وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَاءَ «وَهُوَ» بِالضَّمِّ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَهَا قَالُونُ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالسُّكُونِ لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ دُخُولِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَالسُّكُونُ أَكْثَرُ مِنَ الضَّمِّ فِي كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي هِيَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْكَلِمَةِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْجُزْءِ مِنْهَا فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ ثَقِيلَةً بِدُخُولِ ذَلِكَ الْحَرْفِ فِيهَا فَخُفِّفَتْ بِالسُّكُونِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي حَرَكَةِ لَامِ الْأَمْرِ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْصَحَ لُغَاتِ الْعَرَبِ إِسْكَانُ الْهَاءِ مِنْ (هُوَ) إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفٌ، أَنَّكَ تَجِدُهُ فِي الشِّعْرِ فَلَا يَتَّزِنُ الْبَيْتُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ الْهَاءِ سَاكِنَةً وَلَا تَكَادُ تَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى أَنَّهُ ضَرُورَةٌ
وَأَمَّا الْغَايَةُ فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْحَاصِلِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ رَفَعَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُوقَفُ لَدَى الْحَاكِمِ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ مَضَتِ
الْمُدَّةُ وَلم يفِيء فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ يَكْفِي أَنْ يَفِيءَ بِالْعَزْمِ، وَالنِّيَّةِ، وَبِالتَّصْرِيحِ لَدَى الْحَاكِمِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمَسْجُونِ وَالْمُسَافِرِ.
وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ مَسْمُوعًا لِأَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالسَّمِيعِ مَعْنَاهُ الْعَلِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ بِعَلِيمٍ، فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِاحْتِمَالِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّ السَّمِيعُ مُرَادِفٌ لِلْعَلِيمِ وَلَيْسَ الْمَسْمُوعُ إِلَّا لَفْظَ الْمُولِي، أَوْ لَفْظَ الْحَاكِمِ، دُونَ الْبَيْنُونَةِ الِاعْتِبَارِيَّةِ. وَقَوْلُهُ عَلِيمٌ يَرْجِعُ لِلنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ، الَّذِي صَارَ طَلَاقًا بِمُضِيِّ أَجَلِهِ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ صِيغَةَ الْإِيلَاءِ جَعَلَهَا الشَّرْعُ سَبَبَ طَلَاقٍ، بِشَرْطِ مُضِيِّ الْأَمَدِ عَلِيمٌ بِنِيَّةِ الْعَازِمِ عَلَى تَرْكِ الْفَيْئَةِ. وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جُعِلَ مُفَرَّعًا عَنْ عَزْمِ الطَّلَاقِ لَا عَنْ أَصْلِ الْإِيلَاءِ وَلِأَنَّ تَحْدِيدَ الْآجَالِ وَتَنْهِيَتَهَا مَوْكُولٌ لِلْحُكَّامِ.
وَقَدْ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ وَجْهُ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ أَجَلٌ حَدَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حِكْمَتِهِ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ ثُلُثُ الْعَامِ، فَلَعَلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مِثْلَهَا يُعْتَبَرُ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّ الثُّلُثَ اعْتُبِرَ مُعْظَمَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، مِثْلُ ثُلُثِ الْمَالِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَشَارَ بِهِ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ. وَحَاوَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ بِمَا وَقَعَ فِي قِصَّةٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَزَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» رِوَايَتَهَا لِمَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَوْجُودَةِ لَدَيْنَا:
وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، وَلَا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْقَعْنَبِيِّ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَلَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ التَّمِيمِيِّ الَّتِي يَرْوِيهَا الْمَهْدِيُّ بْنُ تُومَرْتَ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي لَدَيْنَا فَلَعَلَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُوَطَّأِ الْمُسَمَّى «بِالْمُنْتَقَى»، وَلَمْ يَعْزُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ لَيْلَةً يَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ يَتَعَرَّفُ أَحْوَالَ النَّاسِ فَمَرَّ بِدَارٍ سَمِعَ امْرَأَةً بِهَا تُنْشِدُ:
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٩٥ إِلَى ٩٦]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ وَأَفَانِينِ الْمَوَاعِظِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ الْمُشَاهَدَةِ، عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بالإلهيّة المستلزم لِانْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا لَا تَقْدِرُ عَلَى مَثْلِ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ، فَلَا يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَلَا أَنْ تُشْرَكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ إِذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الدَّهْرِيِّينَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَى الْمَقْصُودِينَ مِنَ الْخِطَابِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أَيْ فَتَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ. وَفِيهِ عِلْمٌ وَيَقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ وَاسْتِزَادَةٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَشُكْرِهِمْ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَكِنَّ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي دَلَالَةِ الزَّرْعِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِمَاتَةِ الْحَيِّ، لَمَّا كَانَ نَظَرًا دَقِيقًا قَدِ انْصَرَفَ عَنهُ الْمُشْركُونَ فاجترأوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَنْكَرَ أَوْ شَكَّ فِي أَنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ (إِنَّ).
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ هَذَا الْوَصْفِ دَوَامه لِأَنَّهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَصْفُ الْفِعْلِ أَوْ وَصْفُ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقَاتِهَا فِي مُصْطَلَحِ مَنْ لَا يُثْبِتُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الِاكْتِفَاءَ بِدَلَالَةِ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى دَلَالَتِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي الْبَعْثِ، لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْقَصْرِ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا عَلَى الْأُمَّةِ بِأَنَّ أَغْرَاضَ كِتَابِهَا مُكَرَّرَةٌ فِيهِ لِتَكُونَ مَقَاصِدُهُ أَرْسَخُ فِي نُفُوسِهَا، وَلِيَسْمَعُهَا مَنْ فَاتَهُ سَمَاعُ أَمْثَالِهَا مِنْ قَبْلُ. وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَنْبِيهًا عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ عَدَمُ الْمَلَلِ مِنْ سَمَاعِهِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِهِ زَادَهُ تَكَرُّرُهُ قَبُولًا وَحَلَاوَةً فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ. فَكَأَنَّهُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ الَّذِي قَالَ فِي مِثْلِهِ أَبُو نُوَاسٍ:
يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا | إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا |
وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَلِذَا
وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ: «بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا.
وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ سَمِعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: ٩٠] الْآيَةَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ»
. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ هُنَا بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ هُوَ غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحجر: ٧٨] لِاخْتِلَافِ مَا أُرِيدَ فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ مُتَّحِدًا.
وَوُصِفَ كِتاباً وَهُوَ مُفْرِدٌ بِوَصْفِ مَثانِيَ وَهُوَ مُقْتَضٍ التَّعَدُّدَ يُعَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ جَرَى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهِ، أَيْ سُوَرِهِ أَوْ آيَاتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ مِنْهُ يُكَرَّرُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ تَبَاعِيضِهِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ قَبْلَهُ وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ، أَيْ مُثَنَّى الْأَغْرَاضِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
أُولَاهَا: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْجَلَالَةِ وَالرَّوْعَةِ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي آيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الَّتِي تَوْجَلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ
غَيِّهِمْ مَعَ طُولِ مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ وَتَعَاقُبِ السِّنِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا فِي الْعَوَاقِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: ٣٧] وَإسْنَاد التَّغْرِير إِلَى الْأَمَانِيِّ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَمَانِيَّ وَالطَّمَعَ فِي حُصُولِهَا سَبَبُ غُرُورِهِمْ وَمَلَابِسُهُ.
وَمَجِيءُ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الْمَوْتُ، أَيْ حَتَّى يَتِمَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ وَلَمْ تُقْلِعُوا عَنْهَا بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ.
وَالْغَايَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ، فَلَا يُمَاطِلُ التَّوْبَةَ وَلَا يَقُولُ: غَدًا غَدًا.
وَجُمْلَةُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ تَحْقِيرًا لِغُرُورِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ بِأَنَّهَا مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً حِينَئِذٍ.
وَالْغَرُورُ: بِفَتْحِ الْغَيْنِ مُبَالَغَةٌ فِي الْمُتَّصِفِ بِالتَّغْرِيرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، أَيْ بِإِلْقَائِهِ خَوَاطِرَ النِّفَاقِ فِي نُفُوسهم بتلوينه فِي لون الْحَقِّ وَإِرْضَاءِ دِينِ الْكُفْرِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جِنْسُ الْغَارِّينَ، أَيْ وغركم بِاللَّه أيمة الْكُفْرِ وَقَادَةُ النِّفَاقِ.
وَالتَّغْرِيرُ: إِظْهَارُ الضَّارِّ فِي صُورَةِ النَّافِعِ بِتَمْوِيهٍ وَسَفْسَطَةٍ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْله: بِاللَّهِ للسبية أَوْ لِلْآلَةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ جَعَلَ الشَّيْطَانُ شَأْنَ اللَّهِ سَبَبًا لِغُرُورِكُمْ بِأَنْ خَيَّلَ إِلَيْكُمْ أَنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْكُفْرِ مُرْضِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النِّفَاقَ حَافَظْتُمْ بِهِ على دينكُمْ وحفظتم بِهِ نُفُوسَكُمْ وَكَرَامَةَ قَوْمِكُمْ وَاطَّلَعْتُمْ بِهِ عَلَى أَحْوَالِ عَدُوِّكُمْ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا دَلَائِلَهُ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَرَّعُوا لَهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ:
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيد: ١٥]، قَطْعًا لِطَمَعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ كَمَا
كَانُوا مَعَهُمْ فِي الْحَيَاة.
بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنْ قِمْطَرِ الْقَاصِرِ إِذَا اجْتَمَعَ، أَوْ قِمْطَرِ الْمُتَعَدِّي إِذَا شَدَّ الْقِرْبَةَ بِوِكَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي السَّفَطُ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ الْكُتُبُ قِمْطَرًا وَهُوَ كَالْمَحْفَظَةِ. وَمِيمُ قَمْطَرِيرٍ أَصْلِيَّةٌ فَوَزْنُهُ فَعْلَلِيلٌ مِثْلَ خَنْدَرِيسٍ وَزَنْجَبِيلٍ، يُقَالُ: قِمْطَرٌ لِلشَّرِّ، إِذَا تَهَيَّأَ لَهُ وَجَمَعَ نَفْسَهُ.
وَالْجُمْهُورُ جَعَلُوا قَمْطَرِيراً وَصَفَ يَوْماً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ وَصَفَ عَبُوساً أَيْ شَدِيدَ الْعَبُوسِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ الْأَبْرَارِ وَعَلَى ذَلِكَ الْتَحَمَ نَسْجُهَا، وَقَدْ تَلَقَّفَهَا الْقَصَّاصُونَ وَالدُّعَاةُ فَوَضَعُوا لَهَا قصصا مُخْتَلفَة وجاؤوا بِأَخْبَارٍ مَوْضُوعَةٍ وَأَبْيَاتٍ مَصْنُوعَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيُّ وَالنَّقَّاشُ وَسَاقَهَا الْقُرْطُبِيُّ بِطُولِهَا ثُمَّ زَيَّفَهَا. وَذُكِرَ عَنِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «نَوَادِرِ الْأُصُولِ» : هَذَا حَدِيث مروّق مُزَيَّفٌ وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّجُونِ.
وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي مُطْعِمِ بْنِ وَرْقَاءَ الْأَنْصَارِيِّ، وَقِيلَ فِي رَجُلٍ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَلَا طَائِلَ تَحْتَ اجْتِلَابِهِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلُهُ أَهْلٌ لِأَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ فِيهِمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ ضَعِيفَةٌ أَو مَوْضُوعَة.
[١١- ١٤]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إِلَى قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: ٧- ١٠].
وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَلْوِينٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ جَزَاءِ الْأَبْرَارِ وَأَهْلِ الشُكُورِ، وَهَذَا بَرْزَخٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى عَوْدِ الْكَلَامِ عَلَى حُسْنِ جَزَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ وَقَاهُمْ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ
وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ، وَمُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بَيْنَ أَعْطى وبَخِلَ، وَبَيْنَ اتَّقى، واسْتَغْنى، وَبَيْنَ وصَدَّقَ وكَذَّبَ وَبَيْنَ «الْيُسْرَى» وَ «الْعُسْرَى».
وَجُمْلَةُ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أَيْ سَنُعَجِّلُ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَرَدَّى فِيهَا.
وَالتَّرَدِّي: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، يَعْنِي: لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَوْفَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا سَقَطَ فِي جَهَنَّمَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَخْلَةٌ مَائِلَةٌ فِي دَارِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ذِي عِيَالٍ فَإِذَا سَقَطَ مِنْهَا ثَمَرٌ أَكَلَهُ صِبْيَةٌ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ فَكَانَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ يَنْزِعُ مِنْ أَيْدِيهِمُ الثَّمَرَةَ، فَشَكَا الْمُسْلِمُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُمْ وَلَهُ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ (١) فَاشْتَرَى تِلْكَ النَّخْلَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِحَائِطٍ فِيهِ أَرْبَعُونَ نَخْلَةً وَجَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِهَا مِنِّي بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ صَاحِبَ الصِّبْيَةِ، قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل: ١] إِلَى قَوْلِهِ: لِلْعُسْرى
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمِنْ أَجْلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ جَمَاعَةٌ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَوْلُهُمْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَذَا قَوْلَهُ كَذَا، أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ
_________
(١) أَبُو الدحداح: ثَابت بن الدحداح البلوي، حَلِيف الْأَنْصَار، صَحَابِيّ جليل، قتل فِي وَاقعَة أحد، وَقيل: مَاتَ بعْدهَا من جرح كَانَ بِهِ حِين رَجَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَة، وَصلى عَلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَة وَهُوَ الَّذِي صَاح يَوْم أحد لما أرجف الْمُشْركُونَ بِمَوْت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا معشر الْأَنْصَار إليّ إليّ أَنا ثَابت بن الدحداح إِن كَانَ مُحَمَّد قد قتل فَإِن الله حيّ لَا يَمُوت، فَقَاتلُوا عَن دينكُمْ فَإِن الله مظهركم وناصركم.