٌ بِمَعْنَى ذَلِكَ اللَّقَبِ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُتَاخِمَةِ لِبِلَادِهِ.
وَيَاجُوجُ وَمَاجُوجُ أُمَّةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاوَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ عَطْفٍ فَتَكُونُ أُمَّةً ذَاتَ شَعْبَيْنِ، وَهُمُ الْمَغُولُ وَبَعْضُ أَصْنَافِ التَّتَارِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ رَسْمِ الْكَلِمَةِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا اسْمَانِ عَرَبِيَّانِ كَمَا سَيَأْتِي فَقَدْ كَانَ الصِّنْفَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ.
وَحَسْبُكَ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْآيَاتُ خِتَامُ سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠- ١٩١].
وَلِأَجْلِ هَذَا اطَّرَدَ أَوْ كَادَ أَنْ يَطَّرِدَ ذِكْرُ لَفْظِ وَما بَيْنَهُما بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ مَا بَيْنَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ أشرفه هُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبْرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. فَلَيْسَ بِنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَعِبًا مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى رَدِّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى النَّفْيِ أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ حِكْمَةِ اللَّهِ بِحَيْثُ كَانُوا كَقَائِلِينَ بِكَوْنِ هَذَا الصُّنْعِ لَعِبًا.
وَاللَّعِبُ: الْعَمَلُ أَوِ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ فَائِدَةٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَحْصِيلُ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ إِرْضَاءُ النَّفْسِ حِينَ تَمِيلُ إِلَى الْعَبَثِ كَمَا قِيلَ:
«لَا بُدَّ لِلْعَاقِلِ مِنْ حَمْقَةٍ يَعِيشُ بِهَا». وَيُرَادِفُهُ الْعَبَثُ وَاللَّهْوُ، وَضِدُّهُ: الْجِدُّ. وَاللَّعِبُ مِنَ الْبَاطِلِ إِذْ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ حِكْمَةٌ فَضِدُّهُ الْحَقُّ أَيْضًا.
وَانْتَصَبَ لاعِبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقْنَا وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهَا.
وَجُمْلَةُ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ تَقْرِيرًا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَعْلِيلًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَعِبًا، أَيْ عَبَثًا بِأَنَّ اللَّعِبَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّنَازُلِ لَوْ أَرَدْنَا اللَّهْوَ
لَا يُصْبِحُ غَوْرًا بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الْحَكِيمِ، أَيْضًا احْتُمِلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ الشَّرْطِيَّةُ مَعَ صِدْقِهَا مُمْتَنِعَةَ الْمَقْدَمِ فَيَأْمَنُوا وُقُوعَهُ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا يحْتَمل فِي بادىء النَّظَرِ وُقُوعُهُ حَالًا بِخِلَافِهِ هُنَاكَ فَإِنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِهِ لِمَكَانِ (إِنْ). وَظَاهِرٌ أَنَّ التَّهْدِيدَ بِمُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ أَهْوَلُ، وَمُتَعَيِّنِ الْوُقُوعِ فِي الِاسْتِقْبَالِ أَهْوَنُ.
الثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَا هُنَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيعَادِ بِخِلَافِ مَا هُنَاكَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَلَوْ عُلِمَ بُعْدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ: إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَلَا يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ سِوَى اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَنَا أَقُولُ: عُنِيَ هَؤُلَاءِ النَّحَارِيرُ بِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدُهُمْ لِلْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ تَوْفِيرِ الْخَصَائِصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْآيَةِ الْأُخْرَى مِمَّا يُوَازِنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِك لخو الْآيَةِ عَنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ وَلَا عَجْزِ النَّاظِرِينَ عَنِ اسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ مَا يُبَيَّنُ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ يُرِيدُ مَنْ يُبَيِّنُهُ أَنَّ مَا لَاحَ لَهُ وَوُفِّقَ إِلَيْهِ هُوَ قُصَارَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَعَانِي وَلَكِنَّهُ مُبَلِّغٌ مَا صَادَفَ لَوْحُهُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَدَبِّرِ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ فَقَدْ يُفَاضُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ إِدْرَاكِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَلَا يُفَاضُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ عَلَى مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَهْلُ الْمَعَانِي بِإِفَاضَةِ الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنْ تَكُونَ نَمُوذَجًا لِاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا فَعَلَ السَّكَّاكِيُّ فِي بَيَانِ خَصَائِصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] الْآيَةُ مِنْ مَبْحَثِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ»، وَأَنَّهُ قَالَ فِي مُنْتَهَى كَلَامِهِ «وَلَا تَظُنَّنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُ فَلَعَلَّ مَا تَرَكْتُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْتُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْإِرْشَادُ لِكَيْفِيَّةِ اجْتِنَاءِ ثَمَرَاتِ عِلْمَيِ
الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ»
.
فِي مَغِيبِهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَذًى خَاصٌّ وَهُوَ الْأَذَى حِينَ يَرَوْنَهُ. وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْأَذَى تَبْعَثُهُمْ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الرَّسُولِ فِي غَيْرِ زِيِّ الْكُبَرَاءِ وَالْمُتْرَفِينَ لَا يَجُرُّ الْمَطَارِفَ وَلَا يَرْكَبُ النَّجَائِبَ وَلَا يَمْشِي مَرَحًا وَلَا يَنْظُرُ خُيَلَاءَ وَيُجَالِسُ الصَّالِحِينَ وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَرْفُقُ بِالضُّعَفَاءِ وَيُوَاصِلُ الْفُقَرَاءَ، وَأُولَئِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، لِمَا غَلَبَ عَلَى آرَائِهِمْ مِنْ أَفَنٍ، لِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ بِأَنَّ حَالَهُ لَيْسَتْ حَالَ مَنْ يَخْتَارُهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ دُونَهُمْ، وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِقِيَادَتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ. وَهَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَهْلِ نَادِيهِ.
وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ يُجْعَلُ مُتَعَلِّقُهُ جَوَابًا لَهُ. فَجُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً جَوَابُ إِذا. وَالْهُزُؤُ بِضَمَّتَيْنِ: مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله:
[تَعَالَى] قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَالْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُزُؤِ لِأَنَّهُمْ مَحَّضُوهُ لِذَلِكَ، وَإِسْنَادُ يَتَّخِذُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَاتِهِمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ يُلَازِمُونَهُ وَيَدْأَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْلِطُونَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ تَذَكُّرِ أَقْوَالِهِ وَدَعْوَتِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ لَا يَتَّخِذُونَكَ فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ فَكَانَ بَيَانُهُ بِمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَمُجَاذَبَتِهِمُ الْأَحَادِيثَ بَيْنَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِصْغَارِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مَا يَكْفِي لِلْقَطْعِ
بِانْتِفَاءِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦]، سِوَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَالِكَ تَعَجُّبِيٌّ فَانْظُرْهُ.

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٨]

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
لَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ، وَذِكْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَقْتَضِي طَعْنَهُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ لِمُخَالَفَةٍ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً فَهُمْ مُوقِنُونَ بِمَا فِيهِ، تَمَخَّضَ الْكَلَامُ عَنْ خُلَاصَةٍ هِيَ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ طَاعِنٍ، وَفَرِيقٍ مُوقِنٍ، فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ حُدُوثَ تَدَافُعٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهُوَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ مَدَى هَذَا التَّدَافُعِ، وَالتَّخَالُفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَمَتَى يَنْكَشِفُ الْحَقُّ، فَجَاءَ قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي مُخْتَلِفِينَ. وَأَنَّ كَلِمَةَ (بَيْنَ) تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا، فَأَفَادَ أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَين الْمُؤمنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ قَضَاءً يُبَيِّنُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِبْطَائِهِمُ النَّصْرَ فَإِنَّ النَّبِيءَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ فَالْقَضَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَضَاء لَهُ بادىء ذِي بَدْءٍ.
وَفِيهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى جَنَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْنَادُ الْقَضَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبٌّ لَهُ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ مُرْضِيًا لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَجُعِلَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَقَامِ الْمُبَلِّغِ وَجُعِلَ الْقَضَاءُ بَيْنَ أُمَّتِهِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَتَعْجِيلٌ لِمَسَرَّةِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْإِيمَاء.
وَإِذا قَدْ أُسْنِدَ الْقَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ غَيْرَ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ وَذَلِكَ يلجيء: إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ بِمَا يُخَالِفُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْقَضَاءِ إِذَا اعْتبر اللفظان مترادين لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقْصُودًا بِهِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ الْمُضَافُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُلَّ يَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْعَدْلُ وَلِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ رَبَّكَ. يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ الْمُشْتَهَرِ اللَّائِقِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ وَاطِّرَادِ عَدْلِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاء: ٧٩] وَقَالَ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢] وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا نَبِيئًا فَيَكُونُ

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لَيْسَ هُوَ وَاحِد مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِخُصُوصِهِ وَلَكِنَّهُ مَجْمُوعُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَيِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِلْغَائِهِمْ مَا فِي أَحْوَالِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِهَا لَا يَضْرَعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ، فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِلْزَامِهِمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ دُعَاؤُهُمْ حِينَ لَا يُشْرِكُونَ فِيهِ إِلَهًا آخَرَ مَعَ اللَّهِ بَعْدَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبَاتِ اعْتِرَافَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ أصنامهم فِي شؤون مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ هَوْلٌ تَوَجَّهُوا بِتَضَرُّعِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ خَوْفِهِمْ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ وَمَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّ أَسْفَارَهُمْ فِي الْبَرِّ كَانُوا لَا يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا خَوْفٌ يَعُمُّ جَمِيعَ السَّفَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ قَوَافِلَ، مَعَهُمْ سِلَاحُهُمْ، وَيَمُرُّونَ بِسُبُلٍ يَأْلَفُونَهَا فَلَا يَعْتَرِضُهُمْ خَوْفٌ عَامٌّ، فَأَمَّا سَفَرُهُمْ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ يَفْرَقُونَ مِنْ هَوْلِهِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَفْرَةُ عَدَدٍ وَلَا قُوَّةُ عُدَدٍ، فَهُمْ يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَلَعَلَّهُمْ لَا يَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ حِينَئِذٍ.
فَأَمَّا تَسْخِيرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا كَانُوا يَطْمَعُونَ بِهِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا كَانَ يُخَامِرُهُمُ الْخَوْفُ عِنْدَ رُكُوبِهِمْ فِي الْبَحْرِ لِقِلَّةِ الْفَهْمِ بِرُكُوبِهِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ أَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرَارِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْدِيَةُ الرُّكُوبِ بِحَرْفِ (فِي) عِنْدَ قَوْلِهِ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [٤١]. وَالْإِخْلَاصُ: التَّمْحِيضُ وَالْإِفْرَادُ.
والدِّينَ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاء، أَي ادعوا اللَّهَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ أَصْنَامُهُمْ. وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.
جَهْلٍ مَثَلًا لَا يُؤْمِنُ وَلَمْ يمنعهُ ذَلِك من أَنْ يُبَلِّغَهُ الرِّسَالَةَ وَيُعَاوِدَهُ الدَّعْوَةَ، وَلِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِي حُصُولِ شَيْءٍ لَا تَقْتَضِي إِجْرَاءَ أَمْرِهِ عَلَى حَسَبِ رَغْبَتِهِ إِنْ كَانَتْ رَغْبَتُهُ تُخَالِفُ مَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَرْغَبُ أَنْ يقوم أحد بقتل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قَبْلَ أَن يسمع مِنْهُ إِعْلَانَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنِ ارْتِدَادِهِ حِينَ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمَ الْفَتْحِ تَائِبًا.
وَلِذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُعَدُّ تَصْمِيمُ زَيْدٍ عَلَى طَلَاقِ زَيْنَب عصيانا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ. وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا الْمَصِيرُ إِلَى إِشَارَةِ الْمُشِيرِ كَمَا اقْتَضَاهُ
حَدِيثُ بَرِيرَةَ مَعَ زَوْجِهَا مُغِيثٍ إِذْ قَالَ لَهَا: «لَوْ رَاجَعْتِهِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ»
.
وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْ زَيْدٍ بِأَنْ جَاءَ زَيْدٌ مُسْتَشِيرًا فِي فِرَاقِ زَوْجِهِ، أَوْ مُعْلِمًا بِعَزْمِهِ عَلَى فِرَاقِهَا.
وأَمْسِكْ عَلَيْكَ مَعْنَاهُ: لَازِمْ عِشْرَتَهَا، فَالْإِمْسَاكُ مُسْتَعَارٌ لِبَقَاءِ الصُّحْبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّاحِبِ بِالشَّيْءِ الْمُمْسَكِ بِالْيَدِ.
وَزِيَادَةُ عَلَيْكَ لِدِلَالَةِ (عَلَى) عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] أَوْ لِتَضَمُّنِ أَمْسِكْ مَعْنَى احْبِسْ، أَيِ ابْقِ فِي بَيْتِكَ زَوْجِكِ، وَأَمْرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَابِعٌ لِلْإِشَارَةِ بِإِمْسَاكِهَا، أَيِ اتَّقِ اللَّهَ فِي عِشْرَتِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَلَا تَحِدْ عَنْ وَاجِبِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، أَيِ اتَّقِ اللَّهَ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: ٢٢٩].
وَجُمْلَةُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَقُولُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَتُخْفِي لِلدِّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ إِخْفَاءِ ذَلِكَ وَعَدَمِ ذِكْرِهِ وَالَّذِي فِي نَفْسِهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُ زَيْنَبَ وَأَنَّ زَيْدًا يُطَلِّقُهَا وَذَلِكَ سِرٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ وَلَا مِمَّا للنَّاس فَائِدَة فِي عِلْمِهِ حَتَّى يُبَلِّغُوهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلِمْ عَائِشَةَ وَلَا أَبَاهَا بِرُؤْيَا إِتْيَانِ الْمَلَكِ بِهَا فِي سَرقَة من حَرِيرٍ إِلَّا بَعْدَ أَن تزَوجهَا.
فَمَا صدق «مَا فِي نَفْسِكَ» هُوَ التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي سَيُبْدِيهِ اللَّهُ
مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَنْ يُعْطُوهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: ١٣٦] فَلَعَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفُقَرَاءِ سَأَلُوا الْمُشْرِكِينَ مَا اعْتَادُوا يُعْطُونَهُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ فَيَقُولُونَ أَعْطُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ سَمِعُوا مِنْهُمْ كَلِمَاتٍ إِسْلَامِيَّةً لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهَا مِنْ قَبْلُ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُحَاجُّونَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَلَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ كَائِنٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَلَّلُونَ لِمَنْعِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ فَيَقُولُونَ: لَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا رزقناه الله فَلَمَّا ذَا لَمْ يَرْزُقْكُمْ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَكُمْ كَمَا أَطْعَمَنَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ وَضْعَ صِفَاتِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعِهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَإِظْهَارُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا أَنُطْعِمُ إِلَخْ لِنُكْتَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَلِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ سُئِلَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ.
رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي شِدَّةٍ أَصَابَتِ النَّاسَ فَشَحَّ فِيهَا الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَمَنَعُوهُمْ مَا كَانُوا يُعْطُونَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ أَيْ خَاطَبُوا الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ قَالُوا فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٦٨] وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: ١١] أَيْ قَالُوا ذَلِكَ تَعِلَّةً لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُطْعِمُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُطْعِمُ من لَو شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُمْ بِحَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَطْعِمُ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْإِنْفَاقُ: إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ يُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِكْسَاءَ وَالْإِسْكَانَ فَأَجَابُوا بِإِمْسَاكِ الطَّعَامِ وَهُوَ أَيْسَرُ
عَنْ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ فِي الْعِنَادِ وَعَدَمِ
الْإِنْصَافِ وَالِانْصِيَاعِ إِلَى قَوَاطِعِ الْحُجَجِ، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يَتَطَلَّبُ حَاكِمًا فِيهِمْ لَا يَجِدُ حَاكِمًا فِيهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَهَذَا أَيْضا يؤمىء إِلَى الْعُذْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِهِ بِأَقْصَى مَا كُلِّفَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَقَّنَهُ رَبُّهُ أَنْ يَقُولَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى: أَنَّكَ أَبْلَغْتَ وَأَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يُعْجِزُهَا الْأَلِدَّاءُ أَمْثَالُ قَوْمِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْمُعَانِدِينَ.
وَالْحُكْمُ يَصْدُقُ بِحُكْمِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، وَيَشْمَلُ حُكْمَ الدُّنْيَا بِنَصْرِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْضَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ صِلَةٌ لِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ، وَكَوْنُ خَبَرِ (كَانَ) مُضَارِعًا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مُتَجَدِّدٌ إِذْ لَا طَمَاعِيَةَ فِي ارْعِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ فِيهِ عَلَى يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمُخْتَلف فِيهِ.
[٤٧- ٤٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: ٤٦] إِلَخْ لِأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَبَّهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ سَيَكُونُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ مَا سَيَكُونُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُشْرِكُونَ فِدْيَةً مِنْهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَافْتَدَوْا بِهَا.
الْآيَةَ، ثُمَّ قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: ١٥]، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الشورى: ٢٣] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.
وَالْحَفِيظُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ حَافِظٌ، وَتَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى رِعَايَةِ الشَّيْءِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ: وَيَكْثُرُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الْمَرْقُوبِ وَأَعْمَالِهِ، وَبِاخْتِلَافِ مَعَانِيهِ تَخْتَلِفُ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى، وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا يُعَدَّى الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ.
وَالْوَكِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ عَمَلٌ فِي شَيْءٍ أَوِ اقْتِضَاءِ حَقٍّ. يُقَالُ:
وَكَّلَهُ عَلَى كَذَا، وَمِنْهُ الْوَكَالَةُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ كِنَايَةً عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ وَأَعْمَالِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ حَفِيظٌ وَ (وَكِيلٌ) هُنَا فِي اسْتِعْمَالِهِمَا الْكِنَائِيِّ عَنْ مُتَقَارِبِ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ قَدْ يُفَسِّرُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَحَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الْآخَرِ كَتَفْسِيرِ الْمُرَادِفِ بِمُرَادِفِهِ، وَذَلِكَ تَسَامُحٌ. فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِمَا إِلَى أَصْلِ مَادَّتَيْ (حَفِظَ) وَ (وَكَلَ)، فَمَادَّةُ (حَفِظَ) تَقْتَضِي قِيَامَ الْحَدَثِ بِفَاعِلٍ وَتَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ، وَمَادَّةُ (وَكَلَ) تَقْتَضِي قِيَامَ الْحَدَثِ بِفَاعِلٍ وَتَعْدِيَتَهُ إِلَى مَفْعُولٍ وَتَجَاوُزَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ (حَفِظَ) مُفِيدًا بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى مُتَعَلِّقٍ آخَرَ، بِخِلَافِ فِعْلِ (وَكَلَ)
فَإِفَادَتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى ذِكْرٍ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ زَائِدٍ عَلَى الْمَفْعُولِ وَمِنْ عَلَائِقِهِ، فَلِذَلِكَ أُوثِرَ وَصْفُ حَفِيظٌ هُنَا بِالْإِسْنَادِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَهُ غَيْرُهُ حِفْظَ شَيْءٍ فَهُوَ فَاعِلُ الْحِفْظِ، وَأُوثِرَ وَصْفُ (وَكِيلٍ) بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِأَكْثَرِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ لَا أَنْتَ وَمَا أَنْتَ بِمُوَكَّلٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى جَبْرِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ
وَمِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ أَنْ سَخَّرَ لَهُمَا هَذَا الْوَلَدَ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، فَهَاتَانِ النِّعْمَتَانِ أَوَّلُ مَا يَتَبَادَرُ عَنْ عُمُومِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلْحَدِيثِ عَنْهُمَا.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُؤَقَّتَ بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ وَهُوَ فِعْلُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي مِنْ جُمْلَةِ مَا وُصِّيَ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَيْ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى وَالِدَيْهِ فِي وَقْتِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ. فَالْمَعْنَى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ حُسْنًا بِوَالِدَيْهِ حَتَّى فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، أَيْ أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِحْسَانِ
إِلَيْهِمَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى بِالدُّعَاءِ لَهُمَا. وَإِنَّمَا خَصَّ زَمَانَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يكثر فِيهِ الكلف بِالسَّعْيِ لِلرِّزْقِ إِذْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ وَأَبْنَاءٌ وَتَكْثُرُ تَكَالِيفُ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ لَهَا فِيهِ زَوْجٌ وَبَيَّتٌ وَأَبْنَاءٌ فَيَكُونَانِ مَظِنَّةَ أَنْ تَشْغَلَهَمَا التَّكَالِيفُ عَنْ تَعَهُّدِ وَالِدَيْهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَنُبِّهَا بِأَنْ لَا يَفْتُرَا عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ.
وَمَعْنَى قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ بِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ الدُّعَاءُ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّعَاءِ لَهُمَا وَبِأَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا بِظَهْرِ الْغَيْبِ مِنْهُمَا حِينَ مُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمَا فِي الْمُوَاجَهَةِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ كَمَا فِي طَرِيقَةِ الْفَحْوَى فِي النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: ٢٣].
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ وَبِجَمِيعِ وَسَائِلِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَايَتُهُ حُصُولُ النَّفْعِ لَهُمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً
[الْإِسْرَاء: ٢٤] وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِلْأَبَوَيْنِ وَعَدَ بِإِجَابَتِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِقَوْلِهِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. وَمَا شُكْرُ الْوَلَدِ رَبَّهُ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِ نِيَابَتِهِ عَنْهُمَا فِي هَذَا الشُّكْرِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْكِيدِ الِاسْمِ السَّابِقِ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ، مَعَ مَا فِي صِفَةِ الْكُفْرِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ خَالِقِهِمْ.
وَالْيَوْمَ الَّذِي أُوعِدُوهُ هُوَ زَمَنُ حُلُولِ الْعَذَابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيُحْتَمَلُ حُلُولُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُغَايِرٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِمْ، أَيْ هُوَ مُعَيَّنٌ لِجَزَائِهِمْ كَمَا أُضِيفَ يَوْمٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٣]. وَالْيَوْمُ: يَصْدُقُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَصْدُقُ بِيَوْمِ بَدْرٍ الَّذِي اسْتَأْصَلَ اللَّهُ فِيهِ شَوْكَتَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْكُفَّارِ الْمُعَيَّنِينَ وَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمًا خَاصًّا بِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُفَّارِ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠٣] : وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ لِأَنَّ ضمير الْخطاب فِيهَا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الْأَنْبِيَاء: ١٠١] كُلِّهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ اللَّطَائِفِ تَمْثِيلُ مَا سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذَّنُوبِ، وَالذَّنُوبُ يُنَاسِبُ الْقَلِيبَ وَقَدْ كَانَ مَثْوَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَلِيبَ بَدْرٍ الَّذِي رُمِيَتْ فِيهِ أَشْلَاءُ سَادَتِهِمْ وَهُوَ الْيَوْمُ الْقَائِلُ فِيهِ شَدَّاد بن الْأسود اللَّيْثِيُّ الْمُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ يَرْثِي قَتْلَاهُمْ:
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ بَكْرٍ وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ
وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا يَشْمَلُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الْأَعْرَاف: ٤٤].
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١]. وَقَوْلِهِ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّور: ١٢]، أَيْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَنْفُسِهِمْ مَجَامِعِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، أَيْ قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ سَتْرًا عَلَيْهِمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ، أَيْ هَلَّا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِسَبَبِ كَلَامِنَا الَّذِي نَتَنَاجَى بِهِ مِنْ ذمّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَيْ يَقُولُونَ مَا مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيئًا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُهُ مِنَ السُّوءِ فِيهِ وَمِنَ الذَّمِّ وَهُوَ مَا لَخَّصَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِكَلِمَةِ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ فَإِنَّ لَوْلا لِلتَّحْضِيضِ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةٌ عَن جحد نبوءة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ كَانَ نَبِيئًا لَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَعَذَّبَنَا الْآنَ بِسَبَبِ قَوْلِنَا لَهُ.
وَهَذَا خَاطِرٌ مِنْ خَوَاطِرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِيهِمْ، وَهِيَ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ شَأْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَشَأْنِ الْبَشَرِ فِي إِسْرَاعِ الِانْتِقَامِ وَالِاهْتِزَازِ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ وَمِنَ الْمُعَانَدَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لِجُحُودِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ يَحْسَبُونَ أَنَّ عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا»
. وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ قَالَ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت:
٢٣]، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى كَلَامِهِمْ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ أَيْ كَافِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ جَهَنَّمُ فَإِنَّهُ عَذَابٌ.
وَأَصْلُ يَصْلَوْنَها يَصْلَوْنَ بِهَا، فَضَمَّنَ مَعْنَى يَذُوقُونَهَا أَوْ يَحُسُّونَهَا وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ بِشَأْنِ ذمّ جَهَنَّم.
[٩]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)
خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ فَعَامَلَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَظْهَرُوهُ وَنَادَاهُمْ بِوَصْفِ الَّذِينَ آمَنُوا كَمَا قَالَ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْمَائِدَة: ٤١]
فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١]، فَاسْتُعِيرَ الذَّلُولُ لِلْأَرْضِ فِي تَذْلِيلِ الْانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ صلابة خلقتها تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَسُوسَةِ الْمُرْتَاضَةِ بَعْدَ الصُّعُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَرَّحَةِ.
وَالْمَنَاكِبُ: تَخْيِيلٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ تَسْخِيرِ الْأَرْضِ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الْمَنْكَبَ هُوَ مُلْتَقَى الْكَتِفِ مَعَ الْعَضُدِ، جَعَلَ الْمَنَاكِبَ اسْتِعَارَةً لِأَطْرَافِ الْأَرْضِ أَوْ لِسَعَتِهَا.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْاسْتِعَارَةِ الْأَمْرُ فِي فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ تَذْكِيرًا بِمَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُم من الْمَشْيِ فِي الْأَرْضِ امْتِنَانًا بِذَلِكَ.
وَمُنَاسَبَةُ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِدَامَةِ أَيْضًا لِلْامْتِنَانِ، وَبِذَلِكَ تَمَّتِ اسْتِعَارَةُ الذَّلُولَ لِلْأَرْضِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَذْلِيلِ الذَّلُولِ رُكُوبُهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا. فَالْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ شَبِيهٌ بِرُكُوبِ الذَّلُولِ، وَالْأَكْلُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ شَبِيهٌ بِأَكْلِ الْأَلْبَانِ وَالسَّمْنِ وَأَكْلِ الْعُجُولِ وَالْخِرْفَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَمْعُ الْمَنَاكِبِ تَجْرِيدٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الذَّلُولَ لَهَا مِنْكِبَانِ وَالْأَرْضُ ذَاتُ مُتَّسَعَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَكُلُّ هَذَا تَذْكِيرٌ بِشَوَاهِدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِنْعَامِ لِيَتَدَبَّرُوا فَيَتْرُكُوا الْعِنَادَ، قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النَّحْل: ٨١].
وَأَمَّا عَطْفُ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَزِيَادَة عبر أسطر لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مَثْوَى النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْمَعْنَى: إِلَيْهِ النُّشُورُ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفًا، أَيْ وَفِيهَا تَعُودُونَ.
وَتَعْرِيفُ النُّشُورُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ أَيْ كُلُّ نُشُورٍ، وَمِنْهُ نُشُورُ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ خَلَقَتِ الْأَرْضَ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ إِلَهِيَّتِهَا يَقْتَضِي إِلْزَامَهُمْ بِهَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي جُمْلَةِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ لِلْاهْتِمَامِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ النُّشُورِ هُوَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ من الأَرْض.

[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٩]

وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩)
جُمْلَةٌ هِيَ حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ [النبأ: ١٨].
وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ فُتِحَتِ السَّمَاءُ، أَيْ قَدْ حَصَلَ النَّفْخُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النبأ: ١٨] فَيعْتَبر يَوْمَ [النبأ:
١٨] مُضَافًا إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفرْقَان: ٢٥].
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا التَّفْتِيحِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ مَضَى وُقُوعُهُ.
وَفَتْحُ السَّمَاءِ: انْشِقَاقُهَا بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَعْضِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّهُمْ نُزُولًا يَحْضُرُونَ بِهِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: ٢٥، ٢٦].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَفُتِّحَتْ بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي فِعْلِ الْفَتْحِ بِكَثْرَةِ الْفَتْحِ أَوْ شِدَّتِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ شَقَّ السَّمَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَمُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْفَتْحِ بِالسَّمَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ فَتْحٌ شَدِيدٌ.
وَفِي الْفَتْحِ عِبْرَةٌ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُلْتَئِمَةً فَإِذَا فَسَدَ الْتِئَامُهَا وَتَخَلَّلَتْهَا مَفَاتِحُ كَانَ مَعَهُ انْخِرَامُ نِظَامِ الْعَالَمِ الْفَانِي قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: ١- ٦].
فَالتَّفَتُّحُ وَالْفَتْحُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ يَوْمَ الْفَصْلِ [النبأ: ١٧].
وَفُرِّعَ عَلَى انْفِتَاحِ السَّمَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَكانَتْ أَبْواباً أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ.
فَقَوْلُهُ أَبْواباً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْأَبْوَابِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى حَاجِزٌ بَيْنَ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: ٤].


الصفحة التالية
Icon