مُفْرَدَاتِهِ إِلَى تَشَابِيهَ مُفْرَدَةٍ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِجُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ هَيْئَةِ قَوْمٍ أَصَابَهُمْ صَيِّبٌ مَعَهُ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَصَوَاعِقُ لَا يُطِيقُونَ سَمَاعَ قَصْفِهَا وَيَخْشَوْنَ الْمَوْتَ مِنْهَا وَبَرْقٌ شَدِيدٌ يَكَادُ يَذْهَبُ بِأَبْصَارِهِمْ وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ بَيْنَ السَّيْرِ وَتَرْكِهِ. وَقَوْلُهُ:
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ اعْتِرَاضٌ رَاجِعٌ لِلْمُنَافِقِينَ إِذْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ التَّمَثُّلُ وَاتَّضَحَ مِنْهُ حَالُهُمْ فَآنَ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى وَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْغَرَضِ كَالرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٧] إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا وَقَعَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْإِحَاطَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ شُبِّهَتِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا يَفُوتُهَا الْمَقْدُورُ بِإِحَاطَةِ الْمُحِيطِ بِالْمُحَاطِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ أَوِ التَّمْثِيلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذَا الْخَبَرُ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِمْ.
وَالْخَطْفُ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ.
وَ (كُلَّمَا) كَلِمَةٌ تُفِيدُ عُمُوم مدخولها، و (مَا) كَافَّةٌ لِكُلٍّ عَنِ الْإِضَافَةِ أَوْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَالْعُمُومُ فِيهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ كَلِمَةِ (كُلٍّ). وَذِكْرُ (كُلَّمَا) فِي جَانِبِ الْإِضَاءَةِ وَ (إِذَا) فِي جَانِبِ الْإِظْلَامِ لِدَلَالَةِ (كُلَّمَا) عَلَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْمَشْيِ وَأَنَّهُمْ يَتَرَصَّدُونَ الْإِضَاءَةَ فَلَا يُفِيتُونَ زَمَنًا مِنْ أَزْمَانِ حُصُولِهَا لِيَتَبَيَّنُوا الطَّرِيقَ فِي سَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ.
وأَضاءَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ وَمُتَعَدِّيًا بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ [الْبَقَرَة: ١٧] وَأَظْلَمَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا كَثِيرًا وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا قَلِيلا. وَالظَّاهِر أم (أَضَاءَ) هُنَا مُتَعَدٍّ فَمَفْعُولُ (أَضَاءَ) مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ (مَشَوْا) عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ الْمَمْشَى أَوِ الطَّرِيقُ أَيْ أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ وَكَذَلِكَ (أَظْلَمَ) أَيْ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ بِأَنْ أَمْسَكَ وَمِيضَهُ فَإِسْنَادُ الْإِظْلَامِ إِلَى الْبَرْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي الْإِظْلَامِ. وَمَعْنَى الْقِيَامِ عَدَمُ الْمَشْيِ أَيِ الْوُقُوفُ فِي الْمَوْضِعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ مَفْعُولُ (شَاءَ) مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ شَأْنُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِهِمَا إِذَا وَقَعَ مُتَّصِلًا بِمَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْعُولِهِ مِثْلَ وُقُوعِهِ صِلَةً لِمَوْصُولٍ يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ نَحْوَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ أَيْ مَا شَاءَ كَوْنَهُ كَانَ وَمِثْلَ وُقُوعِهِ شَرْطًا لِلَوْ لِظُهُورِ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ دَلِيلُ الْمَفْعُولِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: ٦، ٧]
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَرَاهِيَة الطَّبْع الْفِعْل لَا تُنَافِي تَلَقِّيَ التَّكْلِيفِ بِهِ بِرِضًا لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ.
ثُمَّ إِنَّ كَانَتِ الْآيَةُ خَبَرًا عَنْ تَشْرِيعٍ مَضَى، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَهُوَ كُرْهٌ حِكَايَةً لِحَالَةٍ مَضَتْ وَتِلْكَ فِي أَيَّامِ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ إِيجَابُ الْقِتَالِ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ كَرَاهِيَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ بَاقِيَةً إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ كَانُوا كَرِهُوا الصُّلْحَ وَاسْتَحَبُّوا الْقِتَالَ، لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ جَيْشٌ كَثِيرٌ فَيَكُونُ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ حِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الصُّلْحَ فِي وَقْتٍ أَحَبُّوا فِيهِ الْقِتَالَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَالْمَقْصُودُ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِتَطْمَئِنَّ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي كَرِهُوهُ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حِوَارِ عُمَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ، إِذِ الْكَلَامُ عَلَى الْقِتَالِ، فَتَقْدِيرُ السِّيَاقِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَمُنِعْتُمْ مِنْهُ وَهُوَ حُبٌّ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا الْقِتَالَ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوهُ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ إِنْشَاءَ تَشْرِيعٍ فَالْكَرَاهِيَةُ مَوْجُودَةٌ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا تَكُونُ وَارِدَةً فِي شَأْنِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَوَّلُ الْوَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدِي لِيُنَاسِبَ قَوْله عقبه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢١٧].
وَقَوْلُهُ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَذْيِيلٌ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِدَفْعِ الِاسْتِغْرَابِ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكْرُوهًا فَكَانَ شَأْنُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ أَلَّا يَكْتُبَهُ عَلَيْهِمْ فَذَيَّلَ بِهَذَا لِدَفْعِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَعَسى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: حَالِيَّةٌ مِنْ شَيْئاً عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ غَنِيًّا عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ، وَلَكِنْ فِي بَيَان الْحِكْمَة تَخْفِيفًا مِنْ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ، وَفِيهِ تَعْوِيدُ الْمُسْلِمِينَ بِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ مُعَلَّلَةً مُذَلَّلَةً فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ، وَلَا تَعْتَمِدُ مُلَاءَمَةَ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتَهُ، إِذْ يَكْرَهُ الطَّبْعُ شَيْئًا وَفِيهِ نَفْعُهُ وَقَدْ يُحِبُّ شَيْئًا وَفِيهِ هَلَاكُهُ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ،
لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ عِبَادِهِ فِيمَا يَحْتَاجُونَهُ حِينَ مَغِيبِهِ. وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى التَّغَيُّرِ لِأَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وَانْتِفَاءِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْأُفُولَ لَيْسَ بِتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِ الْكَوْكَبِ بَلْ هُوَ عَرَضٌ لِلْأَبْصَارِ الْمُشَاهِدَةِ لَهُ، أَمَّا الْكَوْكَبُ فَهُوَ بَاقٍ فِي فَلَكِهِ وَنِظَامِهِ يَغِيبُ وَيَعُودُ إِلَى الظُّهُورِ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُقْنِعًا لَهُمْ.
وَلِأَجْلِ هَذَا احْتَجَّ بِحَالَةِ الْأُفُولِ دُونَ حَالَةِ الْبُزُوغِ فَإِنَّ الْبُزُوغَ وَإِنْ كَانَ طَرَأَ بَعْدَ أُفُولٍ لَكِنَّ الْأُفُولَ السَّابِقَ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُمْ فَكَانَ الْأُفُولُ أَخْصَرَ فِي الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْبَازِغَ كَانَ مِنْ قَبْلُ آفِلًا.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً إِلَخ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ.
وَالتَّقْدِيرُ: فَطَلَعَ الْقَمَرُ فَلَمَّا رَآهُ بَازِغًا، فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ لِلْإِيجَازِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَمَرَ طَلَعَ بَعْدَ أُفُولِ الْكَوْكَبِ، وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ لِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ الْوَقْتَ الَّذِي يُغْرِبُ فِيهِ الْكَوْكَبُ ويطلع الْقَمَر
بِقُرْبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ لِيَعْقُبَهُمَا طُلُوعُ الشَّمْسِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْقَمَرَ لِأَنَّهُ حَذَفَ مُعَادَ الضَّمِيرِ. وَالْبَازِغُ: الشَّارِقُ فِي ابْتِدَاءِ شُرُوقِهِ، وَالْبُزُوغُ ابْتِدَاءُ الشُّرُوقِ.
وَقَوْلُهُ هَذَا رَبِّي أَفَادَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ أَنَّهُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنَ الْكَوْكَبِ فَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْإِلَهِيَّةِ بِسَبَبِ النُّورِ فَالَّذِي هُوَ أَشَدُّ نُورًا أَوْلَى بِهَا مِنَ الْأَضْعَفِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ خَاصَّةً وَهُوَ كَوْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قَصَدَ بِهِ تَنْبِيهَ قَوْمِهِ لِلنَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ كِلَيْهِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا يَهْدِيهِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِعِدَّةِ أَرْبَابٍ. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الْكَوَاكِبِ.
ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ وَهَيَّأَهُمْ قَبْلَ الْمُصَارَحَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يُدْخِلُ عَلَى
الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ تَفَرُّقٍ وَقَعَ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَقَدْ نَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَلَمَّا أَعْطَوْا حَقَّ الشُّكْرِ دَامَ أَمْرُهُمْ فِي تَصَاعُدٍ، وَحِينَ نَسَوْهُ أَخَذَ أَمْرُهُمْ فِي تَرَاجُعٍ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وَلَمْ يَزَلِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَوْعِظَةِ أَنْ لَا يَحِيدُوا عَنْ أَسْبَابِ بَقَاءِ عِزِّهِمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ» ؟ - قَالَ: نَعَمْ- «قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»
الْحَدِيثَ،
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «بُدِئَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بُدِئَ»
. [٢٧، ٢٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْعِصْيَانِ الْخَفِيِّ. بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يُظْهِرُوا الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ وَيُبْطِنُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْخِلَافَ فِي بَاطِنِهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خِيَانَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَرَوَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ السِّيَرِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ وَالْكَلْبِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ (١) بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيِّ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَسَأَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ الصُّلْحَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تَنْزِلُونَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» فَأَبَوْا وَقَالُوا: «أَرْسِلْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ» فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَبَا لُبَابَةَ وَكَانَ وَلَدُهُ وَعِيَالُهُ وَمَالُهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ قَالُوا لَهُ مَا تَرَى أَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بِيَدِهِ عَلَى حَلْقِهِ: أَنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ
، وَهَذَا الْخَبَرُ لَمْ
_________
(١) قيل: اسْمه رِفَاعَة، وَقيل: مَرْوَان، وَقيل: هَارُون، وَقيل: غير ذَلِك، واشتهر بكنيته.
وَالثَّنْيُ: الطَّيُّ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ. يُقَالُ: ثَنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، إِذَا جَعَلَهُ ثَانِيًا، يُقَالُ: هَذَا وَاحِدٌ فَاثْنِهِ، أَيْ كُنْ ثَانِيًا لَهُ، فَالَّذِي يَطْوِي الشَّيْءَ يَجْعَلُ أَحَدَ طَاقَيْهِ ثَانِيًا لِلَّذِي قَبْلَهُ فَثَنْيُ الصُّدُورِ: إِمَالَتُهَا وَحَنْيُهَا تَشْبِيهًا بِالطَّيِّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ الطَّأْطَأَةُ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِجْرَاءَ عَلَى حَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِ مِنَ الثَّنْيِ وَالصُّدُورِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةٍ نَفْسِيَّةٍ بِهَيْئَةٍ حِسِّيَّةٍ.
فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ ذَلِكَ تَعْجِيبًا مِنْ جَهَالَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ كَانُوا يَقِيسُونَ صِفَاتَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِ النَّاسِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَحْجُبُونَهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَيُرْخِي السِّتْرَ عَلَيْهِ
وَيَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قَلْبِي؟ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ.
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَيْشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت: ٢٢، ٢٣].
وَجَمِيعُ أَخْطَاءِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ تَسْرِي إِلَى عُقُولِهِمْ مِنَ النَّظَرِ السَّقِيمِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، وَتَقْدِيرِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِمَقَادِيرَ مُتَعَارَفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَقِيَاسُ الْغَائِب على الشَّاهِد. وَقَدْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ فَرْقِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مَعْلُومَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ تَعْصِمُهُمْ عِنْدَ الْغَايَةِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ وَأَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ.
فَاتِّبَاعُ النَّبِيءِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْمُحَاجَّةِ لَهُ وَاتِّبَاعِ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ. وَفِي فُرُوعِهَا مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلُ الْخِتَانِ وَخِصَالِ الْفطْرَة وَالْإِحْسَان.
[١٢٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنًى يَرْتَبِطُ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَبِمَجِيءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِهَا.
فَلَمَّا نَفَتِ الْآيَةُ قَبْلَ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدًّا عَلَى مَزَاعِمِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، انْتَقَلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى إِبْطَالِ مَا يُشْبِهُ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ. وَهِيَ مَزَاعِمُ الْيَهُودِ أَنَّ مِلَّةَ الْيَهُودِيَّةِ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ زَعْمًا ابْتَدَعُوهُ حِينَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ جَحْدًا لِفَضِيلَةٍ فَاتَتْهُمْ، وَهِيَ فَضِيلَةُ بِنَاءِ دِينِهِمْ عَلَى أَوَّلِ دِينٍ لِلْفِطْرَةِ الْكَامِلَةِ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٥].
فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ اخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى مِلَّتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِأَعْظَمِ دَلِيلٍ وَهُوَ أَنَّ دِينَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَإِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ
وَالْأَبَدُ: مُرَادٌ مِنْهُ طُولُ الْمُدَّةِ، أَيْ هِيَ بَاقِيَةٌ بَقَاءَ أَمْثَالِهَا لَا يَعْتَرِيهَا مَا يُبِيدُهَا. وَهَذَا اغْتِرَارٌ مِنْهُ بِغِنَاهُ وَاغْتِرَارٌ بِمَا لِتِلْكَ الْجَنَّةِ مِنْ وُثُوقِ الشَّجَرِ وَقُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ وَاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ نَمَائِهِ وَدَوَامِهِ حَوْلَهُ، مِنْ مِيَاهٍ وَظِلَالٍ.
وَانْتَقَلَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اعْتِقَادِهِ دَوَامَ تِلْكَ الْجَنَّةِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اعْتِقَادِهِ بِنَفْيِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْمُعْتَقَدَيْنَ. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّوَرُّكَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ تَخْطِئَةً إِيَّاهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً تَهَكُّمًا بِصَاحِبِهِ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ قَوْلُهُ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً. وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ «لَيَكُونَنَّ لِي مَالٌ هُنَالِكَ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ مِنْهُ».
وَأَكَدَّ كَلَامَهُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ مُبَالَغَةً فِي التَّهَكُّمِ.
وَانْتَصَبَ مُنْقَلَباً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ الْخَبَرِ. وَالْمُنْقَلَبُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُنْقَلَبُ إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ.
وَضَمِيرُ مِنْهُمَا لِلْجَنَّتَيْنِ عَوْدًا إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ تَفَنُّنًا فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ
مِنْها بِالْإِفْرَادِ جَرْيًا عَلَى قَوْلِهِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَقَوْلِهِ: أَنْ تَبِيدَ هذِهِ.
[٣٧- ٤١]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٣٧ الى ٤١]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
حُكِيَ كَلَامُ صَاحِبِهِ بِفِعْلِ الْقَوْلِ بِدُونِ عَطْفٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَذُكِرَتْ تَفْصِيلًا هُنَا، فَابْتُدِئَ فِي ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ عَدَاوَتِهِ بِآدَمَ لِأَنَّ آدَمَ هُوَ مَنْشَأُ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِحَسَدِهِ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِذِكْرِ زَوْجِهِ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ إِيَّاهَا تَبَعٌ لِعَدَاوَتِهِ آدَمَ زَوْجَهَا، وَكَانَتْ عَدَاوَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِكِلَيْهِمَا لِاتِّحَادِ عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ حَسَدُهُ إِيَّاهُمَا عَلَى مَا وَهَبَهُمَا اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْفِكْرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْهُدَى وَعُنْوَانُ التَّعْبِيرِ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُوَصِّلِ لِلْإِرْشَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْوَائِهِمَا وَاسْتِهْوَاءِ ذَرِّيَّتِهِمَا، وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ رَأَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى آدَمَ فَحَنَقَ لَمَّا أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ.
فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) قَوْلُهُ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ: بِأَنْ نُهِيَا نَهْيَ تَحْذِيرٍ عَنْ أَنْ يَتَسَبَّبَ إِبْلِيسُ فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يَرُوقُهُ صَلَاحُ حَالِ عَدُّوِهُ. وَوَقَعَ النَّهْيُ فِي صُورَةِ نَهْيٍ عَنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَعْمَالِ آدَمَ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِ آدَمَ عَنِ التَّأَثُّرِ بِوَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كِنَايَةً عَنْ: لَا تَفْعَلْ، أَيْ لَا تَفْعَلْ كَذَا حَتَّى أَعْرِفَهُ مِنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ خَبَرَ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ.
وَأُسْنِدَ تَرَتُّبُ الشَّقَاءِ إِلَى آدَمَ خَاصَّةً دُونَ زَوْجِهِ إِيجَازًا، لِأَنَّ فِي شَقَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
شَقَاءَ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْكَوْنِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ شَقَاءَ الذَّكَرِ أَصْلُ شَقَاءِ الْمَرْأَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.

[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٥]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
هَذَا مِنْ نَسَقِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ الله وَاقع موقه قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الْحَج: ٦٣]، فَهُوَ مِنْ عِدَادِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ كالتكرير للغرض، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهِ إِدْمَاجُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّسْخِيرِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ.
وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ مُسْتَأْنَفَةٌ كَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [الْحَج: ٦٣].
وَالْخِطَابُ هُنَا وَالِاسْتِفْهَامُ كِلَاهُمَا كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَالتَّسْخِيرُ: تَسْهِيلُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ مَانِعٍ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِصُعُوبَةِ الِانْتِفَاعِ لَوْلَا ذَلِكَ التَّسْخِيرُ، وَأَصْلُهُ تَسْهِيلُ الِانْتِفَاعِ بِمَا فِيهِ إِرَادَةُ التَّمَنُّعِ مِثْلُ تَسْخِيرِ الْخَادِمِ وَتَسْهِيلِ اسْتِخْدَامِ الْحَيَوَانِ الدَّاجِنِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْبَقْرِ، وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهَا بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا طَبْعَ
الْخَوْفِ مِنَ الْإِنْسَانِ مَعَ تَهْيِئَتِهَا لِلْإِلْفِ بِالْإِنْسَانِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى تَسْهِيلِ الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي طَبْعِهِ أَوْ فِي حَالِهِ مَا يُعَذَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْلَا مَا أَلْهَمَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنْ وَسَائِلِ التَّغَلُّبِ عَلَيْهَا بِتَعَرُّفِ نَوَامِيسِهِ وَأَحْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَوْقَاتِ ظُهُورِهِ، وَبِالِاحْتِيَالِ عَلَى تَمَلُّكِهِ مِثْلِ صَيْدِ الْوَحْشِ وَمَغَاصَاتِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَمِثْلِ آلَاتِ الْحَفْرِ وَالنَّقْرِ لِلْمَعَادِنِ، وَمِثْلِ التَّشْكِيلِ فِي صُنْعِ الْفُلْكِ وَالْعَجَلِ، وَمِثْلِ التَّرْكِيبِ وَالتَّصْهِيرِ فِي صُنْعِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَزْجِيَّاتِ وَالصِّيَاغَةِ، وَمِثْلِ الْإِرْشَادِ إِلَى ضَبْطِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ
يَقْتَضِي تحقق مَاهِيَّتِهِ. وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ
يُرِيدُ لَا مَنَارَ فِيهِ. وَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ:
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
أَرَادَ: إِنَّهَا لَا أَرْنَبَ فِيهَا وَلَا ضَبَّ. فَهُوَ من قبيل التلميح.
ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُقَابَلَةُ لِلْجُمَلِ الْمَوْصُوفِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ كُفْرِهِمُ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الْكُفْرِ وَمَادَّتُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَهُمْ يُصْنَعُونَ، أَيْ يَصْنَعُهُمُ الصَّانِعُونَ لِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ كُلَّهَا حِجَارَةٌ مَنْحُوتَةٌ فَقَدْ قَوَّمَتْهَا الصَّنْعَةُ، فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى التَّشْكِيلِ وَالنَّحْتِ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ شَاعَ فِي الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ إِمَّا اعْتِبَارًا بِأَصْلِ مَادَّةِ الْخَلْقِ وَهُوَ تَقْدِيرُ مِقْدَارِ الْجِلْدِ قَبْل فَرْيِهِ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى النَّحْتِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَإِمَّا مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً.
وَالْمِلْكُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧]، وَقَوْلِهِ فِيهَا: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: ٧٦]، أَيْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّكُمْ وَلَا نَفْعِكُمْ. فَقَوْلُهُ هُنَا: لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ، وَاللَّامُ فِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لِفَائِدَتِهَا.
ثُمَّ إِن المُرَاد بِأَنْفسِهِم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْآحَادِ الْمُفَادَةِ بِضَمِيرِ يَمْلِكُونَ، أَيْ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالضُّرِّ دَفْعَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ
وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِخُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَائِلِينَ فِي أَمْثَالِهِمُ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ
مَظْلُومًا»
. وَقَدْ أَلْقَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ إِبْطَالُ ذَلِكَ فَسَاقَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ حَتَّى سَأَلُوا عَنْهُ ثُمَّ أَصْلَحَ مَعْنَاهُ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِهِ فَقَالَ: «إِذَا كَانَ ظَالِمًا تَنْصُرُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَكُفُّهُ عَن ظلمه».
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
اسْتِئْنَافٌ وَاصِلٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: ٣١] وَبَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: ٤٠] الْآيَةَ، فَتَسَلْسَلَتْ مَعَانِيهِ فَعَادَ إِلَى فَذْلَكَةِ الْغَرَضِ السَّالِفِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: ٢٥- ٣١]، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
كَالتَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي كُلَّ ذِي نِيَّةٍ عَلَى حَسَبِ مَا أَضْمَرَهُ لِيَزْدَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِينًا بِأَن الله غير عَالِمٌ بِمَا يُكِنُّهُ الْمُشْرِكُونَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
مُسْتَأْنَفَةٌ هِيَ كَالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ عِلْمِ الله بِغَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عِلْمُهُ بِمَا فِي صُدُورِ النَّاسِ.
وَ «ذَاتِ الصُّدُورِ» ضَمَائِرِ النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٣].
وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِ اللَّهِ بِالْغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَفِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِخْبَارِ الْمُخَاطَبِينَ تَنْبِيِهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ
فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ دَقِيقَةٌ أَلْحَقْنَاهَا بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْإِخْلَاصِ الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّشَابُهِ الْعَارِضِ بَيْنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقَارِنُ قَصْدَ الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ إِشْرَاكِ الْمَعْبُودِ فِي الْعِبَادَةِ بِغَيْرِهِ.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ خُلُوصٌ كَامِلٌ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَلَا إِشْرَاكَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَعَبَدُوهُمْ حِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَزْعُمُونَهُ عُذْرًا لَهُمْ فَقَوْلُهُمْ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَقَلْبِ حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ جَعَلُوا عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ فَنَقَضُوا بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ مَقْصِدَهَا وَتَطَلَّبُوا الْقُرْبَةَ بِمَا أَبْعَدَهَا، وَالْوَسِيلَةُ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى إِبْطَالِ الْمَقْصِدِ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الْعَبَثِ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. وَجُمْلَةُ مَا نَعْبُدُهُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَتَعِينَ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ وَبِمَا يَلِيهِ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْقَولُ الْمَحْذُوفُ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْ قَائِلِينَ:
مَا نَعْبُدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حِينَئِذٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ اتَّخَذُوا فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فَعُلِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ تَعَلُّلِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ أَكْثَرَ من عِبَادَتهم لله. فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ بِ مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخان: ٢، ٣] إِلَخْ، وَالَّذِي كَانَ جُلُّ غَرَضِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ افْتِتَاحُهَا بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَقَوْلُهُ: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، فَهَذَا التَّفْرِيعُ مُرْتَبِطٌ بِذَلِكَ الِافْتِتَاحِ وَهُوَ مَنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. فَهَذَا التَّفْرِيعُ تَفْرِيعٌ لِمَعْنَى الْحَصْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ وَمَا تَخَلَّلَهُ وَتَبِعَهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُفَرَّعُ قَوْلَهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَقُدِّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ تَوْطِئَةٌ لَهُ اهْتِمَامًا بِالْمُقَدَّمِ وَتَقْدِيرِ النَّظْمِ فَلَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا لِمَا يَسَّرْنَاهُ لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ قَلْبٍ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَدْ سَهُلَ لَهُمْ طَرِيقُ
فَهْمِهِ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَابَلُوهُ بِالشَّكِّ وَالْهُزْءِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: ٩] أَيْ إِنَّا جَعَلْنَا فَهْمَهُ يَسِيرًا بِسَبَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى وَهِيَ لُغَتُهُمْ إِلَّا لِيَتَذَكَّرُوا فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا. فَمَفْعُولُ يَسَّرْناهُ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ:
فَهْمَهُ.
وَالْبَاءُ فِي بِلِسانِكَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ لُغَتِكَ، أَيِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِي إِضَافَةِ اللِّسَانِ إِلَى ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَايَةٌ بِجَانِبِهِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وَإِلَّا فَاللِّسَانُ لِسَانُ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: ٤].
وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ وَهُوَ اسْمُ الْجَارِحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْفَمِ عَلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ شَائِعٌ لِأَنَّ أَهَمَّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللِّسَانُ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥].
وَأَفْصَحَ قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْهُمْ بِهِ وَلَا تَسْأَمْ لِعِنَادِهِمْ فِيهِ وَدُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ التَّذَكُّرُ، فَالتَّيْسِيرُ هُنَا تَسْهِيلُ الْفَهْمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ إِلَخْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٩٧].
وَ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [الْأَحْقَاف: ١٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨].
وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا يُثِيرُ تَرَقُّبَ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِذْنِ بِإِنْجَازِ مَا وُعِدُوا بِهِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣]، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَكَانَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْبَعِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله: يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: ٣٠] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ جَهَنَّمَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ:
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اعْتِرَاضًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ إِلَى السَّامِعِينَ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ يَوْمُ إِلَى الْخُلُودِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَوَّلَ أَيَّامِ الْخُلُودِ هِيَ أَيَّامٌ ذَاتُ مَقَادِيرَ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ يَوْمُ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ.
وَبَيْنَ كَلِمَةٍ ادْخُلُوها وَكَلِمَةِ الْخُلُودِ الْجِنَاسُ الْمَقْلُوبُ النَّاقِصُ، ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا وَأَصْلُهُ: لكم مَا تشاؤون. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ فِي الدُّنْيَا وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
ولَدَيْنا مَزِيدٌ، أَيْ زِيَادَةٌ على مَا يشاؤون مِمَّا لَمْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي
كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَوَرَدَتْ آثَارٌ مُتَفَاوِتَةُ الْقُوَّةِ أَنَّ مِنَ الْمَزِيدِ مُفَاجَأَتَهُمْ بِخَيْرَاتٍ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ بِالْإِنْعَامِ ضَرْبٌ مِنَ التَّلَطُّفِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْعَامَ يَجِيئُهُمْ فِي صُوَرٍ مُعْجَبَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي مَزِيدٌ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ آنِفًا.
وَجَاءَ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي مُنْتَهَى الدِّقَّةِ فَبَدَأَتْ بِذِكْرِ إِكْرَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ بِذِكْرِ أَنَّ الْجَنَّةَ جَزَاؤُهُمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَهِيَ حَقٌّ لَهُمْ، ثُمَّ أَوْمَأَتْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ إِلَخْ،
الَّذِي تَحْرُثُونَ الْأَرْضَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّبَاتُ مَا أَنْتُمْ تُنْبِتُونَهُ بَلْ نَحْنُ نُنْبِتُهُ.
وَجُمْلَةُ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: ٥٩] وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِنْكَارِيٌّ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ أَمْ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ كَالْقَوْلِ فِي مَوْقِعِ نَظِيرَتِهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الْوَاقِعَة: ٥٩] أَيْ أَنَّ (أَمْ) مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: ٥٩].
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ الزَّرْعِ عَنْهُمْ وَإِثْبَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ مَعْنَى قَصْرِ الزَّرْعِ، أَيِ الْإِنْبَاتِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دُونَهُمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِزَرْعِ النَّاسِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِيمَاءٌ لِتَمْثِيلِ خَلْقِ الْأَجْسَامِ خَلْقًا ثَانِيًا مَعَ الِانْتِسَابِ بَيْنَ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ وَالْأَجْسَامِ الْمُجَدَّدَةِ مِنْهَا بِنَبَاتِ الزَّرْعِ مِنَ الْحَبَّةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَسِبَةٌ إِلَى سُنْبُلَةِ زَرْعٍ أُخِذَتْ
هِيَ مِنْهَا فَتَأْتِي هِيَ بسنبلة مثلهَا.
[٦٥- ٦٧]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٧]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)
جُمْلَةُ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، مَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَة: ٦٠] فِي أَنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِإِفْنَائِهِ مَا أَوْجَدَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ إيجادا وإعداما، تكلمة لِدَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَجَعَلْناهُ مُفِيدَةٌ لِلتَّأَكِيدِ. وَيَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَذِهِ اللَّامِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا مُثْبَتًا كَمَا يَكْثُرُ تَجَرُّدُهُ عَنْهَا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ لِهَذِهِ.
وَالْحُطَامُ: الشَّيْءُ الَّذِي حَطَّمَهُ حَاطِمٌ، أَيْ كَسَّرَهُ وَدَقَّهُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَحْطُومِ،
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: إِنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَعِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَضْعُ حَمْلِهَا غَيْرَ أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا يَنْسَخُ الْعَامَّ الْآخَرَ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ.
رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: إِنَّ عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ- أَيْ أَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ وَأَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى- أَيْ سُورَةُ الطَّلَاقِ- بَعْدَ الطُّولَى- أَيْ بَعْدَ طُولَى السُّوَرِ وَهِيَ الْبَقَرَةُ-، أَيْ لَيْسَتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِنَاسِخَةٍ لِمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ
. وَيُعَضِّدُهُمْ
خَبَرُ سُبَيْعَةَ بَنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ وَتَرَكَهَا حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهَا: «قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي إِنْ شِئْتِ»
. رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَبِلَهُ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ. وَتَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بِالْقَبُولِ وَيُشْهَدُ لَهُ بِالْمَعْنَى وَالْحِكْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي وَجْهِ الْعَمَلِ فِي تَعَارُضِ عُمُومَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَالْجُمْهُورُ دَرَجُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحٍ وَالْحَنَفِيَّةُ جَعَلُوا الْمُتَأَخر من العمومين نَاسِخًا لِلْمُتُقَدِّمِ. فَقَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَامِلٍ مُعْتَدَّةٍ سَوَاءً كَانَتْ فِي عدَّة طَلَاق أَوْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَة: ٢٣٤] تَعُمُّ كُلَّ امْرَأَةٍ تَرَكَهَا الْمَيِّتُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِأَنَّ أَزْواجاً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ مَفْعُولَ الصِّلَةِ وَهِيَ يَذَرُونَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فَمَفْعُولُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي عُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ الْحَوَامِلَ وَهُنَّ مِمَّنْ شَمَلَهُنَّ عُمُومُ أُولاتُ الْأَحْمالِ فَتَعَارُضُ الْعُمُومَانِ كُلٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَآيَةُ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ اقْتَضَتْ أَنَّ الْحَوَامِلَ كُلَّهُنَّ تَنْتَهِي عِدَّتُهُنَّ بِالْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَضْعُ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَآيَةُ الْبَقَرَةِ يَقْتَضِي عُمُومُهَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَقَدْ يَتَأَخَّرُ هَذَا الْأَجَلُ عَنْ وَضْعِ الْحَمْلِ.

[٣٢- ٣٧]

[سُورَة المدثر (٧٤) : الْآيَات ٣٢ الى ٣٧]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)
كَلَّا.
كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ. وَالْغَالِبُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ كَلَامٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَسَامِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: ٦١، ٦٢] فَيُفِيدُ الرَّدْعَ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ قَبْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩]، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكَلَامِ إِذَا أُرِيدَ التَّعْجِيلُ بِالرَّدْعِ وَالتَّشْوِيقُ إِلَى سَمَاعِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا، فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَالْقَمَرِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفَ إِبْطَالٍ مُقَدَّمًا عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ تَقْدِيمَ اهْتِمَامٍ لِإِبْطَالِ مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ: نَذِيراً لِلْبَشَرِ، أَيْ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَنْتَذِرُوا بِهَا فَلَمْ يَنْتَذِرْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى نَحْوِ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفجْر: ٢٣] فَيَحَسُنُ أَنْ تُوصَلَ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا بعْدهَا.
أدبر وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ
شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧).
الْوَاوُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاوُ الْقَسَمِ، وَهَذَا الْقَسَمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مُؤَكِّدًا لِمَا أَفَادَتْهُ كَلَّا مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْإِبْطَالِ لِمَقَالَتِهِمْ فِي شَأْنِ عِدَّةِ خَزَنَةِ النَّارِ، فَتَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ تَعْلِيلًا لِلْإِنْكَارِ الَّذِي أَفَادَتْهُ كَلَّا وَيَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّها عَائِدًا إِلَى سَقَرَ [المدثر: ٢٦]، أَيْ هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ يُتَذَكَّرَ بِهَا فَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ بِهَا حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَرَدْعِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَسَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَتَعْلِيلِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ صَدْرًا لِلْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَجُمْلَةُ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جَوَابُ الْقَسَمِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى سَقَرَ، أَيْ أَنَّ سَقَرَ لَأَعْظَمُ الْأَهْوَالِ، فَلَا تَجْزِي فِي مَعَادِ ضَمِيرِ إِنَّها جَمِيعُ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي جَرَتْ فِي ضَمِيرِ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى [المدثر: ٣١].
وَكَانَ غَزَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَحَهُ سَنَةَ سَبْعٍ فَأَسْلَمَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَصُولِحَتِ الْيَهُودُ عَلَى جِزْيَةٍ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْوادِ لِلظَّرْفِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِ فِرْعَوْنَ هُوَ وَقَوْمُهُ.
وَوَصْفُ ذِي الْأَوْتادِ لِأَنَّ مَمْلَكَتَهُ كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى الْأَهْرَامِ الَّتِي بَنَاهَا أَسْلَافُهُ لِأَنَّ صُورَةَ الْهَرَمِ عَلَى الْأَرْضِ تُشْبِهُ الْوَتِدَ الْمَدْقُوقَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْتَادِ مُسْتَعَارًا لِلتَّمَكُّنِ وَالثَّبَاتِ، أَي ذِي الْقُوَّة عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: ذاتِ الْعِمادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ فِي ص [١٢].
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ
وَفِرْعَوْنَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِفِرْعَوْنَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ.
وَالطُّغْيَانُ شِدَّةُ الْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ وَمَعْنَى طُغْيَانِهِمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ طَغَوْا فِي بَلَدِهِمْ وَلَمَّا كَانَ بَلَدُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِلَاد أَي أرضي الْأَقْوَامِ كَانَ طُغْيَانُهُمْ فِي بَلَدِهِمْ قَدْ أَوْقَعَ الطُّغْيَانَ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ آئِلٌ إِلَى فَسَادِ الْجَمِيعِ بِسَنِّ سُنَنِ السُّوءِ، وَلِذَلِكَ تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ لِأَن الطغيان يجرّىء صَاحِبَهُ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِ النَّاسِ فَهُوَ مِنْ جِهَةٍ يَكُونُ قُدْوَةَ سوء لأمثاله وملئه، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْغَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ بِهِ اخْتِلَالَ الشَّرَائِعِ الْإِلَاهِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُثِيرُ الْحَفَائِظَ وَالضَّغَائِنَ فِي الْمَطْغِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَيُضْمِرُونَ السُّوءَ لِلطَّاغِينَ وَتَنْطَوِي نُفُوسُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهَا فَيَكُونُونَ لَهَا أَعْدَاءً غَيْرَ مُخْلَصِي الضَّمَائِرِ وَيَكُونُ رِجَالُ الدَّوْلَةِ مُتَوَجِّسِينَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَيَظُنُّونَ بِهِمُ السُّوءَ فِي كُلِّ حَالٍ وَيَحْذَرُونَهُمْ فَتَتَوَزَّعُ قُوَّةُ الْأُمَّةِ عَلَى أَفْرَادِهَا عِوَضَ أَنْ تَتَّحِدَ عَلَى أَعْدَائِهَا فَتُصْبِحُ لِلْأُمَّةِ أَعْدَاءٌ فِي الْخَارِجِ وَأَعْدَاءٌ فِي الدَّاخِلِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الطُّغْيَانُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيْ فِي بِلَادِهِمْ وَالْجَمْعُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ طَغَتْ كُلُّ أُمَّةٍ فِي بِلَادِهَا.


الصفحة التالية
Icon