وَ (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) أَيْ يَتَلَبَّثْنَ وَيَنْتَظِرْنَ مُرُورَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَزِيدَ بِأَنْفُسِهِنَّ تَعْرِيضًا بِهِنَّ، بِإِظْهَارِ حَالِهِنَّ فِي مَظْهَرِ الْمُسْتَعْجِلَاتِ، الرَّامِيَاتِ بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَى التَّزَوُّجِ، فَلِذَلِكَ أُمِرْنَ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، أَيْ يُمْسِكْنَهُنَّ وَلَا يرسلنهن إِلَى الرِّجَال. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«فَفِي ذِكْرِ الْأَنْفُسِ تَهْيِيجٌ لَهُنَّ عَلَى التَّرَبُّصِ وَزِيَادَةُ بَعْثٍ لِأَنَّ فِيهِ مَا يَسْتَنْكِفْنَ مِنْهُ فَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَرَبَّصْنَ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ (الْمُطَلَّقَاتِ)، وَأَنَّ الْبَاءَ
زَائِدَةٌ، وَمِنْ هُنَالِكَ قَالَ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي التَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» وَرَدَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بِأَنَّ حَقَّ تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ أَوْ بِفَاصِلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: اكْتَفَى بِحَرْفِ الْجَرِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ التَّوْكِيدَ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِذْ لَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّامِعِ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرَ الْمُطَلَّقَاتِ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ، الَّذِي تَضَمَّنَ الضَّمِيرُ خَبَرَهُ.
وَانْتَصَبَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ خَلَفَهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ.
وَالْقُرُوءُ جَمْعُ قَرْءٍ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا- وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، أَوْ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، فَلِذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى الطُّهْرِ أَوْ عَلَى الْحَيْضِ كَانَ إِطْلَاقًا عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَتَبِعَهُ الرَّاغِبُ، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا بِذَلِكَ وَجْهَ إِطْلَاقِهِ عَلَى الضِّدَّيْنِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ أَشْهَرَ مَعَانِي الْقَرْءِ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الطُّهْرُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا سُؤَالُهُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُطَلِّقُونَ إِلَّا فِي حَالِ الطُّهْرِ لِيَكُونَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ مَبْدَأَ الِاعْتِدَادِ، وَكَوْنُ الطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ هُوَ مَبْدَأَ الِاعْتِدَادِ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا ابْنَ شِهَابٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يُلْغَى الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُرُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ الْقَرْءَ هُوَ الطُّهْرُ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَوْضَحِ كَلَامَيْهِ، وَابْنِ حَنْبَلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ الطُّهْرُ الْوَاقِعُ بَيْنَ دَمَيْنِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ إِنَّهُ الْحَيْضُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ الطُّهْرُ الْمُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى الْحَيْضِ،
صَارِفِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَجْمُوعُ أَشْيَاءَ: وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَتَضْلِيلِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَهَوَى أَنْفُسِهِمْ.
وَجُمْلَةُ (ذَلِكُمُ اللَّهُ) مُسْتَأْنَفَةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا.
وفالِقُ الْإِصْباحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا رَابِعًا عَنِ اسْمِ (إِنَّ)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا.
وَالْإِصْبَاحُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَصْبَحَ الْأُفُقُ، إِذَا صَارَ ذَا صَبَاحٍ، وَقَدْ سَمَّى بِهِ الصَّبَاحَ، وَهُوَ ضِيَاءُ الْفَجْرِ فَيُقَابِلُ اللَّيْلَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ اسْتِعَارَةٌ لِظُهُورِ الضِّيَاءِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِفَلْقِ الظُّلْمَةِ عَنِ الضِّيَاءِ، كَمَا اسْتُعِيرَ لِذَلِكَ أَيْضًا السَّلْخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]. فَإِضَافَةُ فالِقُ إِلَى الْإِصْباحِ حَقِيقِيَّةٌ وَهِيَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَهُ شَائِبَةُ الِاسْمِيَّةِ فَيُضَافُ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً، وَلَهُ شَائِبَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَيُضَافُ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً. وَهُوَ هُنَا لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى وَصْفٍ فِي الْمَاضِي ضَعُفَ شَبَهُهُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُشْبِهُ الْمُضَارِعَ فِي الْوَزْنِ وَزَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَفْعُولِيَّةُ عَلَى التَّوَسُّعِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، أَيْ فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَانْتَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الصُّبْحَ فَلَقًا- بِفَتْحَتَيْنِ- بِزِنَةِ مَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا قَالُوا مَسْكَنٌ، أَيْ مَسْكُونٌ إِلَيْهِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا لَفْظِيَّةً بِالتَّأْوِيلِ وَلَيْسَتْ إِضَافَتُهُ مِنْ إِضَافَةِ الْوَصْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ إِذْ لَيْسَ الْإِصْبَاحُ مَفْعُولَ الْفَلْقِ وَالْمَعْنَى فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمَفْلُوقَ هُوَ اللَّيْلُ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، أَيِ الظُّلْمَةِ الَّتِي يَعْقُبُهَا الصُّبْحُ وَهِيَ ظُلْمَةُ
الْغَبَشِ، فَإِنَّ فَلْقَ اللَّيْلِ عَنِ الصُّبْحِ أَبْدَعُ فِي مَظْهَرِ الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودٌ. وَالْإِيجَادُ هُوَ مَظْهَرُ الْقُدْرَةِ
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣]، وَالْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالرِّقَّةِ نَحْوَ: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: ٦٨- ٦٩]، وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْخَطَابَةِ أَنَّ لِلْجَزَالَةِ مَقَامَاتُهَا وللسهولة والرقة مقاماتهما.
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: أُعْجُوبَةُ جَمْعِهِ بَيْنَ التَّأْثِيرَيِنِ الْمُتَضَادَّيْنِ: مَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّهْبَةِ، وَمَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّغْبَةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَةِ رَبِّهِمْ جَارِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُهُ وَمَا يَقْتَضِيهِ حِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ اقْتَضَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِمَا وَهُمَا جِهَةُ الْقُشَعْرِيرَةِ وَجِهَةُ اللِّينِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ بِالْأَمْرَيْنِ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمَقْصُود وَصفهم بالتأثرين عِنْدَ تَعَاقُبِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ آيَاتِ الرَّهْبَةِ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ قَالُوا: «السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا» اهـ-. فَالْآيَةُ هُنَا ذَكَرَتْ لَهُمُ الْحَالَتَيْنِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَثانِيَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَإِلَّا فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَجَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٢]، فَالْمَقَامُ هُنَا لِبَيَانِ تَأَثُّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمَقَامُ هُنَالِكَ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ اقْشِعْرَارَ الْجُلُودِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجَلِ الْقُلُوبِ وَرَوْعَتِهَا فَكُنِّيَ بِهِ عَنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ.
وَأَمَّا لِينُ الْجُلُودِ عَقِبَ تِلْكَ الْقُشَعْرِيرَةِ فَهُوَ رُجُوعُ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا السَّابِقَةِ قَبْلَ اقْشِعْرَارِهَا، وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَنْ تَنَاسٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بَعْدَ تِلْكَ الرَّوْعَةِ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ لِينَ الْقُلُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لين خَاص ناشىء عَنِ اطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨] وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُجُوعِ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُشَعْرِيرَةِ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِذِكْرِ لِينِ الْقُلُوب عَن لين الْجُلُودِ لِأَنَّهُ قُصِدَ أَنَّ لِينَ الْقُلُوبِ أَفْعَمَهَا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْجُلُودِ.
مِنَ الْبَعْثَةِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ.
وَالْمَقْصُود من لِلَّذِينَ آمَنُوا: إِمَّا بَعْضٌ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مُقَصِّرِينَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ اللَّهُ إِيقَاظَ قُلُوبِهِمْ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْرِيضِ مِثْلَ
قَوْلِهِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا»
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤]. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ مُقْتَضِيًا أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلكنه يخْشَى أَن يكون مِنْهُمْ حَذَرًا وَحَيْطَةً.
فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَا مَنْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ مُنَافِقُونَ وَلَا كَانَ دَاعٍ إِلَى نِفَاقِ بَعْضِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَ بَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بعض ونقول: مَا أَحْدَثْنَا».
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُرَاقَبَةِ ذَلِكَ وَالْحَذَرِ مِنَ التَّقْصِيرِ.
وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَمْ يَأْنِ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارُ نَفْيِ اقْتِرَابِ وَقْتِ فَاعِلِ الْفِعْلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ عَلَى النَّفْيِ، وَفِعْلُ يَأْنِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْإِنَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، أَيِ الْوَقْتُ قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: ٥٣].
وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ قَوْلُهُمْ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ، مِثْلَ مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تُسْلِمَ»
وَفِي خَبَرِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَرَادَ أَنْ يُضِيفَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْرِفَ مَنْزِلَهُ»
يُرِيدُ: أَنْ يَعْرِفَ مَنْزِلِي الَّذِي هُوَ كَمَنْزِلِهِ. وَهَذَا تَلَطَّفٌ فِي عَرْضِ الِاسْتِضَافَةِ، إِلَّا أَنَّ فِعْلَ يَأْنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِنَى وَهُوَ فِعْلٌ مَنْقُوصٌ آخِرَهُ أَلِفٌ.
وَفِعْلُ: آنَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَيْنِ وَهُوَ الْحِينُ وَهُوَ فِعْلٌ أَجْوَفُ آخِرَهُ نُونٌ.
احْتِبَاكًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَرًّا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَجَعَلُوهُ مِثَالًا لِلِاحْتِبَاكِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ نُورَهَا مُعْتَدِلٌ وَهَوَاءَهَا مُعْتَدِلٌ.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها انْتَصَبَ دانِيَةً عَطْفًا عَلَى مُتَّكِئِينَ لِأَنَّ هَذَا حَالٌ سَبَبِيٌّ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَّكِئِينَ، أَيْ ظِلَالُ شَجَرِ الْجَنَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ. وظِلالُها فَاعِلُ دانِيَةً وَضَمِيرُ
ظِلالُها عَائِدٌ إِلَى جَنَّةً.
وَدُنُوُّ الظِّلَالِ: قُرْبُهَا مِنْهُمْ وَإِذْ لَمْ يُعْهَدْ وَصْفُ الظِّلِّ بِالْقُرْبِ يُظْهِرُ أَن دنوّ الضلال كِنَايَةٌ عَنْ تَدَلِّي الْأَدْوَاحِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُظَلِّلَ الْجَنَّاتِ فِي مُعْتَادِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ الْجَنَّةَ لَا شَمْسَ فِيهَا فَيُسْتَظَلُّ مِنْ حَرِّهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَرْكِيبَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها مَثَلٌ يُطْلَقُ عَلَى تَدَلِّي أَفْنَانِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الظِّلَّ الْمُظَلِّلَ لِلشَّخْصِ لَا يَتَفَاوَتُ بِدُنُوٍّ وَلَا بُعْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ ظِلالُها مَجَازًا مُرْسَلًا عَنِ الْأَفْنَانِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ أَدْوَاحَ الْجَنَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَجَالِسِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهَا بَهْجَةً وَحُسْنًا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: ٢٣].
وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا. أَيْ سُخِّرَتْ لَهُمْ قُطُوفُ تِلْكَ الْأَدْوَاحِ وَسُهِّلَتْ لَهُمْ بِحَيْثُ لَا الْتِوَاءَ فِيهَا وَلَا صَلَابَةَ تُتْعِبُ قَاطِفَهَا وَلَا يَتَمَطَّوْنَ إِلَيْهَا بَلْ يَجْتَنُونَهَا بِأَسْهَلِ تَنَاوُلٍ.
فَاسْتُعِيرَ التَّذْلِيلُ لِلتَّيْسِيرِ كَمَا يُقَالُ: فَرَسٌ ذَلُولٌ: أَيُّ مِطْوَاعٌ لِرَاكِبِهِ، وَبَقَرَةٌ ذَلُولٌ، أَيْ مُمَرَّنَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْقُطُوفُ: جَمْعُ قِطْفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الْعُنْقُودُ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الْعِنَبِ، سُمِّي قِطْفًا بِصِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْمَفْعُولِ مِثْلَ ذِبْحٍ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ قَطْفَهُ فَإِطْلَاقُ الْقِطْفِ عَلَيْهِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ شَاعَ فِي الْكَلَامِ. وَضَمِيرُ قُطُوفُها عَائِدٌ إِلَى جَنَّةً أَوْ إِلَى ظِلالُها بِاعْتِبَارِ الظِّلَالِ كِنَايَةً عَنِ الْأَشْجَارِ.
وتَذْلِيلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ، أَيْ تَذْلِيلًا شَدِيدا منتهيا.
وَجُمْلَةُ لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ نَارًا بَعْدَ أَنْ وُصِفَتْ.
وَهَذِهِ نَارٌ خَاصَّةٌ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٢٤] وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الْآيَةَ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ بِالْإِرْجَاءِ فَزَعَمُوا: أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا كَافِرٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا: هَذِهِ نَارٌ مَوْصُوفَةٌ بِعَيْنِهَا لَا يَصْلَى هَذِهِ النَّارَ إِلَّا الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَلِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلُ فَمِنْهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ اهـ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا أَنْتُمْ.
وَقَدْ أُتْبِعَ الْأَشْقَى بِصِفَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ
الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّوْا، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ انْحَصَرَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَحَدَ فَرِيقَيْنِ: إِمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَغْشَوْنَ الْكَبَائِرَ لِأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الْإِسْلَامِ بِشَرَاشِرِهِمْ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَخْ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ وَتَكْمِيلًا لِلْمُقَابَلَةِ.
والْأَشْقَى والْأَتْقَى مُرَادٌ بِهِمَا: الشَّدِيدُ الشَّقَاءِ وَالشَّدِيدُ التَّقْوَى وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ عبد الْعَزِيز الْمغرب فَقَرَأَ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَلَمَّا بَلَغَ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى وَقَعَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَقْدِرْ يَتَعَدَّاهَا مِنَ الْبُكَاءِ فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى».
وَوَصْفُ الْأَشْقَى بِصِلَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَوَصْفُ الْأَتْقَى بِصِلَةِ الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لِلصِّلَةِ تَسَبُّبًا فِي الْحُكْمِ.
وَبَيْنَ الْأَشْقَى والْأَتْقَى مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ الْمُضَارِعِ.


الصفحة التالية
Icon