وَالنَّقْضُ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي فَسْخِ وَحَلِّ مَا رُكِّبَ وَوُصِلَ، بِفِعْلٍ يُعَاكِسُ الْفِعْلَ الَّذِي كَانَ بِهِ التَّرْكِيبُ، وَإِنَّمَا زِدْتُ قَوْلِي بِفِعْلٍ إِلَخْ لِيَخْرُجَ الْقَطْعُ وَالْحَرْقُ فَيُقَالُ نَقَضَ الْحَبْلَ إِذَا حَلَّ مَا كَانَ أَبْرَمَهُ، وَنَقَضَ الْغَزْلَ وَنَقَضَ الْبِنَاءَ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ النَّقْضُ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْطَالِ الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى (عَهْدِ اللَّهِ) وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْقُرْآنِ بُنِيَتْ عَلَى مَا شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَشْبِيهِ الْعَهْدِ وَكُلِّ مَا فِيهِ وَصْلٌ بِالْحَبْلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ التيهَان الْأنْصَارِيّ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَنَحْنُ قَاطِعُوهَا فَنَخْشَى إِنْ أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ» (يُرِيدُ الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ). وَكَانَ الشَّائِعُ فِي الْكَلَامِ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقَطْعِ وَالصَّرْمِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا عَلَى إِبْطَالِ الْعَهْدِ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي
وَقَالَ لبيد:
أَو لم تَكُنْ تَدْرِي نَوَارُ بِأَنَّنِي | وَصَّالُ عَقْدِ حَبَائِلٍ جَذَّامُهَا |
بَلْ مَا تَذَكَّرَ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ | وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَرِمَامُهَا |
فَاقْطَعْ لُبَانَةَ مَنْ تَعَرَّضَ وَصْلُهُ | فَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلَّةٍ صَرَّامُهَا |
وَفِي النَّقْضِ رَمْزٌ إِلَى اسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ لِأَنَّ النَّقْضَ مِنْ رَوَادِفِ الْحَبْلِ فَاجْتَمَعَ هُنَا اسْتِعَارَتَانِ مَكْنِيَّةٌ وَتَصْرِيحِيَّةٌ وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ تَمْثِيلِيَّةٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ مَا يُرْمَزُ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَطْرُوحِ فِي الْمَكْنِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى حَقِيقِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُشَبَّهِ الْمَذْكُورِ فِي صُورَةِ الْمَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَطْرُوحِ مِثْلُ إِثْبَاتُُِ
وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ قَائِلًا: «لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرُبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا حَتَّى تَطْهُرَ» وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَلَا إِلَى تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ بِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الْمَنْعِ مِنْ قِرْبَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَطْهُرَ بِدَلِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَايَةَ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ هِيَ حُصُولُ الطُّهْرِ فَإِنْ حَمَلْنَا الطُّهْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَيَحْصُلَ مِنَ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ اشْتِرَاطُ النَّقَاءِ وَالْغُسْلِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] وَإِنَّ حَمْلَ الطُّهْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) حَصَلَ مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَمِنَ الشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ لَهُ اشْتِرَاطُ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ النَّقَاءِ عَادَةً، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْغُسْلِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فِي مُجْمَلِ الطُّهْرِ الشَّرْعِيِّ هُنَا فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْأَذَى بِالْمَاءِ فَذَلِكَ يُحِلُّ قِرْبَانَهَا وَهَذَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ
الطُّهْرَ الشَّرْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَعَلَى رَفْعُ الْحَدَثِ، وَالْحَائِضُ اتَّصَفَتْ بِالْأَمْرَيْنِ، وَالَّذِي يَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْ قِرْبَانِهَا هُوَ الْأَذَى وَلَا عَلَاقَةَ لِلْقِرْبَانِ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَسْلَ ذَلِكَ الْأَذَى، وَإِنْ كَانَ الطُّهْرَانُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِيَّةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيٌّ هُوَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِأَكْمَلِ أَفْرَادِ هَذَا الِاسْمِ احْتِيَاطًا، أَوْ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى عَمَلِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْمَظْنُونُ بِالْمُسْلِمَاتِ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَتَرَيَّثْنَ فِي الْغُسْلِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُنَّ الصَّلَاةَ فَلَا دَلِيلَ فِي فِعْلِهِنَّ على عدم إِجْزَاء مَا دُونَهُ، وَذهب مُجَاهِد وطاووس وَعِكْرِمَةُ إِلَى أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ وُضُوءٌ كَوُضُوءِ الصَّلَاةِ أَيْ مَعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَهَذَا شَاذٌّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: إِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقْصَى أَمَدِ الْحَيْضِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ جَازَ قِرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ أَيْ مَعَ غَسْلِ الْمَحَلِّ خَاصَّةً، وَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَادَةِ الْمَرْأَةِ دُونَ أَقْصَى الْحَيْضِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا إِلَّا إِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَادَتِهَا لَمْ يَحِلَّ قُرْبَانُهَا وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي احْتِيَاطًا وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا
التَّعْرِيضِ بِشَخْصٍ مِنْ بَابِ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ. وَقَدْ تَوَلَّى السَّائِلُ الْجَوَابَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَابِرَ، عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢].
وَالْمَعْنَى قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى. وَإِذَا كَانَ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلَ كَانَ الْجَوَابُ شَامِلًا لَهُ، أَيِ اللَّهُ عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمَجْهُولِ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى الْمَعْلُومِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ أَوِ الْحَارِثِ النَّهْشَلِيِّ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ:
لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ | وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ |
وَعَطَفَ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا تَنْجَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ فَتَرْكُهُمْ وَخَوْضَهُمْ بَعْدَ التَّبْلِيغِ هُوَ الْأَوْلَى وَلَكِنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ لِتَبْكِيتِهِمْ وَقَطْعِ مَعَاذِيرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فِي خَوْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ذَرْهُمْ. وَجُمْلَةُ يَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي «ذَرْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ [الْأَنْعَام: ٧٠].
وَالْخَوْضُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨]. وَاللَّعِبُ تَقَدَّمَ فِي وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً فِي هَذِه السّورة [٧٠].
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٦٤ إِلَى ٧٠]
قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
قالَ ذلِكَ إِلَخْ.. جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ كَمَا بَيَّنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الْفَتَى مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ الْمُبْتَغَى أَنَّهُ وَسِيلَةُ الْمُبْتَغَى. وَإِنَّمَا الْمُبْتَغَى هُوَ لِقَاءُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُفْقَدُ فِيهِ الْحُوتُ.
وَكُتِبَ نَبْغِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ الْكَاتِبُونَ مُرَاعَاةَ حَالَةِ الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْأَحْسَنَ فِي الْوَقْفِ عَلَى يَاءِ الْمَنْقُوصِ أَنْ يُوقَفَ بِحَذْفِهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ مَحْذُوفَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْعَرَبُ يَمِيلُونَ إِلَى التَّخْفِيفِ. فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِحَذْفِ الْيَاءِ- فِي الْوَقْفِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَالنُّونُ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، أَيْ مَا أَبْغِيهِ أَنَا وَأَنْتَ، وَكِلَاهُمَا يَبْغِي مُلَاقَاةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ.
وَالِارْتِدَادُ: مُطَاوِعُ الرَّدِّ كَأَنَّ رَادًّا رَدَّهُمَا. وَإِنَّمَا رَدَّتْهُمَا إِرَادَتُهُمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى آثَارِ سَيْرِهِمَا، أَيْ رَجَعَا عَلَى طَرِيقِهِمَا الَّذِي أَتَيَا مِنْهُ.
وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنَ الصِّلَةِ فِعْلِيَّةً مَنْفِيَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُمْ سُؤَالُ أَجْرٍ فَضْلًا عَنْ دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ إِثْبَاتِ اهْتِدَائِهِمْ وَدَوَامِهِ بِحَيْثُ لَا يُخْشَى مَنْ يَتَّبِعُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ غَيْرَ مهتد.
وَقَوله: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ قَصَدَ إِشْعَارَهُمْ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْمُرْسَلِينَ وَخَلَعَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَبِصِيغَةِ: مَا لِيَ لَا أَفْعَلُ، الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُورِدَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي ردّ على مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلًا، أَوْ مَلَكَهُ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُورِدُهَا مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الرُّسُل الَّذين جاؤوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ لَا أَعْبُدُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَكُونُ لِي فِي حَالِ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إِذْ جَعَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْوِيَةً لِمَعْنَى التَّعَرُّضِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَهُ بِإِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى نَفْسِهِ لِإِبْرَازِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُدَارِئَهُمْ فَيُسْمِعَهُمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ وَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَرَجَعَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِاسْتِشْعَارِ سُؤَالٍ عَنْ وُقُوعِ الِانْتِفَاعِ بِشَفَاعَةِ تِلْكَ الْآلِهَةِ عِنْدَ الَّذِي فَطَرَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ، أَيْ أُنْكِرُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَيْ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً.
وَالِاتِّخَاذٌ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ، وَالتَّنَاوُلُ يُشْعِرُ بِتَحْصِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، فَالِاتِّخَاذُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ صُنِعَ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا يُجْعَلُ جَعْلًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِلَهِيَّةَ بِالذَّاتِ.
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَأَبِي ذَرِّ الْغِفَارِيِّ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَ قَوْله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الْآيَةَ فِي عُثْمَان وَعبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ أبي وَقاص جاؤوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَسْلَمَ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيمانه فآمنوا.
[١٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لَمَّا أَفَادَ الْحُصْرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى [الزمر: ١٧] وَالْحَصْرَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَا بُشْرَى لَهُمْ وَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ وَلَا أَلْبَابَ لَهُمْ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ، وَكَانَ حَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَحْرُومُونَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ بِالنَّعِيمِ الْخَالدِ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُهُ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مُفِيدٌ التَّنْبِيهَ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَةِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ قُصِدَ إِقْصَاؤُهُمْ عَنِ الْبُشْرَى، وَالْهِدَايَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِعُقُولِهِمْ، بِالْقَصْرِ الْمَصُوغَةِ عَلَيْهِ صِيَغُ الْقَصْرِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ فِي الْخَبَرِ الْمُهْتَمِّ بِهِ بِأَنْ يُؤَكِّدَ مَضْمُونَهُ الثَّابِتَ لِلْخَبَرِ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ لِضِدِّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لِيَتَقَرَّرَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَصْلِهِ وَمَرَّةً بِنَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهُ، لِضِدِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٩]. وَيَكْثُرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْيَان باسم إِشَارَة لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى الْمَوْصُوفِينَ مَرَّتَيْنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ إِثْبَاتُ ضِدِّ حُكْمِهِمْ لِمَنْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ حَالِهِمْ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ الْفَاءِ لِتَفْرِيعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ
خَبَرٌ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ جُثُوَّ الْأُمَّةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجُثُوِّ.
وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ. وَجُمْلَةُ تُدْعى حَالٌ مِنْ كُلَّ أُمَّةٍ فَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ كُلَّ أُمَّةٍ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِقَوْلِهِ تُدْعى أَوْ يَدْعُونَ لِلتَّهْوِيلِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْكِتَابِ بِالْأُمَمِ تَجْثُو ثُمَّ تُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ إِلَى كِتَابِهَا فَتَذْهَبُ إِلَيْهِ
لِلْحِسَابِ، أَيْ يَذْهَبُ أَفْرَادُهَا لِلْحِسَابِ وَلَوْ قِيلَ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا لَأُوهِمَ أَنَّ الْجُثُوَّ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْكِتَابِ يَحْصُلَانِ مَعًا مَعَ مَا فِي إِعَادَةِ الْخَبَرِ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنَ التَّهْوِيلِ.
وَجُمْلَةُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تُدْعى إِلى كِتابِهَا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ، أَيْ يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ عَلَى وَفْقِ أَعْمَالِكُمْ وَجَرْيُهَا عَلَى وَفْقِ مَا يُوَافِقُ كِتَابَ دِينِكُمْ مِنْ أَفْعَالِكُمْ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً وَجُمْلَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الجاثية: ٣٠] الْآيَاتِ.
وَجُمْلَةُ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ، وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَوَقُّعِ سُؤَالِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: مَا هُوَ طَرِيقُ ثُبُوتِ أَعْمَالِهَا. وَالْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى كِتَابِ شَرِيعَةِ الْأُمَّةِ الْمَدْعُوَّةِ، وَإِمَّا إِلَى كُتُبِ أَفْرَادِهَا عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ بِالْجِنْسِ على الوجهتين الْمُتَقَدِّمين.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَنْطِقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ كِتابُنا، فَالْمَعْنَى هَذِهِ كُتُبُنَا تَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.
وَإِضَافَةُ (كِتَابِ) إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أُضِيفَ إِلَى كُلَّ أُمَّةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُلَابَسَةِ، فَالْكِتَابُ يُلَابِسُ الْأُمَّةَ لِأَنَّهُ جُعِلَ لِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَوْ لِأَنَّ مَا كُلِّفُوا بِهِ مُثْبَتٌ فِيهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ. وَإِسْنَادُ النُّطْقِ إِلَى الْكَتَابِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا تَنْطِقُ بِمَا فِي الْكِتَابِ مَلَائِكَةُ الْحِسَابِ، أَوِ اسْتُعِيرَ النُّطْقُ لِلدَّلَالَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: نَطَقَتِ الْحَالُ.
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٧]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ قَرَّرَ خُضُوعَ الْكَائِنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ الْقَدِيرُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ ضَمَائِرُهُمْ وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ فَمُحَاسِبُهُمْ، فَلَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِإِبْلَاغِهِمُ التَّذْكِيرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا لَا يَشُوبُهُ إِشْرَاكٌ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِمَّا كَانَ مَحَلَّ ارْتِيَابِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ [الْحَدِيد: ٨].
فَذَلِكَ وَجْهُ عَطْفِ وَرَسُولِهِ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ مَا ذَكَرَتْ إِلَّا دَلَائِلَ صِفَاتِ اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْخِطَابُ بِ آمِنُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ حَسْبَ مَا رُوِيَ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ وَهُوَ الَّذِي يُلَائِمُ اتِّصَالَ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيد: ٨] إِلَخْ بِهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ: الْإِنْفَاقُ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بَعْدَ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَتَخْصِيصُ الْإِنْفَاقِ بِالذِّكْرِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا فِي اللَّذَّاتِ، وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ، وَمُعَاقَرَةِ الْخَمْرِ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: ٣٤] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا [الْفجْر: ١٧- ٢٠] وَقَوْلِهِ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [التكاثر: ١، ٢] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ- يَعْنِي الْإِنْفَاق بتجهيز جَيش الْعسرَة- قَالَه ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً وَيَكُونُ قَوْلُهُ: آمِنُوا أَمْرًا بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِمَنْ فِي نُفُوسِهِمْ بَقِيَّةُ نِفَاقٍ أَوِ ارْتِيَابٍ، وَأَنَّهُمْ قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٧].
وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَخَاصَّةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧]. وَتَعْدِيَتُهَا بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ لِأَنَّ (تَابَ) أَخُو (ثَابَ).
وَالنَّصُوحُ: ذُو النُّصْحِ.
وَالنُّصْحُ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ وَالْقَوْلُ، أَيِ الصِّدْقُ فِي إِرَادَةِ النَّفْعِ بِذَلِكَ. وَوَصْفُ التَّوْبَةِ بِالنَّصُوحِ مَجَازٌ جُعِلَتِ التَّوْبَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدُ فِيهَا وَلَا تُخَالِطُهَا نِيَّةُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْعَمَلِ الْمَتُوبِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاصِحِ لِغَيْرِهِ فَفِي (نَصُوحٍ) اسْتِعَارَةٌ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَصُوحًا صَاحِبُهَا.
وَإِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْ وَصْفَ (نَصُوحٍ) هَاءُ التَّأْنِيثِ الْمُنَاسِبَةِ لِتَأْنِيثِ الْمَوْصُوفِ بِهِ لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى مَعْنَى الْوَصْفِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ (نَصَحَ) مِثْلَ: الْقُعُودِ مِنْ قَعَدَ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الضَّمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَالْقِرَاءَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ تَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مِمَّا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ مِثْلَ الْمَظَالِمِ لِلْقَادِرِ عَلَى رَدِّهَا.
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجْمَعُ التَّوْبَةَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: النَّدَامَةُ عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِعَادَةُ الْفَرَائِضِ. وَرَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَأَنْ تُذِيبَ نَفْسَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا رَبَّيْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَاتِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي
. وَتَقُومُ مَقَامَ رَدِّ الْمَظَالِمِ اسْتِحْلَالُ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَعْفُوَ عَنْهُ.
وَمِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَمْكِينُ التَّائِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُنَفَّذَ عَلَيْهَا الْحُدُودُ كَالْقَوْدِ وَالضَّرْبِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا التَّمْكِينُ وَاجِبٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا نَدِمَ وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَمْكِينِ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مُتَجَدِّدَةً تَسْتَدْعِي تَوْبَةً.
وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ إِذِ التَّمْكِينُ مِنْ تَنْفِيذِ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً فَلَهَا عُذْرٌ فِي الْإِحْجَامِ عَنِ التَّمْكِينِ مِنْهُ.
وَلَمَّا كَانَ تَكْوِينُهُ عَلَقَةً هُوَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْجِسْمِ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَخَلَقَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ الْعَلَقَةَ يَعْقُبُهَا أَنْ تَصِيرَ مُضْغَةً إِلَى أَنْ يَتِمَّ خَلْقُ الْجَسَدِ وَتُنْفَخَ فِيهِ الرّوح.
وَضمير فَخَلَقَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّكَ [الْقِيَامَة: ٣٠]. وَكَذَلِكَ عُطِفَ فَسَوَّى بِالْفَاءِ.
وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوَاءً، أَيْ مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا قَالَ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة: ٢٩] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الْأَعْلَى: ٢]، أَيْ فَجَعَلَهُ جَسَدًا مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ. وَمَفْعُولُ (خَلَقَ) وَمَفْعُولُ (سَوَّى) مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا، أَيْ فَخَلَقَهُ فَسَوَّاهُ. وَعُقِّبَ ذَلِكَ بِخَلْقِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى زَوْجَيْنِ وَمِنْهُمَا يَكُونُ التَّنَاسُلُ أَيْضًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُمْنَى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِ نُطْفَةً. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ مَنِيٍّ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ خَلْقَ جِسْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدَمٍ وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، أَحَقُّ بِالِاسْتِبْعَادِ مِنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى الْجِسْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْجِسْمُ غَيْرَ نَاقِصٍ أَوْ نَقَصَ بَعْضُهُ أَوْ مُعْظَمُهُ فَهُوَ إِلَى بَثِّ الْحَيَاةِ فِيهِ وَإِعَادَةِ مَا فَنِيَ مِنْ أَجْزَائِهِ أَقَرَبُ مِنْ إِيجَادِ الْجِسْمِ مِنْ عَدَمٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمَنْفِيِّ إِنْكَارَ تَقْرِيرٍ بِالْإِثْبَاتِ وَهَذَا غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ التقريري أَن يَقع عَلَى نَفْيٍ مَا يُرَادُ إِثْبَاتُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ أَرَادَ إِنْكَارًا كِنَايَةً عَنْ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْكَارَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخِتَامِ بِمُحَسِّنِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَإِنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِإِنْكَارِ أَنْ يَحْسَبَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحَالَةَ الْبَعْثِ، وَتَسَلْسَلَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِأَفَانِينَ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّشْرِيطِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِلَى أَنْ أَفْضَى إِلَى اسْتِنْتَاجِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي قُدِّمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: ٣، ٤].
وَتَعْمِيمُ الْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَعْدَ جَرَيَانِ
أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَلَى خُصُوصِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ أَوْ خُصُوصِ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ، يَجْعَلُ جُمْلَةَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى تَذْيِيلًا.
أَعْظَمُ النَّيِّرَاتِ الَّتِي يَصِلُ نُورٌ شَدِيدٌ مِنْهَا لِلْأَرْضِ، وَلِمَا فِي حَالِهَا وَحَالِ أَضْوَائِهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا مَثَلٌ لِظُهُورِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَبَثِّ التَّقْوَى بَعْدَ الْفُجُورِ فَإِنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ تُمَثَّلُ بِالظُّلْمَةِ وَالْإِيمَانَ وَالطَّاعَاتِ تُمَثَّلُ بِالضِّيَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [الْمَائِدَة: ١٦].
وَأُعْقِبَ الْقَسَمُ بِالنَّهَارِ بِالْقَسَمِ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ مُقَابِلُ وَقْتِ النَّهَارِ فَهُوَ وَقْتُ الْإِظْلَامِ.
وَالْغَشْيُ: التَّغْطِيَةُ وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِمُغَطٍّ لِلشَّمْسِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ غَشْيِ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ لِقُرْصِ الشَّمْسِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ الْغُرُوبِ وَهُوَ زَمَنٌ لِذَلِكَ الْغَشْيِ.
فَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَمَنِهِ أَوْ إِلَى مُسَبَّبِهِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ).
وَالْغَاشِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تَكْوِيرُ الْأَرْضِ وَدَوَرَانُهَا تُجَاهَ مَظْهَرِ الشَّمْسِ وَهِيَ الدَّوْرَةُ الْيَوْمِيَّةُ، وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي يَغْشاها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وإِذا فِي قَوْلِهِ: إِذا تَلاها وَقَوْلِهِ: إِذا جَلَّاها وَقَوْلِهِ: إِذا يَغْشاها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَوْنٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْقَمَرِ وَمِنَ النَّهَارِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ مُقْسِمًا بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْظَمِ أَحْوَالِهِ وَأَشَدِّهَا دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَبِنَاءُ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِرَفْعِهَا فَوْقَ الْأَرْضِ بِالْبِنَاءِ. وَالسَّمَاءُ آفَاقُ الْكَوَاكِبِ قَالَ تَعَالَى:
لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٧] وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِاللَّيْلِ بِوَقْتِ تَغْشِيَتِهِ تَذْكِيرًا بِالْعِبْرَةِ بِحُدُوثِ حَالَةِ الظُّلْمَةِ بَعْدَ حَالَةِ النُّورِ.
وَطَحْوُ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا وَتَوْطِئَتُهَا لِلسَّيْرِ وَالْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، يُقَالُ: طَحَا يَطْحُو وَيَطْحِي طَحْوًا وَطَحْيًا وَهُوَ مُرَادِفُ «دَحَا» فِي سُورَة النازعات [٣٠].
و «النَّفس» : ذَاتُ الْإِنْسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: ٢٧] وَتَنْكِيرُ «نَفْسٍ» لِلنَّوْعِيَّةِ أَيْ جِنْسُ النَّفْسِ فَيَعُمُّ كُلَّ نَفْسٍ عُمُومًا بِالْقَرِينَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: ٥].