[٣٠]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
عَطَفَتِ الْوَاوُ قِصَّةَ خَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ عَلَى قِصَّةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ انْتِقَالًا بِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَعَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَتَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَحْوَالِهَا، لِيَجْمَعَ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ وَبَين مُخْتَلف حوادث تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ وَأَصْلِهَا لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَا عَلِمَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانُوا يُبَاهُونَ بِهِ الْعَرَبَ وَهُوَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ هُوَ أَنَّ خَلْقَ أَصْلِ النَّوْعِ أَمْرٌ مُدْرَكٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا لَفَتَ ذِهْنَهُ إِلَى وُجُودِهِ عَلِمَ أَنَّهُ وُجُودٌ مَسْبُوقٌ بِوُجُودِ أَصْلٍ لَهُ بِمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَشْأَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ فَيُوقِنُ أَنَّ لِهَذَا النَّوْعِ أَصْلًا أَوَّلَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ نُشُوءُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أُدْمِجَتْ فِيهَا مِنَّةٌ وَهِيَ قَوْله: لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٩] الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِهِمْ تَهَيَّأَتْ أَنْفُسُهُمْ لِسَمَاعِ قِصَّةِ إِيجَادِ مَنْشَأِ النَّاسِ الَّذِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ لِأَجْلِهِمْ لِيُحَاطَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ مَعَ عَظِيمِ الْمِنَّةِ وَهِيَ مِنَّةُ الْخَلْقِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَمِنَّةُ التَّفْضِيلِ وَمِنَّةُ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِنَا هُوَ أَبْدَعَ مَظَاهِرِ إِحْيَائِنَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا، فَكَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِهِ وَاضِحَةً مَعَ حُسْنِ التَّخَلُّص إِلَى ذكر خَبَرَهُ الْعَجِيبَ، فَإِيرَادُ وَاوِ الْعَطْفِ هُنَا لِأَجْلِ إِظْهَارِ اسْتِقْلَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا فِي عِظَمِ شَأْنِهَا.
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِلُونَ بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ ومطلقته الرَّجْعِيَّة.
و (أَحَق) قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَتَى بِهِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: ٤٥] لَا سِيَّمَا إِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهَا مُفَضَّلٌ عَلَيْهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْضِيلٌ عَلَى بَابِهِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَقَرَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِمَا تَحْصِيلُهُ وَتَبْيِينُهُ: أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ صِنْفَيْ حَقٍّ مُخْتَلِفَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ: هُمَا حَقُّ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ إِنْ رَغِبَ فِيهَا، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ إِنْ أَبَتْهَا، فَصَارَ الْمَعْنَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّ الْمُطَلَّقَاتِ، مِنْ حَقِّ الْمُطَلَّقَاتِ بِالِامْتِنَاعِ وَقَدْ نَسَجَ التَّرْكِيبَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ.
وَقَوْلُهُ: فِي ذلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى التَّرَبُّصِ بِمَعْنَى مُدَّتِهِ، أَيْ لِلْبُعُولَةِ حَقُّ الْإِرْجَاعِ فِي مُدَّةِ الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ لَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ الْقَيْدِ. هَذَا تَقْرِيرُ مَعْنَى
الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهَا جَاءَتْ لِتَشْرِيعِ حُكْمِ الْمُرَاجَعَةِ فِي الطَّلَاقِ مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ تَشْرِيعٍ لِلْمُرَاجَعَةِ بَلِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِأَمْرَيْنِ: حُكْمِ الْمُرَاجَعَةِ، وَتَحْضِيضِ الْمُطَلِّقِينَ عَلَى مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَفَارِقَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِكِلَيْهِمَا، رَغْبَةٌ فِي الرُّجُوعِ، فَاللَّهُ يُعْلِمُ الرِّجَالَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَرْغَبُوا فِي مُرَاجَعَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَصْفَحُوا عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ مَظِنَّةُ الْبَصِيرَةِ وَالِاحْتِمَالِ، وَالْمَرْأَةُ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالْإِبَاءِ.
وَالرَّدُّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٧] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الرُّجُوعُ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ وَهُوَ الْمُرَاجَعَةُ، وَتَسْمِيَةُ الْمُرَاجَعَةِ رَدًّا يُرَجِّحُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَدِ اعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا لِعِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقُوهُ فَتَأَوَّلُوا التَّعْبِيرَ بِالرَّدِّ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ سَائِرَةٌ فِي سَبِيلِ الزَّوَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسُمِّيَتِ الْمُرَاجَعَةُ رَدًّا عَنْ هَذَا السَّبِيلِ الَّذِي أَخَذْتُ فِي سُلُوكِهِ وَهُوَ رَدٌّ مَجَازِيٌّ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً شَرْطٌ قُصِدَ بِهِ الْحَثُّ عَلَى إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ للتَّقْيِيد.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ آيَةَ خَلْقِ النُّجُومِ وَغَيْرَهَا. وَالْعِلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْآيَاتِ. وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ٩٩].
[٩٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
هَذَا تَذْكِيرٌ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَكَيْفَ نَشَأْ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، فَالَّذِي أَنْشَأَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ هُوَ الْحَقِيقُ بِعِبَادَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا أَشْرَكُوا بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَعْظَمِ الْآيَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
وَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، إِذْ أَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ خَالِقِهِمْ غَيْرَ مَنْ خَلَقَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ وَالْإِيجَادُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مُرَادٌ بِهِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ. وَالنَّفْسُ
الْوَاحِدَةُ هِيَ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ أَنْشَأَكُمْ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ الْمُقَارَنِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُسْتَقَرٌّ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «بِكَسْرِ الْقَافِ». فَعَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْقَافِ- يَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، ومُسْتَوْدَعٌ كَذَلِكَ، وَرَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ،

[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ مَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ يُقَالُ لِلظَّالِمِينَ هُمْ وَأَمْثَالِهِمْ: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤]، يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ تَمَتُّعِ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا ويتمنون أَن يَجْعَل لَهُمُ الْعَذَابُ فَكَانَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَيْ هُمْ مَظِنَّةُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا أَتَى الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِدُونِ إِنْذَارٍ غَيْرَ مُتَرَقِّبِينَ مَجِيئَهُ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ
[يُونُس: ١٠٢]، فَكَانَ عَذَابُ الدُّنْيَا خزيا يخزي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَجَزَاءٌ يَجْزِي بِهِ اللَّهُ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ دَالَّةٌ عَلَى تَسَبُّبِ التَّكْذِيبِ فِي إِتْيَانِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا سَاوَاهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَبَبُ حُلُولِ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَهُوَ مُنْذِرٌ بِأَنَّهُمْ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِمْ عَائِد على فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر: ٢٤] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى (مَنْ) جَمْعٌ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ
عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي أَخْزَاهُمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:
هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
وحَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ جَاءَ الْعَذَابُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مَكَانٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ بِالصَّوَاعِقِ، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنَ الْجَوِّ مِثْلَ رِيحِ عَادٍ، قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤]، وَقَوْمٌ أَتَاهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ بِالزَّلَازِلِ
الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَمَوْقِعُهَا بَعْدَ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا، وَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْآيَاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ.
وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ. وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا يَشْمَلُ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ إِلَى قَوْلِهِ: بَعْدَ مَوْتِها [الْحَدِيد: ١٦]، وَهُوَ مَحَلُّ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِأَنَّ التَّنْظِيرَ بِحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ.
وَبَيَانُ الْآيَاتِ يَحْصُلُ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ وَتَوْضِيحِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَمِنْ أَوْضَحِ الْبَيَانِ التَّنْظِيرُ بِأَحْوَالِ الْمُشَابِهِينَ فِي حَالَةِ التَّحْذِيرِ أَوِ التَّحْضِيضِ.
ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: رَجَاءٌ وَتَعْلِيلٌ، أَيْ بَيَّنَا لَكُمْ لِأَنَّكُمْ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ يُرْجَى فَهْمُهُ، وَالْبَيَانُ عِلّة لفهمه.
[١٨]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ١٨]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَدَنِيِّ وَأَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: ١١] وَأَنَّ آيَةَ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَدِيد: ١٦] وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضٌ. وَقَدْ تَخَلَّلَ الْمَكِّيُّ وَالْمَدَنِيُّ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْآيَتَيْنِ مُتَمَاثِلَةٌ إِذْ أُرِيدَ أَنْ يُعَادَ مَا سَبَقَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَيُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ الصِّلَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا الْمُمْتَثِلُونَ لِذَلِكَ التَّحْرِيضِ.
وَعَطَفَ وَالْمُصَّدِّقاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْحَدِيد: ١٢]، وَلِأَنَّ الشُّحَّ يَكْثُرُ فِي النِّسَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَشْعَارُ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالْمُصَدِّقِينَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْمُتَصَدِّقِينَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ بَعْدَ قَلْبِهَا صَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا تَطَلُّبًا لِخِفَّةِ الْإِدْغَامِ، فَقَوْلُهُ:
كَأْسًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا خَمْرٌ فَكَوْنُ الْخَمْرِ فِيهَا هُوَ مُصَحِّحُ تَسْمِيَتِهَا كَأْسًا، وَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ السَّقْيِ إِلَى الْكَأْسِ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْكَأْسِ يَتَقَوَّمُ بِمَا فِي الْإِنَاءِ مِنَ الْخَمْرِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَكَأْسٌ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
يُرِيدُ: وَخَمْرٌ شَرِبْتُ.
وَالْقَوْلُ فِي إِطْلَاقِ الْكَأْسِ عَلَى الْإِنَاءِ أَوْ عَلَى مَا فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً [الْإِنْسَان: ٥].
وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ سَقْيَةٌ أُخْرَى، أَيْ مَرَّةً يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ مِزَاجُهَا الْكَافُورُ وَمَرَّةً يُسْقَوْنَ كَأْسًا مِزَاجُهَا الزَّنْجَبِيلُ.
وَضَمِيرُ فِيها لِلْجَنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: جَنَّةً وَحَرِيراً [الْإِنْسَان: ١٢].
وَزَنْجَبِيلُ: كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ وَأَصْلُهَا بِالْكَافِ الْأَعْجَمِيَّةِ عِوَضِ الْجِيمِ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ: هِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِجُذُورٍ مِثْلَ جُذُورِ السُعْدِ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ الدَّقِيقِ وَاللِّفْتِ الدَّقِيقِ لَوْنُهُا إِلَى الْبَيَاضِ لَهَا نَبَاتٌ لَهُ زَهْرٌ، وَهِيَ ذَاتُ رَائِحَةٍ عِطْرِيَّةٍ طَيِّبَةٍ وَطَعْمُهُا شَبِيهٌ بِطَعْمِ الْفِلْفِلِ، وَهُوَ يَنْبُتُ بِبِلَادِ الصِّينِ وَالسِّنَدِ وَعُمَانَ وَالشِّحْرِ، وَهُوَ أَصْنَافٌ أَحْسَنُهَا مَا يَنْبُتُ بِبِلَادِ الصِّينِ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالطَّبْخِ كَالْأَفَاوِيَةِ وَرَائِحَتُهُ بُهَارِيَةٌ وَطَعْمُهُ حَرِيفٌ. وَهُوَ مُنَبِّهٌ وَيُسْتَعْمَلُ مَنْقُوعًا فِي الْمَاءِ وَمُرَبَّى بِالسُّكَّرِ.
وَقَدْ عَرَفَهُ الْعَرَبُ وَذَكَرَهُ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ فِي طَيِّبِ الرَّائِحَةِ.
أَيْ يَمْزُجُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الْمَنْقُوعِ فِيهِ الزَّنْجَبِيلُ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ وَحُسْنِ طَعْمِهِ.
وَانْتَصَبَ عَيْناً عَلَى الْبَدَلِ مِنْ زَنْجَبِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٥، ٦].
وَمَعْنَى كَوْنِ الزَّنْجَبِيلِ عَيْنًا: أَنْ مَنْقُوعَهُ أَوِ الشَّرَابُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ كَثِيرٌ كَالْعَيْنِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [مُحَمَّد: ١٥]، أَيْ هُوَ كَثِيرٌ جِدًّا وَكَانَ يُعْرَفُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزَّةِ.
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ بُيُوتِهِمُ الْقَرِيبَةِ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَلِذَلِكَ قُيِّدَ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا سَجى فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقْتُ قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: ٢، ٣].
وَالضُّحَى تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: ١].
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَالضُّحى بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ أَلِفِهِ الْوَاوُ لِأَنَّهُمْ رَاعَوُا الْمُنَاسَبَةَ مَعَ أَكْثَرِ الْكَلِمَاتِ الْمَخْتُومَةِ بِأَلِفٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مُنْقَلِبَةُ الْأَلِفِ عَنِ الْيَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ تَجْرِي فِيهَا الْإِمَالَةُ فِي اللُّغَاتِ الَّتِي تُمِيلُ الْأَلِفَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تُمَالَ إِذَا وَقَعَتْ مَعَ أَلِفٍ تُمَالُ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ».
وَيُقَالُ: سَجَا اللَّيْلُ سجوا بِفَتْح فَسُكُون، وسجوا بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، إِذَا امْتَدَّ وَطَالَ مُدَّةُ ظَلَامِهِ مِثْلَ سَجْوِ الْمَرْءِ بِالْغِطَاءِ، إِذَا غُطِّيَ بِهِ جَمِيعُ جَسَدِهِ وَهُوَ وَاوِيٌّ وَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الْيَاءِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابَةِ الضُّحى وَجُمْلَةُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ إِلَخْ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جُمْلَةً مَنْفِيَّةً لَمْ تَقْتَرِنْ بِاللَّامِ.
وَالتَّوْدِيعُ: تَحِيَّةُ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ.
وَاسْتُعِيرَ فِي الْآيَةِ لِلْمُفَارَقَةِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ تَشْبِيهًا بِفِرَاقِ الْمُسَافِرِ فِي انْقِطَاعِ الصِّلَةِ حَيْثُ شَبَّهَ انْقِطَاعَ صِلَةِ الْكَلَامِ بِانْقِطَاعِ صِلَةِ الْإِقَامَةِ، وَالْقَرِينَةُ إِسْنَادُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالنَّاسِ اتِّصَالًا مَعْهُودًا.
وَهَذَا نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيَ.
وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ: وَما قَلى لِلْإِتْيَانِ عَلَى إِبْطَالِ مَقَالَتَيِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَدَّعَهُ رَبُّهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَلَاهُ رَبُّهُ، يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.
وَجُمْلَةُ: وَما قَلى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ وَلَهَا حُكْمُهَا.


الصفحة التالية
Icon