وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُطْلَقْ قَطُّ عَلَى غَيْرِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِلَّا مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ:

النَّاسُ أَرْضٌ بِكُلِّ أَرْضٍ وَأَنْتِ مِنْ فَوْقِهِمْ سَمَاءْ
بِخِلَافِ السَّمَاءِ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ مَا عَلَا فَأَظَلَّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ وَالسَّمَاءُ لَا يُتَعَقَّلُ إِلَّا بِكَوْنِهِ شَيْئًا مُرْتَفِعًا. الثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ السَّمَاءَ لَمْ تُطْلَقْ عَلَى الْجِهَةِ الْعُلْيَا حَتَّى يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَرْضِ عَلَى الْجِهَةِ السُّفْلَى بَلْ إِنَّمَا تُطْلَقُ السَّمَاءُ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ لَا عَلَى نَفْسِ الْجِهَةِ.
وَجُمْلَةُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ سِيقَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَكَّ عِنْدِهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ مَا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِذَلِكَ فَسِيقَ لَهُمُ الْخَبَرُ الْمَحْصُورُ لِأَنَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ شُكْرِهِ وَالنَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ كَحَالِ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: ٧٣] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يُثْبِتُونَ لِأَصْنَامِهِمْ قُدْرَةً عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَعَبَدُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَنَسُوا الْخَلْقَ الْمُلْتَصِقَ بِهِمْ وَبِمَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا أَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْبَلَاغَةِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا وَمَا فِي دَاخِلِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَلَقَهُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِنَا بِهَا وَبِمَا فِيهَا فِي مُخْتَلَفِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ إِيجَازًا بَدِيعًا بِإِقْحَامِ قَوْلِهِ: لَكُمْ فَأَغْنَى عَنْ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ إِظْهَارِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِظْهَارِ عَظِيمِ الْمِنَّةِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِظْهَارِ
عَظِيمِ مَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ أُولَئِكَ يَقْتَضِي اقْتِلَاعَ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ كَانَ لِأَجْلِ النَّاسِ وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ وَبَيَانٌ لِثَمَرَتِهِ وَفَائِدَتِهِ فَتُثَارُ عَنْهُ مَسْأَلَةُ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقِهَا بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ اخْتِلَافًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَأَنَّ جَمِيعِهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ وَمَصَالِحَ وَأَنَّ تِلْكَ الْحِكَمَ هِيَ ثَمَرَاتٌ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ حُصُولِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِأَجَلُُُُِ
وَكَانَ قَدْ طَلَّقَ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ وَالصُّلْحَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَلَّا يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا. وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعُرْضَةُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُعَرِّضِ لِفِعْلٍ فِي غَرَضٍ، فَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِأَنْ تَحْلِفُوا بِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنِ الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْأَيْمَانُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهِيَ الْأَقْسَامُ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعُرْضَةٍ، وأَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولُ الْأَيْمَانِ، بِتَقْدِيرِ لَا مَحْذُوفَةٌ بَعْدَ (أَنْ) وَالتَّقْدِيرُ أَلَّا تَبَرُّوا، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: ١٧٦] وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَهَذَا النَّهْي يسلتزم: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ. أَوْ مَعْنَاهُ: لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْحَلِفِ، كَمَا قُلْنَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوا مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِتَكُونُوا أَبْرَارًا أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ، وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، قَالَ مَالِكٌ «بَلَغَنِي أَنَّهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَهْيًا عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْحَلِفِ. تُعَرِّضُ الْحَالِفَ لِلْحِنْثِ. وَكَانَتْ كَثْرَةُ الْأَيْمَانِ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فِي جُمْلَةِ الْعَوَائِدِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَنَعْرِ الْحُمْقِ، فَنَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ تَمَدَّحُوا بِقِلَّةِ الْأَيْمَانِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلُ الْأَلَايِي حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْضَةُ مُسْتَعَارًا لِمَا يَكْثُرُ الْحُلُولُ حَوْلَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ كَالشَّيْءِ الْمُعَرَّضِ لِلْقَاصِدِينَ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُفْهِمُ الْإِذْنَ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ
لَازِمُهُ، وَهُوَ الْوَعْدُ عَلَى الِامْتِثَالِ، عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالْعُذْرُ فِي الْحِنْثِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَعْنًى عَظِيمٍ وَهُوَ أَنَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لِتَعْطِيلِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَصْدِيقِ الشَّهَادَةِ بِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْصِدًا جَلِيلًا يُشْكَرُ عَلَيْهِ الْحَالِفُ الطَّالِبُ لِلْبِرِّ لَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لِقَطْعِ الْخَيْرَاتِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ تَعَارَضَ أَمْرَانِ
إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْفَعُوهُمْ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ لِيَقْبِضُوا أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ بَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَشَكَّلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ فِي أَشْكَالٍ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَسْطُ الْأَيْدِي كِنَايَةً عَنِ الْمَسِّ وَالْإِيلَامِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي
[الْمَائِدَة: ٢٨].
وَجُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الذَّوَاتِ. وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِنْقَاذِ وَالْإِنْجَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْحَالَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ. وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ الْإِخْرَاجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَالُ وَاقِعًا فِي حِينِ دُخُولِهِمُ النَّارَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، فَإِنْ حَمَلَ الْغَمَرَاتِ عَلَى النَّزْعِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْيَوْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَقْتِ، أَيْ وَقْتَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ إِلَخْ اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ، فُصِلَتْ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وتُجْزَوْنَ تُعْطَوْنَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ عِوَضُ الْعَمَلِ وَمَا يُقَابِلُ بِهِ مِنْ أَجْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ. قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦]، وَفِي الْمَثَلِ: الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا صَنَعَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. يُقَالُ: جَزَاهُ يَجْزِيهِ فَهُوَ جَازٍ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى جَزَاءً، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُكَافَأِ عَنْهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٧] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها متؤوّلا عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ البيانيّة. أَي جَزَاء هُوَ سَيِّئَةٌ، وَأَنَّ مَجْرُورَ الْبَاءِ هُوَ السَّيِّئَةُ الْمُجْزَى عَنْهَا، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. وَيُقَالُ: جَازَى بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الرّاغب: وَلم يَجِيء فِي الْقُرْآنِ: جَازَى.
ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمَقْصُودُ: تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّجَوُّزُ فِي مُفْرَدَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ بِأَنْ يُطْلَبَ لِكُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الدُّنْيَا طَوْرٌ يَشْتَبِهُ بِهِ مِنْ أَطْوَارِ النَّبَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا مَثَلٌ لِأَطْوَارِ الْإِنْسَانِ مِنْ طَوْرِ النُّطَفِ إِلَى الشَّبَابِ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ ثُمَّ الْهَلَاكِ، وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ مَعَ إِمْكَانِ تَوْزِيعِ تَشْبِيهِ كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِطَوْرٍ مِنْ أطوار الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاع التمثيلية.
وأولي اَلْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَابِهِمْ فَيَهْتَدُونَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ٩]، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا فَآمَنُوا. وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدِمُوا الْعُقُولَ.
[٢٢]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [الزمر: ٢٠] وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ فُرِّعَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ.
وَ (مَنْ) مُوصِلَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ مِنْ مُخَالَفَةِ حَالِهِ لِحَالِ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ مِثْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: مِثْلُ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّاحِقِ.
وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ اسْتِعَارَةٌ لِقَبُولِ الْعَقْلِ هُدَى الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرْحِ أَنَّهُ: شَقُّ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ مُشَاهِدَةِ بَاطِنِ الْأَسْبَابِ وَتَرْكِيبِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى شَقِّ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَحْتَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَحَيَّرَ وَتَرَدَّدَ فِي أَمْرٍ يَجِدُ فِي نَفسه غما يَتَأَثَّرُ مِنْهُ جِهَازُهُ الْعَصَبِيُّ فَيَظْهَرُ تَأَثُّرُهُ فِي انْضِغَاطِ نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ تُنَفُّسُهُ عَسِيرًا وَيَكْثُرُ تَنَهُّدُهُ وَكَانَ
وَهُوَ مَا فَسَّرَهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ»
، أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى مُضَاعَفَتِهَا مِثْلُ الْحَسَنَات كلهَا.
[١٢]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ١٢]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ وَإِعْطَاءَ الْأَجْرِ يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ تَنْوِيهًا بِمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ثَوَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَمِنْ حِرْمَانٍ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ يَوْمَ لِيَخْتَصَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِذِكْرِ مَا هُوَ من شؤونه فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِسَبَبِ هَذَا التَّعَلُّقِ، عَلَى أَنَّهُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ يَصِحُّ جَعْلُهُ ظَرْفًا مُتَعَلقا ب فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: ١١] عَلَى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ لِذِكْرِ مَا يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ لِأَهْلِهَا وَمِنَ الشَّرِّ لِأَهْلِهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَجْرِ الْمُنْفِقِينَ فَعَقَّبَ
بِبَيَانِ بَعْضِ مَزَايَا الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِسَبَبِ التَّعَلُّقِ.
وَالْخِطَابُ فِي تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَكُونَ عَلَى مِنْوَالِ الْمُخَاطَبَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ يَوْمُ يَرَى الرَّائِي، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، ويَوْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فَتْحَةَ إِعْرَابٍ الْمُضَافَ إِلَى الْمُضَارِعِ يَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَوَجْهُ عَطْفِ الْمُؤْمِناتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُنَا، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حُظُوظَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الدِّينِ مُسَاوِيَةٌ حُظُوظَ الرِّجَالِ إِلَّا فِيمَا خُصِّصْنَ
وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَبْرِئَتِهَا مِمَّا رَمَاهَا بِهِ الْقَوْمُ الْبُهْتُ.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ [النُّور: ٢٦].
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ هِيَ بَعْضُ مَنْ قَنَتَ لِلَّهِ. وَغَلَبَتْ صِيغَةُ جَمْعِ الذُّكُورِ وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ الْقَانِتَاتِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التغليب وَهُوَ من تَخْرِيجُ الْكَلَامِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَنُكْتَتُهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا فِي عِدَادِ أَهْلِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ نِسَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُنَّ مَعْفَيَاتٍ مِنْ عبادات كَثِيرَة.
ووصفت مَرْيَمَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِتِلْكَ الصِّلَةِ مِنْ قَصَّتِهَا الْمَعْرُوفَةِ مِنْ تَكَرُّرِ ذِكْرِهَا فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَفِي ذِكْرِ الْقانِتِينَ إِيمَاءٌ إِلَى مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣١] الْآيَةَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكِتَابِهِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَكُتُبِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، أَيْ آمَنَتْ بِالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ عِيسَى وَهِي «التَّوْرَاة» و «الزبُور» وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بني إِسْرَائِيل، و «الْإِنْجِيل» إِنْ كَانَ قَدْ كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي حَيَاتهَا.
الْجُزْء التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
وَهُمَا أَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَمُخَالَفَةُ رِوَايَتِهِمْ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ
الرَّسْمَ جَرَى عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَقْفِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فَكِتَابَةُ الْأَلِفِ بَعْدَ اللَّامِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِشْبَاعِ الْفَتْحَةِ عِنْدَ الْوَقْفِ لِمُزَاوَجَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ كَثِيرًا مَا تُعْطَى أَحْكَامَ الْقَوَافِي وَالْأَسْجَاعِ.
وَبَعْدُ فَالْقِرَاءَاتُ رِوَايَاتٌ مَسْمُوعَةٌ وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِهِ وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ:
أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَذَرَ عَنِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: سَلَاسِلًا بِأَنَّهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّوَاتُر.
[٥- ٦]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)
هَذَا اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ [الْإِنْسَان: ٤] إِلَخْ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مَا أُعِدَّ لِلْكَفُورِ مِنَ الْجَزَاءِ يَتَطَلَّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُعِدَّ لِلشَّاكِرِ مِنَ الثَّوَابِ.
وَأُخِّرَ تَفْصِيلُهُ عَنْ تَفْصِيلِ جَزَاءِ الْكَفُورِ مَعَ أَن شاكِراً [الْإِنْسَان: ٣] مَذْكُورٌ قبل كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٣]، عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ لِيَتَّسِعَ الْمَجَالُ لِإِطْنَابِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، تَقْرِيبًا لِلْمَوْصُوفِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ عَنْ جَزَاءِ الشَّاكِرِينَ لِدَفْعِ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ فِي عَالَمِ الْخُلُودِ، وَلِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ.
والْأَبْرارَ: هُمُ الشَّاكِرُونَ، عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْأَبْرَارِ زِيَادَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
والْأَبْرارَ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَجَمْعُ بَارٍّ أَيْضًا مِثْلُ شَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَالْبَارُّ أَوِ الْبَرُّ الْمُكْثِرُ مِنَ الْبِرِّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْبَرُّ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطّور: ٢٨].
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِجْمَالٌ يُفِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى [اللَّيْل: ٥] الْآيَةَ لِيَتَمَكَّنَ تَفْصِيلُهُ فِي الذِّهْنِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَغْشى لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِغِشْيَانِهِ كُلَّ مَا تَغْشَاهُ ظُلْمَتُهُ.
وَأُسْنِدَ إِلَى النَّهَارِ التَّجَلِّي مَدْحًا لَهُ بِالِاسْتِنَارَةِ الَّتِي يَرَاهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيُحِسُّ بِهَا حَتَّى الْبُصَرَاءُ.
وَالتَّجَلِّي: الْوُضُوحُ، وَتَجَلِّي النَّهَارِ: وُضُوحُ ضِيَائِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: ١] وَقَوله: وَالضُّحى [الضُّحَى: ١].
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ كَانَتْ غَالِبَةً لِضَوْءِ النَّهَارِ وَأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُهَا وَالظُّلْمَةُ هِيَ أَصْلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْمُرْتَبِطَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَإِنَّمَا أَضَاءَتْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ التَّارِيخُ فِي الْبَدْءِ بِاللَّيَالِي ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّارِيخُ بِالْأَيَّامِ.
وَالْقَوْلُ فِي تَقْيِيدِ اللَّيْلِ بِالظَّرْفِ وَتَقْيِيدِ النَّهَارِ بِمِثْلِهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي السُّورَة السَّابِقَة [الشَّمْس: ٣، ٤].
وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مَصْدَرِيَّةٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَهُوَ خَلْقُ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّنَاسُلِ.
وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى: صِنْفَا أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ. وَالْمُرَادُ: خُصُوصُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَتَكَوُّنِهِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] لِأَنَّهُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْأَرْفَعُ فِي عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ وَهُوَ الَّذِي يُدْرِكُ الْمُخَاطَبُونَ أَكْثَرَ دَقَائِقِهِ لِتَكَرُّرِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِخِلَافِ تَكَوُّنِ نَسْلِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُدْرِكُ بَعْضَ أَحْوَالِهِ وَلَا يُحْصِي كَثِيرًا مِنْهَا.
وَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مَعَ خُرُوجِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَتَوَقَّفِ التَّنَاسُلِ عَلَى تَزَاوُجِهِمَا، فَالْقَسَمُ بِتَعَلُّقٍ مِنْ تَعَلُّقِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ قِسْمٌ مِنَ الصِّفَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا


الصفحة التالية
Icon