وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِخْبَارٌ عَنِ انْتِفَاءِ إِبَاحَةِ الْكِتْمَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّ كِتْمَانَهُنَّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ التَّشْرِيعِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لَهُنَّ بِذَلِكَ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ هُوَ الدَّمُ وَمَعْنَاهُ كَتْمُ الْخَبَرِ عَنْهُ لَا كِتْمَانُ ذَاتِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: «كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا» أَيْ كَتَمْتُكَ حَالَ لَيْلٍ.
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مَوْصُولٌ، فَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ، أَي مَا خلاق مِنَ الْحَيْضِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَيَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْوَارِدَ فِي
الْقُرْآنِ عَقِبَ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، قَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَأَمَّا مَنْ يُقْصِرُ لَفْظَ الْعُمُومِ فِي مِثْلِهِ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ إِلْحَاقُ الْحَوَامِلِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ نِيطَ بِكِتْمَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ. وَهَذَا مَحْمَلُ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الْحَيْضُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ:
الْحَمْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَمْلَ لِيَلْحَقَ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ الْجَدِيدِ (أَيْ لِئَلَّا يَبْقَى بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَمُطَلِّقِهَا صِلَةٌ وَلَا تَنَازُعٌ فِي الْأَوْلَادِ) وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِيهِمْ، وَأَمَّا مَعَ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ كِتْمَانُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، وَإِذْ مَضَتْ مُدَّةُ الْأَقْرَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ التَّهْدِيدُ دُونَ التَّقْيِيدِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى التَّقْيِيدِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّهْدِيدِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِكَوْنِهِنَّ مُؤْمِنَاتٍ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْكَوَافِرَ لَا يَمْتَثِلْنَ لِحُكْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْإِسْلَامِيِّ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إِنْ كَتَمْنَ فَهُنَّ لَا يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَاتِ هَذَا الْكِتْمَانُ.
وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِإِنْ، لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَقْصِدٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الشَّرْطِ فَيُؤْتَى بِإِذَا، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَفْرُوضًا، فَرْضًا لَا قَصْدَ لِتَحْقِيقِهِ وَلَا لِعَدَمِهِ جِيءَ بِإِنْ. وَلَيْسَ لَإِنْ هُنَا، شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الشَّكِّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ، وَلَا تَنْزِيلَ إِيمَانِهِنَّ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ، خِلَافًا لِمَا قَرَّرَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ.
وَالْكُفْرَانُ، أَيْ جَعَلَهَا حِسَابًا، أَيْ عَلَامَةَ حِسَابٍ لِلنَّاسِ يَحْسُبُونَ بِحَرَكَاتِهَا أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشُّهُورِ، وَالْفُصُولِ، وَالْأَعْوَامِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَتَذْكِيرٌ بِمَظْهَرِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ لِلشَّمْسِ حُسْبَانٌ كَمَا جُعِلَ لِلْقَمَرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ يَحْسُبُونَ شُهُورَهُمْ
وَأَعْوَامَهُمْ بِحِسَابِ سَيْرِ الشَّمْسِ بِحُلُولِهَا فِي الْبُرُوجِ وَبِتَمَامِ دَوْرَتِهَا فِيهَا. وَالْعَرَبُ يَحْسُبُونَ بِسَيْرِ الْقَمَرِ فِي مَنَازِلِهِ. وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ الْكُبْسَ لِتَحْوِيلِ السَّنَةِ إِلَى فُصُولٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَمُوقِعُ الْمِنَّةِ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ فِي حِسَابِ الْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ بِالْقَمَرِيِّ، وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ بِجَعْلِ اللَّهِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهَذَا بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِنْهُ وَلَوِ اطَّلَعُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَكَانَتِ الْعِبْرَةُ بِهِ أَعْظَمَ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِالْمَصْدَرِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَاسِبَيْنِ.
وَالْحَاسِبُ هُمُ النَّاسُ بِسَبَبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جَاعِلُ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَضَعَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢].
وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، الْقَاهِرُ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا تَتَعَاصَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَائِنَاتُ كُلُّهَا. وَالْعَلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَالِمٍ عَظِيم الْعلم.
[٩٧]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَاعِلُ اللَّيْل سكنا [الْأَنْعَام: ٩٦]، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِعَظِيمِ خِلْقَةِ النُّجُومِ، وَبِالنِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ نِظَامِ سَيْرِهَا إِذْ كَانَتْ هِدَايَةً
وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِحَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُسْتَوْفِيًا لِأَسْبَابِ اهْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ فَكَانُوا مِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْكِتَابُ، أَيْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ هُدَى اللَّهِ، أَيْ دَلِيلُ هُدَى اللَّهِ. وَمَقْصِدُهُ: اهْتَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَكَفَرَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ضَلَالَهُ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ.
وَمَعْنَى مَنْ يَشاءُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَنْ يَشَاءُ هَدْيَهُ، أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ، وَهِيَ إِرَادَتُهُ بِأَنَّهُ يَهْتَدِي فَخَلَقَهُ مُتَأَثِّرًا بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ فَقَدَّرَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ لَا يَهْدِي بِهِ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، أَيْ مَنْ لَمْ يَشَأْ هَدْيَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْ ضَلَالِهِ فَلَا سَبِيلَ لِهَدْيِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي الضَّالِّ لَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنه الْهدى.
[٢٤]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٤]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى وَقَوْلِهِ الْآتِي: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧].
وَجَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٣] بِدَلَالَةِ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُهْتَدٍ، وَفَرِيقٍ ضَالٍّ، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ. وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ أَوْ كَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ. وَجَعَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَقْرِيرِيًّا أَوْ إِنْكَارِيًّا، وَالْمَقْصُودُ: عَدَمُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ الضَّالُّ وَمَنْ هُوَ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ، وَحُذِفَ حَالُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِاسْتِفْهَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
مُنْصَبٌّ إِلَى مَا حَدَثَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِمْ فِي مُزَاوَلَةِ دِينِهِمْ، أَيْ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ عَلَى حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالدِّينِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ عُذْرَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ طُولَ الْأَمَدِ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيط فِيمَا طَال فِيهِ الْأَمَدُ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَلَا قَصْدُ تَهْوِينِ حُصُولِهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ يَطُولَ الْأَمَدُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ قَبْلَ طُولِ الْأَمَدِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْي عَن التَّشَبُّه بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي عَدَمِ خُشُوعِ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ الْأَنْبَاءَ بِأَنَّ مُدَّةَ الْمُسْلِمِينَ تَطُولُ قَرِيبًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِلْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (لَا) حَرْفَ نَهْيٍ وَتَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالْغَائِبِ الْتِفَاتًا أَوِ الْمُرَادُ: أَبْلِغْهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا.
وَفَاءُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ لِتَفْرِيعُ طُولِ الْأَمَدِ عَلَى قَسْوَةِ الْقُلُوبِ مِنْ عَدَمِ الْخُشُوعِ، فَهَذَا التَّفْرِيعُ خَارِجٌ عَنِ التَّشْبِيهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى عَاقِبَةِ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ.
وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْمُدَّةُ الَّتِي أَوْصَوْا بِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى اتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيهَا الْمُغَيَّاةُ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ فِي الشَّرَائِعِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيين لما آتيناكم مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: ٨١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نَسُوا مَا أُوصُوا بِهِ فَخَالَفُوا أَحْكَامَ شَرَائِعِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا عِقَابَ اللَّهِ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا، وَصَارَ دَيْدَنًا لَهُمْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى ضَرِئُوا بِذَلِكَ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَيْ تَمَرَّدَتْ عَلَى الِاجْتِرَاءِ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَجُمْلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ الْحَدَّ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ فَنَبَذُوا دِينَهُمْ
الْآنِيَةِ وَمَا يُوضَعُ مَعَهُ مِنْ نُقْلٍ أَوْ شِوَاءٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ [٧١] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ.
وَتَشْمَلُ الْآنِيَةُ الْكُؤُوسَ. وَذِكْرُ الْآنِيَةِ بعد كَأْسٍ [الْإِنْسَان: ٥] مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: ٥] مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ.
وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ بَعْدَهُ وَاوٌ سَاكِنَةٌ. وَالْكُوبُ: كُوزٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ.
وَعَطْفُ أَكْوابٍ عَلَى (آنِيَةٍ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ الْأَكْوَابَ تُحْمَلُ فِيهَا الْخَمْرُ لِإِعَادَةِ مَلْءِ الْكُؤُوسِ. وَوُصِفَتْ هُنَا بِأَنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ، أَيْ تَأْتِيهِمْ آنِيَتُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ ذَهَبٍ فِي أَوْقَاتٍ أُخْرَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٧١] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ لِأَنَّ لِلذَّهَبِ حُسْنًا وَلِلْفِضَّةِ حُسْنًا فَجُعِلَتْ
آنِيَتُهُمْ مِنَ الْمَعْدِنَيْنِ النَّفِيسَيْنِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، أَوْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ مُتَنَوِّعَةٍ مُتَزَاوِجَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ مَنْظَرًا مِثْلَ مَا قَالَ مَرَةً وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: ٢١]، وَمَرَةً يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْف: ٣١]، وَذَلِكَ لِإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُسْنِ الْمَنَاظِرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهَا فِي الدُّنْيَا لِعِزَّةِ وَجُودِهَا أَوْ وُجُودِ الْكَثِيرِ مِنْهَا، وَأَوْثِرَ ذِكْرُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ تَشْبِيهِهَا بِالْقَوَارِيرِ فِي الْبَيَاضِ.
وَالْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَأَصْلُ الْقَارُورَةِ إِنَاءٌ شِبْهُ كُوزٍ، قِيلَ: لَا تُسَمَّى قَارُورَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ زُجَاجٍ، وَقِيلَ مُطْلَقًا وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ».
وَسُمِّيَتْ قَارُورَةً اشْتِقَاقًا مِنَ الْقَرَارِ وَهُوَ الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ وَهَذَا وَزْنٌ غَرِيبٌ.
وَالْغَالِبُ أَنَّ اسْمَ الْقَارُورَةِ لِلْإِنَاءِ مِنَ الزُّجَاجِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زُجَاجٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنَاءً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
[النَّمْل: ٤٤] وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: قَوارِيرَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْقَوَارِيرِ فِي صَفَاءِ اللَّوْنِ وَالرِّقَّةِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَشُفُّ عَمَّا فِيهَا.
وَالتَّنَافُسُ فِي رِقَّةِ آنِيَةِ الْخَمْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ شَارِبِيهَا قَالَ الْأَعْشَى:
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ | إِذَا ذَاقَهَا مَنْ ذَاقَهَا يَتَمَطَّقُ |