وَآدَمُ اسْمُ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَبِي الْبَشَرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَقِيلَ مَنْقُولٌ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ لِأَنَّ أَدَامَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَرْضَ وَهُوَ قَرِيبٌ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ تَكَلَّمَتْ عَلَى خَلْقِ آدَمَ وَأَطَالَتْ فِي أَحْوَالِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ أَبِي الْبَشَرِ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْيَهُود وَسَمَاع حكاياتهم، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْمُ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعِبْرَانِيِّينَ مَعًا مِنْ أَصْلِ اللُّغَاتِ السَّامِيَةِ فَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُهَا. وَقَدْ سُمِّيَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِهَذَا الِاسْمِ آدَمَ وَوَقَعَ فِي «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ» أَنَّ آدَمَ سَمَّى نَفْسَهُ إِيشَ (أَيْ ذَا مُقْتَنَى) وَتَرْجَمَتُهُ إِنْسَانٌ أَوْ قَرْءٌ.
قُلْتُ وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفُ (إِيثَ) كَمَا سَتَعْلَمُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: ٣٥].
وَلِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَسْمَاءُ أُخَرُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ وَقَدْ سَمَّاهُ الْفُرْسُ الْقُدَمَاءُ «كَيُومِرْتَ» بِفَتْحِ الْكَافِ فِي أَوَّلِهِ وَبِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي آخِرِهِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا «كيامرتن» بِأَلف عوق الْوَاوِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَبَنُونٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، قَالُوا إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْجَنَّةِ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَّةٍ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ فَعَاشَ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ أُخْرَى، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (آدَمُ) كَمَا سُمِّيَ فِي التَّوْرَاةِ وَانْتَقَلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى اللُّغَاتِ الْإِفْرَنْجِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ فَسَمَّوْهُ (آدَامَ) بِإِشْبَاعِ الدَّالِ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ صِيغَ كَذَلِكَ اعْتِبَاطًا وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَوَادِمَ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ كَمَا جُمِعَ خَاتَمُ وَهَذَا الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجَعَلَ مُحَاوَلَةَ اشْتِقَاقِهِ كَمُحَاوَلَةِ اشْتِقَاقِ يَعْقُوبَ مِنَ الْعَقِبِ وَإِبْلِيسَ مِنَ الْإِبْلَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْ هِيَ مُحَاوَلَةٌ ضَئِيلَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَصْلُهُ أَأْدَمُ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ مِنَ الْأُدْمَةِ وَهِيَ لَوْنُ السُّمْرَةِ فَقُلِبَتْ ثَانِيَةُ الْهَمْزَتَيْنِ مَدَّةً وَيُبْعِدُهُ الْجَمْعَ وَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ أَصْلَهُ أَأَادَمُ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْجَمْعِ وَاوًا لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ. وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَ اسْمِ لَوْنِ الْأُدْمَةِ مِنِ اسْمِ آدَمَ أَقْرَبُ مِنَ الْعَكْسِ.
وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَفْهَمُهُ ذِهْنُ السَّامِعِ فَيَخْتَصُّ بِالْأَلْفَاظِ سَوَاءً كَانَ مَدْلُولُهَا ذَاتًا وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، أَوْ صِفَةً أَوْ فِعْلًا فِيمَا طَرَأَ عَلَى الْبَشَرِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ فِي اسْتِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الِاسْمِ عُرْفًا إِذْ لَمْ يَقَعْ نَقْلٌ. فَمَا قِيلَ إِنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ سَوَاءٌ
كَانَ لَفْظَهُ أَوْ صِفَتَهُ أَوْ فِعْلَهُ تَوَهُّمٌ فِي اللُّغَةِ. وَلَعَلَّهُمْ تَطَوَّحُوا بِهِ إِلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ عَلَى تَسْلِيمِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَبْقَى مُسَاوِيًا لِأَصْلِ اشْتِقَاقِهِ. وَقَدْ قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّمُوِّ لِأَنَّهُ
وَقَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَها وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لِأَنَّ مِنْ إِحْسَانِ التَّسْرِيحِ أَلَّا يَأْخُذَ الْمُسَرِّحُ وَهُوَ الْمُطَلِّقُ عِوَضًا عَنِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ مُنَاسِبَةُ مَجِيءِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي جَمْعِ التَّشْرِيعَاتِ وَالْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُلُّ أَفْرَادِهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَالزَّوْجُ يَقِفُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ بِعَدَمِ لُزُومِهِ، وَوَلِيُّ الزَّوْجَةِ أَوْ كَبِيرُ قَبِيلَةِ الزَّوْجِ يَسْعَى وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى (وَقَدْ كَانَ شَأْنُ الْعَرَبِ أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ قَرَابَةِ الْجَانِبَيْنِ) وَبَقِيَّةُ الْأُمَّةِ تَأْمُرُ بِالِامْتِثَالِ لِذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ فِي التَّشْرِيعِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها [النِّسَاء: ٥] وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْأَزْوَاجِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَنْ تَأْخُذُوا وَقَوْلِهِ: آتَيْتُمُوهُنَّ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَقِيلَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقِيمُوا أَوْ أَلَّا تُقِيمَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَنَحْوُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ» اهـ يَعْنِي لِظُهُورِ مَرْجِعِ كُلِّ ضَمِيرٍ مِنْ قَرَائِنِ الْمَقَامِ وَنَظَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١٣] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ»، إِذْ جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى آمِنُوا وَجَاهِدُوا أَيْ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْخِطَابَاتِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ التَّبْشِيرُ خَاصًّا بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْهُ. وَأَظْهَرُ مِنْ تنظير صَاحب «الْكَشَّاف» أَنْ تُنَظِّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة:
٢٣٢] إِذْ خُوطِبَ فِيهِ الْمُطَلِّقُ وَالْعَاضِلُ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى الْمُطَلَّقاتُ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَقْتَضِي عَدَدًا مِنَ الْمُطَلِّقِينَ وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ»
أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْحُكَّامِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ: أَنْ تَأْخُذُوا. وَقَوْلَهُ: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ بِأَنَّ إِسْنَادَ الْأَخْذِ وَالْإِتْيَانِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَرَجَّحَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِسَلَامَتِهِ مِنْ تَشْوِيشِ الضَّمَائِرِ بِدُونِ نُكْتَةِ الْتِفَاتٍ وَوَهَّنَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ قَدْ يَقَعُ بِدُونِ تَرَافُعٍ، فَمَا آتَاهُ الْأَزْوَاجُ لِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْمُهُورِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ على يَد الْحُكَّام فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَا يَجُوزُ وَلَا يُسْمَحُ بِهِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَضِدِّهِ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:


فَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنِينَ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هُنَا. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْيَهُودَ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠]، وَلَا النَّصَارَى فِي قَوْلهم:
الْمَسِيحُ (١) ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠]. كَمَا فَسَّرَ بِهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَيُشَوِّشُ عَوْدَ الضَّمَائِرِ وَيَخْرِمُ نَظْمَ الْكَلَامِ. فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا لله الْبَنِينَ وَهُوَ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا شَيْئًا مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَالَمَ تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَتِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ لَهُ عُجْبٌ تَوَلَّدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ، وَرُبَّمَا قَالُوا أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، فَلَزِمَهُمْ نِسْبَةُ الِابْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْجِنَّ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّ فِي الْمَلَائِكَةِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَلَقَدْ يَنْجَرُّ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادِ مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ أَبْنَاءَ اللَّهِ. فَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الْأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ أَنَّ أَبْنَاءَ اللَّهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ فَاتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا وَإِذْ دَخَلَ بَنُو اللَّهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا هَؤُلَاءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ». وَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الْعَرَبِ إِذْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَقَالُوا: هُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُتَعَلِّقٌ بِ خَرَقُوا، أَيِ اخْتَلَقُوا اخْتِلَاقًا عَنْ جَهْلٍ وَضَلَالَةٍ، لِأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَقَدْ رَمَوْا بِقَوْلِهِمْ عَنْ عَمًى وَجَهَالَةٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعِلْمُ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ بُرْهَانٍ.
_________
(١) فِي المطبوعة: (عِيسَى ابْن الله) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق لرسم الْمُصحف.
وَتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٌ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهَا وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهِا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: سَابِقُوا إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ أَكْثِرُوا مِنْ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا: فَالْمُسَابَقَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ هِيَ الْمُسَابَقَةُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِهَا.
وَالْعَرْضُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي السِّعَةِ وَلَيْسَ مُقَابل الطّور لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا طَائِلَ فِي مَعْنَى مَا يُقَابِلُ الطُّولِ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١]، وَقَوْلِ الْعُدَيْلِ لَمَّا فَرَّ مِنْ وَعِيدِ الْحَجَّاجِ:
يَا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي بِسَاطٌ بِأَيْدِي النَّاعِجَاتِ عَرِيضُ
وَتَشْبِيهُ عَرْضِ الْجَنَّةِ بِعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مَجْمُوعُ عَرْضَيْهِمَا لِقَصْدِ تَقْرِيبِ الْمُشَبَّهِ بِأَقْصَى مَا يَتَصَوَّرُهُ النَّاسُ فِي الِاتِّسَاعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْدِيدَ ذَلِكَ الْعَرْضِ وَلَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى يُقَالَ: فَمَاذَا بَقِيَ لِمَكَانِ جَهَنَّمَ.
وَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسَابَقَاتِ إِلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ الْمُوجِبَةِ لِلْمَغْفِرَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَشَامِلٌ لِلْمُسَابَقَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ،
وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ إِكْثَارًا لِلْمَعَانِي، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «لَوْ يَعْلَمَ النَّاسُ مَا فِي الصَّفّ الأول لَا ستبقوا إِلَيْهِ أَوِ اسْتَهَمُوا إِلَيْهِ»
. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ الْآنَ إِذْ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي قَوْلِهِ:
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ هُوَ السِّعَةُ لَا الْمِقْدَارُ وَلَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْيَوْمَ وَلَا عَدَمُهُ، وَتَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٣].
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا وَأَعَدَّهَا لِأَنَّ ظَاهِرَ اسْتِعْمَالِهِ الْفِعْل فِي الزَّمَان الْمَاضِي إِنْ حَصَلَ مَصْدَرُهُ فِيهِ، فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَوْا ذَلِكَ فَاسْتَنَدُوا إِلَى ظَوَاهِرَ أُخْرَى وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَمُتَعَلِّقُ يُحِبُّونَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: نَعِيمٌ أَوْ مَنَافِعُ لِأَنَّ الْحُبَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الدُّنْيَا.
وَفِي إِيثَارِ ذِكْرِ الدُّنْيَا بِوَصْفِ الْعَاجِلَةِ تَوْطِئَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الذَّمِّ لِأَنَّ وَصْفَ الْعَاجِلَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ آثَرُوهَا لِأَنَّهَا عَاجِلَةٌ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ إِذْ رَضُوا بِالدُّونِ لِأَنَّهُ عَاجِلٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ أَهْلِ التَّبَصُّرِ، فَقَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّكْمِيلِ لِمَنَاطِ ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيقِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَحَبُّوا الدُّنْيَا مَعَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ لَمَا كَانُوا مَذْمُومِينَ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ النَّاصِحِينَ لِقَارُونَ: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٧٧]. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: ٧] إِذْ كَانَ مَنَاطُ الذَّمِّ فِيهِ هُوَ أَنْ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى عِلْمِ أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِلْمِ بِالْآخِرَةِ.
وَمُثِّلُوا بِحَالِ مَنْ يَتْرُكُ شَيْئًا وَرَاءَهُ فَهُوَ لَا يَسْعَى إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يَسْعَى إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُلُولِهِ فَكَيْفَ يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَذَرُونَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَجَدِّدٌ فِيهِمْ وَمُتَكَرِّرٌ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ هَذَا الْيَوْمَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ عَمَلٍ لَهُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي التَّقْوَى.
وَالْيَوْمُ الثَّقِيلُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِالثَّقِيلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِشِدَّةِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْكُرُوبِ فَهُوَ كَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ حَمْلُهُ.
وَالثِّقَلُ: يُسْتَعَارُ لِلشِّدَّةِ وَالْعُسْرِ قَالَ تَعَالَى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف:
١٨٧] وَقَالَ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥].
وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِوَعْدِهِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُ عُسْرٌ فَسَيَجِدُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا كَدَأْبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
مُعَامَلَتِهِ فَلْيَتَحَمَّلْ مَتَاعِبَ الرِّسَالَةِ وَيَرْغَبْ إِلَى اللَّهِ عَوْنِهِ.
[١- ٤]
[سُورَة الشَّرْح (٩٤) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)
. اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى النَّفْيِ. وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَنْفِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَهَذَا التَّقْرِيرُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ لِأَجْلِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذِه الْمِنَّة عِنْد مَا يُخَالِجُهُ ضِيقُ صَدْرٍ مِمَّا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى قَوْمٍ يُرِيدُ صَلَاحَهُمْ وَإِنْقَاذَهُمْ مِنَ النَّارِ وَرَفْعَ شَأْنِهِمْ بَيْنَ الْأُمَمِ، لِيَدُومَ عَلَى دَعْوَتِهِ الْعَظِيمَةِ نَشِيطًا غَيْرَ ذِي أَسَفٍ وَلَا كَمَدٍ.
وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ: فَصْلُ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ الشَّرِيحَةُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالتَّشْرِيحُ فِي الطِّبِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى انْفِعَالِ النَّفْسِ بِالرِّضَى بِالْحَالِ الْمُتَلَبِّسِ بِهَا.
وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْأَسَاسِ» أَنَّ هَذَا إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَعَلَّهُ رَاعَى كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ، أَيْ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرْحَ الْحَقِيقِيَّ خَاصٌّ بِشَرْحِ اللَّحْمِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْحِ عَلَى رِضَى النَّفْسِ بِالْحَالِ أَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الضِّيقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْحُزْنِ وَالْكَمَدِ قَالَ تَعَالَى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ [هود: ١٢] الْآيَةَ. فَجُعِلَ إِزَالَةُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ حُزْنٍ مِثْلَ شَرْحِ اللَّحْمِ وَهَذَا الْأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: ٥].
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فِي سُورَةِ طه [٢٥].
فَالصَّدْرُ مُرَادٌ بِهِ الْإِحْسَاسُ الْبَاطِنِيُّ الْجَامِعُ لِمَعْنَى الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ. وَشَرْحُ صَدْرِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنَ الْكِمَالَاتِ وَإِعْلَامِهِ بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَبِشَارَتِهِ بِمَا سَيَحْصُلُ لِلدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّصْرِ.
هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا يُفِيدُهُ نَظْمُهَا وَاسْتِقْلَالُهَا عَنِ الْمَرْوِيَّاتِ الْخَارِجِيَّةِ، فَفَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ اللَّهَ شَرَحَ قَلْبَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: شَرْحُ صَدره أَن ملىء عِلْمًا وَحُكْمًا، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: شَرَحَ صَدْرَهُ بِنُورِ الرِّسَالَةِ،


الصفحة التالية
Icon