لَا جَرَمَ أَنَّ أَقْصَى رَغْبَةٍ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ هِيَ إِظْهَارُ تَكْذِيبِهِ انْتِصَارًا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِآلِهَتِهِمْ وَتَظَاهُرًا بِالنَّصْرِ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كُلُّ هَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ مِنْ فُرْسٍ وَرُومٍ وَقِبْطٍ وَأَحْبَاشٍ.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَصَّرَ مَعَهُمْ مَسَافَةَ الْمُجَادَلَةَ وَهَيَّأَ لَهُمْ طَرِيقَ إِلْزَامِهِ بِحَقِّيَّةِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ فَأتَاهُمْ كِتَابًا مُنَزَّلًا نُجُومًا وَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُعَارَضَةِ بِالْإِتْيَانِ بِقِطْعَةٍ قَصِيرَةٍ مِثْلِهِ وَأَنْ يَجْمَعُوا لِذَلِكَ شُهَدَاءَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ نَطَقَ بِذَلِكَ هَذَا الْكِتَابُ، كُلُّ هَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُتَوَاتِرٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَلَا يَخْلُو عَنِ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ أَهْلُ الدِّينِ مِنَ الْأُمَمِ وَإِنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَلَبِ الْمُعَارَضَةِ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْلُومِ لَدَيْنَا فَإِنَّهُ هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي آمَنَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِهِ وَحَفِظُوهُ وَآمَنَ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ أَيْضًا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَلِفُوهُ كَمَا هُوَ الْيَوْمَ شَهِدَتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْيَالُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.
وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدُّونَ الْمَدْعُوُّونَ إِلَى الْمُعَارَضَةِ بِالْمَكَانَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَصَالَةِ الرَّأْيِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَذْهَانِ، وَرُجْحَانِ الْعُقُولِ وَعَدَمِ رَوَاجِ الزَّيْفِ عَلَيْهِمْ، وَبِالْكَفَاءَةِ وَالْمَقْدِرَةِ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ تَوَاتَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْهُمْ بِمَا نُقِلَ مِنْ كَلَامِهِمْ نَظْمًا وَنَثْرًا وَبِمَا
اشْتَهَرَ وَتَوَاتَرَ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ بَيْنِ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ نَوَادِرِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ يَعُوزُهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ لَوْ وَجَدُوهُ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَعَارَفِ لَدَيْهِمْ فَإِنَّ صِحَّةَ أَذْهَانِهِمْ أَدْرَكَتْ أَنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ لَدَيْهِمْ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ دَاعِيهِمْ بِالطَّبْعِ وَحِرْصِهِمْ لَوْ وَجَدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا ثَبَتَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ إِذْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لَأَعْلَنُوهُ وَأَشَاعُوهُ وَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ فَعَدَلُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِاللِّسَانِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُكَافَحَةِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ لَا مَحَالَةَ عِنْدَ أَهْلِ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَيًّا مَا جَعَلْتَ سَبَبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ خُرُوجِ كَلَامِهِ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ أَوْ مِنْ صَرْفِ اللَّهِ أَذْهَانَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ كَانَ بِتَقْدِيرٍ مِنْ خَالِقِ الْقَدَرِ وَمُعْجِزِ الْبَشَرِ.
وَوَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ آخَرَ يُعَرِّفُنَا بِأَنَّ الْعَرَبَ بِحُسْنِ فِطْرَتِهِمْ قَدْ أَدْرَكُوا صِدْقَ الرَّسُولِ وَفَطِنُوا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُعْتَادٍ لِلْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ مَا كَذَّبُوا إِلَّا عِنَادًا أَوْ مُكَابَرَةً وَحِرْصًا عَلَى السِّيَادَةِ وَنُفُورًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ، ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ إِسْلَامُ جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ
وَيَضَعُ الرِّبَابَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ وَرَاءَهُ رَجُلٌ يُسَمَّى الرَّقِيبَ أَوِ الْوَكِيلَ هُوَ الْأَمِينُ عَلَى الْحُرْضَةِ وَعَلَى الْأَيْسَارِ كَيْ لَا يَحْتَالَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَهُوَ الَّذِي يَأْمُرُ الْحُرْضَةَ بِابْتِدَاءِ الْمَيْسِرِ، يَجْلِسُونَ وَالْأَيْسَارُ حَوْلَ الْحُرْضَةِ جِثِيًّا عَلَى رُكَبِهِمْ، قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:

دَفَعْتُ إِلَى الْمُجِيلِ وَقَدْ تَجَاثَوْا عَلَى الرُّكْبَاتِ مَطْلَعَ كُلِّ شَمْسِ
ثُمَّ يَقُولُ الرَّقِيبُ لِلْحُرْضَةِ جَلْجِلِ الْقِدَاحَ أَيْ حَرِّكْهَا فَيُخَضْخِضُهَا فِي الرِّبَابَةِ كَيْ تَخْتَلِطَ ثُمَّ يُفِيضُهَا أَيْ يَدْفَعُهَا إِلَى جِهَةِ مَخْرَجِ الْقِدَاحِ مِنَ الرِّبَابَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى اسْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَيْسَارِ فَيَخْرُجُ قِدْحٌ فَيَتَقَدَّمُ الْوَكِيلُ فَيَأْخُذُهُ وَيَنْظُرُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ دَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ لَهُ قُمْ فَاعْتَزِلْ فَيَقُومُ وَيَعْتَزِلُ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تُعَادُ الْجَلْجَلَةُ، وَقَدِ اغْتَفَرُوا إِذَا خَرَجَ أَوَّلُ الْقِدَاحِ غُفْلًا أَلَّا يُحْسَبَ فِي غُرْمٍ وَلَا فِي غُنْمٍ بَلْ يُرَدُّ إِلَى الرِّبَابَةِ وَتُعَادُ الْإِحَالَةُ وَهَكَذَا وَمَنْ خَرَجَتْ لَهُمُ الْقِدَاحُ الْأَغْفَالُ يَدْفَعُونَ ثَمَنَ الْجَزُورَ.
فَأَمَّا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَصَفَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ الْجَزُورَ يُقَسَّمُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا فَظَاهِرٌ أَنَّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْقِدْحِ الْقَامِرَةِ شَيْئًا مِنْ أَبْدَاءِ الْجَزُورِ لِأَنَّ مَجْمُوعَ مَا عَلَى الْقِدَاحِ الرَّابِحَةِ مِنَ الْعَلَامَاتِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى أهل القداح الخاسرة غُرْمُ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَصَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْجَزُورَ يُقَسَّمُ إِلَى عَشَرَةِ أَبْدَاءٍ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ كُلُّ الْمُتَقَامِرِينَ بِرَابِحٍ، لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ عَشَرَةِ سِهَامٍ مِمَّا رُقِّمَتْ بِهِ الْقِدَاحُ وَحِينَئِذٍ إِذَا نَفِدَتِ الْأَجْزَاءُ انْقَطَعَتِ الْإِفَاضَةُ وَغَرِمَ أَهْلُ السِّهَامِ الْأَغْفَالِ ثَمَنَ الْجَزُورِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ سِهَامٌ ذَاتُ حُظُوظٍ بَعْدَ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا أَبْدَاءَ الْجَزُورِ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْمَيْسِرِ أَكْثَرُ مِنْ جَزُورٍ وَاحِدٍ قَالَ لَبِيدٌ:
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِهَا الْبَيْتَ وَإِذْ لَا غُنْمَ فِي الْمَيْسِرِ إِلَّا مِنَ اللَّحْمِ لَا مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَعَلَّ كُلًّا مِنْ وَصْفَيِ
الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ كَانَ طَرِيقَةً لِلْعَرَبِ فِي الْمَيْسِرِ بِحَسَبِ مَا يَصْطَلِحُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَيْسِرِ، وَإِذَا لَمْ يُجْمَعِ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْمُتَيَاسِرِينَ أَخَذَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سَهْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَكَثُرَ بِذَلِكَ رِبْحُهُ أَوْ غُرْمُهُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا أَهْلُ الْكَرَمِ وَالْيَسَارِ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لخسارة عَظِيمَة، إِذْ لَمْ يَفُزْ قِدْحُهُ، وَيُقَالُ فِي هَذَا الَّذِي يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ مُتَمِّمُ الْأَيْسَارِ قَالَ النَّابِغَةُ:
لِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَاتِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَعْرَاف: ٨٩] وَمِنْ بَيْنِهِمْ أَصْلَا الْأُمَّتَيْنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّةِ.
فَلَمَّا ذَكَرَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَرْدَفَ ذِكْرَهُمَا بِذِكْرِ نَبِيئَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاء هما دَاوُود وَسُلَيْمَانُ مُبْتَدَءًا بِهِمَا عَلَى بَقِيَّةِ ذَرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا نَالَا مَجْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَجْدَ الْآخِرَةِ بِالنُّبُوءَةِ وَمَجْدَ الدُّنْيَا بِالْمُلْكِ. ثُمَّ أَرْدَفَ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ تَمَاثَلَا فِي أَنَّ الضُّرَّ أَصَابَ كِلَيْهِمَا وَأَنَّ انْفِرَاجَ الْكَرْبِ عَنْهُمَا بِصَبْرِهِمَا. وَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ. ثُمَّ بِذِكْرِ رَسُولَيْنِ أَخَوَيْنِ هُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَقَدْ أَصَابَ مُوسَى مِثْلُ مَا أَصَابَ يُوسُفَ مِنَ الْكَيْدِ لَهُ لِقَتْلِهِ وَمِنْ نَجَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَالَتِهِ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ، فَهَؤُلَاءِ السِّتَّةُ شَمِلَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الْأُولَى الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
ثُمَّ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ أَبٍ وَابْنه وهما زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى. فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُمَا رَسُولَانِ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمَا، وَهُمَا عِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي أَنَّهُمَا رُفِعَا إِلَى السَّمَاءِ. فَأَمَّا عِيسَى فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ وَعَلَيْهِ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٥٦، ٥٧]. وَابْتُدِئَ بِعِيسَى عَطْفًا عَلَى يَحْيَى لِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ ابْنَا خَالَةٍ، وَلِأَنَّ عِيسَى رَسُولٌ وَإِلْيَاسَ نَبِيءٌ غَيْرُ رَسُولٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَعَطَفَ الْيَسَعَ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ إِلْيَاسَ وَتِلْمِيذُهُ، وَأَدْمَجَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْيَاسَ إِسْمَاعِيلَ تَنْهِيَةً بِذِكْرِ النَّبِيءِ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهِي نَسَبُ الْعَرَبُ مِنْ ذرّيّة إِبْرَاهِيم. وختوا بِيُونُسَ وَلُوطٍ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ صَغِيرَةٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ:
وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٢].
وَالْمَوْلَى الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ غَيْرِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ وَفِيهِ مَعْنَى النَّصْرِ.
وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَاتِهِ الدَّعْوَةِ فَاللَّهُ مُغْنٍ لَكُمْ عَنْ وَلَائِهِمْ، أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ تَوَلِّيهِمْ فَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يُؤْذِنُ بِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَخَافُوا تَوَلِّيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ يُقَدِّرُ لَكُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ «وَلَئِنْ تَوَلَّيْتَ لَيَعْفِرَنَّكَ اللَّهُ»
وَإِنَّمَا الْخَسَارَةُ عَلَيْهِمْ إِذْ حُرِمُوا السَّلَامَةَ وَالْكَرَامَةَ.
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ جَوَاب الشَّرْط ب فَاعْلَمُوا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، أَيْ لَا تَغْفُلُوا عَنْ ذَلِكَ، كَمَا مَرَّ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: ٢٤].
وَجُمْلَةُ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَعَطَفَ عَلَى نِعْمَ الْمَوْلى قَوْلَهُ: وَنِعْمَ النَّصِيرُ لِمَا فِي الْمَوْلَى مِنْ مَعْنَى النَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَطْفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى قَوْلِهِ: حَسْبُنَا اللَّهُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَإِنَّمَا أُلْجِئْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي اسْمِ التَّفْضِيلِ لِظُهُورِ أَنَّ غَيْرَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَنْوَاعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجَدَلُ. فَالْجَدَلُ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ مِنْ شُعَبِ النُّطْقُ الَّذِي هُوَ فَصْلُ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَجَدَلُهُمْ مَحْمُودٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِلَى قَوْلِهِ: وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: ٣٠]. وَأَمَّا الشَّيَاطِينُ فَهُمْ أَكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ لَمَّا نَبَا الْمَقَامُ عَنْ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا غَيْرَ مُرَادِينَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَدَلِ.
وجَدَلًا تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَالْمَعْنَى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مِنْ جِهَةِ الْجَدَلِ، أَيْ كَثِيرًا جَدَلُهُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَلِيٍّ: «أَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلًا فَقَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ!؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
. يُرِيدُ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَنَّ الْأَوْلَى بِعَلِيٍّ أَنْ يَحْمَدَ إِيقَاظَ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِيَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَأَنْ يُسَرَّ بِمَا فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَلَامٍ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِمَا يُحَبِّذُ اسْتِمْرَارَ نَوْمِهِ، فَذَلِكَ مَحَلُّ تَعَجُّبِ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم مِنْ جَوَابِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّفْضِيلُ فِي الْآيَةِ عَلَى بَابه بِأَن يرد أَنَّ الْإِنْسَانَ أَكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَجُوزُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْجَدَلُ لِأَنَّهُ مَحْمَلٌ لَا يُرَادُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَمَنْ
أَنْبَأَنَا أَنَّ لِلشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ مَقْدِرَةً عَلَى الْجَدَلِ؟.
وَالْجَدَلُ: الْمُنَازَعَةُ بِمُعَاوَضَةِ الْقَوْلِ، أَيْ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُحَاوِلُ بِهِ إِبْطَالَ مَا فِي كَلَامِ الْمُخَاطَبِ مِنْ رَأْيٍ أَوْ عَزْمٍ عَلَيْهِ: بِالْحُجَّةِ أَوْ بِالْإِقْنَاعِ أَوْ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦]، وَقَالَ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة: ١]، وَقَالَ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤]، وَقَالَ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النِّسَاء: ١٠٧]، وَقَالَ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الْأَنْفَال: ٦].
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْذَارِ، وَيُسَمَّى الْمُتَارَكَةَ، أَيْ نَتْرُكُكُمْ وَتَرَبُّصَكُمْ لِأَنَّا
مُؤْمِنُونَ بِسُوءِ مَصِيرِكُمْ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السَّجْدَة: ٣٠]. وَفِي مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التَّوْبَة: ٥٢].
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:
إِنِّي أُتَمِّمُ أَيَسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ مَثْنَى الْأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الْأَدُمَا
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. تَفَعَّلٌ مِنَ الرَّبْصِ، وَهُوَ انْتِظَارُ حُصُولِ حَدَثٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْمُتَارَكَةِ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمِنْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُهْتَدُونَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَقُولُهُ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُتَارَكَةِ إِلَّا الْمُوقِنُ بِأَنَّهُ الْمُحِقُّ. وَفِعْلُ (تَعْلَمُونَ) مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، كَقَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
والسوي: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الصِّرَاطِ الْمُسَوَّى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ.
وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَنْ يَبْقَى مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخَاطَبِينَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ سَوَاءٌ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمُوا مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ،
مَحْمُولٌ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِإِطْلَاقِ الْجِهَادِ عَلَى مَنْعِ دَاعِي النَّفْسِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَمَعْنَى (فِي) التَّعْلِيلُ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ نَصْرِ دِينِهِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلَتِ
امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ»
أَيْ لِأَجْلِ هِرَّةٍ، أَيْ لِعَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِرَّةٍ كَمَا بَيِّنَهُ بِقَوْلِهِ: «حَبَسَتْهَا لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا»
. وَانْتَصَبَ حَقَّ جِهادِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ، وَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَأَصْلُهُ: جِهَادَهُ الْحَقَّ، وَإِضَافَةُ جِهَادٍ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ حَقَّ الْجِهَادِ لِأَجْلِهِ، وَقَرِينَةُ الْمُرَادِ تَقَدُّمُ حَرْفِ (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: ١٠٢].
وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْخَالِصِ، أَيِ الْجِهَادُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ تَقْصِيرٌ.
وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْجِهَادِ، وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ جَاءَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِأَنَّ السُّورَةَ بَعْضَهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ وَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الْحَج: ٦٠]، فَهَذَا الْآنَ أَمْرٌ بِالْأَخْذِ فِي وَسَائِلِ النَّصْرِ، فَالْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بِدْرٍ لَا مَحَالَةَ.
تَضَمَّنَتْهُ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] الْآيَةَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمِيعًا كَانُوا عَلَى حَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ لِيُسْرِعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مُرْتَبِكُونَ.
وَالْقَوْمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ: إِمَّا الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَضَتْ قُرُونٌ لَمْ يَأْتِهِمْ فِيهَا نَذِيرٌ، وَمَضَى آبَاؤُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَذِيرًا، وَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ عَدُّ آبَائِهِمْ مِنْ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى فِي عَمُودِ نَسَبِهِمُ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ جِذْمًا وَهُوَ عَدْنَانُ، لِأَنَّهُ جِذْمُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ بِعْثَتِهِ دَعْوَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ وَأَنْ تَتَأَصَّلَ مِنْهُمْ جَامِعَةُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ وَأَعْوَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ يَثْرِبَ وَهُمْ قَحْطَانِيُّونَ فَكَانُوا أَنْصَارًا ثُمَّ تَتَابَعَ إِيمَانُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَهُمْ غافِلُونَ أَيْ فَتَسَبَّبَ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْغَفْلَةِ وَصْفًّا ثَابِتًا، أَيْ فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا تَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ فَهُمْ فِي جَهَالَةٍ وَغَوَايَةٍ إِذْ تَرَاكَمَتِ الضَّلَالَاتُ فِيهِمْ عَامًا فَعَامًا وَجِيلًا فَجِيلًا.
فَهَذِهِ الْحَالَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنْ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مَنْ آمَنَ بَعْدُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَالْغَفْلَةُ: صَرِيحُهُا الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَحِقُّ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
يَقُولُ أُنَاسٌ يَجْهَلُونَ خَلِيقَتِي لَعَلَّ زيادا لَا أَبَاك غافل
[٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَهُمْ، فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لم تَنْفَع
فيهم النِّذَارَةُ، وَقِسْمٌ اتَّبَعُوا الذِّكْرَ وَخَافُوا اللَّهَ فَانْتَفَعُوا بِالنِّذَارَةِ. وَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَبَلَ عَلَيْهِ
يَاسر، وَقيل صُهَيْب، وَقِيلَ: أَبُو ذَرٍّ، وَقِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهِيَ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَلَا جَرَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ هُمْ مِنْ أَحَقِّ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّلَةُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ الْمَوْصُولِ فِي الْآيَةِ عَلَى تَعْمِيمِ كُلِّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الصِّلَةِ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ موقعه كموقع قَوْله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر: ٨] أَثَارُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلِمْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْعَالِمَ بِحَقِّ رَبِّهِ لَيْسَ سَوَاءٌ لِلْكَافِرِ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ هُنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَقُولِ وَلِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ يُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ. وَالْمُرَادُ: تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ [النِّسَاء: ٩٥] الْآيَة، فَيعرف المفضّل بالتصريح كَمَا فِي آيَة لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ [النِّسَاء: ٩٥] أَوْ بِالْقَرِينَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إِلَخْ لِظُهُورِ أَنَّ الْعِلْمَ كَمَالٌ وَلِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ
. وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
يُخْبِرُكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُم وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا
وَفِعْلُ يَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ. وَالْمَعْنَى:
الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الَّذِينَ عَلِمُوا شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ اخْتِصَارًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أَي أهل الْعُقُولُ، وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ مُتَرَادِفَانِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهُمْ عَلِمٌ فَهُمْ يُدْرِكُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ
وَالشَّرِيعَةُ: الدِّينُ وَالْمِلَّةُ الْمُتَّبَعَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّرْعِ وَهُوَ: جَعْلُ طَرِيقٍ لِلسَّيْرِ، وَسُمِّيَ النَّهْجُ شَرْعًا تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ. وَسُمِّيَتْ شَرِيعَةُ الْمَاءِ الَّذِي يَرِدُهُ النَّاسُ شَرِيعَةً لِذَلِكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتُعِيرَ اسْمُ الشَّرِيعَةِ لِلطَّرِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَشْبِيهًا بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ قُلْتُ: وَوَجْهُ الشَّبَهِ مَا فِي الْمَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَهِيَ الرَّيُّ وَالتَّطْهِيرُ.
والْأَمْرِ: الشَّأْنُ، وَهُوَ شَأْنُ الدِّينِ وَهُوَ شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢]، فَتَكُونُ مِنَ تَبْعِيضِيِّةٌ وَلَيْسَتْ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: ١٧] لِأَنَّ إِضَافَةَ شَرِيعَةٍ إِلَى الْأَمْرِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْإِيجَازِ مَبْلَغًا عَظِيمًا إِذْ أَفَادَتْ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا لَا يُزَعْزِعُهُ شَيْءٌ عَنِ الدَّأَبِ فِي بَيَانِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ بِاتِّبَاعِهَا بِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعْها أَيْ دُمْ عَلَى اتِّبَاعِهَا، فَالْأَمْرُ لِطَلَبِ الدَّوَامِ مِثْلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء:
١٣٦].
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَاتَّبِعْها وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مُحَسِّنُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعٍ آخَرَ. والَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْوَاؤُهُمْ دِينُ الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣].
وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَالْمَيْلُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ دِينَهُمْ أَعْمَالٌ أَحَبُّوهَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهَا وَلَا اقْتَضَتْهَا الْبَرَاهِينُ.
وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِسْمَاعُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يطمعوا بمصانعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ حِينَ يَرَوْنَ مِنْهُ الْإِغْضَاءَ عَنْ هَفَوَاتِهِمْ وَأَذَاهُمْ وَحِينَ يَسْمَعُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: ١٤]. وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَعَنِ ابْنِ
فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ:
أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»
. وَفِي إِيثَارِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ (رَبُّ) مُضَافٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ مَعْنًى مِنِ
اخْتِصَاصِهِمْ بِالْكَرَامَةِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ مَا آتَاهُمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْمُطَابِقَةُ لِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ عَنْ إِحْسَانِهِمْ كَمَا قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: ١٤]. وَالْمُحْسِنُونَ: فَاعِلُو الْحَسَنَاتِ وَهِيَ الطَّاعَاتُ.
وَفَائِدَةُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ ذلِكَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْإِشَارَةِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُفَادُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذلِكَ، أَيْ قَبْلَ التَّنَعُّمِ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْسِنِينَ، أَيْ عَامِلِينَ الْحَسَنَاتِ كَمَا فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ الْآيَةَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاثِقِينَ بِوَعْدِهِ وَلَمْ يَرَوْهُ.
وَجُمْلَةُ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ هِيَ بَعْضٌ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ.
وَهَذَا كَالْمِثَالِ لِأَعْظَمِ إِحْسَانِهِمْ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ بِبَذْلِ أَشَدِّ مَا يُبْذَلُ عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ شَيْئَانِ.
أَوَّلُهُمَا: رَاحَةُ النَّفْسِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ حَاجَتِهَا إِلَى الرَّاحَةِ وَهُوَ اللَّيْلُ كُلُّهُ وَخَاصَّةً آخِرَهُ، إِذْ يَكُونُ فِيهِ قَائِمُ اللَّيْلِ قَدْ تَعِبَ وَاشْتَدَّ طَلَبُهُ لِلرَّاحَةِ.
وَثَانِيهِمَا: الْمَالُ الَّذِي تَشِحُّ بِهِ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ أَصْلَيْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِ النَّاسِ. وَذَلِكَ جِمَاعُ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ صَلَاحَ النَّفْسِ تَزْكِيَةُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ فَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفس باستجلاب رضى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الِاسْتِغْفَارِ تَزْكِيَةُ الظَّاهِرِ بِالْأَقْوَالِ الطَّيِّبَةِ الْجَالِبَةِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ذُو رُوحٍ، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ فَحَيَاتُهُ أَقَلُّ من الْمَوْت، قَالَ تَعَالَى: لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: ١٣]، أَيْ لِأَنَّهُ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَلَا يَجِدُهُ.
وَالرَّيْحَانُ: شَجَرٌ لِوَرَقَهِ وَقُضْبَانِهِ رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ شَدِيدُ الْخُضْرَةِ كَانَتِ الْأُمَمُ تُزَيِّنُ بِهِ مَجَالِسِ الشَّرَابِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ «وَطَوْرًا يَسْتَبْزِلُ الدنان، وَمرَّة يستنثق الرَّيْحَانَ» وَكَانَتْ مُلُوكُ الْعَرَبِ تَتَّخِذُهُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ [١٢]، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهِ إِيمَاءً إِلَى كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: ٢٣، ٢٤].
وَجُمْلَةُ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ جَوَابُ (أَمَّا) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ. وَفَصَلَ بَيْنَ (مَا) الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى اسْمِ شَرْطٍ وَبَيْنَ فِعْلِ شَرْطٍ وَبَيْنَ الْجَوَابِ بِشَرْطٍ آخَرَ هُوَ إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى عَلَى لُزُومِ الْفَصْلِ بَيْنَ (أَمَّا) وَجَوَابِهَا بِفَاصِلٍ كَرَاهِيَةَ اتِّصَالِ فَاءِ الْجَوَابِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ لَمَّا الْتَزَمُوا حَذْفَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَأَقَامُوا مَقَامَهُ فَاصِلًا كَيْفَ كَانَ.
وَجَوَابُ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ (أَمَّا).
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ.
وَالسَّلَامُ: اسْمٌ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحِيَّةِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْكَلَامُ إِجْمَالٌ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَخَلَاصِهِمْ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَقِيلَ: كَافُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخَبَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّلَامَةَ الْحَاصِلَةَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ تَسُرُّ مَنْ يَبْلُغُهُ أَمْرُهَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ:
يَعُودَ لِشُرْبِ شَيْء عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فِي غَيْرِ يَوْمِ نَوْبَتِهَا أَوْ كَانَ وَعْدٌ أَنْ يُحَرِّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِدُونِ يَمِينٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ يَمِينٍ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَعَدَ لِذَلِكَ تَطْمِينًا لِخَاطِرِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ الْتِزَامٌ لَهُنَّ فَكَانَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْيَمِينِ وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَمْ يَرَهُ مَالِكٌ يَمِينًا وَلَا نَذْرًا فَقَالَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَمَعْنَى
قَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»
أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى مِصْرَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ فَإِنْ حَلَفَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ وَلَا أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» اه.
وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ كفّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ تِلْكَ.
فَالتَّحِلَّةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ هِيَ: جَعْلُ اللَّهِ مُلْتَزِمَ مِثْلِ هَذَا فِي حِلٍّ مِنَ الْتِزَامِ مَا الْتَزَمَهُ. أَيْ مُوجِبٌ التَّحَلُّلَ مِنْ يَمِينِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَيْمَانِ بِالْكَفَّارَاتِ وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَرَ مِنْهُ يَمِينٌ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فَتَحِلَّةُ الْيَمِينِ هِيَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ. وَالْمَوْلَى:
الْوَلِيُّ، وَهُوَ النَّاصِرُ وَمُتَوَلِّي تَدْبِيرِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن الرؤوف وَالْمُيَسِّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥].
وَعُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ فَيَحْمِلُكُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَالرُّشْدِ وَالسَّدَادِ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِيمَا يَشْرَعُهُ، أَيْ يُجْرِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ. وَهِيَ إِعْطَاءُ الْأَفْعَالِ مَا تَقْتَضِيهِ حَقَائِقُهَا دُونَ الْأَوْهَامِ وَالتَّخَيُّلَاتِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ أَنْهَاهَا الْقُرْطُبِيُّ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ فِي بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ الشُّرُوط والنيات فتؤول إِلَى سَبْعَةٍ.
أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُحَرَّمُ زَوْجًا أَوْ غَيْرَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَرَبِيعَةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَقَالَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَتَكُونُ تَعْدِيَةُ بَصِيرَةٌ
بِ عَلى
لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الرَّقِيبِ كَمَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصِيرَةٌ
صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: حُجَّةٌ بَصِيرَةٌ، وَتَكُونُ بَصِيرَةٌ
مَجَازًا فِي كَوْنِهَا بَيِّنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء: ٥٩] وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ.
وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَجْرَى الْمَثَلِ لِإِيجَازِهَا وَوَفْرَةِ مَعَانِيهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَهِيَ حَالَةُ أَجْدَرُ بِثُبُوتِ مَعْنَى عَامِلِهَا عِنْدَ حُصُولِهَا.
لَوْ
هَذِهِ وَصْلِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]. وَالْمَعْنَى: هُوَ بَصِيرَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى فِي حَالِ إِلْقَائِهِ مَعَاذِيرَهُ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُرَادٌ بِهِ الْإِخْبَارُ الصَرِيحُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٦].
وَالْمَعَاذِيرُ: اسْمُ جَمْعِ مَعْذِرَةٍ، وَلَيْسَ جَمْعًا لِأَنَّ مَعْذِرَةً حَقُّهُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى مَعَاذِرَ، وَمِثْلُ الْمَعَاذِيرِ قَوْلُهُمْ: الْمَنَاكِيرُ، اسْمُ جَمْعِ مُنْكَرٍ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنْ مَعَاذِيرَ هُنَا جَمْعُ مِعْذَارٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ السِّتْرُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ يَكُونُ الْإِلْقَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، أَيِ الْإِرْخَاءِ، وَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعَاذِيرِ بِتَشْبِيهِ جَحْدِ الذُّنُوبِ كَذِبًا بِإِلْقَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُرَادِ حَجْبُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ يَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ أَعْمَالَهُ الَّتِي اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا ويحاول أَن يعْتَذر وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُ وَلَوْ أَفْصَحَ عَنْ جَمِيعِ مَعَاذِيرِهِ.
ومَعاذِيرَهُ
: جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. فَمِنْ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ قَوْلُهُمْ:
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ [الْمَائِدَة: ١٩] وَقَوْلُهُمْ: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المعاذير الكاذبة.
الْحَدِيثَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» :
«قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ (أَيْ يَوْمَ الْفَتْحِ) مُحْرِمًا».
وَيُثَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحَامِلِ النَّظَرُ فِي جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِغَيْرِ مُرِيدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : الدَّاخِلُ مَكَّةَ غَيْرَ مُرِيدِ النُّسُكِ، لِحَاجَةٍ تَتَكَرَّرُ كَالْحَطَّابِينَ وَأَصْحَابِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَعَاشِ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ دُخُولُهُمْ غَيْرَ مُحْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا الْإِحْرَامَ لَحِقَتْهُمْ مَشَقَّةٌ. وَإِنْ كَانَ دُخُولُهَا لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ تَرْكُهُ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ قَالَ الْبَاجِيُّ: فَالظَّاهِرُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ وَلَمْ يُفَصِّلْ أَهْلُ
الْمَذْهَبِ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ.
وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِنْ لَمْ يُرِدْ نُسُكًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ خَارِجِ الْمَوَاقِيتِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ مَكَّةَ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَكَرُّرِ الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى سُقُوطِ الْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِ قَاصِدِ النُّسُكِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ مُوَافِقٌ مَذْهَبَ مَالِكٍ.
وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ: أَنَّ مَعْنَى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَنَّهُ حَالٌّ، أَيْ سَاكِنٌ بِهَذَا الْبَلَدِ اهـ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلًا وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ كَذَلِكَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَأَنْتَ حِلٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُقْسِمُ فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْبَلَدِ مُقَيَّدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَلَدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ جَمِيلٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ اسْتِعْمَالِ حِلٌّ بِمَعْنَى: حَالٌّ، أَيْ مُقِيمٌ فِي مَكَانٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ اللُّغَة: «الصِّحَاح» و «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» و «مُفْرَدَات الرَّاغِبِ». وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَلَا أَحْسِبُ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ إِلَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِ بِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ، وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ:
وَالْحِلُّ: صِفَةٌ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْحَالِّ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا عِبْرَة بِمن أَنْكَرَهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ» اهـ وَكَيْفَ يُقَالُ: لَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَهَلِ الْمَرْجِعُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَةِ إلّا كتب أئمتها.


الصفحة التالية
Icon