صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الْمَلَائِكَةِ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ الْمُرَادِ جَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَافٍ فِي إِحَاطَتِهِمْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ مَدَارِكَهُمْ غَايَةٌ فِي السُّمُوِّ لِسَلَامَتِهَا مِنْ كُدْرَاتِ الْمَادَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَفْرَادُ الْبَشَرِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الشُّعُورِ بِالْخَفِيَّاتِ، وَفِي تَوَجُّهِ نُورَانِيَّةِ النُّفُوسِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَفِي التَّوَسُّمِ وَالتَّفَرُّسِ فِي الذَّوَاتِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ جِبِلِّيَّةً وَاكْتِسَابِيَّةً وَلَدُنِّيَّةً الَّتِي أَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ الْبَحْتَةِ؟
وَفِي هَذَا مَا يُغْنِيكَ عَمَّا تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ وَجْهِ اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صِفَاتِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ بُدُوِّهَا مِنْهُ مِنْ تَوْقِيفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ أَيْ عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ وَانْقَرَضَتْ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى الْوُحُوشِ الْمُفْتَرِسَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَبِهِ أَيْضًا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا عَلَى مَا يَتَوَقَّعُ هَذَا الْخَلْقُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُلَاحَظْ فِيهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ صُدُورِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ بِمَا يَصْلُحُونَ لَهُ بِالْقُوَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ هَذَا عَلَى بَنِي آدَمَ دُونَ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُفْسِدُ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانِ.
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ دُونَ الدَّوَامِ أَيْ مَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْفَسَادُ تَارَةً وَسَفْكُ الدِّمَاءِ تَارَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ وَالسَّفْكَ لَيْسَا بِمُسْتَمِرَّيْنِ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ صَلَاحُهَا وَانْتِظَامُ أَمْرِهَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِالتَّعَجُّبِ مَوْقِعٌ وَهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ مُقْتَضَى حَقِيقَةِ الْخِلَافَةِ أَوْ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِ الِاعْتِنَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا عَلَى نُظُمٍ تَقْتَضِي إِرَادَةَ بَقَائِهَا إِلَى أَمَدٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْعَالِمِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [مُحَمَّد: ٢٢، ٢٣] وَقَالَ:
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥].
وَلَا يَرِدُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غِيبَةٌ وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَيْسَ عَالَمَ تَكْلِيفٍ وَلِأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِي مَشُورَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْخِطْبَةِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَوَقُّفِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْمُسْتَشَارِ
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الْعَزِيزُ: الْقَوِيُّ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُوَّةُ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: ٨] وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
وَالْحَكِيمِ: الْمُتْقِنُ الْأُمُورَ فِي وَضْعِهَا، مِنَ الْحِكْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْكَلَامُ تَذْيِيلٌ وَإِقْنَاعٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَّعَ حُقُوقَ النِّسَاءِ كَانَ هَذَا التَّشْرِيعُ مَظِنَّةَ الْمُتَلَقِّي بِفَرْطِ التَّحَرُّجِ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِينَ مَا اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا أَنَّ لِلنِّسَاءِ مَعَهُمْ حُظُوظًا، غَيْرَ حُظُوظِ الرِّضَا وَالْفَضْلِ وَالسَّخَاءِ، فَأَصْبَحَتْ لَهُنَّ حُقُوقٌ يَأْخُذْنَهَا مِنَ الرِّجَالِ كَرْهًا، إِنْ أَبَوْا، فَكَانَ الرِّجَالُ بِحَيْثُ يَرَوْنَ فِي هَذَا ثَلْمًا لِعِزَّتِهِمْ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمُتَقَدِّمُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أَيْ قَوِيٌّ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَتَّقِي أَحَدًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ يَعْلَمُ صَلَاحَ النَّاسِ، وَأَنَّ عِزَّتَهُ تُؤَيِّدُ حِكْمَتَهُ فَيُنَفِّذُ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ بِالتَّشْرِيعِ، وَالْأَمْرَ الْوَاجِبَ امْتِثَالُهُ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَرِهُوا.
[٢٢٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ غَايَةِ الطَّلَاقِ الَّذِي يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ مِنِ امْرَأَتِهِ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَعَنْ بَعْضِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَنَ أَنَّ لِلنِّسَاءِ حَقًّا كَحَقِّ الرِّجَالِ، وَجَعَلَ لِلرِّجَالِ دَرَجَةً زَائِدَةً: مِنْهَا أَنَّ لَهُمْ حَقَّ الطَّلَاقِ، وَلَهُمْ حَقَّ الرَّجْعَةِ لِقَوْلِهِ:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ نِهَايَةِ الطَّلَاقِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلَّهُ حُكْمَ تَحْدِيدِ الطَّلَاقِ، إِفَادَةً لِلتَّشْرِيعِ فِي هَذَا الْبَابِ وَدَفْعًا لِمَا قَدْ يَعْلَقُ أَوْ عَلِقَ بِالْأَوْهَامِ فِي شَأْنِهِ.
رَوَى مَالِكٌ فِي جَامِعِ الطَّلَاقِ مِنَ «الْمُوَطَّأِ» :«عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا شَارَفَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا آوِيكِ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ»
.
فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُشْتَبِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ حَالًا مِنَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَقَدَّرَ لِ الرُّمَّانَ حَالًا أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى، بِتَقْدِيرِ: وَالرُّمَّانُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ صَاحِبِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ وَلَا التَّنَازُعَ فِي الْحَالِ وَنَظَرِهِ بِإِفْرَادِ الْخَبَرِ بَعْدَ مُبْتَدَأٍ وَمَعْطُوفٍ فِي قَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ الْبَاهِلِيَّ، جَوَابًا لِبَعْضِ بَنِي قُشَيْرٍ وَقَدِ اخْتَصَمَا فِي بِئْرٍ فَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَنْتَ لِصٌّ ابْنُ لِصٍّ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِيَ
وَلَا ضَيْرَ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ التَّنْبِيهَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ دَلَائِلِ الِاخْتِيَارِ يُوَجِّهُ الْعُقُولَ إِلَى مَا فِي مُمَاثِلِهِ مِنْ أَمْثَالِهَا.
وَجُمْلَةُ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ بَيَانٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُشْتَبِهاً مِنْ تَخْصِيصٍ أَوْ تَعْمِيمٍ. وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ نَظَرُ الِاسْتِبْصَارِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَطْوَارِهِ.
وَالثَّمَرُ: الْجَنَى الَّذِي يُخْرِجُهُ الشَّجَرُ. وَهُوَ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، جَمْعُ ثَمَرَةٍ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَمَا جُمِعَتْ: خَشَبَةٌ عَلَى خُشُبٍ، وَنَاقَةٌ عَلَى نُوقٍ.
وَالْيَنْعُ: الطَّيِّبُ وَالنِّضِجُ. يُقَالُ: يَنَعَ- بِفَتْحِ النُّونِ- يَيْنَعُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- وَيُقَالُ: أَيْنَعَ يُونِعُ يَنْعًا- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ-.
وإِذا ظَرْفٌ لِحُدُوثِ الْفِعْلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْوَقْت الّذي يبتدىء فِيهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَ إِلَيْهَا، أَيْ حِينَ ابْتِدَاءِ أَثْمَارِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيَنْعِهِ لَمْ يُقَيَّدْ بِإِذَا أَيْنَعَ لِأَنَّهُ إِذَا يَنَعَ فَقَدْ تَمَّ تَطَوُّرُهُ وَحَانَ قِطَافُهُ فَلَمْ تَبْقَ لِلنَّظَرِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَتْ أَطْوَارُهُ.
فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَسْتَوِيَانِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَبْتَغِيهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ، فَلَمَّا وَافَقَ جَوَابُهُمْ بُغْيَةَ الْمُسْتَفْهِمِ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى نُهُوضِ حُجَّتِهِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا، فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ عَلِمَ فَأَقَرَّ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إِذَا جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْإِنْكَارِ وَبَيْنَ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي قَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الْحَالَتَيْنِ وَلَوْ عَلِمُوا لَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْحُسْنَى مِنْهُمَا، وَلَمَا أَصَرُّوا عَلَى الْإِشْرَاكِ.
وَأَفَادَ هَذَا أَنَّ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكَاذِيبِهِ لَا يَمُتُّ إِلَى الْعِلْمِ بِصِلَةٍ فَهُوَ جَهَالَةٌ وَاخْتِلَاقٌ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَأُسْنِدَ عَدَمُ الْعِلْمِ لِأَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَامَّةٌ أَتْبَاعٌ لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمُ الْإِشْرَاكَ وَشَرَائِعَهُ انْتِفَاعًا بِالْجَاهِ وَالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ بِحَيْثُ غَشَّى ذَلِكَ على عَمَلهم.
[٣٠- ٣١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي مَهْيَعِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَات الوحدانية للإله، وَتَوْضِيحِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤمنِينَ بِمَا ينبىء بِتَفْضِيلِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَهْيَعِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَعَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِيمَانِ، وَإِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَخُتِمَ بِتَسْجِيلِ جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، خُتِمَ هَذَا الْغَرَضُ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارًا، وَحِينَ يَلْتَفِتُونَ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا نَارًا.
وَقَدَّمَ لِذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آخِرُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ السَّادِرُ فِي غُلَوَائِهِ إِذَا كَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِعَظَمَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي اخْتِيَارِ طَرِيقِ السَّلَامَةِ
وَالنَّجَاةِ، وَهَذَا مِنِ انْتِهَازِ الْقُرْآنِ فُرَصَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ.
الصِّفَاتِ مَا الْفَخْرُ بِهِ غير بَاطِل. وَهُوَ الصِّفَاتُ الَّتِي حَقَائِقُهَا مَحْمُودَةٌ فِي الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ.
وَمِنْهَا مَا الْفَخْرُ بِهِ بَاطِلٌ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى التَّمَدُّحِ بِهَا وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً بِالْمَدْحِ مِثْلَ التَّفَاخُرِ بِالْإِغْلَاءِ فِي ثَمَنِ الْخُمُورِ وَفِي الْمَيْسِرِ وَالزِّنَى وَالْفَخْرِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ.
وَأَغْلَبُ التَّفَاخُرِ فِي طَوْرِ الْكُهُولَةِ وَاكْتِمَالِ الْأَشُدِّ لِأَنَّهُ زَمَنُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الْفَخر.
والتفاخر كثير فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُ التَّبَاهِي وَالْعَجَبُ، وَعَنْهُ يَنْشَأُ الْحَسَدُ.
وَالتَّكَاثُرُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ هُنَا لِلْمُبَالَغِةِ فِي الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُغَالِبُ غَيْرَهُ فِي كَثْرَةِ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَرْءُ يَنْظُرُ فِي الْكَثْرَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ إِلَى امْرِئٍ آخَرَ لَهُ الْكَثْرَةُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ
ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ صِيغَةِ التَّكَاثُرِ فَصَارَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُغَالَبَةِ الْغَيْرِ مِمَّنْ حَصَلَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [التَّكَاثُرُ: ١].
وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ: إِمَّا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَإِمَّا هِيَ الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ، فَإِنْ جُعِلَتِ الْأَمْوَالُ كَالظَّرْفِ يَحْصُلُ تَكَاثُرُ النَّاسِ عِنْدَهُ كَمَنْ يَنْزِعُ فِي بِئْرٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ نِظَامَ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ
الْحَيَاةُ وَسِيلَةً لِبُلُوغِ النُّفُوسِ إِلَى مَا هَيَّأَهَا اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُرُوجِ إِلَى سُمُوِّ الْمَلَكِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]، فَكَانَ نِظَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ النَّاسِ فِيهَا عَلَى حَسْبِ تَعَالِيمِ الْهُدَى لِلْفَوْزِ بِالْحَيَاةِ الأبدية فِي النَّعيم الْحَقِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ حَرَّفُوهَا عَنْ مَهْيَعِهَا، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُِِ
يُفِيدُ مُفَادَ الْقَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، فَالْمَعْنَى: مَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا أَنَا.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان:
٣٢] فَجَعَلُوا تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا شُبْهَةً فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا إِلَّا أَنَا وَاقْتَضَتْ حِكْمَتِي أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ مُنَجَّمًا.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا يَلْقَاهُ فِيهَا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَشَدُّ عَزِيمَتِهِ أَنْ لَا تَخُورَ.
وَسَمَّى ذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ لَا خِيَرَةَ لِلْمُرْسَلِ فِي قَبُولِهَا وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ مَصَاعِبِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ وَحَمْلِهَا عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَلَقِّي أَصْنَافِ الْأَذَى فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يُتِمَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَالْحُكْمِ عَلَى الرَّسُولِ بِقَبُولِ مَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الطَّاقَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ (اصبر) بِاللَّامِ لتضمن الصَّبْرِ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ لِلْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَقَدْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ١٠]. وَمُنَاسَبَةُ مَقَامِ
الْكَلَامِ تُرَجِّحُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٧].
وَلَمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ ضَرْبٌ فِيهِ رَغَبَاتٌ مِنْهُمْ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ قَرْعَهُمْ بِقَوَارِعِ التَّنْزِيلِ مِنْ تَأْفِينِ رَأْيِهِمْ وَتَحْقِيرِ دِينِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الصِّهْرَ مَعَهُمْ، أَوْ بَذْلَ الْمَالِ مِنْهُمْ، أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ فِي صَلَابَةٍ وَشِدَّةٍ، بِأَنْ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي الضَّرْبِ الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قَالَبِ اللِّينِ وَالرَّغْبَةِ.
وَفِي هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَرْفَعُ مُوجِبَاتِ الصَّبْرِ الْمُرَادِ هُنَا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْيِيسُهُمْ مِنِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ سَيَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِذْ هُمْ بُعَدَاءُ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ الرِّسَالَةِ وَنَزَاهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِالْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِلَيْكَ عَنِّي. وَيُسْتَفَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقَهْرِ وَالنَّهْرِ النَّهْيُ عَمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمَا فِي الْأَذَى كَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ وَتَرْكِهِ مُحْتَاجًا
وَلَيْسَ مِنَ النَّهْرِ نَهْيُ السَّائِلِ عَنْ مُخَالَفَةِ آدَابِ السُّؤَالِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى:
٨].
فَإِنَّ الْإِغْنَاءَ نِعْمَةٌ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ عَنْهَا وَإِعْلَانِ شُكْرِهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ نِعْمَةً خَاصَّةً وَإِنَّمَا أُرِيدَ الْجِنْسُ فَيُفِيدُ عُمُومًا فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، أَيْ حَدِّثْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ النِّعَمِ، فَحَصَلَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ شُكْرُ نِعْمَةِ الْإِغْنَاءِ، وَحَصَلَ الْأَمْرُ بِشُكْرِ جَمِيعِ النِّعَمِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا جَامِعًا.
فَإِنْ جُعِلَ قَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ مُقَابِلَ قَوْلِهِ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: ٧] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَيْضًا.
وَكَانَ الْمُرَادُ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ نِعْمَةَ الْهِدَايَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ.
وَالتَّحْدِيثُ: الْإِخْبَارُ، أَيْ أَخْبِرْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ اعْتِرَافًا بِفَضْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الشُّكْرِ، وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ كَالْقَوْلِ فِي تَقْدِيمِ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَالْخِطَّابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِهِ، وَأَصْلُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، فَيُعْلَمُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ فَتَجْرِي عَلَى أَصْلِ مُسَاوَاةِ الْأُمَّةِ لِنَبِيِّهَا فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، فَأَمَّا مُسَاوَاةُ الْأُمَّةِ لَهُ فِي مَنْعِ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَنَهْرِ السَّائِلِ فَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُ الْمُسَاوَاةِ.
وَأَمَّا مُسَاوَاة الْأمة لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَتَّى مِنْهَا مَا لَا مَطْمَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ فِيهِ مِثْلَ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَنِعْمَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الِاصْطِفَاءِ الْأَكْبَرِ، وَنِعْمَةُ الرَّبِّ فِي الْآيَةِ مُجْمَلَةٌ.


الصفحة التالية
Icon