الْإِدْمَاجُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعَةِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَدَّ فِي الْأَبْوَابِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي مَبْحَثِ الْإِطْنَابِ أَوْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، فَإِنَّ آلِهَتَهُمْ أَنْصَارٌ لَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ادْعُوا نُصَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيزًا لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَادْعُوا مَنْ يَشْهَدُ بِمُمَاثَلَةِ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ لِمَا نَزَّلْنَا، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: ١٥٠] وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (ادْعُوا) أَوْ مِنْ (شُهَدَاءَكُمْ) أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ غَيْرَ دَاعِينَ لِذَلِكَ اللَّهَ أَوْ حَالِ كَوْنِ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ اللَّهِ بِمَعْنَى اجْعَلُوا جَانِبَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ كَالْجَانِبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقَدَ آذَنَّاكُمْ بِذَلِكَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ لِأَنَّ شِدَّةَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ تَكُونُ بِمِقْدَارِ تَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ (دُونِ) بِمَعْنَى أَمَامَ وَبَيْنَ يَدَيْ يَعْنِي ادْعُوَا شُهَدَاءَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ | إِذَا ذَاقَهَا مَنْ ذَاقَهَا يَتَمَطَّقُ (١) |
إِنَّا إِذَا مَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى | وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ |
لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا | نَلَظُّ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ (٢) |
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا | فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ |
_________
(١) يصف الْخمر فِي الصفاء بِأَنَّهَا تريك القذى أمامها من شدَّة مَا تكبر حجمه فِي نظر الْعين وَهِي بَيْنك وَبَين القذى. وَقَوله: يتمطق أَي يُحَرك فَكَّيْهِ وَلسَانه تلذذا بِحسن طعمها. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدته القافية الْمَشْهُورَة.
(٢) لظ بالشَّيْء يلظ وألظ بِهِ يلظ هما بِمَعْنى لزمَه وثابر عَلَيْهِ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنِ اتَّخَذُوا سَكَرًا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ، ثُمَّ إِنِ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ رَحْمَتَهُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ فَجَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ، فَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ آذَنَتْ بِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ وَصْفُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَنْفَعَةِ تَنْبِيهًا لَهُمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ إِلَّا مَحَاسِنَهَا فَيَكُونُ تَهْيِئَةً لَهُمْ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ:
إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَقَدَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ»
أَيِ ابْتَدَأَ يُهَيِّئُ تَحْرِيمَهَا يُقَالُ: تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي كَذَا أَيْ عَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : أَنَّهَا مُمَهِّدَةٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْبَتَاتِ وَلَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةٌ أَيْ مُعَرِّضَةٌ بِالْكَفِّ عَنْ شُرْبِهَا تَنَزُّهًا. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ آيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاء: ٤٣]، وَنسخت آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَنُسِبَ لِابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ
وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَن بن زين بْنِ أَسْلَمَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ هَذِهِ ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُمْ نَازِلَةً بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وَإِذْ كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهَا وُضِعَتْ هُنَا إِلْحَاقًا بِالْقَضَايَا الَّتِي حَكَى سُؤَالَهُمْ عَنْهَا. وَأَنَّ مَعْنَى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي تَعَاطِيهِمَا بِشُرْبِ أَحَدِهِمَا وَاللَّعِبِ بِالْآخَرِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ وَصَفَ الْإِثْمَ فِيهَا بِوَصْفٍ كَبِيرٍ فَلَا تَكُونُ آيَةُ سُورَةِ الْعُقُودِ إِلَّا مُؤَكِّدَةً لِلتَّحْرِيمِ وَنَصًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا فِي آيَتِنَا هَذِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ مَا قَدْ يَتَأَوَّلُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ بالعذر فِي شُرْبِهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ نَاسًا شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَصَلَّى رَجُلَانِ فَجَعَلَا يَهْجُرَانِ كَلَامًا لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَشَرِبَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ فَزِعًا وَرَفَعَ شَيْئًا كَانَ
بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَوَّلُ شِعْرٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ، ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَكَلَامَ أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ عَزَّوْهُ عَلَى مَصَائِبِهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةٍ شِعْرِيَّةٍ لَا مَحَالَةَ.
وَيُوسُفُ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ وَيَأْتِي تَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ.
ومُوسَى وَهَارُون وزكرياء تَقَدَّمَتْ تَرَاجِمُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَتَرْجَمَةُ عِيسَى تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَيَحْيَى تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ.
وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْوَهْبُ الَّذِي وَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ وَالْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّتَهُ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَهُ، أَوْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَ نُوحٍ، فَعُلِمَ أَنَّ نُوحًا أَوْ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، فَأَمَّا إِحْسَانُ نُوحٍ فَيَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَأَمَّا إِحْسَانُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ مِنْ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ وَبَذْلِهِ كُلَّ الْوُسْعِ لِإِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْهَدْيِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: هَدَيْنا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، أَيْ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا فَكَانَ جَزَاءُ إِحْسَانِهِمْ أَنْ جَعَلْنَاهُمْ أَنْبِيَاءَ.
وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بَاسِمِ إِيلِيَا، وَيُسَمَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بَاسِمِ إِلْيَاسَ أَوْ (مَارِ إِلْيَاسَ) وَهُوَ إِلْيَاسُ التَّشَبِيُّ (١). وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ فنحَاص بن إلعازر، ابْن هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَيَكُونُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي. كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ فِي
_________
(١) نِسْبَة إِلَى تشبي مَدِينَة الأَرْض الَّتِي أَعْطَيْت لسبط نفتالي كَمَا فِي سفر الْعدَد.
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَي بكفركم ف (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَكَانَ إِذَا جُعِلَ خَبَرُهَا جُمْلَةً مُضَارِعِيَّةً أَفَادَتِ الِاسْتِمْرَارَ وَالْعَادَةَ، كَقَوْلِ عَايِشَةَ، «فَكَانُوا لَا يَقْطَعُونَ السَّارِقَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «الْمُوَطَّأِ» :«كَانُوا يُعْطُونَ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ».
وَعَبَّرَ هُنَا بِ تَكْفُرُونَ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٩] بِ تَكْسِبُونَ لِأَنَّ الْعَذَابَ المتحدث عَنهُ هُنَاكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ. وَالْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ وَمَا يَجُرُّهُ الْإِضْلَالُ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ الرِّئَاسَة.
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ صَدَّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُوجِبَ لِتَعْذِيبِهِمْ، عَقَّبَ بِذكر محاولتهم استيصال الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِ سَبِيلِ اللَّهِ وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، اهْتِمَامًا بِهَا أَيْ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُنْفِقُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِإِعْدَادِ الْعُدَدِ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْفَاقُهُمْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي وَيَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَشْعَرَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِعِلَّةٍ مُلَازِمَةٍ لِنُفُوسِهِمْ وَهِيَ بُغْضُ الْإِسْلَامِ وَصَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْهُ.
وَهَذَا الْإِنْفَاقُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْعِمُونَ جَيْشَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ اللَّحْمَ كُلَّ يَوْمٍ، وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بن نَوْفَل، وطعمية بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَبُو البخْترِي والعاصي بن هَاشم، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُبَيْهُ بْنُ حَجَّاجٍ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ مُنَبِّهٌ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ، كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ جَزَائِرَ. وَهَذَا الْإِنْفَاقُ وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَى، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فِي وَفْرَةِ النَّفَقَاتِ.
وَهُوَ جَمْعٌ بِالْإِضَافَةِ يَجْعَلُهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا مُبَالَغَةً، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ.
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٠]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧] بِتَقْدِيرِ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ، تَفَنُّنًا لِغَرَضِ الموعظة الَّذِي سيقت لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِعَوَاقِبِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّالِحَاتِ، وَبِمَدَاحِضِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُجْبِ وَاحْتِقَارِ الْفَضِيلَةِ وَالِابْتِهَاجِ بِالْأَعْرَاضِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ أَصْحَابَهَا كَمَالًا نَفْسِيًّا. وَكَمَا وُعِظُوا بِآخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا ذُكِّرُوا هُنَا بِالْمَوْعِظَةِ بِأَوَّلِ أَيَّامِهَا وَهُوَ يَوْمُ خَلْقِ آدَمَ، وَهَذَا أَيْضًا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ:
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ الْآيَة [الْكَهْف: ٥٢]، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِبَنِي آدَمَ.
وَلَهَا أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْحَتْ عَلَى الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِجَاهِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَاحْتَقَرُوا فُقَرَاءَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْكَمَالِ الْحَقِّ وَالْغُرُورِ الْبَاطِلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْكَهْف:
٢٨]، فَكَانَ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ نَحْوَ آدَمَ مَثَلٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ أَصْلُ الضَّلَالِ، وَأَنَّ خُسْرَانَ الْخَاسِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آيِلٌ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ فِي الْآخَرِ، وَلَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ عِبْرَةٌ تُخَالِفُ عِبْرَةَ غَيْرِهِ، فَذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (مثلا) إِعْلَام بمبادىء الْأُمُورِ، وَذِكْرُهَا هُنَا تَنْظِيرٌ لِلْحَالِ وَتَوْطِئَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
ذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى، مِنْهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥، ٥٦].
وَذِكْرُ الْأَزْوَاجُ هُنَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعَائِلَاتِ وَالْبُيُوتِ، أَيْ إِلَى مَا مَتَّعْنَاهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُتَعِ فَكُلُّ زَوْجٍ مُمَتَّعٌ بِمُتْعَةٍ فِي زَوْجِهِ مِمَّا يَحْسُنُ فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْ مَحَاسِنِ قَرِينِهِ وَمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْبَنِينَ وَالرِّيَاشِ وَالْمَنَازِلِ وَالْخَدَمِ.
وَمَدُّ الْعَيْنَيْنِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِطَالَةِ النَّظَرِ لِلتَّعْجِيبِ لَا لِلْإِعْجَابِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِمَدِّ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُشْتَهًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَالزَّهْرَةُ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-: وَاحِدَةُ الزَّهْرِ، وَهُوَ نَوْرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَتُسْتَعَارُ لِلزِّينَةِ الْمُعْجِبَةِ الْمُبْهِتَةِ، لِأَنَّ مَنْظَرَ الزَّهْرَةِ يُزَيِّنُ النَّبَاتَ وَيُعْجِبُ النَّاظِرَ، فَزَهْرَةُ الْحَيَاةِ: زِينَةُ الْحَيَاةِ، أَيْ زِينَةُ أُمُورِ الْحَيَاةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها [الْقَصَص: ٦٠].
وَانْتُصِبَ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَهْرَةَ- بِسُكُونِ الْهَاءِ-. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- وَهِيَ لُغَةٌ.
لِنَفْتِنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَتَّعْنا. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ لِيَحْصُلَ فِتْنَتُهُمْ فِي خِلَالِهِ، فَفِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَتَاعِ فِتْنَةٌ مُنَاسِبَةٌ لَهُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٦٨].
وَالْمَثَلُ: شَاعَ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا
فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ١٧]، فَالتَّشْبِيهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضمني خفيّ ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. فَشُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَفِي مَكَّةَ بِالْخُصُوصِ بِعُظَمَاءَ، أَيْ عِنْدَ عَابِدِيهَا. وَشُبِّهَتْ هَيْئَتُهَا فِي الْعَجْزِ بِهَيْئَةِ نَاسٍ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ خَلْقُ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الذُّبَابُ، بَلْهَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ دَلَّ إِسْنَادُ نَفْيِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ عَلَى تَشْبِيهِهِمْ بِذَوِي الْإِرَادَةِ لِأَنَّ نفي الْخلق يَقْتَضِي مُحَاوَلَةِ إِيجَادِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: ٢١]. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الذُّبَابَ سَلَبَهُمْ شَيْئًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَخْذَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ عَدَمِ تَحَرُّكِهِمْ، فَكَمَا عَجَزَتْ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْخَلْقِ وَعَنْ دَفْعِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهَا فَكَيْفَ تُوسَمُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِذِكْرِ لَوَازِمِ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً إِلَى آخِرِهِ، لَا جَرَمَ حَصَلَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْأَصْنَامِ فِي عَجْزِهَا بِمَا دُونَ هَيْئَةِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَانَتْ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً.
وَفَسَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَثَلَ هُنَا بِالصِّفَةِ الغريبة تَشْبِيها لما بِبَعْضِ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا اسْتِعْمَالَ يُعَضِّدُهُ اقْتِصَادًا مِنْهُ فِي الْغَوْصِ عَنِ الْمَعْنَى لَا ضَعْفًا عَنِ اسْتِخْرَاجِ حَقِيقَةِ الْمَثَلِ فِيهَا وَهُوَ جذيعها الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ وَلَكِنْ أَحْسَبُهُ صَادَفَ مِنْهُ وَقْتَ سُرْعَةٍ فِي التَّفْسِيرِ أَوْ شُغْلًا بِأَمْرٍ خَطِيرٍ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْأَخِيرِ.
وَفُرِّعَ عَلَى التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ لِوَعْيِهِ وَتَرَقُّبِ بَيَانِ إِجْمَالِهِ تَوَخِّيًا لِلتَّفَطُّنِ لِمَا يُتْلَى بَعْدُ.
وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ مُوَالَاتَهُمْ. وَالْمَعْنَى لَا نَتَّخِذُ مَنْ يُوَالِينَا دُونَكَ، أَيْ مَنْ يَعْبُدُنَا دُونَكَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ (لَكِن) ناشىء عَن التبري مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُضِلِّينَ لَهُمْ بِتَعْقِيبِهِ بِبَيَانِ سَبَبِ ضَلَالِهِمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَبْرِئَةَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ يَرْفَعُ تَبِعَةَ الضَّلَالِ عَنِ الضَّالِّينَ. وَالْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْرَاكِ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَهُوَ نَسُوا الذِّكْرَ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا فَقَدْ أُدْمِجَ بَيْنَ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَدْخُولِهِ مَا يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ فَظَاعَةَ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَابَلُوا رَحْمَةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ بِالْكُفْرَانِ، فَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَتَّعَ الضَّالِّينَ وَآبَاءَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِسَعَةِ الرَّحْمَةِ، وَفِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُقَابَلَةَ النِّعْمَةِ بِالْكُفْرَانِ غَضَبًا عَلَيْهِمْ.
وَجَعَلَ نِسْيَانَهُمُ الذِّكْرَ غَايَةً لِلتَّمْتِيعِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ أَفْضَى إِلَى الْكُفْرَانِ لِخُبْثِ نُفُوسِهِمْ فَهُوَ كَجَوْدٍ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢].
وَالتَّعَرُّضُ إِلَى تَمْتِيعِ آبَائِهِمْ هُنَا مَعَ أَنَّ نِسْيَانَ الذِّكْرِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَنَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ الْقُرْآنَ، هُوَ زِيَادَةُ تَعْظِيمِ نِعْمَةِ التَّمْتِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا نِعْمَةٌ مُتَأَثِّلَةٌ تَلِيدَةٌ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَدِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِشَنَاعَةِ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ نَسُوا وَضَمِيرَ كانُوا عَائِدَانِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْإِسْلَامِ دُونَ آبَائِهِمْ لِأَنَّ الْآبَاءَ لَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ.
وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضٌ يُشْبِهُ النِّسْيَانَ فِي كَوْنِهِ عَنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤١].
وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يَتَذَكَّرُ بِهِ الْحَقَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَعُمُّ الظُّلْمَ وَغَيْرَهُ. وَأُوثِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ تَشْنِيعِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ بَنَاتِهِمُ الْمَوْءُودَاتِ وَإِلَّا أَنَّ هُنَالِكَ قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَيْها [النَّحْل: ٦١] وَهُنَا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها وَهُوَ تَفَنُّنٌ تَبِعَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا | عبيدك وَاسْتشْهدَ إلهك يَشْهَدِ |
فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً، وَقَدْ قَالَ هُنَالِكَ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النَّحْل: ٦١]، فَمَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ أَخَذَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا، أَيْ عَلِيمًا فِي حَالَيِ التَّأْخِيرِ وَمَجِيءِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً دَلِيلُ جَوَابِ (إِذَا) وَلَيْسَ هُوَ جَوَابَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِقَرْنِهِ بِفَاءِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَهُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ تهديد بِأَنَّهُم إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ دُونَ إِمْهَالٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً هُوَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنْ يُقَالَ: مَاذَا جَنَتِ الدَّوَابُّ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبَ النَّاسُ، وَكَيْفَ يَهْلِكُ كُلُّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالصَّالِحُونَ، فَأُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِعَدْلِهِ. فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٢٩]، فَإِهْلَاكُهَا قَدْ يَكُونُ إِنْذَارًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَأَمَّا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ كَمَا نَجَّى هُودًا وَمَنْ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ إِنْ أَهْلَكَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَ لَهُمْ حُسْنَ الدَّارِ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ».
كَقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٦]، قَالُوا: فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ كُفْرَهُ وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، وَالْتَزَمَ
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ»، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي
يَتَأَتَّيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ كُلَّمَا وَقَعَ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم [٣١].
ولِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَالرَّجَاءُ: تَرَقُّبُ وَتَطَلُّبُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَهَذَا أَشْهَرُ إِطْلَاقَاتِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْأَيَّامُ: جَمْعُ يَوْمٍ، وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْ مُفْرَدُهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ أَحَدٍ أَوْ قَوْمٍ أَوْ قَبِيلَةٍ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ لِمَنْ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ نَصْرٌ وَغَلَبٌ عَلَى مُعَانِدٍ أَوْ مُقَاتِلٍ، وَمِنْهُ أُطْلِقَ عَلَى أَيَّامِ الْقِتَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ: أَيَّامُ الْعَرَبِ، أَيِ الَّتِي كَانَ فِيهَا قِتَالٌ بَيْنَ قَبَائِلَ مِنْهُمْ فَانْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يُقَالُ أَيَّامُ عَبْسٍ، وَأَيَّامُ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءِ، وَأَيَّامُ الْبَسُوسِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَأَيَّامٌ لَنَا غُرٌّ طُوَالٌ | عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا |
مَغْلُوبٌ لِتَضَمُّنِ لَفْظِ أَيَّامَ أَوْ (يَوْمٍ) مَعْنَى الِانْتِصَارِ وَالْغَلَبِ. وَبِذَلِكَ التَّضَمُّنِ كَانَ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ أَيَّامَ أَوْ (يَوْمٍ) وَإِنْ كَانَ جَامِدًا، فَمَعْنَى أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى هَذَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: أَيَّامُ بَنِي فُلَانٍ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَحْمَلِ الرَّجَاءِ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِهِ.
وَمَحْمَلُ أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى مَحْمَلِ أَمْثَالِهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لِلَّذِينِ لَا تَتَرَقَّبُ نُفُوسُهُمْ أَيَّامَ نَصْرِ اللَّهِ، أَيْ نَصْرُ اللَّهِ لَهُمْ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَسْتَنْصِرُونَهُ بَلْ تَوَجُّهُهُمْ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِمْ سُؤَالُ نَصْرِ اللَّهِ أَوْ رَجَاؤُهُ وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلِذَلِكَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هُنَا وَعُرِفُوا بِهَا. وَأُوثِرَ تَعْرِيفُهُمْ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَيَّامَ نَصْرِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ الْإِيمَاءُ بِالْمَوْصُولِ إِلَى وَجْهِ أَمْرِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُوعَدُونَ مِنَ الْوَعْدِ، أَيِ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لُقْمَان: ٣٣] فَوَزْنُهُ تُفْعَلُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ.
وَوَصْفُ لَصادِقٌ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذِ الصَّادِقُ هُوَ الْمُوعَدُ بِهِ عَلَى نَحْوِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الجاثية: ٢١].
وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ. وَالْمُرَادُ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ.
وَمَعْنَى لَواقِعٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ مُرَتَّبًا فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا يُوعَدُونَ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُصُولُ الْمَوْعُودِ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي ذِكْرِ الْجَزَاءِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكِنَايَةِ بِهِ عَنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِنَّما مُتَّصِلَةً وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الرَّسْمِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ لَمْ تَصِيرَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ إِنَّمَا الَّتِي هِيَ لِلْقَصْرِ. وَلَمْ يَكُنِ الرَّسْمُ فِي زَمَنِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ فِي أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ عُثْمَانَ قَدْ بَلَغَ تَمام ضَبطه.
[٧- ٩]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
هَذَا قَسَمٌ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ اضْطِرَابِ أَقْوَالِهِمْ فِي الطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِلَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خَاصٌّ بِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ. وَهَذَا يَعُمُّ إِبْطَالَ أَقْوَالِهِمُ الضَّالَّةِ فَالْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ شَاعِرِينَ بِحَالِهِمُ الْمُقْسَمِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَمُتَهَالِكُونَ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ لِمَا فِي أَقْوَالِهِمْ مِنِ اخْتِلَافٍ وَاضْطِرَابٍ جَاهِلُونَ بِهِ جَهْلًا مُرَكَّبًا وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ إِنْكَارٌ لِلْعِلْمِ الصَّحِيحِ. وَالْقَوْلُ فِي الْقَسَمِ بِ السَّماءِ كَالْقَوْلِ فِي الْقَسَمِ ب الذَّارِياتِ [الذَّارِيَاتِ: ١].
وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْقَسَمِ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فِي وَصْفِ السَّمَاءِ بِأَنَّهَا ذَاتُ حُبُكٍ، أَيْ طَرَائِقَ لِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ: إِنَّ قَوْلَهُمْ مُخْتَلِفٌ طَرَائِقَ قِدَدًا وَلِذَلِكَ وَصَفَ الْمُقْسَمَ بِهِ لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى نَوْعِ جَوَابِ الْقَسَمِ.
رِزْقًا تَعَيَّنَ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يُفِيدُهُ الْكَلَامُ فَقَدَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ: شُكْرَ رِزْقِكُمْ، أَوْ نَحْوَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ اللَّهِ عَلَى رِزْقِهِ إِيَّاكُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَصُوا قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ، وَنَسَبُوا الزَّرْعَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَطَرَ تُمْطِرُهُ النُّجُومُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَنْوَاءِ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَيْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ عَنِ اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْأَنْوَاءِ فِي خَلْقِ الْمَطَرِ، فَمَعْنَى قَوْلِ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَوْبِيخٌ لِلْقَائِلِينَ فِي الْمَطَرِ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ رِزْقًا: هَذَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا اه.
أَشَارَ هَذَا إِلَى مَا
رُوِيَ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ،
وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهَا يَوْمَئِذٍ لَقَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْحَاضِرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَوَقَعَ
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيءُ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: ٧٥] حَتَّى بَلَغَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
فَزَادَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ إِلَخْ.
وَزِيَادَةُ الرَّاوِي مُخْتَلَفٌ فِي قَبُولِهَا بِدُونِ شَرْطٍ أَوْ بِشَرْطِ عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَادَةً وَهِيَ أَقْوَالٌ لِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سِنِّ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَة بِمَكَّة فعل قَوْلَهُ: فَنَزَلَتْ تَأْوِيلٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّاسَ مُطِرُوا فِي مَكَّةَ
وَهَذَا أظهر مَا تؤوّل بِهِ الْآيَةُ.
وَفِي إِفْرَادِ لَفْظِ الْأَرْضِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ جَمْعًا كَمَا أُتِيَ بِلَفْظِ السَّمَاوَاتِ إِيذَانٌ بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مِثْلَهُنَّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَرْضِ بَيَانا للمثل فمصدق مِثْلَهُنَّ هُوَ الْأَرْضِ. وَتَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَهُوَ وَارِدٌ غَيْرُ نَادِرٍ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثِلَةً فِي الْكُرَوِيَّةِ، أَيْ مِثْلَ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ مِثْلَ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ فِي كَوْنِهَا تَسِيرُ حَوْلَ الشَّمْسِ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْمُمَاثَلَةَ فِي عَدَدِ السَّبْعِ وَقَالُوا: إِنِ الْأَرْضَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ مُنْبَسِطَةٍ تَفْرُقُ بَيْنَهَا الْبِحَارُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ سَبْعُ طِبَاقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجُيُولُوجْيَا)، مِنْ إِثْبَاتِ طَبَقَاتٍ أَرْضِيَّةٍ لَكِنَّهَا لَا تَصِلُ إِلَى سَبْعِ طَبَقَاتٍ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» «قِيلَ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعٌ إِلَّا هَذِهِ» اه. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْمُعْلِمِ» عَلَى «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عِنْدَ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. كَانَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ كَتَبَ إِلَيَّ بَعْدَ فِرَاقِي لَهُ: هَلْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ سَبْعًا، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَعَادَ كِتَابَهُ إِلَيَّ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ هَلْ مِثْلَهُنَّ فِي الشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ مِثْلَهُنَّ فِي الْعَدَدِ. وَأَنَّ الْخَبَرَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْقُرْآنُ إِذَا احْتُمِلَ وَالْخَبَرُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُتَمَسَّكُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَأَعَدْتُ
وَالْعِظَامُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَسَدِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذكر لحكاية أَقْوَالهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٩] أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: ١١] فَهُمُ احْتَجُّوا بِاسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْعِظَامِ لِلْإِعَادَةِ بَعْدَ الْبِلَى، عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ إِعَادَةِ اللَّحْمِ وَالْعَصَبِ وَالْفُؤَادِ بِالْأَوْلَى. فَإِثْبَاتُ إِعَادَةِ الْعِظَامِ اقْتَضَى أَنَّ إِعَادَةَ بَقِيَّةِ الْجِسْمِ مُسَاوٍ لِإِعَادَةِ الْعَظْمِ وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِيجَازِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتْ إِعَادَةُ الْخَلْقِ بِجَمْعِ أَجْزَاءِ أَجْسَامِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ ذَرَّاتٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، فَفِعْلُ نَجْمَعَ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ بِخَلْقِ أَجْسَامٍ أُخْرَى عَلَى صُوَرِ الْأَجْسَامِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ خَلْقًا مُسْتَأْنَفًا أَوْ مُبْتَدَأً مِنْ أَعْجَابِ الْأَذْنَابِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِعُلَمَائِنَا. فَفِعْلُ نَجْمَعَ مُسْتَعَارٌ لِلْخَلْقِ الَّذِي هُوَ عَلَى صُورَةِ الْجِسْمِ الَّذِي بَلِيَ. وَمُنَاسَبَةُ اسْتِعَارَتِهِ مُشَاكَلَةُ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي أُرِيدُ إِبْطَالُهَا لِتَجَنُّبِ الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي تَصْوِيرِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ لَا تَرَى فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا إِجْمَالَهَا وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ عِنْدَ الْبَعْثِ.
وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّوَقُّفَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ.
وبَلى حَرْفُ إِبْطَالٍ لِلنَّفْيِ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فَمَعْنَاهُ بَلْ تُجْمَعُ عِظَامُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحْمَلَيْنِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ.
وقادِرِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ بَلى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله:
أَلَّنْ نَجْمَعَ، أَيْ بَلْ نَجْمَعُهَا فِي حَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلى إِبْطَالًا لِلنَّفْيَيْنِ: النَّفْيِ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مِنْ قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ وَالنَّفْيُ الَّذِي فِي مَفْعُولِ يَحْسَبُ، وَهُوَ إِبْطَالٌ بِزَجْرٍ، أَيْ بَلْ لِيَحْسِبْنَا قَادِرِينَ، لِأَن مفَاد أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أَنْ لَا نَقْدِرَ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ فَيَكُونُ قادِرِينَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِيَحْسِبْنَا الْمُقَدَّرِ، وَعَدَلَ فِي مُتَعَلِّقِ قادِرِينَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: قَادِرِينَ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ إِلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ لِأَنَّهُ أَوْفَرُ مَعْنًى وَأَوْفَقُ بِإِرَادَةِ إِجْمَالِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَعَانِي عُدِلَ عَنْ رَفْعِ: قَادِرُونَ، بِتَقْدِيرِ: نَحْنُ قَادِرُونَ، فَلَمْ يُقْرَأْ بِالرَّفْعِ.
عَذَابًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي أَصْنَافِ عَذَابِ الْمُعَذَّبِينَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥] وَالْمُرَادُ فِي شِدَّتِهِ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِبَنِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا عَذَابُ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وأَحَدٌ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ لِاسْتِغْرَاقِ جنس الْإِنْسَان فأحد فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى:
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: ١٩] فَانْحَصَرَ الْأَحَدُ الْمُعَذِّبُ (بِكَسْرِ الذَّالِ) فِي فَرْدٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ ذَالِ يُعَذَّبُ وَفَتْحِ ثَاءِ يُوثَقُ مَبْنِيَّيْنِ لِلنَّائِبِ.
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: «حَدَّثَنِي مَنْ أَقْرَأْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ يُعَذَّبُ وَيُوثَقُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الثَّاءِ»
. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ وَأَقُولُ أَغْنَى عَنْ تَصْحِيحِ إِسْنَادِهِ تَوَاتُرُ الْقِرَاءَةِ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ وَكُلُّهَا مُتَوَاتِرٌ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمُتَحَسِّرُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوَثَقُ أَحَدٌ مِثْلَ وَثَاقِهِ، فَ أَحَدٌ هُنَا بِمَنْزِلَةِ «أَحَدًا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥].
وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ وَهُوَ الرَّبْطُ وَيُجْعَلُ لِلْأَسِيرِ وَالْمَقُودِ إِلَى الْقَتْلِ.
فَيُجْعَلُ لِأَهْلِ النَّارِ وَثَاقٌ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ [غَافِر: ٧١، ٧٢] الْآيَةَ.
وَانْتِصَابُ وَثاقَهُ كَانْتِصَابِ عَذابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِمَعْنى التَّشْبِيه.
[٢٧- ٣٠]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٣٠]
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
لَمَّا اسْتَوْعَبَ مَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِنْذَارِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالْعَكْسِ فَإِن ذَلِك مِمَّا يَزِيدُ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَرَهْبَتَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّرِّ.