أَنَّ الْمَوْتَ هُوَ عَدَمُ اتِّصَافِ الْجِسْمِ بِالْحَيَاةِ سَوَاءً كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ قَبْلُ كَمَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي الْعُرْفِ أَمْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْحَيَوَانِ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً مَيِّتٌ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِالْحَيَاةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ:
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ التَّمْهِيدُ وَالتَّقْرِيبُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الْمَوْتُ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ بَعْدَ وُجُودِهَا وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَى حُلُولِ الْحَيَاةِ اسْتِعَارَةٌ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ قَدْ سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ.
وَالْحَيَاةُ ضِدُّ الْمَوْتِ، وَهِيَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجِسْمِ. وَقَدْ تَعَسَّرَ تَعْرِيفُ الْحَيَاةِ أَوْ تَعْرِيفُ دَوَامِهَا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا بِالْحَدِّ، وَأَوْضَحُ تَعَارِيفِهَا بِالرَّسْمِ أَنَّهَا قُوَّةٌ يَنْشَأُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَأَنَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ
وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَدُومُ الدَّوْرَةُ الدَّمَوِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِزَاجِ التَّرْكِيبُ الْخَاصُّ الْمُنَاسِبُ مُنَاسِبَةً تَلِيقُ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَذَلِكَ التَّرْكِيبُ يَحْصُلُ مِنْ تَعَادُلِ قُوًى وَأَجْزَاءٍ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالَةُ الشَّيْءِ الْمُرَكَّبِ مَعَ انْبِثَاثِ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَبِاعْتِدَالِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ يَكُونُ النَّوْعُ مُعْتَدِلًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ بِزِيَادَةِ تَرْكِيبٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ مِنَ الصِّنْفِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ وَيَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الْمِزَاجُ عَلَى النِّظَامِ الْخَاصِّ تَنْبَعِثُ الْحَيَاةُ فِي ذِي الْمِزَاجِ فِي إِبَّانِ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّكْوِينِ
حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
فَأَشَارَ إِلَى حَالَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْمِزَاجُ مِزَاجًا مُنَاسِبًا حَتَّى انْبَعَثَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، ثُمَّ بِدَوَامِ انْتِظَامِ ذَلِكَ الْمِزَاجِ تَدُومُ الْحَيَاةُ وَبِاخْتِلَالِهِ تَزُولُ الْحَيَاةُ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَسَادِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَالِ فِيهِ اخْتِلَالُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ وَهُوَ الدَّمُ إِذَا اخْتَلَتْ دَوْرَتُهُ فَعَرَضَ لَهُ فَسَادٌ، وَبِعُرُوضِ حَالَةِ تَوَقُّفِ عَمَلِ الْمِزَاجِ وَتَعَطُّلِ آثَارِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ شَبِيهًا بِالْمَيِّتِ كَحَالَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَحَالَةِ الْعُضْوِ الْمَفْلُوجِ، فَإِذَا انْقَطَعَ
قِرْبَانِ الْأَزْوَاجِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَكَوْنِ مَضْمُونِ هَذِه الْجُمْلَة تمهيدا لجملة لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٦]، فَوَقَعَ هَذَا التَّمْهِيدُ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، وَجُمْلَةِ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَسُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلَى نَهْيٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَة: ٢٢٢].
وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ امْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُ بِهِ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً اهـ. وَفِيهِ تَكَلُّفٌ وَخُلُوٌّ عَنْ إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ وَهِي وَقَدِّمُوا [الْبَقَرَة: ٢٢٣] وَاتَّقُوا [الْبَقَرَة: ٢٢٣] وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣] اهـ أَيْ فَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِاسْتِحْضَارِ يَوْمِ لِقَائِهِ بَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ التَّقْوَى دَقِيقِ الْمَسْلَكِ شَدِيدِ الْخَفَاءِ وَهُوَ التَّقْوَى بِاحْتِرَامِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ فَإِنَّ التَّقْوَى مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْأَسْمَاءِ كَانَ مُفَادُهَا التَّعَلُّقَ بِمُسَمَّى الِاسْمِ لَا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ اللَّفْظِيَّةَ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى الْمَدْلُولَاتِ إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْأَسْمَاءِ مِثْلُ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، فَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ فِي حُرْمَةِ أَسْمَائِهِ عِنْدَ الْحِنْثِ مَعَ بَيَانِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنِ الْحِنْثِ، أَوْ لِبَيَانِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَعْرِيضِ اسْمِهِ تَعَالَى لِلِاسْتِخْفَافِ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ حَتَّى لَا يُضْطَرَّ إِلَى الْحِنْثِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ، وَبَعْدَ هَذَا التَّوْجِيهِ كُلِّهِ فَهُوَ يَمْنَعُ مِنْهُ أَنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٢٣] مَجِيءَ التَّذْيِيلِ لِلْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ مَانِعٌ مِنِ اعْتِبَارِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ حُكْمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَطُولُ بِهِ التَّذْيِيلُ وَشَأْنُ التَّذْيِيلِ الْإِيجَازُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ: مَعْطُوفٌ عَلَى جملَة قُلْ [الْبَقَرَة: ٢٢٢] بِتَقْدِيرِ قُلْ أَيْ: وَقُلْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أَوْ عَلَى قَوْله: وَقَدِّمُوا [الْبَقَرَة: ٢٢٣] إِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَقَدِّمُوا مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ قُلْ.
وَذَكَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى قَرِيبِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِمُشَارَكَتِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِخَبَرِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ عَلَى أُخْتِهِ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمَانِ وَلَا يَدْخُلَ بَيْتَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَوَاوُ الْعَطْفِ لَا بُدَّ أَنْ تَرْبُطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قبلهَا.
وَتَعْلِيق الْجَعْلِ بِالذَّاتِ هُنَا هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالِاسْمِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ، وَحُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّةِ تُعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمُسَمَّى كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً | وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ |
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْعُمُومَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَوْلُهُمْ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ سُخْرِيَةً كَمَا قَالُوا:
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦]، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى، أَيْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَعَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٥٧].
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.
عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِأَنَّ هَذِهِ وَعِيدٌ بِعِقَابٍ لِأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْقَائِلِينَ «أُوحِيَ إِلَيْنَا» وَالْقَائِلِينَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
فَ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يَشْمَلُ أُولَئِكَ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْخِطَابُ فِي تَرى للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كلّ من تتأتّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مُخَاطَبٌ. ثُمَّ الرُّؤْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ إِذَا كَانَ الْحَالُ الْمَحْكِيُّ
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٧٢]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢)اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَعْرِيضٌ بِاللَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، أَيْ أَتُقِرُّ أَنِّي قُلْتُ إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ مَعِي صَبْرًا.
ومَعِيَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَسْتَطِيعَ، فَاسْتِطَاعَةُ الصَّبْرِ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي صُحْبَتِهِ لِأَنَّهُ يَرَى أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يُدْرِكُ تَأْوِيلَهَا.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْقَوْلِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ أَلَمْ يَقَعْ مِنِّي قَوْلٌ فِيهِ خِطَابُكَ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَة.
[٧٣]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٧٣]
قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
اعْتَذَرَ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ وَكَانَ قَدْ نَسِيَ الْتِزَامَهُ بِمَا غَشِيَ ذِهْنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُنْكِرُهُ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَطُّفِ وَالْتِمَاسِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَاخِذُهُ عَلَى النِّسْيَانِ مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْمُصَاحَبَةِ لِمَا يَنْشَأُ عَنِ النِّسْيَانِ مِنْ خَطَرٍ. فَالْحَزَامَةُ الِاحْتِرَازُ مِنْ
صُحْبَةِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ كَلَامُ مُوسَى عَلَى طَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَلَمْ يُبْنَ عَلَى الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ، كَأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ مَحْقُوقًا بِالْمُؤَاخَذَةِ، فَكَانَ كَلَامًا بَدِيعَ النَّسِيجِ فِي الِاعْتِذَارِ.
وَالْمُؤَاخَذَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْأَخْذِ، وَهِيَ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [النَّحْل: ٦١].
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي.
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ هُدَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ وَانْثَنَى الْكَلَامُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢] إِلَى هُنَا، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزمر: ٢٢، ٢٣] فَمُثِّلَتْ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْوَعْدِ بِنَمَاءِ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، بِحَالَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الزَّرْعِ بِهِ وَاكْتِمَالِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَجْزِئَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا:
فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لِإِحْيَاءِ الْقُلُوبِ، وَإِسْلَاكُ الْمَاءِ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ تَشْبِيهٌ لِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَإِخْرَاجُ الزَّرْعِ الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ اخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ طَيِّبٍ وَغَيْرِهِ، وَنَافِعٍ وَضَارٍّ، وَهِيَاجُ الزَّرْعِ تَشْبِيهٌ لِتَكَاثُرِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالَةِ الْمَمَاتِ وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ. وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٢، ٢٣] إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ تَمْثِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ
فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله ونفعه مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَصَالَةً وَإِدْمَاجًا عَلَى عَكْسِ مَا بَيَّنَّا، فَيَكُونُ عُودًا إِلَى
اتِّخَاذِكُمْ آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ هُزُؤًا، أَيْ مستهزأ بهَا، هُزُواً مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِثْلُ خُلُقٍ.
وَتَغْرِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِيَّاهُمْ سَبَبٌ أَيْضًا لِجَعْلِ النَّارِ مَأْوَاهُمْ. وَالتَّغْرِيرُ: الْإِطْمَاعُ الْبَاطِلُ. وَمَعْنَى تَغْرِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِيَّاهُمْ: أَنَّهُمْ قَاسُوا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى وَتَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي الدُّنْيَا وَغَرَّهُمْ أَيْضًا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ فَخَالُوهُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فَلَمْ يُصِيخُوا إِلَى دَاعِي الرُّشْدِ وَعِظَةِ النُّصْحِ وَأَعْرَضُوا عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْقُرْآنِ الْمُرْشِدِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْبَلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ فَاهْتَدَوْا فَسَلِمُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْكُفْرِ وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمُغَرِّرَاتِ حَاصِلَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَسْنَدَ التَّغْرِيرَ إِلَى الْحَيَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ لِأَسْبَابِ الْغُرُورِ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها بِالْفَاءِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ لِأَنَّ وُقُوعَ كَلِمَةِ (الْيَوْمِ) فِي أَثْنَائِهِ يُعَيِّنُ أَنَّهُ مِنَ الْقِيلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ لَا يُخْرَجُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: لَا تَخْرُجُونَ، بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ مِثْلَ سَابِقِهِ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِفَاتِ. وَيُحَسِّنُهُ هُنَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بَعْدَ تَوْبِيخِهِمْ وَتَأْيِيسِهِمْ وَصَرْفِ بَقِيَّةِ
الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إِلَى مُخَاطَبٍ آخَرَ يُنَبَّأُ بِبَقِيَّةِ أَمْرِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرَجُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ مَنْ يُخْرِجُهُمْ فَلَا يُخْرِجُهُمْ أَحَدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٧] وَقَوْلِهِ:
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: ١١]. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُخْرَجُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْخُرُوجِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الْحَج: ٢٢].
وَالِاسْتِعْتَابُ بِمَعْنَى: الْإِعْتَابِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ.
وَمَعْنَى الْإِعْتَابِ: إِعْطَاءُ الْعُتْبَى وَهِيَ الرِّضَا. وَهُوَ هُنَا مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. أَيْ لَا يَسْتَعْتِبُهُمْ أَحَدٌ، أَيْ وَلَا يَرْضَوْنَ بِمَا يُسْأَلُونَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ
التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ مَا فِي قَول: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣]، أَيْ حَبِيبٌ إِلَيَّ دُونَ مَا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَعَبَّرَ بِ الْحُسْنى لِبَيَانِ أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ دَرَجَةُ الْحُسْنَى لِيَكُونَ لِلِاحْتِرَاسِ مَعْنًى زَائِدٌ
عَلَى التَّأْكِيدِ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ.
وَالْحُسْنَى: لَقَبٌ قُرْآنِيٌّ إِسْلَامِيٌّ يَدُلُّ عَلَى خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: ٢٦].
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ حَالٌ مِنْ مَنْ أَنْفَقَ أَصْلُهُ نَعْتٌ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ تَعْجِيلًا بِهَذَا الْوَصْفِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً دُونَ الضَّمِيرِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: ٣] إِلَخْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى بِنَصْبِ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ بِالضَّمِيرِ الْمَحْذُوف اختصارا. وقرأه ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي الِاشْتِغَالِ مُتَسَاوِيَانِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي تَفَاضُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ فِيمَا فُضِّلُوا فِيهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ ثَابِتٌ لِلَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبِئْسَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ مِنْ عِبَارَاتٍ تُؤْذِنُ بِتَنْقِيصِ مَنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلِ كَلِمَةِ «الطُّلَقَاءِ» وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حَزَازَاتٍ فِي النُّفُوسِ قَبَلِيَّةٍ أَوْ حِزْبِيَّةٍ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: ١١].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَسْبَابَ الْإِنْفَاقِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَعْذَارِهِ، وَيَعْلَمُ أَحْوَالَ الْجِهَادِ وَنَوَايَا الْمُجَاهِدِينَ فَيُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ عَلَى نِيَّة عمله.
عُهِدَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْفَال: ٢٧].
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ يُغْنِيا لِأَنَّ الْمَعْنَى شَيْئًا مِنَ الْغِنَى، وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ أَقَلَّ غِنًى وَأَجْحَفَهُ بَلْهَ الْغِنَى الْمُهِمِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [١٩].
وَزِيَادَةُ مَعَ الدَّاخِلِينَ لإِفَادَة مساواتهما فِي الْعَذَابِ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْكَفَرَةِ الْخَوَنَةِ.
وَذَلِكَ تأييس لَهما مِنْ أَن ينتفعا بِشَيْء مِنْ حُظْوَةِ زَوْجِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: ٢٢].
[١١]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ١١]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)
لَمَّا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: ١٠] أُعْقِبَ بِضَرْبِ مَثَلٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِتَحْصُلَ الْمُقَابَلَةُ فَيَتَّضِحَ مَقْصُودُ الْمَثَلَيْنِ مَعًا، وَجَرَيَا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِتْبَاعِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَجُعِلَ الْمَثَلُ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِحَالِ امْرَأَتَيْنِ لِتَحْصُلَ الْمُقَابَلَةُ لِلْمَثَلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَهَذَا مِنْ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ فِي الْمَثَلَيْنِ.
وَجَاءَ أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ لِلَّذِينَ آمنُوا مثلا لِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ. وَالْمَثَلُ الثَّانِي لِشِّدَّةِ التَّقْوَى.
فَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مثلا لمتانة إِيمَان الْمُؤْمِنِينَ وَمَرْيَمُ مَثَلًا لِلْقَانِتِينَ لِأَن الْمُؤمنِينَ تبرأوا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِمُ الَّذِينَ بَقَوْا عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ.
وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ هَذِهِ هِيَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى وَهُوَ منفط الثَّالِثُ وَلَيْسَتِ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ الَّتِي تَبَنَّتْ مُوسَى حِينَ الْتَقَطَتْهُ مِنَ الْيَمِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ رَعَمْسِيسَ الثَّانِي وَكَانَ بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِدِينٍ قَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى.
وَغَيْرُهُ الْكَفُورُ، وَذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَأَخَرَ سَيِّئًا.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بَاطِلٌ.
وإِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي هَدَيْناهُ، وَهُوَ ضمير الْإِنْسانَ [الْإِنْسَانَ: ٢].
وإِمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ حَرْفٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ (مَا) النَّافِيَةِ. وَقَدْ تَجَرَّدَتْ (إِنْ) بِالتَّرْكِيبِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ كَمَا تَجَرَّدَتْ (مَا) عَنِ النَّفْيِ، فَصَارَ مَجْمُوعُ إِمَّا حَرْفَ تَفْصِيلٍ، وَلَا عَمَلَ لَهَا فِي الِاسْمِ بَعْدَهَا وَلَا تَمْنَعُ الْعَامِلَ الَّذِي قَبْلَهَا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ الَّذِي بَعْدَهَا فَهِيَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ (الْ) حَرْفِ التَّعْرِيفِ. وَقَدَّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِمَّا الثَّانِيَةَ حَرْفَ عَطْفٍ وَهُوَ تَحَكُّمٌ إِذْ جَعَلُوا الثَّانِيَةَ عَاطِفَةً وَهِيَ أُخْتُ الْأُولَى، وَإِنَّمَا الْعَاطِفُ الْوَاوُ وإِمَّا مُقْحَمَةٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَمَعْمُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٌ وَمِنَّةٌ | وَإِمَّا دَمٌ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ |
قَالَ ابْنُ جِنِّي: «أَمَّا مَنْ جَرَّ (إِسَارٍ) فَإِنَّهُ حَذَفَ النُّونَ لِلْإِضَافَةِ وَلَمْ يَعْتَدْ (إِمَّا) فَاصِلًا بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا تَقُولُ: هُمَا إِمَّا غُلَامَا زَيْدٍ وَإِمَّا عَمْرٍو، وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا أَنْ تَقُولَ: هُمَا خُطَّتَا إِسَارٍ وَمِنَّةٍ وَإِمَّا خُطَّتَا دَمٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الرَّفْعُ فَطَرِيقُ الْمَذْهَبِ، وَظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ حَذَفَ النُّونَ لِغَيْرِ الْإِضَافَةِ فَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ» إِلَخْ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْبَيْتَ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ: الْجَرِّ وَالرَّفْعِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ كَلَامُ الْمَرْزُوقِيِّ
وَزَادَ فَقَالَ «وَحَذْفُ النُّونِ إِذَا رُفِعَتْ (إِسَارٌ) اسْتِطَالَةٌ لِلِاسْمِ كَأَنَّهُ اسْتَطَالَ خُطَّتَا بِبَدَلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا إِسَارٌ» إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ فِي حَالِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ أَمْرُهُ بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا بِفَاءِ الْعَطْفِ تَفْرِيعًا عَلَى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ مَكْتُوبٌ بِالْفَاءِ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ... وَمَعْنَى التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَفْرِيعُ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ خَوْفِ اللَّهِ مِنْهُمْ مَعَ قُوَّتِهِمْ لِيَرْتَدِعَ بِهَذَا
الْعِلْمِ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْعَشَرَةِ: وَلا يَخافُ عُقْباها بِوَاوِ الْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ قُرَّائِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ: أَخْرَجَ لَنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حِينَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ وَفِيهِ وَلا يَخافُ بِالْوَاوِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ بِالْوَاوِ وَلَكنهُمْ لم يقرأوا بِذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ رِوَايَتَهُمْ.