خُصَّ بِاسْمِ الْخَلْقِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ هُوَ أَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ ذَلِكَ مَدْلُولَ مَادَّةِ خَلَقَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ خُصَّ إِطْلَاقُهُ فِي لِسَانِ الْإِسْلَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] وَقَالَ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: ٣] وَخُصَّ اسْمُ الْخَالِقِ بِهِ تَعَالَى فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ أَطْلَقَهُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَكَانَ إِطْلَاقُهُ عَجْرَفَةً فَيَجِبُ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى تَرْكِهِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَي» : لَا حَظَّ لِلْعَبْدِ فِي اسْمِهِ تَعَالَى الْخَالِقِ إِلَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْمَجَازِ بَعِيدٍ فَإِذَا بَلَغَ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَسِيَاسَةِ الْخَلْقِ مَبْلَغًا يَنْفَرِدُ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ أُمُورٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَيَقْدِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِهَا كَانَ كَالْمُخْتَرِعِ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ قَبْلُ فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الِاسْمِ (أَيِ الْخَالِقِ) عَلَيْهِ مَجَازًا اهـ. فَجَعَلَ جَوَازَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِرَاعِ
بَعْضِ الْعِبَادِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مَجَازًا بَعِيدًا فَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيكون طائرا بِإِذن الله [آل عمرَان: ٤٩] وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: ١١٠] فَإِنَّ ذَلِكَ مُرَاعَى فِيهِ أَصْلُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ قَبْلَ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ خَلَقَ فِي الْخَلْقِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ تَخْصِيصُ تِلْكَ الْمَادَّةِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤].
وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِاعْبُدُوا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِعِبَادَتِهِ لِرَجَاءٍ مِنْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا.
«وَلَعَلَّ» حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هُوَ الْإِخْبَار عَن تهيىء وُقُوعِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وُقُوعًا مُؤَكَّدًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَعَلَّ حَرْفٌ مَدْلُولُهُ خَبَرِيٌّ لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ تَأَكُّدِ حُصُولِ الشَّيْءِ (١) وَمَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْمُخَاطَبِ وَهُوَ مَعْنًى جُزْئِيٌّ حَرْفِيٌّ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْعُلُومِ الْحَيْرَةُ فِي مَحْمَلِ لَعَلَّ الْوَاقِعَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَجِّي يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الْمَرْجُوِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَلِلشَّكِّ جَانِبٌ فِي مَعْنَاهَا حَتَّى قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: «لَعَلَّ كَلِمَةُ
_________
(١) وَلَيْسَ فِيهَا معنى إنشائي طلبي وَلذَلِك لم ينصبوا الْفِعْل فِي جوابها بعد الْفَاء وَالْوَاو بِخِلَاف جَوَاب التَّمَنِّي وَلذَلِك لم ينصب فَأطلع من قَوْله تَعَالَى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ [غَافِر: ٣٦، ٣٧]، إِلَّا فِي رِوَايَة حَفْص عَن عَاصِم.
نَسْخًا تَسَامُحٌ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِهَاءُ مَوْرِدِ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْأَسْمَاءِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي خُطْبَتِهِ، وَقَدْ تَعَطَّلَ حِينَئِذٍ الْعَمَلُ بِحُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ يَقْصِدُ الْحَجَّ. فَمَعْنَى نَسْخِ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ قَدِ انْقَضَتْ كَمَا انْتَهَى مَصْرِفُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِرَاضِهِمْ.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
إِنْحَاءٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِظْهَارٌ لِظُلْمِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَكَّتَهُمْ بِتَقْرِيرِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ السَّرِيَّةِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ فِيهِ كَانَ عَنْ خَطَأٍ فِي الشَّهْرِ أَوْ ظَنِّ سُقُوطِ الْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَعْظَمُوا فِعْلًا وَاسْتَنْكَرُوهُ وَهُمْ يَأْتُونَ مَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْهُ، ذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ لِذَاتِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا حُرْمَتُهُ تَحْصُلُ بِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَا حُرْمَةٍ، فَحُرْمَتُهُ تَبَعٌ لِحَوَادِثَ تَحْصُلُ فِيهِ، وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِمُرَاعَاةِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهِمَا وَلَوَاحِقِهِمَا فِيهَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ استعظموا حُصُول الْقَتْل فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاسْتَبَاحُوا حُرُمَاتٍ ذَاتِيَّةً بِصَدِّ الْمُسْلِمِينَ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْكَعْبَةَ حَرَامًا وَحَرَّمَ لِأَجْلِ حَجِّهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَأَخْرَجُوا أَهْلَ الْحَرَمِ مِنْهُ، وَآذَوْهُمْ، لَأَحْرِيَاءُ بِالتَّحْمِيقِ وَالْمَذَمَّةِ، لِأَنَّ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا لَا تَبَعًا لِغَيْرِهَا. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ هَلْ يُنَجِّسُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «عَجَبًا لَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ تَسْتَحِلُّونَ دَمَ الْحُسَيْنِ وَتَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ». وَيَحِقُّ التَّمَثُّلُ هُنَا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:


وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ:
أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنٌ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي زَعْمِهِ، أَوْ أَخْطَأَ مَنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ.
وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- لِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ تُمَدُّ الْوَاوُ لِتَكُونَ الْمَدَّةُ فَاصِلَةً بَيْنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّ الْمَدَّةَ خِفَّةٌ وَهَذَا الِالْتِقَاءُ هُوَ الَّذِي يَدْعُونَهُ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ عَلَى حِدَةٍ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِلتَّخْفِيفِ وَصْلًا وَوَقْفًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ قَالُونَ، وَفِي الْوَقْفِ فَقَطْ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الْعَشَرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦].
وَقَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتُحاجُّونِّي فَتَكُونُ إِخْبَارًا، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ هَدانِ فَتَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْإِنْكَارِ. وَتَأْكِيدُ الْإِنْكَارِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِأَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ قَدْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُهُ عَلَيْهِ. فَقَوْمُهُ إِمَّا عَالِمُونَ بِهِ أَوْ مُنْزَلُونَ مَنْزِلَةَ الْعَالِمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ هَدانِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ حَاجُّوهُ فِي التَّوْحِيدِ وَخَوَّفُوهُ بَطْشَ آلِهَتِهِمْ وَمَسَّهُمْ إِيَّاهُ بِسُوءٍ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ إِنْكَارِ مُحَاجَّتِهِمْ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلَا بَيْنَ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ آلِهَتَهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ مَكْرَ آلِهَتِهِمْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٤].
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَوْصُولَةٌ مَا صَدَّقَهَا آلِهَتُهُمُ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَتَكُونُ الْبَاءُ
لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُشْرِكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةُ فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيِ الْأَصْنَامُ الَّتِي بِسَبَبِهَا أَشْرَكْتُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا
لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ بِدَارِ النَّدْوَةِ فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قُبَيْلَ هِجْرَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: إِذَا أصبح فأثبتوه بِالْوَثَاقِ وَسُدُّوا عَلَيْهِ بَابَ بَيْتٍ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ فِي قُرَيْشٍ فَتًى جَلْدًا فَيَجْتَمِعُونَ ثُمَّ يَأْخُذُ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَيْفًا وَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فِي بَيْتِهِ فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا تَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا فَيَأْخُذُونَ الْعَقْلَ وَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو: الرَّأْيُ أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى جَمَلٍ وَتُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ.
وَمَوْقِعُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَيَمْكُرُونَ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَرَّجَ عَلَى بَيَانِهِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهِيَ حَالٌ مُؤَسَّسَةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ فَقَوْلُهُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ هُوَ مَنَاطُ الْفَائِدَةِ مِنَ الْحَالِ وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ يُقَارِنُهُ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْمُضَارِعُ فِي يَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمَكْرِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الِاعْتِرَاضِ أَيِ الْعَطْفِ الصُّورِيِّ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ الدَّوَامُ أَيْ هُمْ مكروا بك لثبتوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَمْكُرُونَ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ «وَأَيْضًا لَتَمَلَّنَّهُ» يَعْنِي النَّبِيءَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَيَمْكُرُونَ مُعْتَرَضَةً وَيَكُونُ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمُضَارِعُ فِي جُمْلَةِ: وَيَمْكُرُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ فِي وَيَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ مَكْرِ اللَّهِ فِي وَقْتِ مَكْرِهِمْ مِثْلَ الْمُضَارِعِ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ.
وَبَيَانُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَقَدَّمَ: فِي آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤] وَآيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَالَّذِينَ تَوَلَّوُا الْمَكْرَ هُمْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْوَانُ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ دَأْبُهُمُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ كَانُوا أَتْبَاعًا لِلزُّعَمَاءِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ
وَهِيَ مِنْ حَيْثُ مَاهِيَّتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحِكْمَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِقَرِينَةِ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ، إِذْ لَمْ يَعْطِفْ مَصْدَرَ الْمُجَادَلَةِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَنْ يُقَالَ: وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، بَلْ
جِيءَ بِفِعْلِهَا، تَنْبِيها عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْيِيدُ الْإِذْنِ فِيهَا بِأَنْ تَكُونَ بِالَّتِي هِيَ أحسن، كَمَا قَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة العنكبوت: ٤٦].
وَالْمُجَادَلَةُ: الِاحْتِجَاجُ لِتَصْوِيبِ رَأْيٍ وَإِبْطَالِ مَا يُخَالِفُهُ أَوْ عَمَلٍ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ مَا لَقِيَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَبْعَثُهُ على الغلظة عَلَيْهِم فِي الْمُجَادَلَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَتَقَدَّمَتْ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ: تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [سُورَة النَّحْل:
١١١]. وَتَقَدَّمَتْ مِنْ قَبْلُ عِنْدِ قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧]. وَالْمعْنَى: إِذا ألجأتك الدَّعْوَةُ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَحَاجِجْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ الْمُحَاجَّةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ تَقْتَضِي صُدُورَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تَكُونَ الْمُحَاجَّةُ الصَّادِرَةُ مِنْهُ أَشَدَّ حُسْنًا مِنَ الْمُحَاجَّةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٩٦].
وَلَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمُعَارِضِينَ صَرَّحَ فِي الْمُجَادَلَةِ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْغَائِبِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مُتَفَاوِتُونَ فِي كَيْفِيَّاتِ مُحَاجَّتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاجُّ بِلِينٍ، مِثْلُ مَا
فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا» قَالَ: لَا والدماء
. وَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمن جَاءَك فحدّثه إِيَّاهُ وَمَنْ لَمْ يأتك فَلَا تغته وَلَا تَأْتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا يَكْرَهُ مِنْهُ.
وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ. وَجُمْلَةُ يَنْصُرُونَهُ صِفَةٌ، أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ هَذِهِ صِفَتُهَا، فَإِنَّ فِئَتَهُ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مُنْتَصِراً أَيْ وَلَا يَكُونُ لَهُ انْتِصَارٌ وَتَخَلُّصٌ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَلَمْ تَكُنْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ اعْتِدَادًا بِتَأْنِيثِ فِئَةٌ فِي اللَّفْظِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ «يَكُنْ» بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَالْوَجْهَانِ جائزان فِي الْفِعْل إِذَا رَفَعَ مَا لَيْسَ بتحقيقي التَّأْنِيثِ.
وَأَحَاطَ بِهِ هَذَا الْعِقَابَ لَا لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُمَتِّعُ كَافِرين كثيرين طول حَيَاتِهِمْ وَيُمْلِي لَهُمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ. وَإِنَّمَا أَحَاطَ بِهِ هَذَا الْعِقَابَ جَزَاءً عَلَى طُغْيَانِهِ وَجَعْلِهِ ثَرْوَتَهُ وَمَالَهُ وَسِيلَةً إِلَى احْتِقَارِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى التَّكْذِيبِ بِوَعْدِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ عِقَابَ اللَّهِ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعَمِ عَنْهُ كَمَا سُلِبَتِ النِّعْمَةُ عَنْ قَارُونَ حِينَ قَالَ:
إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [الْقَصَص: ٧٨]. وَبِهَذَا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّعْمَةَ وَسِيلَةً لِلتَّرَفُّعِ عَنْ مَجَالِسِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ قَوْمًا يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُمْ وَطَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم طَرْدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ كَمَا تقدم.
[٤٤]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٤٤]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ قَبْلَهَا لِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعُمُومِ الْحَاصِلِ مِنْ قَصْرِ الْوَلَايَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي تَحْقِيقَ جُمْلَةِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الْكَهْف: ٤٢]، وَجُمْلَةِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْكَهْف: ٤٣]، وَجُمْلَةِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الْكَهْف: ٤٣]، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْعَثَ عَلَى نَصْرِ الْمَوْلَى وَأَنْ تُطْمِعَ الْمَوْلَى فِي أَنَّ وَلِيَّهُ يَنْصُرُهُ. وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى الْكَافِرَ مَا دَهَاهُ مِنْ جَرَّاءِ كُفْرِهِ الْتَجَأَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الْكَهْف: ٤٢]، إِذْ عَلِمَ أَنَّ الْآلِهَةَ الْأُخْرَى لَمْ تُغْنِ وِلَايَتُهُمْ عَنْهُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا». فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ والْوَلايَةُ لِلَّهِ جُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَالِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْأَنْعَامِ [٨٧]، وَقَوْلُهُ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي النَّحْلِ [١٢١].
وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهَا إِذَا ذُكِرَتْ مَعَ الِاجْتِبَاءِ فِي الْقُرْآنِ النُّبُوءَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
[١٢٣- ١٢٧]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٢٣ الى ١٢٧]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ آدَمَ بِالْعِصْيَانِ وَالْغِوَايَةِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ جَزَاءِ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى رَبَّهُ [طه: ١٢١] مِنْ قَوْلِهِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ.
وَالْأَمْرُ فِي اهْبِطا أَمْرُ تَكْوِينٍ، لِأَنَّهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الأَرْض إلّا بِتَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَرَارُهُمَا فِي عَالَمِ الْجَنَّةِ بِتَكْوِينِهِ تَعَالَى.
وجَمِيعاً يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنَى كُلِّ أَفْرَادِ مَا يُوصَفُ بِجَمِيعٍ، وَكَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مِثْلَ: فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَغَيْرُهُ وَالْوَاحِدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى:
فَكِيدُونِي جَمِيعاً [هود: ٥٥] وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا.
وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا. فَالْمَأْمُورُ بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ وَأَمَّا حَوَّاءُ فَتَبَعٌ لِزَوْجِهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ بَعْضُكُمْ خُطَّابٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَخُوطِبَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَدَاوَةُ نَسْلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَصْلَانِ لِنَوْعَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَنَوْعِ الشَّيْطَانِ.
وَالْمَنْسَكُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ-: اسْمُ مَكَانِ النُّسُكِ بِضَمِّهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى القربان، فَالْمُرَاد بالنسك هُنَا مَوَاضِعُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْبَانِ. وَالضَّمِيرُ فِي ناسِكُوهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ نَاسِكُونَ فِيهِ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» :«أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ:
نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ الْآيَةَ، فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اه.
قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى»
:«وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ». وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا التَّفْسِيرِ يَرَوْنَ الْآيَةَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ فِي الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، أَيْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَالْأَظْهَرُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ يُنَازِعُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ شَهَادَةِ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا، فَالنَّهْيُ ظَاهِرُهُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا أُعْطِيَهُ
مِنَ الْحُجَجِ كَافٍ فِي قَطْعِ مُنَازَعَةِ مُعَارِضِيهِ، فَالْمُعَارِضُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبُ نَهْيِهِمْ هُوَ مَا عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُجَجِ وُجِّهَ إِلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ إِيَّاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا تَتْرُكْ لَهُمْ مَا يُنَازِعُونَكَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفْكَ، فَجَعَلَ الْمُتَكَلِّمُ النَّهْيَ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ السَّامِعِ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ نَهْيٌ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَمَعْنَى يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كَانَ الْغِنَى فِتْنَةً لِقُلُوبِهِمْ.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْطَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ.
وَالْكَنْزُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢].
وَجَعَلُوا إِعْطَاءَ جَنَّةٍ لَهُ عَلَامَةً عَلَى النُّبُوءَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجَنَّةِ فِي مَكَّةَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْكُلُ مِنْها بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الرَّسُولِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ نَأْكُلَ مِنْها بِنُونِ الْجَمَاعَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّ ثَمَرَهَا حَقِيقَةٌ لَا سِحْرٌ.
ذَكَرَ أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي مَجْلِسٍ لَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ عَتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا الْبَخْتَرِيِّ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهِلِ بْنَ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي أُميَّة، والعاصي بْنَ وَائِلٍ، وَنُبَيْهَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرُوهَا تَدَاوَلهَا أَهَّلُ الْمَجْلِسِ إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ أَهْلُ السِّيَرِ قَائِلَهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَكُتِبَتْ لَام مَا لِهذَا مُنْفَصِلَةً عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَاتَّبَعَتْهُ الْمَصَاحِفُ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ فِيهِ، كَمَا كتب مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٤٩]، وكما كتب: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [٣٦]، وكما كتب: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨]. وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الِانْفِصَالِ أَنَّهُ طَرِيقَةُ رَسْمٍ قَدِيمٍ كَانَتِ الْحُرُوفُ تُكْتَبُ مُنْفَصِلًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَا سِيَّمَا حُرُوفُ الْمَعَانِي فَعَامَلُوا
قَوْلُهُ:
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَالزَّوَالُ الْمَفْرُوضُ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ اخْتِلَالُ نِظَامِهِمَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تطاحنهما.
والزوال يُطْلَقُ عَلَى الْعَدَمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ آخِرَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرك فَإِن اللَّهَ يُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يُعْدَمَا، وَيُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَحَوَّلَ نِظَامُ حَرَكَتِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: ٤٠]. فَاللَّهُ مُرِيدٌ اسْتِمْرَارَ انْتِظَامِ حَرَكَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الْمُشَاهَدِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَكَذَلِكَ نِظَامُ الْكَوَاكِبِ الْأُخْرَى الْخَارِجَةِ عَنْهُ إِلَى فَلَكِ الثَّوَابِتِ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَوْ بَعْضِهِا قَيَّضَ فِيهَا طَوَارِئَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَرْقِ بَعْدَ الِالْتِئَامِ وَالْفَتْقِ بَعْدَ الرَّتْقِ، فَتَفَكَّكَتْ وَانْتَشَرَتْ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ مَصِيرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ مُدَافَعَةَ ذَلِكَ وَلَا إِرْجَاعَهَا إِلَى نِظَامِهَا السَّابِقِ فَرُبَّمَا اضْمَحَلَّتْ أَوِ اضْمَحَلَّ بَعْضُهَا، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَسَالِكَ جَدِيدَةً مِنَ الْبَقَاءِ.
وَفِي هَذَا إِيقَاظٌ لِلْبَصَائِرِ لِتَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا وتتدبر فِي انتساق هَذَا النِّظَامِ الْبَدِيعِ.
فَالْلَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، أَيْ مُحَقَّقٌ تَعْلِيقُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِ إِنَّ النَّافِيَةِ وَهِيَ أَيْضًا سَادَّةٌ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللَّهَ مُمْسِكُهُمَا عَنِ الزَّوَالِ عُلِمَ أَنَّ زَوَالَهُمَا الْمَفْرُوضَ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَوَالَهُمَا وَإِلَّا لَبَطَلَ أَنَّهُ مُمْسِكُهُمَا مِنَ الزَّوَالِ.
وَأَسْنَدَ فِعْلَ زالَتا إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاوَاتِ بِسَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَأَسْنَدَ الزَّوَالَ إِلَيْهِمَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُزِيلُهُمَا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا.
وَجِيءَ فِي نَفْيِ إِمْسَاكِ أَحَدٍ بِحَرْفِ مِنْ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى عُمُومِ

[٥]

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: ٤] فَإِنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْعَوَالِمِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا عَلَى شِدَّتِهَا وَعَظَمَتِهَا يُبَيِّنُ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَعْنَى الْقَهَّارِيَّةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ذَاتَ اتِّصَالَيْنِ: اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [الزمر: ٤] كَاتِّصَالِ التَّذْيِيلِ، وَاتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ اتِّصَالَ التَّمْهِيدِ.
وَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاقْتِضَاءِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ نَفِيَ الشَّرِيكِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ شُرَكَاؤُهُمْ خَلْقَ الْعَوَالِمِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَهَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَهُوَ هُنَا ضد الْبَعْث، أَيْ خَلَقَهُمَا خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ وَالنَّفْعِ لَا يَشُوبُ خَلْقَهُمَا عَبَثٌ وَلَا اخْتِلَالٌ قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: ٣٨- ٣٩].
وَجُمْلَةُ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ بَيَانٌ ثَانٍ وَهُوَ كَتَعْدَادِ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ أَوَ الِامْتِنَانِ.
وَأُوثِرَ الْمُضَارِعُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ، أَوْ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ التَّكْوِيرِ تَبَعًا لِاسْتِحْضَارِ آثَارِهَا فَإِنَّ حَالَةَ تَكْوِيرِ اللَّهِ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ وَإِنَّمَا الْمَشَاهَدُ أَثَرُهَا وَتَجَدُّدُ الْأَثَرِ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ التَّأْثِيرِ.
وَالتَّكْوِيرُ حَقِيقَتُهُ: اللَّفُّ وَاللَّيُّ، يُقَالُ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا لَوَاهَا وَلَفَّهَا، وَمُثِّلَتْ بِهِ هُنَا هَيْئَةُ غَشَيَانِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ فِي جُزْءٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ وَعَكْسُ ذَلِكَ عَلَى
التَّعَاقُبِ بِهَيْئَةِ كُوَرِ الْعِمَامَةَ، إِذْ تَغْشَى اللِّيَةُ اللِّيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ بِأَنْ تُشَبِّهَ الْأَرْضُ بِالرَّأْسِ، وَيُشَبَّهَ تَعَاوُرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَيْهَا بِلَفِّ طَيَّاتِ الْعِمَامَةِ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِبْدَاعًا إِيثَارُ مَادَّةِ التَّكْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الرَّابِعَةِ وَالْمُوَضَّحَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَإِنَّ مَادَّةَ التَّكْوِيرِ جَائِيَةٌ مِنِ اسْمِ الْكُرَةِ، وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ مِنْ جَمِيعِ
الْمُؤْمِنُونَ الْعَاقِلُونَ، فَوُزِّعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ عَلَى فَوَاصِلِ هَذِهِ الْآيِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنْ إِتْلَاءِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ.
وَقُدِّمَ الْمُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ لِشَرَفِهِ وَجَعَلَ خَلْقَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ آيَةً لِلْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيقَانِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْخَلْقِ كَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَجَعَلَ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافَ حَوَادِثِ الْجَوِّ آيَةً لِلَّذِينِ اتَّصَفُوا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِوَاسِطَةِ لَوَازِمَ مُتَرَتِّبَةٍ بِإِدْرَاكِ الْعَقْلِ. وَقَدْ أَوْمَأَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: ٦] اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا بِمَعْنَى النَّفْيِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى قَوْمٍ لَا يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ لَهُ شُرَكَاءَ، وَكَانَ مَقْصُودًا مِنْهُ ابْتِدَاءُ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهُوَ أَيْضًا صَالِحٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُعَطِّلِينَ الَّذِينَ يَنْفُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ وَفِي الْعَرَبِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ أَحْوَالَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا مُتَغَيِّرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَغَيُّرِ مَا اتَّصَفَتْ بِهَا، وَالتَّغَيُّرُ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي يُوجِدُهَا بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ يُعْدِمُهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَقَوْلَهُ: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِرَفْعِ آياتٌ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا مُبْتَدَآنِ وَخَبَرَاهُمَا الْمَجْرُورَانِ. وَتُقَدَّرُ (فِي) مَحْذُوفَةً فِي قَوْلِهِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِدَلَالَةِ أُخْتِهَا عَلَيْهَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ. وَالْعَطْفُ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَطْفُ جُمْلَةٍ لَا عَطْفُ مُفْرَدٍ.
وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ وَخلف لآيَات فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرَةٍ نَائِبَةٍ عَن الفتحة فآيات الْأَوَّلُ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ وفِي خَلْقِكُمْ عَطْفٌ عَلَى خَبَرِ إِنَّ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ وَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِهِ وَأَمَّا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فَكَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ لَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ هُمَا (إِنَّ) وَ (فِي) عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ آياتٌ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةَ فِي خَلْقِكُمْ
عَلَى الْوُجُوبِ إِنْ كَانَا خَاصّا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٤- ٢٦].
وَقَرِيبٌ مِنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٤٨، ٤٩].
وَأَمَّا قَوْله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ.
وَالْإِدْبَارُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ لِأَنَّ الْمُنْصَرِفَ يَسْتَدْبِرُ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلِانْقِضَاءِ، أَيِ انْقِضَاءِ السُّجُودِ، وَالسُّجُودُ: الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ: وَقْتُ إِدْبَارِ السُّجُودِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِدْبَارِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ: دُبُرٍ، بِمَعْنَى الْعَقِبِ وَالْآخِرِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ وَقْتُ انْتِهَاءِ السُّجُودِ.
فَفُسِّرَ السُّجُودُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، أَيْ بعد الصَّلَوَات قَالَه ابْنُ زَيْدٍ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالرَّوَاتِبِ الَّتِي بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ عَامٌ خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِأَوْقَاتِ النَّوَافِلِ، وَمُجْمَلٌ بَيَّنَتِ السَّنَةُ مَقَادِيرَهُ، وَبَيَّنَتْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرُ نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ. وَعَنِ الْمَهْدَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَنُسِخَ بِالْفَرَائِضِ. وَحُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، أَيِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْوِتْرُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَبِّحْهُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ
الْوَقْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ فَيُجْعَلُ التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الظُّرُوفِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَهُوَ كَالتَّفْرِيعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: ١٤].
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [الْوَاقِعَة: ٤٩- ٧٣]، وَهِيَ تَذْيِيلٌ.
وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَاسْمُ الرَّبِّ: هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَجُمَّاعِ صِفَاتِهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ، أَيْ بِأَنْ يَقُولَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، فَالتَّسْبِيحُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَوْضُوعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ كَانَ تَسْبِيحُ الِاسْمِ مُقْتَضِيًا تَنْزِيهَ مُسَمَّاهُ وَكَانَ أَيْضًا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ بِاللَّفْظِ مَعَ الِاعْتِقَادِ لَا مُجَرَّدَ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَمَّا عُلِّقَ بِلَفْظِ اسْمٍ تَعَيَّنَ أَنَّهُ تَسْبِيحٌ لَفْظِيٌّ، أَيْ قُلْ كَلَامًا فِيهِ مَعْنَى التَّنْزِيهِ، وَعَلِّقْهُ بِاسْمِ رَبِّكَ، فَكُلُّ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ مَشْمُولٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَلَكِنْ مُحَاكَاةُ لَفْظِ الْقُرْآنِ أَوْلَى وَأَجْمَعُ بِأَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا
قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ٣] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ»

أَيْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى إِرَادَةِ أَلْفَاظِهِ.
وَالْبَاءُ الدَّاخِلَة على بِاسْمِ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ، أَيِ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ وَذَلِكَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ عَقِبَ ذِكْرِ عِدَّةِ أُمُورٍ تَقْتَضِيهِ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَاءُ التَّرْتِيبِ فَكَانَ حَقِيقًا بِالتَّقْوِيَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] لِوُقُوعِهِ فِي صَدْرِ جُمْلَتِهِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَاب: ٤١، ٤٢].
وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَتْلُوٌّ لَهُمْ وَأَنَّ مَا تَفَرَّعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ عِلْمُهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ لِأَجْلِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ مِنَ الْمُسلمين.
وَالْمعْنَى: إِذْ عَلِمْتُمْ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَتَذَكَّرْتُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ فَنَزِّهُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ بِقُصَارَى مَا تَسْتَطِيعُونَ.
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
ضَمِيرُ كُنَّ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَسْكِنُوهُنَّ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَرْتِيبِ الضَّمَائِرِ، وَكَمَا هُوَ مُقْتَضَى عَطْفِ الْجُمَلِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى خُصُوصِ النِّسَاءِ السَّاكِنَاتِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُعَادًا لِضَمِيرٍ آخَرَ.
وَظَاهِرُ نَظْمِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَوَامِلَ مُسْتَحِقَّاتُ الْإِنْفَاقِ دُونَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ أَخْذًا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مُعَطَّلٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ لِأَنَّ إِنْفَاقَهُنَّ ثَابِتٌ بِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ.
وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ضَمِيرَ أَسْكِنُوهُنَّ لِلْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْمَفْهُومِ قَالُوا: الْآيَةَ تَعَرَّضَتْ لِلْحَوَامِلِ تَأْكِيدًا لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ طَوِيلَةٌ فَرُبَّمَا سَئِمَ الْمُطَلِّقُ الْإِنْفَاقَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي بِقَوْلِهِ:
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَجَعَلُوا لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ الْإِنْفَاقَ. وَبِهِ أَخْذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَنُسِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَهَذَا الَّذِي يرجح هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَيْسَ لِلشَّرْطِ مَفْهُومٌ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مَسُوقٌ لِاسْتِيعَابِ الْإِنْفَاقِ جَمِيعَ أَمَدِ الْحَمْلِ.
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى.
لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ يَنْتَهِي بِالْوَضْعِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ لَهُنَّ بَعْدَ الْوَضْعِ فَإِنَّهُنَّ بِالْوَضْعِ يَصِرْنَ بَائِنَاتٍ فَتَنْقَطِعُ أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ يَكُونُ إِرْضَاعُهَا وَلَدَهَا حَقًّا عَلَيْهَا كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقًّا عَلَى أَبِيهِ فَيُعْطِيهَا أَجْرَ إِرْضَاعِهَا كَمَا كَانَ يُعْطِيهَا النَّفَقَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَلَدِ حِينَ كَانَ حَمْلًا. وَهَذِهِ
والْيَقِينُ: اسْمُ مَصْدَرِ يَقِنَ كَفَرِحَ، إِذَا عَلِمَ عِلْمًا لَا شَكَّ مَعَهُ وَلَا تَرَدُّدَ.
وَإِتْيَانُهُ مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِهِ بَعْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا، شُبِّهَ الْحُصُولُ بَعْدَ الِانْتِفَاءِ بِالْمَجِيءِ بَعْدَ الْمَغِيبِ.
وَالْمَعْنَى: حَتَّى حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّ مَا كُنَّا نُكَذِّبُ بِهِ ثَابِتٌ، فَقَوْلُهُ: حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَايَةٌ لِجُمْلَةِ نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَيُطْلَقُ الْيَقِينُ أَيْضًا عَلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ لِكُلِّ حَيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: ٩٩]. فَتَكُونُ جُمْلَةُ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ غَايَةً لِلْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إِلَى بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَالْمَعْنَى: كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِنَا كُلِّهَا.
وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَكُ، ونَخُوضُ، ونُكَذِّبُ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ وَمُتَجَدِّدٌ مِنْهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي أَضَاعَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ مُسْتَحِقٌّ حَظًّا مِنْ سَقَرَ عَلَى مِقْدَارِ إِضَاعَتِهِ وَعَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مُعَادَلَةِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَظَوَاهِرِهِ وَسَرَائِرِهِ، وَقَبْلَ الشَّفَاعَةِ وَبَعْدَهَا.
وَقَدْ حَرَمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الْكَافِرِينَ أَنْ تَنْفَعَهُمُ الشَّفَاعَةُ فَعَسَى أَنْ تَنْفَعَ الشَّفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَقْدَارِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ إِيمَاءٌ إِلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهَا فِي صِحَاحِ الْأَخْبَارِ.
وَفَاءُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، أَيْ فَهُمْ دَائِمُونَ فِي الْارْتِهَانِ فِي سقر.
الظَّاهِرِ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُ مَا فِيهِ سِمَةُ خَرْقِ الْعَادَةِ. فَرُبَّمَا أَتَتِ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْفَوَائِدِ، وَالْمُوَفَّقُ يَتَيَقَّظُ لِلْأَمَارَاتِ
قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: ٤٤] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٤، ٩٥] وَقَالَ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: ١٢٦].
وَتَصَرُّفَاتُ اللَّهِ مُتَشَابِهَةٌ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ النَّاسِ وَبَعْضُهَا جَارٍ عَلَى مَا قَدَّرَهُ مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلٌّ قَدْ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَسَبَقَ عَلِمُهُ بِهِ وَرَبَطَ مُسَبَّبَاتِهِ بِأَسْبَابِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسَائِطَ وَالْمُتَبَصِّرُ يَأْخُذُ بِالْحَيْطَةِ لِنَفْسِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ وَهْمُهُ وَلَمْ تَنْهَضْ دَلَائِلُهُ، وَيُفَوِّضُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ. وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَحْكِيَّ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُتَبَصِّرِينَ فِي مَجَارِي التَّصَرُّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَقَدْ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْعَوَامِّ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ مِنَ الغافلين بقايا مت اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِإِيجَادِ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي تُمْلِيهَا عَلَى عُقُولِهِمْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَوْعِظَةِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَجِّلُ جَزَاءَ الْخَيْرِ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: ٩٧]. وَقَدْ يُعَجِّلُ الْعِقَابَ لِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ حَكَى عَنْ نُوحٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: ١٠- ١٢] وَقَالَ تَعَالَى:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: ١٦]. وَلِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عَلَامَاتٌ أَظْهَرُهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ كَمَا نَرَى فِي نَصْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ. وَتِلْكَ مَوَاعِيدُ مِنَ اللَّهِ يُحَقِّقُهَا أَوْ وَعِيدٌ مِنْهُ يَحِيقُ بِمُسْتَحِقِّيهِ.
وَحَرْفُ (أَمَّا) يُفِيدُ تَفْصِيلًا فِي الْغَالِبِ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى تَقَابُلٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْ ذَوَاتٍ وَأَحْوَالٍ. وَلِذَلِكَ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِمَعْنَى تَبْيِينِ مُجْمَلٍ قَبْلَهَا، بَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ وَتَقَابُلٌ وَتَوَازُنٌ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أَتَغْضَبُ إِنْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا جَهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِِِ