لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَحَاسِنِهَا جُمْلَةً نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ آخَرَ أَهَمَّ فِي صِفَاتِ عُنُقِهَا وَهُوَ طُولُ قَامَتِهَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» فِي شَرْحِ قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ (١) :

لَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حَرَّةَ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
إِنَّ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ فِي عَطْفِهِ الْمُفْرَدَ عَلَى الْمُفْرَدِ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهُ فِي عَطْفِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اهـ. وَإِفَادَةُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي عَطْفِ ثُمَّ لِلْجُمَلِ سَوَاءٌ وَافَقَتِ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ مَعَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مَعْطُوفُهَا مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْدِيَّةِ مُرَادًا مِنْهُ الْبَعْدِيَّةُ فِي الرُّتْبَةِ وَإِنْ كَانَ عَكْسَ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ فَتَكُونُ الْبَعْدِيَّةُ مَجَازِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى تَشْبِيهِ الْبَوْنِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْبُعْدِ الْمَكَانِيِّ أَوِ الزَّمَانِيِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: ١١- ١٣] فَإِنَّ كَوْنَهُ عُتُلًّا وَزَنِيمًا أَسَبَقُ فِي الْوُجُودِ مِنْ كَوْنِهِ هَمَّازًا مَشَّاءً بِنَمِيمٍ لِأَنَّهُمَا صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ بِخِلَافِ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: ٤]. فَإِذَا تَمَحَّضَتْ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ حُمِلَتْ عَلَيْهِ وَإِنِ احْتَمَلَتْهُ مَعَ التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ فَظَاهِرُ قَوْلِ الْمَرْزُوقِيِّ: «فَإِنَّهُ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ» إِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ التَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ. وَلَكِنْ يَظْهَرُ جَوَازُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُتَأَخِّرًا فِي الْحُصُولِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك أهم كَمَا فِي بَيْتِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ. قُلْتُ وَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ
مُرْسَلٌ أَوْ كِنَايَة، فَإِن أَلْقَت (ثُمَّ) وَأُرِيدَ مِنْهَا لَازِمُ التَّرَاخِي وَهُوَ الْبُعْدُ التَّعْظِيمِيُّ كَمَا أُرِيدَ التَّعْظِيمُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعِ لِلْبَعِيدِ، وَالْعَلَاقَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إِلَّا أَنَّهَا لِشُهْرَتِهَا فِي كَلَامِهِمْ وَاسْتِعْمَالِهِمْ وَمَعَ الْقَرَائِنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَرْدُودًا.
وَاعْلَمْ أَنِّي تَتَبَّعْتُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي مَوَاضِعِهِ فَرَأَيْتُهُ أَكْثَرَ مَا يَرِدُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجُمَلُ إِخْبَارًا عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا اخْتَلَفَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فَإِنَّ (ثُمَّ) تَتَعَيَّنُ لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٨٤، ٨٥]
_________
(١) يحْتَمل أَنه أَرَادَ بغمرات الْمَوْت مواقع الْقِتَال وملاحمه الَّتِي لَا يطْمع الدَّاخِل فِيهَا بالسلامة فَيكون قَوْله ثمَّ يزورها للمهلة الْحَقِيقِيَّة، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بالغمرات مَا يُصِيب الكمي من ثخين الْجراح وحلول سَكَرَات الْمَوْت فَيكون قَوْله ثمَّ يزورها للتَّرْتِيب الرتبي.
الْمُؤَاخَذَةُ
إِلَّا عَلَى الْحِنْثِ لَا أَصْلِ الْقَسَمِ إِذْ لَا مُؤَاخَذَةَ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْحَلِفِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْبَرِّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ كَسْبَهُ الْحِنْثَ أَيْ تَعَمُّدَهُ الْحِنْثَ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ أُجْمِلَتْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَبُيِّنَتْ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَالْحَالِفُ عَلَى ظَنٍّ يَظْهَرُ بَعْدُ خِلَافُهُ لَا تَعَمُّدَ عِنْدَهُ لِلْحِنْثِ، فَهُوَ اللَّغْوُ، فَلَا مُؤَاخَذَةَ فِيهِ، أَيْ لَا كَفَّارَةَ وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَهُوَ كَاذِبٌ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ قَسَمٌ لَيْسَ بِلَغْوٍ، لِأَنَّ اللَّغَوِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الصِّدْقِ، وَالْقَائِلُ: «لَا وَاللَّهِ» كَاذِبًا، لَمْ يَتَبَيَّنْ حِنْثُهُ لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ، بَلْ هُوَ غَافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ حَالِفًا، فَإِذَا انْتَبَهَ لِلْحَلِفِ وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، لِأَنَّهُ حَلِفَهَا حِينَ حَلِفَهَا وَهُوَ حَانِثٌ.
وَإِنَّمَا جَعَلْنَا تَفْسِيرَ (مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) كَسْبَ الْقَلْبِ لِلْحِنْثِ، لِأَنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ فِي الْحِنْثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٤]، إِمَّا إِذْنٌ فِي الْحِنْثِ، أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْحَلِفِ خَشْيَةَ الْحِنْثِ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بَيَانٌ وَتَعْلِيلٌ لِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْبَيَانِ حُكْمُ الْمُبَيَّنِ، لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: اللَّغْوُ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْكَذِبُ، فَتَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَا قَصْدٍ كَالَّتِي تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ فِي لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ كَانَ بِقَصْدٍ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّدْقِ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: اللَّغْوُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا إِثْمَ. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّغْوَ هُنَا، مُقَابِلًا لِمَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَا عَلَى أَصْلِ الْحَلِفِ، فَاللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَا حَنِثَ فِيهَا وَلَمْ يَرَ بَيْنَ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْمَائِدَةِ تَعَارُضًا حَتَّى يَحْمِلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بَلْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ جَعَلَتِ اللَّغْوَ مُقَابِلًا لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ، وَأَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ لِمَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ أَيْ عَزَمَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْمُؤَاخَذَةُ مُطْلَقَةٌ تَنْصَرِفُ إِلَى أَكْمَلِ أَفْرَادِهَا، وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ، أُرِيدَ بِهِ الْغَمُوسُ وَجَعَلَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ اللَّغْوَ مُقَابِلًا لِلْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ.
وَالْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ: الرَّبْطُ، وَهُوَ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى الْأَيْمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْيَمِينُ الَّتِي فِيهَا تَعْلِيقٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ [الْمَائِدَة: ٨٩] إِلَخْ، فَظَهَرَ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّغْوَ مَا قَابَلَ الْغَمُوسَ، وَالْمُنْعَقِدَةَ، وَهُوَ نَوْعَانِ لَا مَحَالَةَ، وَظَهَرَ حُكْمُ الْغَمُوسِ، وَهِي الْحلف بتعمد الْكَذِبِ، فَهُوَ الْإِثْمُ، وَحُكْمُ الْمُنْعَقِدَةِ أَنَّهُ الْكَفَّارَةُ، فَوَافَقَ مَالِكًا فِي الْغَمُوسِ وَخَالَفَهُ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ اللَّغْوِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِهِ.
وَالتَّخْوِيلُ: التَّفَضُّلُ بِالْعَطَاءِ. قِيلَ: أَصْلُهُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْخَدَمُ، أَيْ إِعْطَاءُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِعْطَاءِ مُطَلَّقِ مَا يَنْفَعُ، أَيْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بُعْدُهُمْ عَنْهُ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الشَّيْءِ بِمَنْ بَارَحَهُ سَائِرًا، فَهُوَ يَتْرُكُ مَنْ يُبَارِحُهُ وَرَاءَهُ حِينَ مُبَارَحَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَارَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَبَلَغَ إِلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُمَثِّلُ الْقَاصِدَ لِلشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُهَيِّئُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ: قَدْ قَدَّمَهُ.
وَتَرَكْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جِئْتُمُونا وَهُوَ يُبَيِّنُ مَعْنَى فُرادى إِلَّا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِذِكْرِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الِانْفِرَادِ لِأَنَ كِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّنْدِيمِ، إِذْ جَاءُوا إِلَى الْقِيَامَةِ وَكَانُوا يَنْفُونَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَنْوِي الْخَلْودَ. فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَأَبُو الْبَقَاءِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنَ الْوَاوِ فِي جِئْتُمُونا فَيَصِيرُ تَرْكُ مَا خُوِّلُوهُ هُوَ مَحَلَّ التَّنْكِيلِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جِئْتُمُونا- وتَرَكْتُمْ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ التَّخْطِئَةُ وَالتَّلْهِيفُ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا إِذَا اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ عَلَّلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ اسْتِسْخَارًا أَوْ جَهْلًا، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِ، أَيْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ رَدُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ بَيَانٌ أَيْضًا وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ:
فُرادى.
وَقَوْلُهُ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا شُفَعَاءَ لَهُمْ فَسِيقَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ كَلَامِ مَنْ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يَرَى شَيْئًا فَلَمْ يَرَهُ عَلَى
حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ جُمْلَتِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَكَانَ مَضْمُونُهَا مَفْعُولًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ تَصْدِيرُ جُمْلَتِهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عقب وَصْفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً وَمُنْفَعِلَةً بِاخْتِلَافِ الْمُثَارِ وَمَا تَتْرُكُهُ مِنَ الْآثَارِ لِأَنَّهَا عِلَلٌ وَمَعْلُولَاتٌ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ التَّوَقُّفَ الْمُسَمَّى بِالدَّوْرِ الْمَعِيِّ.
وَالْمُبِينُ: الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَخْفَى لِشِدَّتِهِ، فَالْمُبِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالرُّسُوخِ فَهُوَ يَبِينُ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ.
[٢٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢]. وَمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُلَيِّنُ قُلُوبَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ هادٍ مُبَيِّنَةً أَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هِيَ لِرَيْنٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي هِدَايَتِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: ٦- ٧].
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْمِيلٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ غَرَضُ السُّورَةِ وَسَيُقَفَّى بِثَنَاءٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: ٢٧]
الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: ٤١] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٥].
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِتَفْخِيمِ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ الْمُنَزَّلِ بِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ أَعْظَمُ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ
ثُمَّ تَخْيِيبَهُمْ بِضَرِبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْخَيْبَةَ بَعْدَ الطَّمَعِ أَشَدُّ حَسْرَةً. وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ كَانَ جَزَاءً عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِسْخَارِهِمْ بِهِمْ، فَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: ٧٩].
ووَراءَكُمْ: تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ارْجِعُوا إِذِ الرُّجُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْوَرَاءَ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ:
رَجَعَ الْقَهْقَرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا لفعل فَالْتَمِسُوا نُوراً، أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي خَلْفَكُمْ.
وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِالْتِمَاسِ النُّورِ هُنَاكَ وَهُوَ أَشَدُّ فِي الْإِطْمَاعِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ النُّورَ يُتَنَاوَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِذَلِكَ الْإِيهَامِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ كَذِبًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعَارِيضِ لَا سِيَّمَا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَراءَكُمْ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى ارْجِعُوا.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَضَرْبُ السُّورِ: وَضْعُهُ، يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتَا مُهَاجَرَةً بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غول
وَضمن فَضُرِبَ فِي الْآيَةِ مَعْنَى الْحَجْزِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ لِلْحَجْزِ بِهِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، خَلَقَهُ اللَّهُ سَاعَتَئِذٍ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، فَحَقَّ بِذَلِكَ التَّمْثِيلُ الَّذِي مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧]. وَأَنَّ الْحَيْرَةَ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ الْمَصِيرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَلَعَلَّ ضَرْبَ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَجَعْلَ الْعَذَابِ بِظَاهِرِهِ وَالنَّعِيمِ بِبَاطِنِهِ قُصِدَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لَهُمْ بِأَنَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ هُوَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا مَا يُفْضِي بِعَامِلِهِ إِلَى النَّعِيمِ وَمِنْهَا مَا يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَأَحَدُ طَرَفَيِ السُّورِ مِثَالٌ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ مِثَالٌ
الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ نَذْرَ الطَّاعَاتِ وَفِعْلَ الْقُرُبَاتِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ مَوْجِبًا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّذْرِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ نَذْرٍ.
وَعُطِفَ عَلَى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ: وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً لِأَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِالْعَمَلِ بِمَا يُنْذِرُونَهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَتَحَقُّقِ إِخْلَاصِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَاتِ فَجُمِعَ لَهُمْ بِهَذَا صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ وَحُسْنُ الْأَعْمَالِ.
وَخَوْفُهُمُ الْيَوْمَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ جَرَى فِي تَعَلُّقِ الْيَوْمِ بِالْخَوْفِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَخَافُونَ مَا يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِئَةِ بِالْعِقَابِ فَعُلِّقَ فِعْلُ الْخَوْفِ بِزَمَانِ الْأَشْيَاءِ الْمَخُوفَةِ.
وَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يَخافُونَ وَلَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَوْفِ خَوْفُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذُنُوبٍ تَجُرُّ إِلَيْهِمُ الْعِقَابَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ آمِنُونَ.
وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِأَنَّ لَهُ شَرًّا مُسْتَطِيرًا وَصْفًا مُشْعِرًا بِعِلَّةِ خَوْفِهِمْ إِيَّاهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَتَجَنَّبُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى شَرِّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِالْعِقَابِ.
وَالشَّرُّ: الْعَذَاب وَالْجَزَاء بالسوء.
وَالْمُسْتَطِيرُ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اسْتِطَارَ الْقَاصِرِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتِطَارَ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصْلُهُ طَارَ مِثْلَ اسْتَكْبَرَ. وَالطَّيَرَانُ مَجَازِيٌّ مُسْتَعَارٌ لِانْتِشَارِ الشَّيْءِ وَامْتِدَادِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِانْتِشَارِ الطَّيْرِ فِي الْجَوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ، وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ الَّذِي ينتشر ضوؤه فِي الْأُفُقِ وَيُقَالُ: اسْتَطَارَ الْحَرِيقُ إِذَا انْتَشَرَ وَتَلَاحَقَ.
وَذِكْرُ فِعْلِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَبَرِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَإِلَّا فَإِنَّ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْمَاضِي وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ مُسْتَقْبَلٍ بَعِيدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ.
وَصِيغَةُ يَخافُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ خَوْفِهِمْ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الزَّكَاةُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالتَّصْدِيقُ بِهَا الِاعْتِرَافُ بِوُقُوعِهَا وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِهَا.
وَحَاصِلُ الِاحْتِمَالَاتِ يَحُومُ حَوْلَ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللَّهِ بِمَا هُوَ حَسَنٌ مِنْ مَثُوبَةٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِخْلَافِ مَا تَلِفَ فَيَرْجِعُ هَذَا التَّصْدِيقُ إِلَى الْإِيمَانِ.
وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفَوْزُ بِالْحُسْنَى.
وَلِذَلِكَ قُوبِلَ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ شَيْءٍ يَسِيرَ الْحُصُولِ، وَمَفْعُولُ فِعْلِ التَّيْسِيرِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُجْعَلُ يَسِيرًا، أَيْ غَيْرَ شَدِيدٍ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ بَعْدَهُ هُوَ الَّذِي يُسَهَّلُ الشَّيْءُ الصَّعْبُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِسُهُولَةِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ١٧].
وَالْيُسْرَى فِي قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى هِيَ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَتَأْنِيثُهَا: إِمَّا بِتَأْوِيلِ الْحَالَةِ، أَيِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا تَشُقُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ النَّعِيمِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْمَكَانَةِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُجَاهِدٍ. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَنْدَرِجُ فِي
مَعَانِي النَّافِعِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ، أَيِ الْمُلَائِمُ.
وَالْعُسْرَى: إِمَّا الْحَالَةُ وَهِيَ حَالَةُ الْعسر والشدة، أَي الْعَذَاب، وَإِمَّا مَكَانَتُهُ وَهِيَ جَهَنَّمُ، لِأَنَّهَا مَكَانُ الْعُسْرِ وَالشَّدَائِدِ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ تَعَالَى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: ٩، ١٠]، فَمَعْنَى: «نُيَسِّرُهُ» نُدَرِّجُهُ فِي عَمَلَيِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَالْأَعْمَالُ الْيُسْرَى هِيَ الصَّالِحَةُ، وُصِفَتْ بِالْيُسْرَى بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا لِصَاحِبِهَا، وَتَكُونُ الْعُسْرَى الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَأْنِيثُهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا صِفَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ مِنَ الْآنَ إِلَى آخِرِ الْحَيَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
وَحَرْفُ (أَلْ) فِي «الْيُسْرَى» وَفِي «الْعُسْرَى» لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي.


الصفحة التالية
Icon