وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ أَثْبَتَتْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِثْبَاتًا مُتَوَاتِرًا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِنَبِيِّنَا عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ آحَادٍ وَثَبَتَ مِنْ جَمِيعِهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا وَهُوَ وُقُوعُ أَصْلِ الْإِعْجَازِ بِتَوَاتُرٍ مَعْنَوِيٍّ مِثْلُ كَرَمِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَمْرٍو فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِعْجَازُهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ النَّقْلِيِّ أَدْرَكَ مُعْجِزَتَهُ الْعَرَبُ بِالْحِسِّ، وَأَدْرَكَهَا عَامَّةُ غَيْرِهِمْ بِالنَّقْلِ، وَقَدْ تُدْرِكُهَا الْخَاصَّةُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْحِسِّ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ.
أَمَّا إِدْرَاكُ الْعَرَبِ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهُمْ كذبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناوؤه وَأَعْرَضُوا عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَحَاجَّهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِهِ بِكَلَامٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ دَلِيلَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ لُغَتِهِمْ وَمِنْ كَلِمَاتِهَا وَعَلَى أَسَالِيبِ تَرَاكِيبِهَا، وَأَوْدَعَ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ مَا عَرَفُوا أَمْثَالَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ ثُمَّ حَاكَمَهُمْ إِلَى الْفَصْلِ فِي أَمْرِ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ بِحُكْمٍ سَهْلٍ وَعَدْلٍ، وَهُوَ مُعَارَضَتُهُمْ لِمَا أَتَى بِهِ أَوْ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَهَاتِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْمُعَارَضَةَ فَكَانَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
عَجْزُهُمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحَالُ حَدَّ الْإِطَاقَةِ لِأَذْهَانِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ لَوِ اجْتَمَعَتْ أَذْهَانُهُمْ وَانْقَدَحَتْ قَرَائِحُهُمْ وَتَآمَرُوا وَتَشَاوَرُوا فِي نَوَادِيهِمْ وَبِطَاحِهِمْ وَأَسْوَاقِ مَوْسِمِهِمْ، فَأَبْدَى كُلُّ بَلِيغٍ مَا لَاحَ لَهُ مِنَ النُّكَتِ وَالْخَصَائِصِ لَوَجَدُوا كُلَّ ذَلِكَ قَدْ وَفَتْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِهِ وَأَتَتْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ، ثُمَّ لَوْ لحق بهم لَا حق، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فَأَبْدَى مَا لَمْ يُبْدُوهُ مِنَ النُّكَتِ لَوَجَدَ تِلْكَ الْآيَةَ الَّتِي انْقَدَحَتْ فِيهَا أَفْهَامُ السَّابِقَيْنِ وَأَحْصَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْخَصَائِصِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَاحَ لِهَذَا الْأَخِيرِ وَأَوْفَرَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدْرَكَهُ بُلَغَاءُ الْعَرَبِ بِفِطَرِهِمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ عِلْمًا بِأَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَرَجَاحَةِ الرَّأْيِ بِحَيْثُ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلِافْتِضَاحِ وَلَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِقَاصِ لِذَلِكَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ أَجْدَى بِهِمْ وَاحْتَمَلُوا النِّدَاءَ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السُّكُوتَ يَقْبَلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْأَنَفَةِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْمُعَارَضَةُ الْقَاصِرَةُ عَنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لِبُلُوغِهِ حَدًّا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْبَشَرُ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ كَذَلِكَ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَجْزُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِهَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ
اعْتِدَاءَهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ أَبِيهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ:

فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلَالَةٌ عَقِيلَةُ شَيْخٍ كَالْوَبِيلِ يَلَنْدَدِ
يَقُولُ وَقَدْ تَرَ الْوَظِيفَ وَسَاقَهَا أَلَسْتَ تَرَى أَنْ قَدْ أَتَيْتَ بِمُؤْيِدِ
وَقَالَ أَلَا مَاذَا تَرَوْنَ بِشَارِبٍ شَدِيدٍ عَلَيْنَا بَغْيُهُ مُتَعَمِّدِ
فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمَيْسِرُ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ لِاقْتِنَاءِ اللَّحْمِ لِلشُّرْبِ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ قَرْنُهُ بِالشُّرْبِ، قَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ يَذْكُرُ الْإِبِلَ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
وَذَكَرَ لَبِيدٌ الْخَمْرَ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَيْسِرَ فِي مُعَلَّقَتِهِ فَقَالَ:
أُغْلِي السِّبَاءَ بِكُلِّ أَدْكَنَ عَاتِقِ أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وَفُضَّ خِتَامُهَا
ثُمَّ قَالَ:
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِهَا بِمَغَالِقٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُهَا
وَذَكَرَهُمَا عَنْتَرَةُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَقَالَ يَذْكُرُ مَحَاسِنَ قِرْنِهِ الَّذِي صَرَعَهُ فِي الْحَرْبِ:
رَبِذٍ يَدَاهُ بِالْقِدَاحِ إِذَا شَتَا هَتَّاكِ غَايَاتِ التِّجَارِ مُلَوَّمِ
فَلِأَجْلِ هَذَا قُرِنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْخَمْرِ بِذِكْرِ الْمَيْسِرِ، وَلِأَجْلِهِ اقْتَرَنَا فِي سُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْهُمَا إِنْ كَانَ ثَمَّةَ سُؤَالٌ.
وَالْمَيْسِرُ: اسْمُ جِنْسٍ عَلَى وَزْنِ مَفْعِلٍ مُشْتَقّ من الْيُسْر، وَهُوَ ضِدُّ الْعُسْرِ وَالشِّدَّةِ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِعْسَارِ، كَأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مُرَاعَاةً لِزِنَةِ اسْمِ الْمَكَانِ مِنْ يَسَرَ يَيْسِرُ وَهُوَ مَكَانٌ مَجَازِيٌّ جَعَلُوا ذَلِكَ التَّقَامُرَ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ الَّذِي فِيهِ الْيَسَارُ أَوِ الْيُسْرُ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى رَفَاهَةِ الْعَيْشِ وَإِزَالَةِ صُعُوبَةِ زَمَنِ الْمَحَلِّ وَكَلَبِ الشِّتَاءِ، وَقَالَ صَاحِبُ
«الْكَشَّافِ» : هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَوْعِدِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ مَفْتُوحَ السِّينِ إِذِ الْمَصْدَرُ الَّذِي عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْتُوحَ الْعَيْنِ مَا عَدَا مَا شَذَّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَيْسِرَ فِي الشَّاذِّ، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا هَذَا الِاسْمَ عَلَى وَزْنِ الْمَصْدَرِ الشَّاذِّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ الْآنَ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ.
وَالْمَيْسِرُ: قِمَارٌ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ مِنِ الْقِمَارِ الْقَدِيمِ الْمُتَوَغِّلِ فِي الْقِدَمِ كَانَ لِعَادٍ مِنْ قَبْلُ، وَأَوَّلُ مَنْ وَرَدَ ذِكْرُ لَعِبِ الْمَيْسِرِ عَنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ وَيُقَالُ
، (ذَكَرَهَا الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَيْجُورِيُّ فِي مَبْحَثِ الْإِيمَانِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى «جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ» :
حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ بِأَنْبِيَاءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا
فِي «تِلْكَ حُجَّتُنَا» (١) مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وُهُمُ
إِدْرِيسُ. هُودٌ. شُعَيْبٌ، صَالِحٌ وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ، آدَمُ، بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، لِأَنَّ كَوْنَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتْمًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَتْمِ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهُ كَانَ مُتَأَكِّدًا لِقَوْلِهِ:
عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ. فَلَوْ عَوَّضَهُ بِكُلِّ ذِي التَّعْلِيمِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْحَتْمِ أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَدَمُ إِنْكَارِ كَوْنِ هَؤُلَاءِ أَنْبِيَاءَ بِالتَّعْيِينِ، وَلَكِنْ شَاءَ بَيْنَ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ وَبَيْنَ مَنْعِ إِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ.
فَأَمَّا رِسَالَةُ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ نُبُوءَةِ ذِي الْكِفْلِ فَفِيهَا نَظَرٌ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ مِنَ الصَّابِرِينَ وَالصَّالِحِينَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَنُسِبَ إِلَى الْجُمْهُورِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَبِيءٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا آدَمُ فَإِنَّهُ نَبِيءٌ مُنْذُ كَوْنِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَالَ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: ١٢٢] فَهُوَ قَدْ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مُشَرَّفًاِِِِ
_________
(١) أَرَادَ الْآيَة وَتِلْكَ حُجَّتُنا وَهِي بواو الْعَطف فَلَو قَالَ: وَتلك حجتنا عدّت ثَمَانِيَة مِنْهُم وَعشرا إِلَخ.
لَمَّا يُفَارِقُوا الْكُفْرَ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ يُسْلِمُوا.
وَالسُّنَّةُ الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ وَالسِّيرَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٣٧].
وَمَعْنَى مَضَتْ تَقَدَّمَتْ وَعَرَفَهَا النَّاسُ.
وَهَذَا الْخَبَرُ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ مَا لَقِيَهُ الْأَوَّلُونَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ أَنَّ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ بِمُضِيِّ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْمُخْبَرِينَ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ تَأْكِيدُهُ بِقَدْ إِذِ الْمُرَادُ تَأْكِيدُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ وُقُوعُ قَوْلِهِ: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مُلَازَمَةٌ فِي شَيْءٍ.
وَالْأَوَّلُونَ: السَّابِقُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي حَالَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأُمَمُ الَّتِي سَبَقَتْ وَعَرَفُوا أَخْبَارَهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فَلَقوا عَذَاب الاستيصال مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: ٤٣].
وَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ أَيْضًا السَّابِقُونَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي كُلِّ أُولَئِكَ عِبْرَةٌ لِلْحَاضِرِينَ الْبَاقِينَ، وَتَهْدِيدٌ بِأَنْ يصيروا مصيرهم.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٣٦] الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣٨] فَتَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَعُودُوا فَقَاتِلُوهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاء: ٨]- وَقَوْلِهِ- وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَالْفِتْنَةُ اضْطِرَابُ أَمْرِ النَّاسِ وَمَرَجُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ
بِمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ عَذَابَ النَّار. وَكَذَلِكَ عبر بِ (النَّارِ) فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْمَوْبِقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْبِقَ هُوَ النَّارُ فَهُوَ شَبِيهٌ بِعَطْفِ الْبَيَانِ.
وَالظَّنُّ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِهِ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ رَجَّحُوا أَنَّ تِلْكَ النَّارَ أُعِدَّتْ لِأَجْلِهِمْ فِي حِينِ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِذَلِكَ.
وَالْمُوَاقَعَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْحُصُولُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ وَاقِعُونَ فِيهَا وُقُوعَ
الشَّيْءِ الْحَاصِلِ فِي مَوْقِعٍ يَتَطَلَّبُهُ فَكَأَنَّهُ يَقَعُ هُوَ فِيهِ.
وَالْمَصْرِفُ: مَكَانُ الصَّرْفِ، أَيِ التَّخَلُّصِ وَالْمُجَاوَزَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ، تَقْدِيرُهُ:
وَحَاوَلُوا الِانْقِلَابَ أَوِ الِانْصِرَافَ فَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، أَي مخلصا.
[٥٤]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)
عُطِفَ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ فِيهَا أَمْثَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: ٣٢] وَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٥]. وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ لَهُمْ مَقْنَعٌ وَمَا لَهُمْ مِنْهُ مَدْفَعٌ عَادَ إِلَى التَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ عَوْدًا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ [الْكَهْف: ٢٧] وَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْف: ٢٩] فَأَشَارَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي قَرَعَتْ أسماعهم هدي مِنْ جُمْلَةِ هَدْيِ الْقُرْآنِ الَّذِي تَبَرَّمُوا مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٩] سِوَى أَنَّهُ يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُسْأَلَ لِمَ قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدَ مُتَعَلِّقِي فِعْلِ التَّصْرِيفِ عَلَى الْآخَرِ إِذْ قَدَّمَ هُنَا قَوْلَهُ: فِي هذَا الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِهِ:
لِلنَّاسِ عَكْسَ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ أَهَمُّ

[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٤]

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣]، وَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ حِينَ أَخَّرُوا الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، لِأَنَّ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ضَلَالٌ بَيِّنٌ قَدْ حَجَبَتْ عَنْ إِدْرَاكِ فَسَادِهُ الْعَادَاتُ واشتغال البال بشؤون دِينِ الشِّرْكِ، فَالْإِشْرَاكُ وَحْدُهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يُوقِظُ عُقُولَهُمْ. فَمَجِيءُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ كَافٍ فِي اسْتِدْلَالِ الْعُقُولِ عَلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْأَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِتْيَانَ الرَّسُولِ لَهُمْ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَنْ نَبْذِ الشِّرْكِ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ جَدَلًا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ هُوَ بِآيَةٍ، فَقَدْ بَطَلَ عُذْرُهُمْ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
[الْأَنْعَام: ١٥٦]. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ عَلَى إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ الْخَلْقِ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَوْلَا حَجْبُ الضَّلَالَاتِ وَالْهَوَى، وَأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِإِيقَاظِ
وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ.
وَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الصَّلَوَاتُ. وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إِذْ بِهِمَا إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَتَخْصِيصُ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِبَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْمُولَةِ لِقَوْلِهِ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَتَعَبَّدُوا بِهِ مِثْلُ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أَمْرٌ بِإِسْدَاءِ الْخَيْرِ إِلَى النَّاسِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَسَائِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ وَبَيَّنَتْ مَرَاتِبَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى.
وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَقْرِيبِ الْفَلَاحِ لَهُمْ إِذَا بَلَغُوا بِأَعْمَالِهِمُ الْحَدَّ الْمُوجِبَ لِلْفَلَاحِ فِيمَا حَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الرَّجَاءِ. وَأَمَّا مَا يَسْتَلْزِمُهُ الرَّجَاءُ مِنْ تَرَدُّدِ الرَّاجِي فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ فَذَلِكَ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُحِيلُ الشَّكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا إِلَى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأ» و «المدوّنة»، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ.
وَذَهَبَ جَمْعٌ غَفِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى مَالِكٍ
بِالرِّسَالَةِ فَهُوَ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَالتَّأْكِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ، وَالنُّكَتُ لَا تَتَزَاحَمُ.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (إِنَّ)، أَوْ حَالٌ مِنِ اسْمِ (إِنَّ). وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ:
الْإِيقَاظُ إِلَى عَظَمَةِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]. وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِفَادَةَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ حَالِ دِينِهِ لِيَكُونَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دِينَهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا لَا ضِمْنِيًّا.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْهُدَى الْمُوَصِّلُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلُقُ الَّذِي لَقَّنَهُ اللَّهُ، شُبِّهَ بِطَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ فِي أَنَّهُ مَوْثُوقٌ بِهِ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَ أَنْ يَتَرَدَّدَ السَّائِرُ فِيهِ.
فَالْإِسْلَامُ فِيهِ الْهُدَى فِي الْحَيَاتَيْنِ فَمُتَّبِعُهُ كَالسَّائِرِ فِي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا حَيْرَةَ فِي سَيْرِهِ تَعْتَرِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَكَانَ الْمُرَادَ.
وَالْقُرْآنُ حَاوِي الدِّينِ فَكَانَ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَتَنْكِيرُ صِراطٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى تَعْظِيمه.
[٥- ٦]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ٢] إِذْ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى الْقَسَمُ جَوَابَهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ تَشْرِيفُ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوُسِمَ بِأَنَّهُ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ
الْكَافِرُ خَيْرٌ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَالْمَقْصُودُ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَطَأِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةً لِمُجَرَّدِ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. و (أَمْ) تَقْتَضِي اسْتِفْهَامًا مُقَدَّرًا بَعْدَهَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: دَعْ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ وَانْتَقِلْ بِهِمْ إِلَى هَذَا
السُّؤَالِ: الَّذِي هُوَ قَانِتٌ، وَقَائِمٌ، وَيَحْذَرُ اللَّهَ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ. وَالْمَعْنَى: أَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا هُوَ قَانِتٌ إِلَخْ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا تَتَلَاقَى تِلْكَ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مَعَ صِفَةِ جَعْلِهِ لِلَّهِ أَنْدَادًا.
وَالْقَانِتُ: الْعَابِدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣٨].
وَالْآنَاءُ: جَمْعُ أَنًى مِثْلُ أَمْعَاءٍ وَمَعًى، وَأَقْفَاءٍ وَقَفًى، وَالْأَنَى: السَّاعَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا:
إِنَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ فِي سُورَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٣].
وَانْتَصَبَ آناءَ عَلَى الظَّرْفِ لِ قانِتٌ، وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِقُنُوتِهِمْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ بِاللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَمَحُّضِ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَبْعَدُ عَنْ مُدَاخَلَةِ الرِّيَاءِ وَأَدَلُّ عَلَى إِيثَارِ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْعَى إِلَى طَلَبِ الرَّاحَةِ فَإِذَا آثَرَ الْمَرْءُ الْعِبَادَةَ فِيهِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِحُبِّ التَّقَرُّبِ إِلَى الله قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦]، فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَانِتَ لَا يَخْلُوَ مِنَ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ أَنَاءَ النَّهَارِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً [المزمل: ٧]، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ انْطِبَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: ساجِداً وَقائِماً حَالَانِ مُبَيِّنَانِ لِ قانِتٌ وَمُؤَكِّدَانِ لِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ حَالَانِ، فَالْحَالُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِوَصْفِ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ لِوَصْفِ عَمَلِ قَلْبِهِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَفَلَتَاتِهِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ. وَفِي هَذَا تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَارِيَةِ عَلَى وفْق حَال نبيئهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَال
لِلتَّعْظِيمِ، أَي من شؤون عَظِيمَةٍ، أَيْ شَأْنُ الْأُمَّةِ وَمَا بِهِ قِوَامُ نِظَامِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكْ مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَعْدِهِ شَيْئًا مُهِمًّا مِنْ مَصَالِحِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَضَّحُوهُ وَبَيَّنُوهُ وَحَذَّرُوا مِنَ الِالْتِبَاسِ فِيهِ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ: عَلَّمْنَاهُمْ حُجَجًا وَعُلُومًا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَنِظَامِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدْبِيرِ مُجْتَمَعِهِمْ وَعَلَى سَلَامَةٍ مِنْ مَخَاطِرِ الْخَطَأِ وَالْخَطَلِ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ تَفْرِيعُ إِدْمَاجٍ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْحَالَةِ الَّتِي أُرِيدَ تَنْظِيرُهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَاخْتَلَفُوا وَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، فَحُذِفَ الْمُفَرَّعُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ اخْتَلَفُوا حِينَ لَا مَظَنَّةَ لِلِاخْتِلَافِ إِذْ كَانَ الِاخْتِلَاف بَينهم بعد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ الْمَعْهُودُ بِالذِّكْرِ آنِفًا مِنَ الْكتاب وَالْحكم والنبوءة وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ
لَهُمْ عُذْرٌ فِي الِاخْتِلَافِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: ٢٣]. وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ وَلَا هُدًى لِيَعْلَمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَلْطُوفٌ بِهِ فِي رِسَالَتِهِ.
وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَنْ عَمْدٍ وَمُكَابَرَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَلَيْسَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا الظُّلْمُ هُوَ ظُلْمُ الْحَسَدِ فَإِنَّ الْحَسَدَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، أَيْ فَكَذَلِكَ حَالُ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا اخْتَلَفُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَغْيًا مِنْهُمْ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ بِدَلَالَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَفْظًا وَمَعَانِيَ.
وَانْتَصَبَ بَغْياً إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلُ اخْتَلَفُوا، وَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ أَبْطَلَ النَّفْيَ إِذْ مَا أُرِيدَ إِلَّا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي وَقْتٍ
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ لِأَنَّ اللِّسَانَ أَشَدُّ الْأَعْضَاءِ إِحْسَاسًا.
وَإِضَافَةُ فِتْنَةٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَفِي الْإِضَافَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا بِكُفْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَالْمَعْنَى: ذُوقُوا جَزَاءَ فِتْنَتِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ تَكْذِيبِكُمْ.
وَيَقُومُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا بِتَذْكِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ مِثْلَ مَا فَتَنُوا بِلَالًا وَخَبَّابًا وَعَمَّارًا وَشُمَيْسَةَ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ هَذَا جَزَاءُ فِتْنَتِكُمْ. وَجَعَلَ الْمَذُوقَ فِتْنَتَهُمْ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَنْ فِتْنَتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا نَدَامَةً قَالَ تَعَالَى مُوعِدًا إِيَّاهُمْ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: ١٠].
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْعَمَلِ عَلَى جَزَائِهِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢] أَيْ تَجْعَلُونَ جَزَاءَ رِزْقِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَنكُمْ تكذّبون وحدانية.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي مِثْلِهِ تَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨].
وَمَعْنَى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، أَيْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَسْأَلُونَ تَعْجِيلَهُ وَهُوَ طَلَبٌ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ حَكَاهَا الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْملك: ٢٥].
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَتَعْدِيدِ الْمَجَارِمِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُجْرِمِ: فَعَلْتَ كَذَا،
وَهِيَ مِنْ مقول القَوْل.
الْأَرْوَاحُ مِنَ الْأَجْسَادِ إِذْ لَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ مِنْ تَفْرِيقِ ذَيْنَكِ الْإِلْفَيْنِ لَوْلَا غَرَضٌ سَامٍ، وَهُوَ وَضْعُ كُلِّ رُوحٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ عَالَمِ الْخُلُودِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَ لَفْظُ غَيْرَ مَدِينِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ مَبْعُوثِينَ، أَوْ غَيْرُ مُعَادِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِدَانَةِ نَفْيُ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْثٌ بِلَا جَزَاءٍ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يُدْعَى لِأَنَّهُ عَبَثٌ.
فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ سَوْقِ هَذَا الدَّلِيلِ إِبْطَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الَّذِي هُوَ لِحِكْمَةِ الْجَزَاءِ.
وَمِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُفِيدَ الْإِيمَاءُ إِلَى حِكْمَةِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ الْأَرْوَاحِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ الْمَمْلُوءَةِ بَاطِلًا إِلَى الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْحَقِّ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا أَحْوَالُ الْأَرْوَاحِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ سُلُوكَهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّكُمْ مَدِينُونَ لَمَا انْتَزَعْنَا الْأَرْوَاحَ مِنْ أَجْسَادِهَا بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَاهَا فِيهَا وَلَأَبْقَيْنَاهَا لِأَنَّ الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّ لَيْسَ كَالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِحَاقِّ التَّرْكِيبِ، وَالْآخَرُ بِمُسْتَتْبَعَاتِهِ الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. وَالْغَرَضُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّذِي يُحِيطُ بِأَوْفَرِ مَعَانِيهَا دَلَالَةً وَاقْتِضَاءً وَمُسْتَتْبَعَاتٍ. وَجُعِلَ فِي «الْكَشَّاف» معنى الْآيَةِ يَصُبُّ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَعْتَقِدُهُ الدَّهْرِيُّونَ، أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤]، لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ. وَجُعِلَ مَعْنَى مَدِينِينَ مَمْلُوكِينَ لِلَّهِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «إِنَّهُ أَصَحَّ مَا يُقَالُ فِي مَعْنَى اللَّفْظَةِ هُنَا، وَمَنْ عَبَّرَ بِمُجَازَى أَوْ بِمُحَاسَبٍ، فَذَلِكَ هُنَا قَلِقٌ». وَقُلْتَ: فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْرِيعَهُ عَلَى مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمُ السَّابِقِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْأَنْوَاءِ وَالتَّكْذِيبِ يُفْضِي إِلَى مَذْهَبِ التَّعْطِيلِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّهُ ناء عَن معنى الْآيَةِ لِأَنَّ الدَّهْرِيَّةَ لَا يَنْتَحِلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ بَلْ هِيَ نِحْلَةُ طَوَائِفَ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ وَنَاءٍ عَنْ مُتَعَارَفِ أَلْفَاظِهَا وَعَنْ تَرْتِيب استدلالها.
(١)
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِمَّا يَهْتَمُّ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةُ وَلِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ كَانَ مِنْ عَلَائِقِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا يُوجَدُ مَا يَدْعُو إِلَى أَنْ تُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ الْتِزَامًا بِيَمِينٍ أَوْ بِدُونِ يَمِينٍ أَرَادَ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَاصِدًا بِذَلِكَ تطمين أَزوَاجه اللاء تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ لِفَرْطِ غَيْرَتِهِنَّ، أَيْ لَيْسَتْ غَيْرَتُهُنَّ مِمَّا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا هضم فِيهِ لحقوقهن، وَلَا هِيَ مِنْ إِكْرَامِ إِحْدَاهِنَّ لِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ إِكْرَامِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِكْرَامِ فِي بَعْضِ الْأَيَّام.
وَهَذَا يومىء إِلَى ضَبْطِ مَا يُرَاعَى مِنَ الْغَيْرَةِ وَمَا لَا يُرَاعَى.
وَفِعْلُ تُحَرِّمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: تَجْعَلُ مَا أُحِلَّ لَكَ حَرَامًا، أَيْ تُحَرِّمُهُ عَلَى نَفْسِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمرَان: ٩٣] وَقَرِينَتُهُ قَوْلُهُ هُنَا: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
وَلَيْسَ مَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى كَوْنِهِ حَرَامًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: ٣٢]، وَقَوْلِهِ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما [التَّوْبَة: ٣٧]، فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّصْبِيرِ كَمَا يُقَالُ: وَسِّعْ هَذَا الْبَابَ وَيَأْتِي بِمَعْنَى إِيجَادِ الشَّيْءِ عَلَى حَالَةٍ مِثْلِ مَا يُقَالُ لِلْخَيَّاطِ: وَسِّعْ طَوْقَ الْجُبَّةِ.
وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّكَ غَيَّرْتَ إِبَاحَتَهُ حَرَامًا عَلَى النَّاسِ أَوْ عَلَيْكَ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ «الْكَشَّافِ» : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَحَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ عَرَفَهَا فِي إِحْلَالِهِ إِلَخْ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ تَحْرِيمًا مُتَجَدِّدًا.
فَجُمْلَةُ تَبْتَغِي حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُحَرِّمُ. فَالتَّعْجِيبُ وَاقِعٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمرَان: ١٣٠].
وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ هُوَ أَنَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا
وَالْوَزَرُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ لِلتَّوَقِّي مِنْ إِصَابَةِ مَكْرُوهٍ مِثْلَ الْجِبَالِ وَالْحُصُونِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَّا لَا وَزَرَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا لِمَقَالَةِ الْإِنْسَانِ، أَيْ لَا وَزَرَ لَكَ، فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى الْمَفَرُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ
الْإِنْسَانِ، أَيْ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ وَيُجِيبُ نَفسه بِإِبْطَال طعمه فَيَقُولُ كَلَّا لَا وَزَرَ أَيْ لَا وَزَرَ لِي، وَذَلِكَ بِأَنْ نَظَرَ فِي جِهَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا النَّارَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَيَحْسُنُ أَنْ يُوصَلَ أَيْنَ الْمَفَرُّ بِجُمْلَةِ كَلَّا لَا وَزَرَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
فَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ
، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَإِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِمُلْكِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَفِي إِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ نَاصِرُهُ يَوْمَئِذٍ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَتَهُ.
والْمُسْتَقَرُّ
: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنِ اسْتَقَرَّ، إِذَا قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ إِلَى رَبِّكَ لَا إِلَى مَلْجَأٍ آخَرَ. وَالْمَعْنَى: لَا مَلْجَأَ يَوْمَئِذٍ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مُنْتَهِيًا إِلَى رَبِّكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمرَان: ٢٨].
وَجُمْلَة يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا أَثَارَهُ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُهُمْ وَفِي مَصِيرِهِمْ يُنَبَّأُونَ بِمَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الْإِنْسانُ
الْكَافِرَ جَرْيًا عَلَى سِيَاقِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُنَبَّأُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَمِنْ أَهْلِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ الْآيَة [آل عمرَان: ٣٠]. وَاخْتِلَافُ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَحْمَلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ فُنُونًا مِنَ التَّذْكِيرِ لَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْ مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي حَمْلِهِمْ مَعَانِي الْآيَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الْمَغْزَى عَلَى مَحَامِلَ مُتَمَاثِلَةٍ.
وَالتَّنْوِيهَ بِأَسْلَافِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُكَّانِهَا الَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَوْ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَنِيفِيَّةِ مِثْلِ عَدْنَانَ وَمُضَرَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالتَّخَلُّصَ إِلَى ذَمِّ سِيرَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ الْمُبَالَغِ فِيهِ، وَمَا أَهْمَلُوهُ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ عَلَى الْحَوَاسِّ، وَنِعْمَةِ النُّطْقِ، وَنِعْمَةِ الْفِكْرِ، وَنِعْمَةِ الْإِرْشَادِ فَلَمْ يَشْكُرُوا ذَلِكَ بِالْبَذْلِ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ وَمَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَأَخْلَاقِهِ.
وَوَعِيدَ الْكَافِرِينَ وَبشَارَة الموقنين.
[١- ٤]
[سُورَة الْبَلَد (٩٠) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)
ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقًا لما يرد بعده وَأُطِيلَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ.
وَلَا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: هَلْ حَرْفُ النَّفْيِ مَزِيدٌ أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ «هَذَا» مَعَ بَيَانِهِ بِالْبَلَدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَرِّرَةٌ لَهُمْ وَهُوَ بَلَدُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْل: ٩١]. وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُ الْمُقْسَمِ بِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِهِ.
وَالْبَلَدُ: جَانِبٌ مِنْ مُتَّسَعٍ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةً كَانَتْ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ أَمْ غَامِرَةً كَقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
بَلْ بَلَدٍ مِلْءُ الْفِجَاجِ قَتَمُهْ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ مَجْعُولَةٍ فِيهِ بُيُوتٌ مِنْ بِنَاءٍ وَهُوَ بَلْدَةُ مَكَّةَ


الصفحة التالية
Icon