الْأُصُولَ الَّتِي أَسَّسُوهَا. وَلَهُمْ فِي التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ ثَقِيلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: ٤٦] أَنَّ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ الْأَعْرَافُ هُوَ مَقَرُّ أَهْلِ الْمَعَارِفِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ. وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: ٧١] أَيْ لَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ جَوَازِهِ عَلَى الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ إِمَّا فِي أَيَّام صِبَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٤٣] أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ الْقَلْبَ.
وَقَدْ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابه الملقب ب «المستظهري». وَقَالَ إِذَا قُلْنَا بِالْبَاطِنِ فَالْبَاطِنُ لَا ضَبْطَ لَهُ بَلْ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فَيُمْكِنُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى اهـ. يَعْنِي وَالَّذِي يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةٌ لَهُمْ يُمْكِنُ أَنْ نَقْلِبَهُ عَلَيْهِمْ وَنَدَّعِيَ أَنَّهُ بَاطِنُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ لِاسْتِنَادِهِ لِلُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ مِنْ قَبْلُ.
وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَا يَقُومُ فَهْمُ أَحَدٍ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَلَا إِخَالُهُمْ إِلَّا قَائِلِينَ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ قَرَاطِيسِهِمْ قَالُوا:
«إِنَّمَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ مَعَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَالنَّظَرُ بَدَلٌ مِنَ الْخَبَرِ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ فَهُوَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَالْإِمَامُ هُوَ خَلِيفَتُهُ وَمَعَ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُبَيِّنُ قَوْلَهُ فَلَا يُنْتَقَلُ إِلَى النَّظَرِ اهـ وَبَيَّنَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ» شَيْئًا مِنْ فَضَائِحِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ هُنَا.
فَإِن قلت فَمَا
رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَمَطْلَعًا»
. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا. قُلْتُ لَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِرِوَايَتِهِ عَنْهُ؟ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «فَظَهْرُهُ التِّلَاوَةُ وَبَطْنُهُ التَّأْوِيلُ» فَقَدْ أَوْضَحَ مُرَادَهُ إِنْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّهْرَ هُوَ اللَّفْظُ وَالْبَطْنَ هُوَ الْمَعْنَى. وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ «تَفْسِيرُ الْقَاشَانِيِّ» وَكَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَبْثُوثٌ فِي «رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ».
أَمَّا مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانٍ لَا تَجْرِي عَلَى أَلْفَاظ الْقُرْآن ظَاهرا وَلَكِنْ بِتَأْوِيلٍ وَنَحْوِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، بَلْ يَعْنُونَ أَنَّ الْآيَةَ تَصْلُحُ لِلتَّمَثُّلِ بِهَا فِي الْغَرَضِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَحَسْبُكُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا إِشَارَاتٍ وَلَمْ يُسَمُّوهَا مَعَانِيَ، فَبِذَلِكَ فَارَقَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ الْبَاطِنِيَّةِ. وَلِعُلَمَاءِ الْحَقِّ فِيهَا رَأْيَانِ: فَالْغَزَالِيُّ يَرَاهَا مَقْبُولَةً، قَالَ
فِي كِتَابٍ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» (١) : إِذَا قُلْنَا فِي
قَوْلِهِ صَلَّى
_________
(١) ج ١/ ٤٩- دَار الْمعرفَة- «كتاب الْعلم». الْبَاب الْخَامِس: فِي آدَاب المتعلم والمعلم. انْظُر أَيْضا: «إتحاف الزبيدِيّ» ١/ ٣٠٦.
وَالْأَظْهَرُ أَن المُرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَحْبَارُ النَّصَارَى كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِصِلَةِ: أُوتُوا الْكِتابَ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَبَ الْبِشَارَةِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ. وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا أَن المُرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى الْكفْر ليظْهر موقع قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ، يَقْتَضِي أَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ إِذْ أَنْكَرُوا اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ بُطْلَانَهُ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّونَهُمْ مُعْتَقِدِينَ ذَلِكَ، وَلِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الَّذِي هُوَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ.
وَقَدْ دَلَّ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ الْحَقُّ عَلَى الْقَصْرِ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِلْكَعْبَةِ هُوَ الْحَقُّ دُونَ غَيْرِهِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ سَتَبْطُلُ وَلَعَلَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِنْذَارَاتِ أَنْبِيَائِهِمْ مِثْلِ أَرْمِيَا وَأَشْعِيَا الْمُنَادِيَةِ بِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَهُ يَصِيرُ اسْتِقْبَالَ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ أَيْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِغَيْرِ مَا عَلِمُوا فَالْمُرَادُ بِمَا يَعْمَلُونَ هَذَا الْعَمَلَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالسَّفَهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَعِيدِ بِجَزَائِهِمْ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَادِرِ مَا أَنَا بِغَافِلٍ عَن المجرم تَحْقِيق لِعِقَابِهِ إِذْ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْقَادِرِ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ إِلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ وَعِيدًا لَهُمْ وَوَعِيدُهُمْ يَسْتَلْزِمُ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ وَعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَتَهُمْ فَإِنَّ الْوَعِيدَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا جَرَمَ أَنْ سَيَلْزَمُ جَزَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْتِثَالِ تَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ الَّذِي لَا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ أُولَئِكَ لَا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ هَؤُلَاءِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَاءِ الْخِطَابِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَن وعد للْمُسلمين عَلَى الِامْتِثَالِ لِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ.
وَ (بُهِتَ) فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ يُقَالُ بَهَتَهُ فَبُهِتَ بِمَعْنَى أَعْجَزَهُ عَنِ الْجَوَابِ فَعَجَزَ أَوْ فَاجَأَهُ بِمَا لَمْ يَعْرِفْ دَفْعَهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٤٠] وَقَالَ عُرْوَةُ الْعُذْرِيُّ:
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً | فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ |
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ هُوَ حَوْصَلَةُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى هدي الله لقوم الظَّالِمِينَ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَائِلٌ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ التَّنَازُلِ إِلَى التَّأَمُّلِ مِنَ الْحُجَجِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِيمَا فِيهِ النَّفْعُ إِذِ الذِّهْنُ فِي شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ بِزَهْوِهِ وَغُرُورِهِ.
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْجَدَلِ فَهُوَ جِدَالُ الْمُكَابَرَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَرْوِيجِ الْبَاطِل والخطإ.
[٢٥٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٩] لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] فِي مَعْنَى التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُرَادُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ» وَإِذْ قَدْ قَرَّرَ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا ثُبُوتَ انْفِرَاد الله بالإلهية، وَذَلِكَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، أَعْقَبَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي إِنْكَارُهُ أَصْلُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ.
وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ الْأَخِ، مِثْلُ الْإِخْوَةِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْإِخْوَانُ بِالْأَخِ الْمَجَازِيِّ وَالْإِخْوَةُ بِالْأَخِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ تَعَالَى: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النُّور: ٦١] وَقَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ فِي الْجَمْعِ أَوِ الْمُفْرَدِ وَإِلَّا لَبَطَلَ كَوْنُ اللَّفْظِ مَجَازًا وَصَارَ مُشْتَرَكًا، لَكِنْ لِلِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُغَلِّبَ إِطْلَاقُ إِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ الْمَوْضُوعَتَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُغَلِّبُهَا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَالْأُخْرَى فِي الْحَقِيقِيِّ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَشْنَعِ حَالَةٍ إِلَى أَحْسَنِهَا: فَحَالَةٌ كَانُوا عَلَيْهَا هِيَ حَالَةُ الْعَدَاوَةِ وَالتَّفَانِي وَالتَّقَاتُلِ، وَحَالَةٌ أَصْبَحُوا عَلَيْهَا وَهِيَ حَالَةُ الْأُخُوَّةِ وَلَا يُدْرِكُ الْفرق بَين الْحَالَتَيْنِ إِلَّا مَنْ كَانُوا فِي السُّوأَى فَأَصْبَحُوا فِي الْحُسْنَى، وَالنَّاسُ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَضَنْكٍ وَاعْتَادُوهَا صَارَ الشَّقَاءُ دَأْبَهَمْ، وَذَلَّتْ لَهُ نُفُوسُهُمْ فَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا يتفظّنوا لِوَخِيمِ عَوَاقِبِهِ، حتّى إِذا هيّىء لَهُمُ الصَّلَاحُ، وَأَخَذَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمُ اسْتَفَاقُوا مِنْ شَقْوَتِهِمْ، وَعَلِمُوا سُوءَ حَالَتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى جَمَعَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الِامْتِنَانِ بَيْنَ ذِكْرِ الْحَالَتَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَتِهِ الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ أَصْبَحْتُمْ إِخْوَانًا مصاحبين نعْمَة من اللَّهِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْأُخُوَّةِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ اللِّهْبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ | بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا |
وَالشَّفَا مِثْلُ الشَّفَةِ هُوَ حَرْفُ الْقَلِيبِ وَطَرَفِهِ، وَأَلِفُهُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ. وَأَمَّا وَاوُ شَفَةٍ فَقَدْ حُذِفَتْ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ سَنَةٍ وَعِزَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوهُ عَلَى شَفَوَاتٍ وَلَا على شفين بَلْ قَالُوا شِفَاهٌ كَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِالْهَاءِ كَالْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ: الْوالِدانِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ بِهِ المُرَاد فِي (مَوَالِيَ)، وَيَصْلُحُ أَنْ يُبَيِّنَ بِهِ كُلَّ الْمُقَدَّرَ لَهُ مُضَافٌ. تَقْدِيرُهُ: لكلّ تَارِك. وتبيين كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّارِكَ:
وَالِدٌ أَوْ قَرِيبٌ، وَالْمَوَالِيَ: وَالِدُونَ أَوْ قَرَابَةٌ. وَفِي ذِكْرِ الْوالِدانِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْنَاءِ لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ فَالْهَالِكُ وَلَدٌ وَإِلَّا فَالْهَالِكُ وَالِدٌ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ عِوَضٌ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ أَيْ: وَالِدَاهُمُ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوَالِي، وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النِّسَاء: ٣٢]، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَرِثُونَهُ، وَهُوَ الْجَعْلُ الَّذِي فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ قَوْمًا يَلُونَهُ بِالْإِرْثِ، أَيْ يَرِثُونَهُ، أَيْ يَكُونُ تُرَاثًا لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ اسْمًا نَكِرَةً عَامًّا يُبَيِّنُ نَوْعَهُ الْمَقَامُ، وَيَكُونُ مِمَّا تَرَكَ بَيَانًا لِمَا فِي تَنْوِينِ (كلّ) من الْإِبْهَام، وَيَكُونُ وَالْأَقْرَبُونَ فَاعِلا (لترك).
وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] أَيْ فِي الْأَمْوَالِ، أَيْ وَلِكُلٍّ مِنَ الَّذِينَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَعَلْنَا مَوَالِيَ يَؤُولُ إِلَيْهِمُ الْمَالُ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ فِي حَيَاةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَا جَعَلْنَاهُ لِلْمَوَالِي بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِ.
التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَلِكُلٍّ مِنْكُمْ جَعَلْنَا مَوَالِيَ، أَيْ عَاصِبِينَ مِنَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْوَالِدَانِ، مِثْلَ الْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأَخْوَالِ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَبَوَيْنِ، وَمِمَّا تَرَكَهُمُ الْأَقْرَبُونَ مِثْلُ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ تَعَدَّدُوا، وَأَبْنَاءُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ قُرَبَاءُ الْأَقْرَبِينَ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى ذَوِيِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا انْعَدَمَ الْوَرَثَةُ الَّذِينَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
وَقَوْلُهُ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَوْلُهُ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
، وَقَوله تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥]، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَيْهِ فَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا تَرَكَ بِمَعْنَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُوسَى فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، أَيْ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْكِتَابَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَصْلُهُ مُؤَلَّفٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ قَبِيلَةٍ عَرَبِيَّةٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ. وَكَانَ أَيُّوبُ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكَانَ لَهُ صَاحِبٌ اسْمُهُ الْيَفَازُ الْيَمَانِيُّ هُوَ الَّذِي شَدَّ أَزْرَهُ فِي الصَّبْرِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا
مُنِعَ اسْمُهُ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَرَبِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ اعْتَبَرَتِ الْقَبَائِلَ الْبَعِيدَةَ عَنْهَا عَجَمًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُمْ عَرَبِيًّا، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ إِذْ سَكَنُوا الْحِجْرَ.
وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ مَتَّى مِنْ سِبْطِ زَبُولُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى عَاصِمَةِ الْآشُورِيِّينَ، بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَهَارُونُ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٩٧٢ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ رَسُولٌ مَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ. كَانَ نَبِيًّا حَاكِمًا بِالتَّوْرَاةِ وَمَلِكًا عَظِيمًا. تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٥٩٧ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَمِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ «الْجَامِعَةِ» وَكِتَابُ «الْأَمْثَالِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوَاعِظِ»، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يُقَلْ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهَا إِلَيْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ مُوحَى بِمَعَانِيهَا دُونَ لَفْظِهَا.
وَدَاوُدُ أَبُو سُلَيْمَانَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ يَسِي، تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٦٢٦ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، بَعَثَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالُ، كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَرَنَّمُونَ بِفُصُولِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّبُورِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلُ قَبُولٍ. وَيُقَالُ فِيهِ: زُبُورٌ- بِضَمِّ الزَّايِ- أَيْ مَصْدَرًا مِثْلَ الشُّكُورِ، وَمَعْنَاهُ الْكِتَابَةُ وَيُسَمَّى الْمَكْتُوبُ زَبُورًا فَيُجْمَعُ عَلَى الزُّبُرِ، قَالَ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [آل عمرَان: ١٨٤]. وَقَدْ صَارَ
إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: ٩٢]، وَقَوْلُهُ:
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١]، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَالْمَعْنَى لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا آمنُوا واتّقوا، ويؤوّل مَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا فِيمَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَئِذٍ وَمَا تَنَاوَلُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ إِلَّا قَبْلَ تَحْرِيمِهِمَا.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الْجَارِي عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَارِيًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مَنْ سَبَّبَ نُزُولَهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يُلَاحِظُوا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا لَا يُقْصِرُهَا عَلَى قَضِيَّةِ السَّبَبِ بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِي أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُخَصَّصُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَقَالُوا: رَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَيِّ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الْمَطَاعِمِ وَحَلَالِهَا، إِذَا مَا اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ حِرْمَانُ النَّفْسِ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ بَلِ الْبِرُّ هُوَ التَّقْوَى، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: ١٨٩]. وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مُبْتَدِئًا بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ.
وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ اللُّحُومَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ التَّرَهُّبِ. وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ هَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ طَعِمُوا مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَتَكُونُ كَلِمَةُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِعْلُ
مَا قَالَهُ هَذَا الْمُلَقَّبُ بِعَلَمِ الْهُدَى صَحِيحًا وَلَا سَنَدَ لَهُ أَصْلًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَفَّ عَنْ أَكْلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الذَّبَائِحِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ: «أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ» يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ
أَيْ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِإِبْطَالِ قِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَوِّهِ بِأَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْلَى بِالْأَكْلِ مِمَّا قَتَلَهُ الذَّابِحُ بِيَدِهِ، فَأَبْدَى اللَّهُ لِلنَّاسِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى، بِأَنَّ الْمُذَكَّى ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهُوَ فَارِقٌ مُؤَثِّرٌ. وَأَعْرِضْ عَنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِإِبْطَالِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَآلَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥]، إِذْ قَالَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، فَيَنْقَلِبُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا إِلَى مَعْنَى: لَا يُسَوِّلْ لَكُمُ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، هَذَا مَا قَالُوهُ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ مَوْقِعِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَا يَصُدُّكُمْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ، مِنْ قَبْلُ، مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الْأَنْعَام: ١٤٥] الْآيَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِهَا، فَذَلِكَ يُنَاكِدُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ فِي التِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا نُزُولُهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي
الَّتِي أَهَّلَتْهُ لِسِيَادَةِ هَذَا الْعَالَمِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَى مَصَاعِبِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّمْكِينِ هُنَا الْقُوَّةَ وَالْحُكْمَ كَالْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْف: ٨٤] لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَاصِلًا بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ أَيْضًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ جَعْلُ الْمَكَانِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْأَرْضِ يَمْنَعُ مِنْ
ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمُ الْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: ٢٦] أَيْ جعلنَا مَا أقررناهم عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِمَّا أَقْدَرْنَاكُمْ عَلَيْهِ، أَيْ فِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ أَمَّا أَصْلُ الْقَرَارِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ صِرَاطٌ بَيْنَهُمَا.
وَمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَهِيَ مَا يَعِيشُ بِهِ الْحَيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَأَصْلُ الْمَعِيشَةِ اسْمُ مَصْدَرِ عَاشَ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: ١٢٤] سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعَيْشُ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي غَلَبَ حَتَّى صَارَ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَيَاءُ (مَعَايِشَ) أَصْلٌ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَصْدَرِ (عَيْشٍ) فَوَزْنُ مَعِيشَةٍ مَفْعِلَةٌ وَمَعَايِشَ مَفَاعِلُ، فَحَقُّهَا أَنْ يُنْطَقَ بِهَا فِي الْجَمْعِ يَاءً وَأَنْ لَا تُقْلَبَ هَمْزَةً. لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ وَاوًا أَوْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ، مِثْلَ: مَفَازَةٍ وَمَفَاوِزَ، فِيمَا أَصْلُهُ وَاوٌ مِنَ الْفَوْزِ وَمَعِيبَةٍ وَمَعَايِبَ فِيمَا أَصْلُهُ الْيَاءُ، فَإِذَا كَانَ حَرْفُ الْمَدِّ فِي الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهُ جَمْعًا بِأَلِفٍ زَائِدَةٍ قَلَبُوا حَرْفَ الْمَدِّ هَمْزَةً نَحْوَ قِلَادَةٍ وَقَلَائِدَ، وَعَجُوزٍ وَعَجَائِزَ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ لَطَائِفِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَرْفِ الْمَدِّ الْأَصْلِيِّ وَالْمَدِّ الزَّائِدِ وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ، وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ: مَعَائِشَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْهُ لَا يعبأ بهَا، وقرىء فِي الشاذ: بِالْهَمْز، رَوَاهُ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَفِي «الْكَشَّافِ» نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَأُسْنِدَ حُكْمُ النَّكْثِ إِلَى أَكْثَرِ أهل الْقرى، تَبينا لِكَوْنِ ضَمِيرِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا جَرَى عَلَى التَّغْلِيبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّصْرِيحِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّهُ حُكْمُ مَذَمَّةٍ وَمَسَبَّةٍ، فَنَاسَبَتْ مُحَاشَاةَ مَنْ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ تِلْكَ المسبة.
[١٠٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٠٣]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
انْتِقَالٌ مِنْ أَخْبَارِ الرِّسَالَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أَخْبَارِ رِسَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِأُمَّةٍ بَاقِيَةٍ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَضَّلَهَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَلَمْ تُوَفِّ حَقَّ الشُّكْرِ وَتَلَقَّتْ رَسُولَهَا بَيْنَ طَاعَةٍ وَإِبَاءٍ وَانْقِيَادٍ وَنِفَارٍ، فَلَمْ يعاملها الله بالاستيصال وَلَكِنَّهُ أَرَاهَا جَزَاءَ مُخْتَلِفِ أَعْمَالِهَا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَخُصَّتْ بِالتَّفْضِيلِ قِصَّةُ إِرْسَالِ مُوسَى لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَنْبَاءِ الْقَيِّمَةِ، وَلِأَنَّ رِسَالَتَهُ جَاءَتْ بِأَعْظَمِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ يَدَيْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأُرْسِلَ رَسُولُهَا هَادِيًا وَشَارِعًا تَمْهِيدًا لِشَرِيعَةٍ تَأْتِي لِأُمَّةِ أَعْظَمَ مِنْهَا تَكُونُ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّ حَالَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَشْبَهُ بِحَالِ مِنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ كَثِيرَيْنِ اتَّبَعَ أَحَدُهُمْ مُوسَى وَكَفَرَ بِهِ الْآخَرُ، كَمَا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ السَّلَام- جَمْعٌ عَظِيمٌ وَكَفَرَ بِهِ فَرِيقٌ كَثِيرٌ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَفَرَ وَنَصَرَ مَنْ آمَنَ.
وَقَدْ دَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الْمُهْلَةِ: لِأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بُعِثَ بَعْدَ شُعَيْبٍ بِزَمَنٍ طَوِيل، فَإِنَّهُ لما تَوَجَّهَ إِلَى مَدْيَنَ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ مِصْرَ، رَجَا اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ فَوَجَدَ شُعَيْبًا، وَكَانَ اتِّصَالُهُ بِهِ وَمُصَاهَرَتُهُ تَدْرِيجًا لَهُ فِي سُلَّمِ قَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُهْلَةُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَمِ الْمَحْكِيِّ عَنْهَا قَبْلُ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى قُرُونٌ مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ، وَمِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، فَالْمُهْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا ثُمَّ مُتَفَاوِتَةُ الْمِقْدَارِ، مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ
عَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهَا إِذَا عُطِفَتْ بِهَا الْجُمَلُ.
فَحَرْفُ (ثُمَّ) هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ الْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ يَعُودُ إِلَى الْقُرَى، بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا، كَمَا عَادَتْ
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِصَرِيحِهِ، وَوَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِمَا يَعْمَلُونَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ خَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِمْ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِمَا يُجَازِي بِهِ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ مَنِ اعْتَدَى عَلَى حَرَمِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ من ضمير كَالَّذِينَ خَرَجُوا [الْأَنْفَال: ٤٧].
وَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى صَاحِبِ الْعلم مجَاز.
[٤٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
وَإِذْ زَيَّنَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الْأَنْفَال: ٤٤] الْآيَةَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، رُتِّبَ نَظْمُهُ عَلَى أُسْلُوبِهِ الْعَجِيبِ لِيَقَعَ هَذَا الظَّرْفُ عَقِبَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ، فَيَكُونُ لَهُ إِتْمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بِحِكَايَةِ خُرُوجِهِمْ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ فِيمَا عَرَضَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَحْوَالِ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، مِمَّا كَانَ فِيهِ سَبَبُ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَقَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْأَنْفَال: ٤٧] عَقِبَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرِ بِمَا يَنْبَغِي وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ لَا يُرْتَضَى، فَيَتِمُّ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ الْمُحْكَمُ الِانْتِظَامِ.
وَأَشَارَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ خِذْلَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ صَرَفَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَيْدًا لَهُمْ حِينَ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِيِّ أَنْ يَجِيءَ فِي جَيْشٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ لِنَصْرِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ خَرَجُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ عِيرِهِمْ،
وَسَلَّمَ لَوْ وَقَعَتْ لَأَكْسَبَتْ مَقْصِدَ وَاضِعِيهِ رَوَاجًا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَهُوَ غَرَضُهُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَاءُ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَحَقِّيَّةِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ بِالتَّصْدِيرِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَالتَّأْسِيسُ: بِنَاءُ الْأَسَاسِ، وَهُوَ قَاعِدَةُ الْجِدَارِ الْمَبْنِيِّ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ أَوْ جَصٍّ.
وَالْبُنْيَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، اسْمٌ لِإِقَامَةِ الْبَيْتِ وَوَضْعِهِ سَوَاءً كَانَ الْبَيْتُ مِنْ أَثْوَابٍ أَمْ مِنْ أَدَمٍ أَمْ كَانَ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ فَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءٌ. وَيُطْلَقُ الْبُنْيَانُ عَلَى الْمَبْنِيِّ مِنَ الْحَجَرِ وَالطِّينِ خَاصَّةً. وَهُوَ هَنَا مُطْلَقٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَي الْمَبْنِيّ. وَمَا صدق (مَنْ) صَاحِبُ الْبِنَاءِ وَمُسْتَحِقُّهُ، فَإِضَافَةُ الْبُنْيَانِ إِلَى ضَمِيرِ (مَنْ) إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ.
وَشُبِّهَ الْقَصْدُ الَّذِي جُعِلَ الْبِنَاءُ لِأَجْلِهِ بِأَسَاسِ الْبِنَاءِ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ أُسِّسَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْأَسَاسِ أَنْ تُطْلَبَ لَهُ صَلَابَةُ الْأَرْضِ لِدَوَامِهِ جُعِلَتِ التَّقْوَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ أَحَدُ الْمَسْجِدَيْنِ، فَشُبِّهَتِ التَّقْوَى بِمَا يَرْتَكِزُ عَلَيْهِ الْأَسَاسُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ بِشَيْءٍ مِنْ مُلَائِمَاتِهِ وَهُوَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ. وَفُهِمَ أَنَّ هَذَا الْمُشَبَّهَ بِهِ شَيْءٌ رَاسِخٌ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ فِي تَشْبِيهِ الضِّدِّ بِمَا أُسِّسَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ شُبِّهَ الْمَقْصِدُ الْفَاسِدُ بِالْبِنَاءِ بِجَرْفِ جُرُفٍ مُنْهَارٍ فِي عَدَمِ ثَبَاتِ مَا يُقَامُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسَاسِ بَلْهَ الْبِنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ. وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ تَرْشِيحٌ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الْأَخِيرَةِ تَمْثِيلُ حَالَةِ هَدْمِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِفْضَائِهِ بِبَانِيهِ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ بِانْهِيَارِ الْبِنَاءِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارَ بِسَاكِنِهِ فِي هُوَّةٍ. وَجَعَلَ الِانْهِيَارَ بِهِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ إِفْضَاءً إِلَى الْغَايَةِ مِنَ التَّشْبِيهِ. فَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَحْسُوسٍ وَمَعْقُولٍ وَكَذَلِكَ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا. وَمَقْصُودٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ الْأَوَّلَ حَصَلَ مِنْهُ غَرَضُ بَانِيهِ
لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْأَشْهَادِ وُقُوعُ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٤] مُصَرَّحًا فِيهِ بِذَلِكَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٥].
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: (يَبْغُونَهَا) عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ الله لأنّ السَّبِيل يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْغُونَ أَنْ تَصِيرَ سَبِيلُ اللَّهِ عَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَنَّهُمْ
يُحَاوِلُونَ أَنْ يُصَيِّرُوهَا عَوْجَاءَ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتْبَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُمْ وَيَغْضَبُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ. وَهُنَا انْتَهَى كَلَامُ الْأَشْهَادِ لِأَنَّ نَظِيرَهُ الَّذِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٤] فِي قَوْلِهِ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ انْتَهَى بِمَا يُمَاثِلُ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ (هُمْ) فِي قَوْلِهِ: هُمْ كافِرُونَ وَهُوَ تَوْكِيدٌ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَسْجِيلِ إِنْكَارِهِمْ الْبَعْثَ وَتَقْرِيرِهِ إِشْعَارًا بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ فَحُكِيَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ لِمَا قِيلَ فِي شَأْنِ قَوْمٍ أُدْخِلُوا النَّارَ وَظَهَرَ عِقَابُهُمْ فَلَا غَرَضَ لِحِكَايَةِ مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَكِلَا الْمَقَالَتَيْنِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا يَحْكِي الْبَلِيغُ فِيمَا يَحْكِيهِ مَا لَهُ مُنَاسِبَةٌ لِمَقَامِ الْحِكَايَةِ.
[٢٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٠]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ الِاقْتِصَارِ فِي تَهْدِيدِهِمْ عَلَى وَصْفِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: هَلْ هُمْ سَالِمُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَقْدِرَةِ اللَّهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعْجِيلَ عَذَابِهِمْ.
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٧٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)لَمَّا بُهِتُوا بِوُجُودِ الصُّوَاعِ فِي رَحْلِ أَخِيهِمُ اعْتَرَاهُمْ مَا يَعْتَرِي الْمَبْهُوتَ فَاعْتَذَرُوا عَنْ دَعْوَاهُمْ تَنَزُّهَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ، إِذْ قَالُوا: وَما كُنَّا سارِقِينَ [سُورَة يُوسُف: ٧٣]، عُذْرًا بَأَنَّ أَخَاهُمْ قَدْ تَسَرَّبَتْ إِلَيْهِ خَصْلَةُ السَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ جَانِبِ أَبِيهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّ أَخَاهُ الَّذِي أُشِيعَ فَقْدُهُ كَانَ سَرَقَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ عَلِمَ فِتْيَانُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ الْمُتَّهَمَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى، فَهَذَا اعْتِذَارٌ بِتَعْرِيضٍ بِجَانِبِ أُمِّ أَخَوَيْهِمْ وَهِيَ زَوْجَةُ أَبِيهِمْ وَهِيَ (رَاحِيلُ) ابْنَةُ (لَابَانَ) خَالِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَكَانَ لِيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ: (رَاحِيلُ) هَذِهِ أُمُّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِنْيَامِينَ وَ (لِيئَةُ) بِنْتُ لَابَانَ أُخْتُ رَاحِيلَ وَهِيَ أُمُّ رُوبِينَ، وَشَمْعُونَ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَبِسَاكِرَ، وَزَبُولُونَ وَ (بُلْهَةُ) جَارِيَةُ رَاحِيلَ وَهِيَ أُمُّ دَانَا، وَنَفْتَالِي وَ (زُلْفَةُ) جَارِيَةُ رَاحِيلَ أَيْضًا وَهِيَ أُمُّ جَادَ، وَأَشِيرَ.
وَإِنَّمَا قَالُوا: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ بُهْتَانًا وَنَفْيًا لِلْمَعَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلَيْسَ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام- سَرقَة من قَبْلُ، وَلَمْ يَكُنْ إِخْوَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام- يَوْمئِذٍ أَنْبِيَاءَ. وَشَتَّانَ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْكَذِبِ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ.
وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِمَسْمَعٍ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ إِلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْمَقَالَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩]. وَيَكُونُ مَعْنَى أَسَرَّهَا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ تَحَمَّلَهَا وَلَمْ يُظْهِرْ
يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ (١) فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ
. وَمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ
مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ نبيء اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ (أَيْ أَمَرَ أَوْ أَوْحَى) وَضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ كُلٌّ فِي وَظِيفَتِهِ» كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ (أَيْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لَهُمْ. وَتَقْرِيبُهَا حَرَكَاتُ آلَةِ تَلَقِّي الرَّسَائِلِ الْبَرْقِيَّةِ- تِلِغْرَافُ)...
فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعَ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعَ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ (أَيْ هِيَ طَبَقَاتٌ مُفَاوَتَةٌ فِي الْعُلُوِّ). وَوَصْفُ سُفْيَان بِيَدِهِ فحرّفها وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ (فَيَسْمَعُ الْمُسْتَرِقُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ)، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قبل أَن يُدْرِكهَا فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ. فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ»
. أَمَّا أَخْبَارُ الْكُهَّانِ وَقِصَصُهُمْ فَأَكْثَرُهَا مَوْضُوعَاتٌ وَتَكَاذِيبُ. وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ».
وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ كُلُّهَا لَا تَقْتَضِي إِلَّا إِدْرَاكَ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهَا مُقَرَّبَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَزَائِمِ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ وَتَوَجُّهَاتِهَا نَحْوَ مُسَخَّرَاتِهِا.
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمْعِ لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْخَبَرِ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ شُعُورُ مَا تَتَوَجَّهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَسْخِيرِهِ، وَالَّذِي يَحْصُلُ لِلْكَاهِنِ كَذَلِكَ. وَالْمَآلُ أَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ بِهِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مسموع.
[١٩، ٢٠]
_________
(١) قرّت الدَّجَاجَة تقرّ قرّا: أخفت صَوتهَا.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ تَنْوِيهٌ فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ | تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ |
وَالظَّاهِرُ أَنَّ امْتِنَاعَ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ أَنْ تَكُونَ أَغْوَيْناهُمْ تَأْكِيدًا «لأغوينا» وَقَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُسْنَدٌ إِلَى مُبْتَدَأٍ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فَتَمَّ الْكَلَامُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ بَيْتِ الْأَحْوَصِ وَمِثَالُ ابْنِ جِنِّيٍّ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ، فَيَرْجِعُ امْتِنَاعُ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ مَا أَخَذَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْآيَةِ تَعَيُّنَهُ فِي بَيْتِ الْأَحْوَصِ.
وَأُسْلُوبُ إِعَادَةِ الْفِعْلِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعَلُّقِ شَيْءٍ بِهِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ يُقْصَدُ بِهِ الِاهْتِمَامُ
بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء:
١٣٠] وَقَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٧٢].
وَقَوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ بِأَنْ جُعِلَتْ نَفْسُ الْمُحْسِنِ كَذَاتٍ يُحْسَنُ لَهَا. فَاللَّامُ- لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ، يُقَالُ: أَحْسَنْتُ لِفُلَانٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. فَقَوْلُهُ: فَلَها مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ، تَقْدِيرُهُ: أَسَأْتُمْ لَهَا. وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ بِظَرْفٍ مُسْتَقِرٍّ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ أَسَأْتُمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ فَعَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٤٦] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.
الْيَمَنِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ هِلَالٍ وَزِغْبَةَ عَلَى أَعْرَابِ إِفْرِيقِيَّةَ الْوَارِدِينَ مِنْ صَعِيدِ مِصْرَ، وَإِطْلَاق أَوْلَاد وزاز وَأَوْلَاد يَحْيَى عَلَى حَيٍّ بِتُونِسَ بِالْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ، وَمُرَادَةُ وَفَرْجَانُ عَلَى حَيٍّ مِنْ وَطَنِ نَابُلَ بِتُونِسَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كِلْتَيْهِمَا بِأَلِفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ بِدُونِ هَمْزٍ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْهَمْزِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ أَوْ مُعَرَّبٌ، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّهُ اسْمٌ وَضَعَهُ الْقُرْآنُ حَاكَى بِهِ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ تِلْكَ الْأُمَّةِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ مُجْتَمَعِهِمْ فَاشْتُقَّ لَهُمَا مِنْ مَادَّةِ الْأَجِّ، وَهُوَ الْخَلْطُ، إِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ كَانَتْ أَخْلَاطًا مِنْ أَصْنَافٍ.
والاستفهام فِي قَوْلِهِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ، مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ.
وَالْخَرْجُ: الْمَالُ الَّذِي يُدْفَعُ لِلْمَلِكِ. وَهُوَ- بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَيُقَالُ فِيهِ الْخَرَاجُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَدًّا- بِضَمِّ السِّينِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرو، وَحَفْص، وَحَمْزَة، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ السِّينِ-.
وَقَوْلُهُ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أَيْ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي عرضتموه أَو خير مِنَ السَّدِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ، أَيْ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي يَأْتِي بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمْ، فَإِنَّهُ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ سَدَّ عَلَيْهِمُ الْمُرُورَ مِنْ بَيْنِ الصَّدَفَيْنِ تَحَيَّلُوا فَتَسَلَّقُوا الْجِبَالَ وَدَخَلُوا بِلَادَ الصِّينِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ سُورًا مُمْتَدًّا عَلَى الْجِبَالِ فِي طُولِ حُدُودِ الْبِلَادِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلُّقُ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ رَدْمًا.
وَالْقَذْفُ، حَقِيقَتُهُ: رَمْيُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِيرَادِ مَا يُزِيلُ وَيُبْطِلُ الشَّيْءَ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ زَجْرٍ أَوْ إِعْدَامٍ أَوْ تَكْوِينِ مَا يَغْلِبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ رَمْيِ الْجِسْمِ الْمُبْطَلِ بِشَيْءٍ
يَأْتِي عَلَيْهِ لِيُتْلِفَهُ أَوْ يُشَتِّتَهُ، فَاللَّهُ يُبْطِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ بُطْلَانَ الْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَبِأَنْ أَوْجَدَ فِي عُقُولهمْ إدراكا للتمييز بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِأَنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ لِاسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَبِأَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ يُسَخِّرُهَا لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١٢].
وَالدَّمْغُ: كَسْرُ الْجِسْمِ الصَّلْبِ الْأَجْوَفِ، وَهُوَ هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْقَذْفِ لِإِيرَادِ مَا يُبْطِلُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا حَيْثُ اسْتُعِيرَ الدَّمْغُ لِمَحْقِ الْبَاطِلِ وَإِزَالَتِهِ كَمَا يُزِيلُ الْقَذْفُ الْجِسْمَ الْمَقْذُوفَ، فَالِاسْتِعَارَتَانِ مِنِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسَيْنِ لِلْمَعْقُولَيْنِ.
وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ مَحْقِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ عِنْدَ وُرُودِهِ لِأَنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً فَهُوَ سَرِيعُ الْمَفْعُولِ إِذَا وَرَدَ وَوَضُحَ، قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧].
وَالزَّاهِقُ: الْمُنْفَلِتُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَالْهَالِكُ، وَفِعْلُهُ كَسَمِعَ وَضَرَبَ، وَالْمَصْدَرُ الزُّهُوقُ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٥٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [٨١].
وَعند مَا انْتَهَتْ مُقَارَعَتُهُمْ بِالْحُجَجِ السَّاطِعَةِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣- ٥]. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ
وَوَصَفَ الْفَوَاكِهَ بِ كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ كَالْبُسْرِ وَالرَّطْبِ وَالتَّمْرِ، وَكَالزَّيْتِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ، وَأَيْضًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ إِثْمَارِ هَذَيْنِ الشَّجَرَيْنِ.
وَشَجَرَةً عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ
وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وَجُمْلَةُ تَخْرُجُ صِفَةٌ لِ شَجَرَةً وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مَعَ طَيِّ كَوْنِ النَّاسِ مِنْهَا يَأْكُلُونَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِهَا لِأَنَّ مِنْ ثَمَرَتِهَا طَعَامًا وَإِصْلَاحًا ومداواة، وَمن أعودها وَقُودٌ وَغَيْرُهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ»
. وَطُورُ سَيْنَاءَ: جَبَلٌ فِي صَحْرَاءِ سَيْنَاءَ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ وَبَيْنَ مِصْرِ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فِي الْقَدِيمِ وَفِيهِ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الطُّورِ بِدُونِ إِضَافَةٍ، وَطُورُ سَيْنَاءَ أَوْ طُورُ سِينِينَ. وَمَعْنَى الطُّورِ الْجَبَلُ. وَسَيْنَاءُ قِيلَ اسْمُ شَجَرٍ يَكْثُرُ هُنَالِكَ. وَقِيلَ اسْمُ حِجَارَةٍ. وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ، قِيلَ هُوَ اسْمٌ نَبَطِيٌّ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ حَبَشِيٌّ وَلَا يَصِحُّ.
وَإِنَّمَا اغْتَرَّ مَنْ قَالَهُ بِمُشَابَهَةِ هَذَا الِاسْمِ لِوَصْفِ الْحُسْنِ فِي اللُّغَةِ الْحَبَشِيَّةِ وَهُوَ كَلِمَةُ سَنَاهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّشَابُهِ قَدْ أَثَارَ أَغْلَاطًا.
وَسُكِّنَتْ يَاءُ سَيْناءَ سُكُونًا مَيِّتًا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فِيهَا الْفَتْحُ وَسُكُونُ الْيَاءِ سُكُونًا حَيًّا، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَمْدُودٌ، وَهُوَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعِلَاءَ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ أَصْلًا لَا تَكُونُ أَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ بَلْ لِلْإِلْحَاقِ وَأَلِفُ الْإِلْحَاقِ لَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ فَمَنْعُهُ لِأَجْلِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعَلَاءَ مِنْ أَوْزَانِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ.
وَقَوْلُهُ: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِطُورِ سَيْنَاءَ. وَقَدْ غُمِضَ وَجْهُ ذَاكَ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْخُرُوجَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّشْأَةِ
ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ وَتَقْيِيدُ الْخَبَرِ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ، وَلِذَا
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«لَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةِ» فَهَذَا شَأْنُ الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ كَلَامٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي [الممتحنة: ١] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ قَيْدٌ فِي الْمَعْنَى لِلنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ.
وَتَأْخِيرُ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي: لَا تَتَوَلَّوْا أعدائي إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَائِي. وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ» اه. وَكَذَلِكَ مَا قُدِّمَ فِيهِ عَلَى الشَّرْطِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ تَقْدِيمًا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها الْمُتَضَمِّنِ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ الْجَوَابُ بِقَطْعِ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِحَالَتِهِمْ عَلَى حِينِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ وَعِيدًا بِعَذَابٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ السَّيْفِ النَّازِلِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِمَّنْ رَآهُ أَبُو جَهْلٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، وَزَعِيمُ الْقَالَةِ فِي ذَلِكَ النَّادِي.
وَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُحَاجَّةِ ارْتُكِبَ فِيهِ أُسْلُوبُ التَّهَكُّمِ بِجَعْلِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَعْرِفَةُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَارَاةِ وإرخاء الْعَنَان للمخطىء إِلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ فِي حَالَةِ النَّزْعِ لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلِ قَتَلَهُ قَوْمُهُ».
ومَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْجَبَتْ تَعْلِيقَ فِعْلِ يَعْلَمُونَ عَن الْعَمَل.
[٤٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
اسْتِئْنَافٌ خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَخْطُرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى تَكَرُّرِ
فِي تَأْيِيدِهِ وَنَفْعِهِ. وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاءِ فَلَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا وَلَكِنَّهَا لِلِاهْتِمَامِ.
وَجِيءَ فِي فِعْلِ التَّوَكُّلِ بِعُنْوَانِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ يَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ الْكَمَالِ كُلَّهَا، وَمِنْ أَعْلَاهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ وَنَصْرُ الْمُحِقِّ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَجَّلَتْ مَسَرَّةُ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِسْنَادِهِ الْقَضَاءَ إِلَى عُنْوَانِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ اقْتَضَاهُ وُجُودُ مُقْتَضِي جَلْبِ حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ فَلَا يُفِيدُ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصًا وَلَا تَقَوِّيًا.
والْمُبِينِ: الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِامْتِرَاءُ فِيهِ وَلَا الْمُصَانَعَةُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يَثِقَ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ حَقَّهُ وَلَوْ بعد حِين.
[٨٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٠]
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْطُرُ فِي بَالِ السَّامِعِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩] مِنَ التَّسَاؤُلِ عَنْ إِعْرَاضِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَهُوَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ، فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ فِيهِ كَمَوْقِعِهِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وَهَذَا عُذْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ، وَلِكَوْنِهِ تَعْلِيلًا لِجَانِبٍ مِنَ التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْكِنَائِيُّ غَيْرَ الَّذِي عُلِّلَ بِجُمْلَةِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩] لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِالتَّعْلِيلِ.
وَالْإِسْمَاعُ: إِبْلَاغُ الْكَلَامِ إِلَى الْمَسَامِعِ.
والْمَوْتى والصُّمَّ: مُسْتَعَارَانِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَيُكَابِرُونَ مَنْ يَقُولُهُ لَهُمْ. شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ فِي انْتِفَاءِ فَهْمِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ،
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنْ تَقْرِيعِهِمْ عَلَى كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَجُعِلَتْ نِعْمَةُ أَمْنِ بَلَدِهِمْ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ، فَقَوْلُهُ أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً مَفْعُولُ يَرَوْا.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٧]، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْأَمْنِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ مَكَّةَ وَمَا بَعُدَ مِنْهَا يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَغَاوَرُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ لَا يَعْدُو عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مَعَ قِلَّتِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ.
وَالْبَاطِلُ: هُوَ الشِّرْكُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ فِي هَذِه السُّورَة العنكبوت [٥٢]. و (نعْمَة اللَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ الَّذِي مِنْهُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَمَا عَدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوا لَأَدْرَكُوا عِظَمَهَا، وَمِنْهَا نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْمُضَارِعُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ دَالٌّ عَلَى تجدّد الْفِعْل.
[٦٨]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٨]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
لَمَّا أَوْفَاهُمْ مَا يَسْتَأْهِلُونَهُ مِنْ تَشْنِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَسُوء انتظام شؤونهم جَاءَ فِي عَقِبِهِ بِتَذْيِيلٍ يَجْمَعُهَا فِي أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، ثُمَّ جَزَاهُمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى اللَّائِقَ بِحَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّ النَّارَ مَثْوَاهُمْ.
وَافْتَتَحَ تَشْخِيصُ حَالِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ هُمْ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ تَوْجِيهًا لِأَذْهَانِ السَّامِعِينَ نَحْوَ الْبَحْثِ هَلْ يَجِدُونَ أَظْلَمَ مِنْهُمْ حَتَّى إِذَا أَجَادُوا التَّأَمُّلَ وَاسْتَقْرَوْا مَظَانَّ الظُّلْمَةِ وَاسْتَعْرَضُوا أَصْنَافَهُمْ تَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ ظُلْمٌ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ هَؤُلَاءِ.
وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَحَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْحَالِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَعْلِ الْكَلَام عتابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأَحَقُّ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ فَهُوَ بِمَعْنَى حَقِيقٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَا يُفِيدُ وُقُوعَ إِيثَارِ خَشْيَةِ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلَا مَا يُفِيدُ تَعَارُضًا بَيْنَ الْخَشْيَتَيْنِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَرْجِيحِ خَشْيَةِ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَخْشَاهُ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ قَدَّمَ خَشْيَةَ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ شَيْئًا فَعَمِلَ بِخِلَافِهِ.
وَبِهَذَا تعلم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَقَدْ قَامَ بِعَمَلِ الصَّاحِبِ النَّاصِحِ حِينَ أَمَرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ وَانْطَوَى عَلَى عِلْمٍ صَالِحٍ حِينَ خشِي مَا سيفترصه الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْقَالَةِ إِذَا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ خُفْيَةً أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ فِتْنَةً لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ
كَقَوْلِهِ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيَاهُ فِي اللَّيْلِ مَعَ زَيْنَبَ فَأَسْرَعَا خُطَاهُمَا فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ زَيْنَبُ. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مجْرى الدَّم وَإِنِّي خَشِيَتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبكُمَا».
فمقام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامُ الطَّبِيبِ النَّاصِحِ فِي بِيمَارِسْتَانَ يَحْوِي أَصْنَافًا مِنَ الْمَرْضَى إِذَا رَأَى طَعَامًا يُجْلَبُ لِمَا لَا يَصْلُحُ بِبَعْضِ مَرْضَاهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ إِدْخَالِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ بِمَرَضِهِ وَيَزِيدُ فِي عِلَّتِهِ أَوْ يُفْضِي إِلَى انْتِكَاسِهِ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ عِتَابٌ وَلَا لَوْمٌ، وَلَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تَوَقِّيهِ قَالَةَ الْمُنَافِقِينَ. وَحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى العتاب وَلَيْسَ من سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَحْسَبُهُمْ مُخْطِئِينَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ تَشْجِيعٌ لَهُ وَتَحْقِيرٌ لِأَعْدَاءِ الدِّينِ وَتَعْلِيمٌ لَهُ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي سَبِيلِهِ وَيَتَنَاوَلَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ وَلِرُسُلِهِ مِنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ مَرْغُوبَاتِهِمُ وَمَحَبَّاتِهِمْ إِذَا لَمْ يَصُدُّهُمْ شَيْء من ذَلِك عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ عَلَى النَّبِيءِ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْزَاب: ٣٨، ٣٩]،
وَفِعْلُ يَنْظُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظْرَةِ وَهُوَ التَّرَقُّبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ فِي سُورَة [الْأَنْعَام: ١٥٨].
وَالصَّيْحَةُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ الْخَارِجُ مِنْ حَلْقِ الْإِنْسَانِ لِزَجْرٍ، أَوِ اسْتِغَاثَةٍ. وَأُطْلِقَتِ الصَّيْحَةُ فِي مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى صَوْتِ الصَّاعِقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣]. فَالصَّيْحَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَعْقَةً أَوْ نَفْخَةً عَظِيمَةً. وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا نِظَامُ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَالْأُخْرَى تَنْشَأُ عَنْهَا النَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَيَكُونُ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ خَارِجًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِعْرَاضًا عَنْ جَوَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَجْدَرُ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ.
وَمَعْنَى تَأْخُذُهُمْ تُهْلِكُهُمْ فَجْأَةً، شُبِّهَ حُلُولُ صَيْحَةِ الْعِقَابِ بِحُلُولِ الْمُغِيرِينَ عَلَى
الْحَيِّ لِأَخْذِ أَنْعَامِهِ وَسَبْيِ نِسَائِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْحُلُولِ فِعْلُ تَأْخُذُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: ١٠] أَيْ تَحُلُّ بِهِمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يَهْلِكُونَ بِصَعْقَتِهَا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيْحَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهِيَ صَيْحَةُ صَائِحِينَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يُصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً تُنْذِرُ بِحُلُولِ الْقَتْلِ، فَيَكُونَ إِنْذَارًا بِعَذَابِ الدُّنْيَا. ولعلها صَيْحَة الصَّارِخ الَّذِي جَاءَهُمْ بِخَبَرِ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِرَكْبِ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ.
ويَخِصِّمُونَ مِنَ الْخُصُومَةِ وَالْخِصَامِ وَهُوَ الْجِدَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٥]، وَقَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [١٩].
وَأَصْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَوَقَعَ إِبْدَالُ التَّاءِ ضَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْإِدْغَامِ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا، فَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ: فَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَخِصِّمُونَ
الْفِعْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا كَسَبُوهُ مَا هُوَ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادِ كَاعْتِقَادِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِضْمَارِ الْبُغْضِ لِلرَّسُولِ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَحْقَادِ وَالتَّحَاسُدِ فَجَرَى تَأْنِيثُ الْوَصْفِ عَلَى تَغْلِيبِ السَّيِّئَاتِ الْعَمَلِيَّةِ مِثْلَ الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَالْفَوَاحِشِ تَغْلِيبًا لَفْظِيًّا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأُوثِرَ فِعْلُ كَسَبُوا عَلَى فِعْلِ: عَمِلُوا، لِقَطْعِ تَبَرُّمِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِتَسْجِيلِ أَنَّهُمُ اكْتَسَبُوا أَسْبَابَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤] دون: تَعْمَلُونَ.
وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ فَلَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠].
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِذِكْرِهِ تَنْزِيلًا للعقاب منزلَة مستهزء بِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتجْعَل مُتَعَلق يَسْتَهْزِؤُنَ مَحْذُوفًا، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ الْعَذَابَ.
وَتَقْدِيمُ بِهِ على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٩]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: ٤٥] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ مُسَلْسَلٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ لِلْمُنَاسِبَاتِ.
وَتَفْرِيعُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ وَصْفِ بَعْضٍ مِنْ غَرَائِبِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ فَزَعِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَقَدْ كَانُوا يَشْمَئِزُّونَ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَحْدَهُ فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَتَعْكِيسٌ، فَإِنَّهُ تَسَبُّبُ
الصِّفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِصِفَاتِ السُّلُوبِ مُقَدَّمَةً فِي تَرْتِيبِ عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي- عِنْدَنَا-
وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
وَالِاسْتِغْفَارُ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِحُصُولِ أَسْبَابِهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ مَرَاتِبَ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابَهَا، وَهُمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْخَيْرِ وَالْهُدَى يَحْرِصُونَ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَعَلَى اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالطَّاعَاتِ وَيُنَاجُونَ نُفُوسَ النَّاسِ بِدَوَاعِي الْخَيْرِ، وَهِيَ الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ. فَالْمُرَاد ب لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٥] مَنْ عَلَيْهَا يَسْتَحِقُّونَ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غَافِر: ٧] ثُمَّ قَالَ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [٩]. وَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَلْعَنُونَ مَنْ تَحِقُّ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦١]. فَعُمُومُ مَنْ فِي الْأَرْضِ هُنَا مَخْصُوصٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الشورى: ٥] تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: ٥] إِلَى آخِرِهَا لِإِبْطَالِ وَهْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، أَيْ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ. وَصُدِّرَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُفَادِهَا. وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهِيَ:
وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ التَّبَعِيَّةِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ، أَيْ لَا تَخْشَ أَنْ نَسْأَلَكَ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِذْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٧].
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْحَفِيظُ الْوَكِيل بِمَعْنًى كَانَ إِثْبَاتُ كَوْنِ اللَّهِ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَنَفْيُ كَون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِيلًا عَلَيْهِمْ مُفِيدًا قَصْرَ الْكَوْنِ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دون الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ أَحَدِ طُرُقِ الْقَصْرِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ صَرِيحِ الْقَصْرِ وَمَنْطُوقِهِ لَا مِنْ مَفْهُومِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَصْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَمِنْه قَول السموأل:
وَاللَّامُ فِي وَأَصْلِحْ لِي لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ أَصْلَحْ فِي ذُرِّيَّتِي لِأَجْلِي وَمَنْفَعَتِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١]. وَنُكْتَةُ زِيَادَةِ هَذَا فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ تَعَرَّضَ إِلَى نَفَحَاتِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ إِصْلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ وَعَرَّضَ بِأَنَّ إصلاحهم لفائدته، وهذ تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا ابْتَدَأْتَنِي بِنِعْمَتِكَ وَابْتَدَأْتَ وَالِدِيَّ بِنِعْمَتِكَ وَمَتَّعْتَهُمَا بِتَوْفِيقِي إِلَى بِرِّهِمَا، كَمِّلْ إِنْعَامَكَ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِي فَإِنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِي. وَهَذِهِ تَرْقِيَاتٌ بَدِيعَةٌ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ.
وَمَعْنَى ظَرْفِيَّةِ فِي ذُرِّيَّتِي أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الظَّرْفِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مَا هُوَ بِهِ الْإِصْلَاحُ وَيَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْإِصْلَاحِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَتَغَلْغُلَهُ فِيهِمْ. وَنَظِيرُهُ فِي الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: ٢٨].
وَجُمْلَةُ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلَ تَوَسُّلٍ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَبِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَيُغْنِي غِنَاءَ الْفَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تَبِعَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ. وَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَسْلَمْتُ كَمَا قَالَ: تُبْتُ
إِلَيْكَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُوَ التَّجَدُّدُ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَجَدِّدَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ دُفْعَةً فَيَسْتَقِرُّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ، وَفِيهِ الرَّعْيُ عَلَى الْفَاصِلَةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ تَرَاكِيبُهَا وَنَظْمُهَا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَمُّلٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَهْلٍ لِوِصَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَالِدَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِنْ كَانَا مُؤمنين.
[١٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها [الْأَحْقَاف: ١٤]. وَكَوْنُهُ إِشَارَةَ جَمْعٍ وَمُخْبِرَةٌ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ
وَالْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ تَقَدَّمَتْ. وَأَمَّا الْبِرُّ فَهُوَ ضِدُّ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهُوَ يَعُمُّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الدِّينِ.
والتَّقْوى: الِامْتِثَالُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢].
وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَذْكِيرٌ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ. فَالْمَعْنَى: الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون فيجازيكم.
[١٠]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ١٠]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْنِيسٌ لِنُفُوسِهِمْ يُزَالُ بِهِ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ لِمُشَاهَدَةِ نَجْوَى الْمُنَافِقِينَ لِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِ نُفُوسِهِمْ إِذَا رَأَوُا الْمُتَنَاجِينَ فِي عَدِيدِ الظُّنُونِ وَالتَّخَوُّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَتْهُ مُنَاسِبَةُ النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى، عَلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَعْلِيلًا لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّجْوى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لَا مَحَالَةَ. أَيْ نَجْوَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومعصية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ قَصَرَ النَّجْوَى عَلَى الْكَوْنِ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيْ جَائِيَةٌ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ الَّتِي يَتَنَاجَوْنَ فِيهَا مِنْ أَكْبَرِ مَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ بِأَنْ يَفْعَلُوهُ لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يَتَطَرَّقُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ الشَّرِّ بِالنَّجْوَى. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ قَيْدًا فِي الْحَصْرِ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ عِلَلًا أُخْرَى مِثْلَ إِلْقَاءِ الْمُتَنَاجِينَ فِي الضَّلَالَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى إِلْقَاءِ الْفِتْنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الشَّيْطَانِيَّةِ.
وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَصَبُّرُهُمْ عَلَى أَذَى الْمُنَافِقِينَ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً لِيَطْمَئِنَّ الْمُؤْمِنُونَ بِحِفْظِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ضُرِّ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا نَحْو من قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحجر:
٤٢].
فَاعِلُ الْخَسْفِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [العنكبوت: ٣١- ٣٤].
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَخْسِفَ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَنْ إِذَا أُرِيدَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِذا كَانَ مَا صدق مَنْ مَلَكًا وَاحِدًا.
وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ كَأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ بِأَنْ يَخْسِفُوا الْأَرْضَ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ السَّطْحِ مِنْ بَعْضِ الْأَرْضِ بَاطِنًا وَبَاطِنُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ شِدَّةُ الزِّلْزَالِ.
وَفِعْلُ خَسَفَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يَخْسِفُ الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لِذَوَاتِكُمْ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ يَخْسِفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ شَأْنِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ أَنْ، وَالْخَافِضُ الْمَحْذُوفُ حَرْفُ (مِنْ).
وَفُرِّعَ عَلَى الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ أَنْ تَمُورَ الْأَرْضُ تَفْرِيعَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الْخَسْفَ يُحْدِثُ الْمَوْرَ، فَإِذَا خُسِفَتِ الْأَرْضُ فَاجَأَهَا الْمَوْرُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى مَا يُنَاسِبُ جَعْلَ التَّهْدِيدِ بِمَنْزِلَةِ حَادِثٍ وَقَعَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بَعْدَهُ بِالْحَرْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُفَاجَأَةِ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً زَمَنَ الْحَالِ لَا الْاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي «مُغْنِيِ اللَّبِيبِ» فَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: ٢٥]، وَإِذَا أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةَ فِعْلٍ حَصَلَ فِيمَا مَضَى نُزِّلَ كَذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يُونُس: ٢١]، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِحَالَةِ خَسْفٍ حَصَلَ بِجَامِعِ التَّحَقُّقِ كَمَا قَالُوا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فِي سُورَة النُّور [٣٩].
[٢١- ٢٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٣]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ لِ إِنَّ مِنْ
قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧] وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا فِيهِ لِلطَّاغِينَ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِرْصاداً أَيْ مِرْصَادًا فِيهِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمِرْصَادِ مُقْتَرِبٌ مِنْ مَعْنَى الْمِيقَاتِ إِذْ كِلَاهُمَا مُحَدِّدٌ لِجَزَاءِ الطَّاغِينَ.
وَدُخُولُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي خَبَرِ (إِنَّ) يُفِيدُ تَأْكِيدًا عَلَى التَّأْكِيدِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ التَّأْكِيدِ الدَّاخِلُ عَلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الْفَصْلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ | سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ |
وَالتَّعْبِيرُ بِ «الطَّاغِينَ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الطُّغْيَانِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُول: «لكم مئابا».
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ:
١٧] وَمَا لَحِقَ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَطَلُّبَ مَاذَا سَيَكُونُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَهْوَالِ فَأُجِيبُ بِمَضْمُونِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً الْآيَةَ. وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ:
لِلطَّاغِينَ تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهْدِيدٍ إِذِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَعْثِ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِ هَذِهِ الْجُمَلِ.