وَأُسْنِدَتْ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ لِأَنَّهُ قَول منبىء عَنْ تَدْبِيرٍ عَظِيمٍ فِي جَعْلِ الْخَلِيفَةِ فِي الْأَرْضِ، فَفِي ذَلِكَ الْجَعْلِ نِعْمَةُ تَدْبِيرٍ مَشُوبٍ بِلُطْفٍ وَصَلَاحٍ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢]، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ النَّوْعِ أُضِيفَ وَصْفُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ أَشْرَفِ أَفْرَادِ النَّوْعِ وَهُوَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَكْرِيمِهِ بِشَرَفِ حُضُورِ الْمُخَاطَبَةِ.
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ.
هَذَا جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَالتَّقْدِيرُ فَقَالُوا عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الْبَقَرَة: ٣٤] وَفَصَلَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْفَاءِ أَوِ الْوَاوِ جَرْيًا بِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُتَّبَعَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَالَ زُهَيْرٌ:

قِيلَ لَهُمْ أَلَا ارْكَبُوا أَلَاتَا قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ آلَافَا
أَيْ فَارْكَبُوا وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ
وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي أَمْثَالِهِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الْعَاطِفِ بِتَكْرِيرِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ تَقْتَضِي الْإِعَادَةَ فِي الْغَالِبِ فَطَرَدُوا الْبَابَ فَحَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَرُبَّمَا عَطَفُوا ذَلِكَ بِالْفَاءِ لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ.
وَمِمَّا عُطِفَ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٢٣، ٢٤] وَقَدْ يُعْطَفُ بِالْوَاوِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٣٢، ٣٣] وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حِكَايَةَ التَّحَاوُرِ بَلْ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَقْوَالٍ جَرَتْ أَوْ كَانَتِ الْأَقْوَالُ الْمَحْكِيَّةُ مِمَّا جَرَى فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [٢٦] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [٢٧] ثُمَّ قَالَ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [٢٨]
الْآيَةَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَلَيْسَ قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ جَوَابا لإذ عَامِلًا فِيهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ وَأَنْ تَصِيرَ جُمْلَةُ (إِذْ) تَابِعَةً لَهُ إِذِ الظَّرْفُ تَابِعٌ لِلْمَظْرُوفِ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ تَشْرِيعٍ وَنِظَامٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِإِصْلَاحِ حَالِ الْمَرْأَةِ، وَرَفْعِ شَأْنِهَا لِتَتَهَيَّأَ الْأُمَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، إِلَى الِارْتِقَاءِ وَسِيَادَةِ الْعَالَمِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ إِثْبَاتٌ لِتَفْضِيلِ الْأَزْوَاجِ فِي حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ عَلَى نِسَائِهِمْ لِكَيْلَا يُظَنَّ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوعَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُطَّرِدَةٌ، وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا التَّفْضِيلُ ثَابِتٌ عَلَى الْإِجْمَالِ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا التَّفْضِيلِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُقْتَضَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ خَبَرٌ عَنْ (دَرَجَةٍ)، قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تُفِيدُهُ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى اسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، كَمَا أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٤] وَفِي هَذَا الِاهْتِمَامِ مَقْصِدَانِ أَحَدُهُمَا دَفْعُ تَوَهُّمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ، تَوَهُّمًا مِنْ قَوْلِهِ آنِفًا:
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَثَانِيهُمَا تَحْدِيدُ إِيثَارِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، لِإِبْطَالِ إِيثَارِهِمُ الْمُطْلَقَ، الَّذِي كَانَ مُتَّبَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالرِّجَالُ جَمْعُ رَجُلٍ، وَهُوَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ خَاصَّةً، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: امْرَأَةٌ
رَجُلَةُ الرَّأْيِ، فَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ تُشْبِهُ الرَّجُلَ.
وَالدَّرَجَةُ مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ فِي سُلَّمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَصِيغَتْ بِوَزْنِ فَعَلَةٍ مِنْ دَرَجَ إِذَا انْتَقَلَ عَلَى بُطْءٍ وَمَهْلٍ، يُقَالُ: دَرَجَ الصَّبِيُّ، إِذَا ابْتَدَأَ فِي الْمَشْيِ، وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلرِّفْعَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ الْحُقُوقِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَقَرَّرَ تَشْبِيهُ الْمَزِيَّةُ فِي الْفَضْلِ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، فَتَبِعَ ذَلِكَ تَشْبِيهُ الْأَفْضَلِيَّةِ بِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي سَيْرِ الصَّاعِدِ، لِأَنَّ بِزِيَادَتِهَا زِيَادَةَ الِارْتِفَاعِ، وَيُسَمُّونَ الدَّرَجَةَ إِذَا نَزَلَ مِنْهَا النَّازِلُ: دَرَكَةً، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ بِهَا الْمَكَانَ النَّازِلَ إِلَيْهِ.
وَالْعِبْرَةُ بِالْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ، فَإِن كَانَ الْمَقْصد مِنَ الدَّرَجَةِ الِارْتِفَاعَ كَدَرَجَةِ السُّلَّمِ وَالْعُلُوَّ فَهِيَ دَرَجَةٌ وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ النُّزُولَ كَدَرَكِ الدَّامُوسِ فَهِيَ دَرَكَةٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِنُزُولِ الصَّاعِدِ وَصُعُودِ النَّازِلِ.
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ اقْتَضَاهَا مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي صِنْفِ الرِّجَالِ مِنْ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ الذُّكُورَةَ فِي الْحَيَوَانِ تَمَامٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ صِنْفَ الذَّكَرِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ أَذْكَى مِنَ الْأُنْثَى، وَأَقْوَى جِسْمًا وَعَزْمًا، وَعَنْ إِرَادَتِهِ يَكُونُ الصَّدْرُ، مَا لَمْ يَعْرِضْ لِلْخِلْقَةِ عَارِضٌ يُوجِبُ انْحِطَاطَ بَعْضِ أَفْرَادِ الصِّنْفِ، وَتَفَوُّقَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْآخَرِ نَادِرًا، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ التَّشْرِيعِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ النُّظُمِ التَّكْوِينِيَّةِ، لِأَنَّ وَاضِعَ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ.
الْأُتْرُجَّةِ الْعَظِيمَةِ مُغْلَقًا عَلَى الْعُرْجُونِ، ثُمَّ يَنْفَتِحُ كَصُورَةِ نَعْلَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعُنْقُودُ مُجْتَمِعًا، وَيُسَمَّى حِينَئِذٍ الْإِغْرِيضَ، ثُمَّ يَصِيرُ قِنْوًا.
ودانِيَةٌ قَرِيبَةٌ. وَالْمُرَادُ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: ٢٣].
وَالْقِنْوَانُ الدَّانِيَةُ بَعْضُ قِنْوَانِ النَّخْلِ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ هُنَا إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ التَّذْكِيرِ بِإِتْقَانِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّ الْمِنَّةَ بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ أَتَمُّ، وَالدَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ نَخْلَتُهَا قَصِيرَةً لَمْ تَتَجَاوَزْ طُولَ قَامَةِ الْمُتَنَاوِلِ، وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْبَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لِأَنَّ الذِّكْرَى قَدْ حَصَلَتْ بِالدَّانِيَةِ وَزَادَتْ بِالْمِنَّةِ التَّامَّةِ.
وجَنَّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى خَضِراً. وَمَا نُسِبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ رَفْعِ جَنَّاتٍ لَمْ يَصِحَّ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ أَعْنابٍ تَمْيِيزٌ مَجْرُورٌ بِ مِنَ الْبَيَانِيَّةِ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لِلْأَعْنَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَادِيرِ كَمَا يُقَال جريت تَمْرًا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُدِّيَ فِعْلُ الْإِخْرَاجِ إِلَى الْجَنَّاتِ دُونَ الْأَعْنَابِ، فَلَمْ يُقِلْ وَأَعْنَابًا فِي جَنَّاتٍ. وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ جَمْعُ عِنَبَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَمَرُ شَجَرِ الْكَرْمِ. وَيُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ عِنَبٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ شَجَرَةِ عِنَبٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَتُنُوسِيَ الْمُضَافُ. قَالَ الرَّاغِبُ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وللكرم نَفسه» اهـ. وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْمُفْرَدِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقَ الْعِنَبَةِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَلَكِنْ يُطْلَقُ بِالْجَمْعِ، يُقَالُ: عِنَبٌ، مُرَادٌ بِهِ الْكَرْمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً [عبس: ٢٧، ٢٨]، وَيُقَالُ: أَعْنَابٌ كَذَلِكَ، كَمَا هُنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّهُ يُقَالُ: عِنَبَةٌ لِشَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وَلِلْكَرْمِ نَفْسِهِ الْوَاحِدَةُ عِنَبَةٌ».
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا
وَقَدْ يَتَطَلَّبُ وَجْهُهُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَانَ فِي مَقَامٍ أَهَمَّ لِأَنَّهُ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِإِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، وَإِمَّا لِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِمَّا لِنَحْوِ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ كَائِنٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ إِجْمَالًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَقَوْلُهُ: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِ- مَثَلًا.
وَجَعْلُ الْمُمَثَّلِ بِهِ حَالَةَ رَجُلٍ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ امْرَأَةٍ أَوْ طِفْلٍ وَلَكِنْ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى أَذْهَانِ النَّاسِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ وَالْحِكَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الرجل مِنَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُرَادُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ أَوِ الْكَدِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَقَدْ يَغْفُلَانِ وَيَلْهَيَانِ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ شُرَكاءُ نَعْتٌ لِ- رَجُلًا، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى شُرَكاءُ لِأَنَّ خَبَرَ النَّكِرَةِ يَحْسُنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا إِذَا وُصِفَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوصَفْ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِكَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَمَعْنَى فِيهِ شُرَكاءُ: فِي مُلْكِهِ شُرَكَاءُ.
وَالتَّشَاكُسُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَشِدَّةُ الِاخْتِلَافِ فِي الرَّجُلِ الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِخْدَامِهِ وَتَوْجِيهِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَلَماً بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مِيمٌ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ: سَلِمَ لَهُ، إِذَا خَلَصَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَالِمًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مِنْ:
سَلِمَ، إِذَا خَلَصَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ كَمَا أَيَّدَهُ النَّحَاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِلرَّجُلِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِ فِي تَقَسُّمِ عَقْلِهِ بَيْنَ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ فَهُوَ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ مِنْ رِضَى بَعْضِهِمْ عَنْهُ وَغَضَبِ بَعْضٍ، وَفِي تَرَدُّدِ عِبَادَتِهِ إِنْ أَرْضَى بِهَا أَحَدَ آلِهَتِهِ، لَعَلَّهُ يُغْضِبُ بِهَا ضِدَّهُ، فَرَغَبَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ أَوْلَى بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ:
٩١]، وَيَبْقَى هُوَ ضَائِعًا لَا يَدْرِي عَلَى
عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ فَهُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ:
«فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ» إِلَخْ.
وَافْتِتَاحُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْلَمُوا لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الْحَدِيد: ١٧].
وأَنَّمَا الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فِي إِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَحَصْرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهَا هُوَ قْصَرُ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ النَّاسِ، فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيُّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ هِمَمُ غَالِبِ النَّاس من شؤون الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالَّتِي إِنْ سَلِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِهِا لَا يَخْلُو مِنْ مُلَابَسَةِ بَعْضٍ آخَرَ إِلَّا الَّذِينَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ أَعْمَالَهُمْ فِي الْحَيَاةِ كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحَيَاةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَعْمَالُ التُّقَى وَالْمَنَافِعِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّأْيِيدِ لِلْحَقِّ وَتَعْلِيمِ الْفَضَائِلِ وَتَشْرِيعِ الْقَوَانِينِ.
وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا من شؤون الْحَيَاةِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ وَمَا لَا يَخْلُو من مقارفة تَضْيِيعِ الْغَايَاتِ الشَّرِيفَةِ أَوِ اقْتِحَامِ مَسَاوٍ ذَمِيمَةٍ، وَهِيَ أُصُولُ أَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ أَيْضًا أَصُولُ أَطْوَارِ آحَادِ النَّاسِ فِي تَطَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّعِبَ طَوْرُ سِنِّ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا، وَاللَّهْوَ طَوْرُ الشَّبَابِ، وَالزِّينَةَ طَوْرُ الْفُتُوَّةِ، وَالتَّفَاخُرَ طَوْرُ الْكُهُولَةِ، وَالتَّكَاثُرَ طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ. وَذَكَرَ هُنَا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
فَاللَّعِبُ: اسْمٌ لِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُرَاد بِهِ المزح وَالْهَزْلُ لِتَمْضِيَةِ الْوَقْتِ أَوْ إِزَالَةِ وَحْشَةِ الْوَحْدَةِ، أَوِ السُّكُونِ، أَوِ السُّكُوتِ، أَوْ لِجَلْبِ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ لِلنَّفْسِ، أَوْ يَجْلِبُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْحَبِيبِ، أَوْ يَجْلِبُ ضِدَّهُ لِلْبَغِيضِ، كَإِعْمَالِ الْأَعْضَاءِ وَتَحْرِيكِهَا دَفْعًا لِوَحْشَةِ السُّكُونِ، وَالْهَذَيَانِ الْمَقْصُودِ لِدَفْعِ وَحْشَةِ السُّكُوتِ، وَمِنْه الْعَبَث، وكالمزح مَعَ الْمَرْأَةِ لْاجْتِلَابِ إِقْبَالِهَا وَمَعَ الطِّفْلِ تَحَبُّبًا أَوْ إِرْضَاءً لَهُ.
وَاللَّعِبُ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَعْمَالِ الْأَطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ فَطَوْرُ الطُّفُولَةِ طَوْرُ اللَّعِبِ وَيَتَفَاوَتُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِتْيَانِ مِنْهُ فَيَقِلُّ وَيَكْثُرُ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْأَطْوَارِ الْأُولَى مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِي رَجَاحَةِ الْعُقُولِ وَضَعْفِهَا. وَالْإِفْرَاطُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ طَوْرِهِ يُؤْذِنُ بِخِسَّةِ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَهُ: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٥٥].

[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٢٢]

إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
هَذَا الْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ قَرِينَتُهُ الْخِطَابُ إِذْ لَيْسَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْخِطَابِ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْأَبْرَارَ الْمَوْصُوفُ نَعِيمُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ فِعْلًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي سَقاهُمْ [الْإِنْسَان: ٢١]، نَحْوَ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ يَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَوْ يُقَدَّرُ اسْمًا هُوَ حَالٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ نَحْوَ: مَقُولًا لَهُمْ هَذَا اللَّفْظُ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَكُونُ حَاضِرًا لَدَيْهِمْ مِنْ أَلْوَانِ النَّعِيمِ الْمَوْصُوفِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَسْلَفُوا مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَتَكْرِمَتُهُمْ بِذَلِكَ وَتَنْشِيطُ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ هُوَ حَقٌّ لَهُمْ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِمْ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ كَوْنِهِ جَزَاءً لَا مَنًّا عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْإِكْرَامِ عِنْدَ الْكِرَامِ أَنْ يُتْبِعُوا كَرَامَتَهُمْ بِقَوْلٍ يَنْشَطُ لَهُ الْمُكْرَمُ وَيُزِيلُ عَنْهُ مَا يَعْرِضُ مِنْ خَجَلٍ وَنَحْوِهِ، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ حَقًّا لَا مُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ.
وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً عِلَاوَةً عَلَى إِينَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا أُغْدِقَ عَلَيْهِمْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا بِأَنَّ سَعْيَهُمُ الَّذِي كَانَ النَّعِيمُ جَزَاءً عَلَيْهِ، هُوَ سَعْيٌ مَشْكُورٌ، أَيْ مَشْكُورٌ سَاعِيهِ، فَأَسْنَدَ الْمَشْكُورَ إِلَى السَّعْيِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: سَيْلٌ مُفْعَمٌ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَشْكُوراً مَفْعُولًا حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً لَكِنْ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ مَشْكُورًا عَلَيْهِ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ كَإِقْحَامِ نَظِيره آنِفا.

[سُورَة الضُّحَى (٩٣) : الْآيَات ٩ إِلَى ١١]

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
الْفَاءُ الْأُولَى فَصِيحَةٌ.
وَ (أَمَّا) تُفِيدُ شَرْطًا مُقَدَّرًا تَقْدِيرُهُ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَكَانَ مُفَادُهَا مُشْعِرًا بِشَرْطٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ هُوَ الَّذِي اجْتُلِبَتْ لِأَجْلِهِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، وَتَقْدِيرُ نَظْمِ الْكَلَامِ إِذْ كُنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَقْرَرْتَ بِهِ فَعَلَيْكَ بِشُكْرِ رَبِّكَ، وَبَيَّنَ لَهُ الشُّكْر بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ إِلَخْ.
وَقَدْ جُعِلَ الشُّكْرُ هُنَا مُنَاسِبًا لِلنِّعْمَةِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ تَقْدِيرُ: إِذَا أَرَدْتَ الشُّكْرَ، لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ بِدَافِعِ الْمُرُوءَةِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَصُدِّرَ الْكَلَامُ بِ (أَمَّا) التَّفْصِيلِيَّةِ لِأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ (أَمَّا) بِمَعْنَى: وَمَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ، قُرِنَ جَوَابُهَا بِالْفَاءِ.
واليتيم مَفْعُولٌ لِفِعْلِ فَلا تَقْهَرْ وَقُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَلِهَذَا الْقَصْدِ لَمْ يُؤْتَ بِهِ مَرْفُوعًا وَقَدْ حَصَلَ مَعَ ذَلِكَ الْوَفَاءُ بِاسْتِعْمَالِ جَوَابِ (أَمَّا) أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا عَنْ (أَمَّا) بِشَيْءٍ كَرَاهِيَةَ مُوَالَاةِ فَاءِ الْجَوَابِ لِحَرْفِ الشَّرْطِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ مَا الْتَزَمُوا الْفَصْلَ بَيْنَ (أَمَّا) وَجَوَابِهَا بِتَقْدِيمِ شَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِ الْجَوَابِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُقَدَّمِ لِأَنَّ مَوْقِعَ (أَمَّا) لَا يَخْلُو عَنِ اهْتِمَامٍ بِالْكَلَامِ اهْتِمَامًا يَرْتَكِزُ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، فَاجْتِلَابُ (أَمَّا) فِي الْكَلَامِ أَثَرٌ لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَثَارَ الِاهْتِمَامِ بَعْضُ مُتَعَلَّقَاتِ الْجُمْلَةِ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعْتَنُونَ بِتَقْدِيمِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ السَّائِلَ وَتَقْدِيمِ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عَلَى فِعْلَيْهِمَا.
وَقَدْ قُوبِلَتِ النِّعَمُ الثَّلَاثُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَيْهَا هَذَا التَّفْصِيلُ بِثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ تُقَابِلُهَا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَذَلِكَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ، وَيَجْرِي عَلَى تَفْسِيرِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ السَّائِلَ عَنِ الدِّينِ وَالْهُدَى، فَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: ٦] لَا مَحَالَةَ، أَيْ فَكَمَا آوَاكَ رَبُّكَ وَحَفِظَكَ مِنْ عَوَارِضِ النَّقْصِ الْمُعْتَادِ لِلْيُتْمِ، فَكُنْ أَنْتَ مُكْرِمًا لِلْأَيْتَامِ رَفِيقًا بِهِمْ، فَجُمِعَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَهْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ


الصفحة التالية
Icon