وَقَوْلِهِ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَال: ٤٦] وَقَوْلِهِ: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: ٣٨].
الْخَامِسُ:
الْقِصَصُ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ لِلتَّأَسِّي بِصَالِحِ أَحْوَالِهِمْ قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُف:
٣] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠] وَلِلتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَاوِيهِمْ قَالَ: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إِبْرَاهِيم: ٤٥] وَفِي خِلَالِهَا تَعْلِيمٌ، وَكُنَّا أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ.
السَّادِسُ:
التَّعْلِيمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَةَ عَصْرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا يُؤَهِّلُهُمْ إِلَى تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ وَنَشْرِهَا وَذَلِكَ عِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ الْأَخْبَارِ وَكَانَ ذَلِكَ مَبْلَغَ عِلْمِ مُخَالِطِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ زَادَ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيمَ حِكْمَةِ مِيزَانِ الْعُقُولِ وَصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ فِي أَفَانِينِ مُجَادَلَاتِهِ لِلضَّالِّينَ وَفِي دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ، ثُمَّ نَوَّهَ بِشَأْنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: ٢٦٩] وَهَذَا أَوْسَعُ بَابٍ انْبَجَسَتْ مِنْهُ عُيُونُ الْمَعَارِفِ، وَانْفَتَحَتْ بِهِ عُيُونُ الْأُمِّيِّينَ إِلَى الْعِلْمِ، وَقَدْ لَحِقَ بِهِ التَّنْبِيهُ الْمُتَكَرِّرُ عَلَى فَائِدَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَطْرُقْ أَسْمَاعَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّمَا قُصَارَى عُلُومِهِمْ أُمُورٌ تَجْرِيبِيَّةٌ، وَكَانَ حُكَمَاؤُهُمْ أَفْرَادًا اخْتُصُّوا بِفَرْطِ ذَكَاءٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ تَجْرِبَةٌ وَهُمُ الْعُرَفَاءُ فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] وَقَالَ: ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: ١] فَنَبَّهَ إِلَى مَزِيَّةِ الْكِتَابَةِ.
السَّابِعُ:
الْمَوَاعِظُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّبْشِيرُ، وَهَذَا يَجْمَعُ جَمِيعَ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَاجَّةُ وَالْمُجَادَلَةُ لِلْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا بَابُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
الثَّامِنُ:
الْإِعْجَازُ بِالْقُرْآنِ لِيَكُونَ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِذِ التَّصْدِيقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ بَعْدَ التَّحَدِّي، وَالْقُرْآنُ جَمَعَ كَوْنَهُ مُعْجِزَةً بِلَفْظِهِ وَمُتَحَدًّى لِأَجْلِهِ بِمَعْنَاهُ وَالتَّحَدِّي وَقَعَ فِيهِ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُس: ٣٨] وَلِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مَدْخَلٌ فِي ظُهُورِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَوُضُوحِهِ. هَذَا مَا بَلَغَ إِلَيْهِ اسْتِقْرَائِي وَلِلْغَزَّالِيِّ فِي «إِحْيَاءِ عُلُومِ» الدِّينِ بَعْضٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَغَرَضُ الْمُفَسِّرِ بَيَانُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَقْصِدُهُ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِأَتَمِّ بَيَانٍ يَحْتَمِلُهُ الْمَعْنَى وَلَا يَأْبَاهُ اللَّفْظُ مِنْ كُلِّ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنَ، أَوْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُهُ أَكْمَلَ فَهْمٍ، أَوْ يَخْدِمُ الْمَقْصِدَ تَفْصِيلًا وَتَفْرِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ بِهِ خَفَاءٌ، أَوْ لِتَوَقُّعِ مُكَابَرَةٍ مِنْ مُعَانِدٍ أَوْ جَاهِلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ رَائِدُ

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٤٧]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [الْبَقَرَة: ١٤٦]، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا الْحَقُّ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا جَرَى عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بَعْدَ جَرَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الدِّيَارِ «رَبْعٌ قَوَاءٌ» وَبَعْدَ ذِكْرِ الْمَمْدُوحِ «فَتًى» وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ». وَقَوْلُهُ: فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢] وَقَوْلِهِمُ الْكَرَمُ فِي الْعَرَبِ هَذَا التَّعْرِيفُ لِجُزْئَيِ الْجُمْلَةِ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ يُفِيدُ قَصْرَ الْحَقِيقَةِ عَلَى الَّذِي يَكْتُمُونَهُ وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ أَيْ لَا مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِظْهَارُ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ.
وَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ، وَالِافْتِعَالُ فِيهِ لَيْسَ لِلْمُطَاوَعَةِ وَمَصْدَرُ الْمِرْيَةِ لَا يُعْرِفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ دَائِمًا بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ.
وَالْمَقْصُودُ من خطاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ [الْبَقَرَة: ١٢٠]، وَقَوْلِهِ:
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ تَحْذِيرُ الْأُمَّةِ وَهَذِهِ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ تَحْذِيرٍ مُهِمٍّ لِيَكُونَ خِطَابُ النَّبِيءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلَاهُمْ بِكَرَامَتِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَّةِ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ النَّجَاةِ بَابٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ وَقَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ من يصلح هَا الْخطاب.
[١٤٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٦]، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَة: ١٤٥] مَعَ اعْتِبَارِ مَا اسْتُؤْنِفَ عَنْهُ مِنَ الْجُمَلِ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ لقّن الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا يُجِيبُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فَضِيلَةَ قِبْلَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْ تَرَقُّبِ اعْتِرَافِ الْيَهُودِ بِصِحَّةِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، ذُيِّلَ ذَلِكَ

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٦١ إِلَى ٢٦٢]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
عَوْدٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا الْمَثَلُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٤]. وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٤] الْآيَةَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ الِاسْتِشْرَافَ لِمَا يَلْقَاهُ الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ أَعْقَبَ بِدَلَائِلَ وَمَوَاعِظَ وَعِبَرٍ وَقَدْ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُ السَّامِعِينَ إِلَى التمحّض لهَذَا الْمَقْصُود فَأُطِيلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِطَالَةً تُنَاسِبُ أَهَمِّيَّتَهُ.
وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَشْبِيهُ حَالِ جَزَائِهِمْ وَبَرَكَتِهِمْ، وَالصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ حَالِ إِنْفَاقِهِمْ بِتَقْدِيرِ مثل نَفَقَة الدَّين. وَقَدْ شُبِّهَ حَالُ إِعْطَاءِ النَّفَقَةِ وَمُصَادَفَتُهَا مَوْقِعَهَا وَمَا أُعْطِيَ مِنَ الثَّوَابِ لَهُمْ بِحَالِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ إِلَخ، أَيْ زُرِعَتْ فِي أَرْضٍ نَقِيَّةٍ وَتُرَابٍ طَيِّبٍ وَأَصَابَهَا الْغَيْثُ فَأَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. وَحُذِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِيجَازًا لِظُهُورِ أَنَّ الْحَبَّةَ لَا تُنْبِتُ ذَلِكَ إِلَّا كَذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ هَيْأَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَجُعِلَ أَصْلُ التَّمْثِيلِ فِي التَّضْعِيف حبّة لِأَنَّ تَضْعِيفَهَا مِنْ ذَاتِهَا لَا بِشَيْءٍ يُزَادُ عَلَيْهَا، وَقَدْ شَاعَ تَشْبِيهُ الْمَعْرُوفِ بِالزَّرْعِ وَتَشْبِيهُ السَّاعِي بِالزَّارِعِ، وَفِي الْمَثَلِ «رُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ وَزَارِعٍ غَيْرِ حَاصِدٍ». وَلَمَّا كَانَتِ الْمُضَاعَفَةُ تُنْسَبُ إِلَى أَصْلِ
وَحْدَةٍ، فَأَصْلُ الْوَحْدَةِ هُنَا هِيَ مَا يُثِيبُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَسَنَاتِ الصَّغِيرَةِ، أَيْ مَا يَقَعُ ثَوَابًا عَلَى أَقَلِّ الْحَسَنَاتِ كَمَنَ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِنَّهُ فِي حَسَنَةِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ
وَتَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلْتَكُنْ أُمَّةٌ هِيَ أَنْتُمْ أَيْ وَلْتَكُونُوا أُمَّةً يَدْعُونَ مُحَاوَلَةً لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمرَان: ١١٠] الْآيَة. وَمُسَاوَاةُ مَعْنَيَيِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ هَاتِهِ الْأُمَّةُ، الَّتِي قَامَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَالِكَ.
وَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ أَنْ تَقُومَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ أَقْسَامِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ هُوَ بَيَانُ الْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرُ بِهِ، وَبَيَانُ الْمُنْكَرِ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا امْتِثَالُ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ لِذَلِكَ، فَمَوْكُولٌ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ
فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»
فَذَلِكَ مَرْتَبَةُ التَّغْيِيرِ، وَالتَّغْيِيرُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ، أَيْ تَمَنِّي التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا يَكُونَانِ بِهِمَا.
وَالْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ إِنْ كَانَا ضَرُورِيَّيْنِ كَانَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَا نَظَرِيَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمَا أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَلِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ شُرُوطٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْفِقْهِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، إلَّا أَنِّي أُنَبِّهُ إِلَى شَرْطٍ سَاءَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاء: يشْتَرط أَن لَا يَجُرَّ النَّهْيُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ. وَهَذَا شَرْطٌ قَدْ خَرَمَ مَزِيَّةَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ ذَرِيعَةً لِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ. وَلَقَدْ سَاءَ فهمهم فِيهِ إِذا مُرَادُ مُشْتَرِطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْأَمْرَ أَنَّ أَمْرَهُ يَجُرُّ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ لَا أَن يخَاف أَو يُتَوَهَّمَ إِذِ الْوُجُوبُ قَطْعِيٌّ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا ظَنٌّ أَقْوَى.
وَلَمَّا كَانَ تَعْيِينُ الْكَفَاءَةِ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ، فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَمَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ، وَإِفْهَامِ النَّاسِ ذَلِك، رأى أيمة الْمُسْلِمِينَ تَعْيِينَ وُلَاةٍ لِلْبَحْثِ عَنْ
وَالْبَاءُ فِي بِما حَفِظَ اللَّهُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حِفْظًا مُلَابِسًا لِمَا حَفِظَ اللَّهُ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِحِفْظِ اللَّهِ، وَحَفِظُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ بِالْحِفْظِ، فَالْمُرَادُ الْحِفْظُ التَّكْلِيفِيُّ، وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ أَنَّهُنَّ يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حِفْظًا مُطَابِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرُ اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ حَقِّ اللَّهِ، فَشَمِلَ مَا يَكْرَهُهُ الزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ. لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ الشُّهُودَ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فِي غَيْبَتِهِ وَتُشْهِدَهُمْ بِمَا تُرِيدُ وَكَمَا أَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيءُ أَنْ
يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ هَذِهِ بَعْضُ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لِلصَّلَاحِ وَهُوَ النُّشُوزُ، أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِلزَّوْجِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ لَهَا رَغْبَةً فِي التَّزَوُّجِ بِآخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَسْوَةٍ فِي خُلُقِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَالنُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ التَّرَفُّعُ وَالنُّهُوضُ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّبَاعُدِ، وَمِنْهُ نَشَزُ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا.
قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: النُّشُوزُ عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ وَإِظْهَارُ كَرَاهِيَتِهِ، أَيْ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةٍ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً مِنْهَا، أَيْ بَعْدَ أَنْ عَاشَرَتْهُ، كَقَوْلِهِ: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا». وَجَعَلُوا الْإِذْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مُرَتَّبًا عَلَى هَذَا الْعِصْيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنَ الْإِذْنِ لِلزَّوْجِ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ مَحْمَلُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا أَنَّهَا قَدْ رُوعِيَ فِيهَا عُرْفُ بَعْضِ الطَّبَقَاتِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْهُمْ لَا يَعُدُّونَ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ اعْتِدَاءً، وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، قَالَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمِرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ.
عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ وَلَلْكَيْسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ

كَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ طَرِيقٍ فَأُخْبِرَ بِأَنَّ فِيهِ سَبُعًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ وَيَبْحَثَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَسْلُكُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي مُعْجِزَةِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوتِ الشَّرَائِعِ. فَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي النَّظَرُ فِيهَا مُوَصِّلٌ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالرُّسُلُ فِي أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، أَيْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. قُلْتُ: الرُّسُلُ مُنَبِّهُونَ عَنِ الْغَفْلَةِ وَبَاعِثُونَ عَلَى النَّظَرِ مَعَ تَبْلِيغِ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ فَكَانَ إِرْسَالُهُمْ إِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَتَتْمِيمًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ». يَعْنِي أَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا عَدْلٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْعَثْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْقَبَائِحِ عَدْلًا، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ إِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي أَصْلِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُجَّةِ فِي زِيَادَةِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: رَبَّنَا لِمَ لَمْ تُرْشِدْنَا إِلَى مَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِنَا فِي مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ وَقَصَرْتَنَا عَلَى مُجَرَّدِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، حِينَ اهْتَدَيْنَا لِأَصْلِ التَّوْحِيدِ بِعُقُولِنَا.
وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ فِيمَا عَدَا الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ إِفْحَامِ الرُّسُلِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ رَآهُ مَبْنَى أُصُولِ الدِّينِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي «التَّوْضِيحِ»«أَيْ يَكُونُ الْفِعْلُ صِفَةً يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيءِ إِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يُلْزِمُ الدَّوْرَ» وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهَا تُعَرِّفُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا.
وَقَدْ ضَايَقَ الْمُعْتَزِلَةُ الْأَشَاعِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا: لَوْ لَمْ تَجِبِ الْمَعْرِفَةُ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَلَزِمَ إِفْحَامُ الرُّسُلِ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْبَعْثَةِ فَائِدَةٌ. وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَالَ لِأَحَدٍ: انْظُرْ فِي مُعْجِزَتِي حَتَّى يَظْهَرَ صِدْقِي لَدَيْكَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ، لِأَنَّ تَرْكَ غَيْرَ الْوَاجِبِ جَائِزٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيَّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدِي الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ مَا دُمْتُ لَمْ أَنْظُرْ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ.
وَظَاهَرَهُمُ الْمَاتِرِيدِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي».
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْغَيْبِ عَنِ النَّاسِ، أَيْ فِي الْخَلْوَةِ. فَمَنْ خَافَ اللَّهَ انْتَهَى عَن الصَّيْد فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْرُورَ لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَّقَى إِنْكَارُهُمْ عَلَيْهِ أَوْ صَدُّهُمْ إِيَّاهُ وَأَخْذُهُمْ عَلَى يَدِهِ أَوِ التَّسْمِيعُ بِهِ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صَيْدٍ غَشِيَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَخِيَامِهِمْ، أَيْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ أَخْذِهِ بِدُونِ رَقِيبٍ، أَوْ يَكُونُ الصَّيْدُ الْمُحَذَّرُ مِنْ صَيْدِهِ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ الصَّيْدِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ تَصْرِيحٌ بِالتَّحْذِيرِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، إِذْ قَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَيَبْلُوَنَّكُمُ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ عَمِلٍ قَدْ تَسْبِقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى التَّحْذِيرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ، أَي بعد مَا قَدَّمْنَاهُ إِلَيْكُمْ وَأَعْذَرْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ بَعْدَهُ فَاءُ التَّفْرِيعِ. وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ الِاعْتِدَاءُ بِالصَّيْدِ، وَسَمَّاهُ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِقْدَامٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَانْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، أَيْ عِقَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ بِمَا اجْتَرَأَ عَلَى الْحَرَمِ أَوْ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَبِمَا خَالَفَ إِنْذَارَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ إِذَا اعْتَدَى وَلَمْ يَتَدَارَكِ اعْتِدَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَعْلُومَةٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَالْكَفَّارَةُ هِيَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَكْفِيرٌ عَنْ هَذَا الِاعْتِدَاءِ كَمَا سَيَأْتِي. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْعَذَابُ الْأَلِيمُ أَنَّهُ يُوسَعُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ جَلْدًا وَيُسْلَبُ ثِيَابُهُ وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ». فَالْعَذَابُ هُوَ الْأَذَى الدُّنْيَوِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَّرَتْ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ الْمُوَالِيَةُ لَهَا نَسْخًا لَهَا. وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْعِقَابِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أُبْطِلَ بِمَا فِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ بِهِ مَعْنَى الْآيَةِ مَعَ مَعْنَى الَّتِي تَلِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مِنْ قَبِيلِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَيَبْقَى إِثْمُ الِاعْتِدَاءِ فَهُوَ مُوجِبُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ لَا يُسْقِطُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْقَى الضَّرْبُ تَأْدِيبًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَلَبَهُ كَانَ يَأْخُذُهُ فُقَرَاءُ مَكَّةَ مِثْلَ جِلَالِ الْبدن ونعالها.
وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، إِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَنَافِعٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدُ: لَا تُؤَكَلُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، دُونَ تَأَمُّلٍ فِي الْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ.
وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بِالْقَرَائِنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ تَارِكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا آثِمًا، إِلَّا أَنَّ إِثْمَهُ لَا يُبْطِلُ ذَكَاتَهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ غَيْرِ أَحْمَدَ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَأْكُلُوا عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَجَازَ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِالْوَاوِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَهُ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ». وَقَدْ جَعَلَهَا الرَّازِيُّ وَجَمَاعَةٌ: حَالًا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يَعُودُ عَلَى مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ لَفِسْقٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الْفِعْلِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، بِالْفِسْقِ حَتَّى تَجَاوَزَ الْفِسْقُ صِفَةَ الْفِعْلِ أَنْ صَارَ صِفَةَ الْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ:
كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا نَظِيرُ جَعْلِهِ فِسْقًا فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥]. وَالتَّأْكِيدُ بِإِنَّ: لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَلا تَأْكُلُوا، أَيْ وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ عَطْفٌ عَلَى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، أَيْ: وَاحْذَرُوا جَدَلَ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ
لِلْجِنِّ لِيَجْعَلَ مِنْهُ صِنْفًا مُتَمَيِّزًا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَبُولِهِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: ٥٠] الْآيَةَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ، وَإِبْلِيسُ أَصْلُ ذَلِكَ النَّوْعِ، جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ أَمْرُهُمْ شَامِلًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَأَنَّ الْجِنَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ،
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ»
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ نُورًا مَخْلُوطًا بِالْمَادَّةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورًا مُجَرَّدًا، فَيَكُونُ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَحَطَّ، كَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ أَرْقَى.
وَفُصِلَ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَبَيَّنَ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ آدَمَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ صَرِيحَةٌ، وَقَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ.
وَجُمْلَةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ.
وَحَصَلَ لِإِبْلِيسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ، بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا خَلْقَهُ، أَوْ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرَّحْمَن: ١٤، ١٥] وَإِبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٥٠] : فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
وَاسْتَنَدَ فِي تَفْضِيلِ نَفْسِهِ إِلَى فَضِيلَةِ الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ عَلَى الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ.
اللَّامِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ «شُرَّاحُهُ» وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَتَعَلَّقُ أَنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ تَعَلَّقَ بِبَيْضَاءَ فَلَعَلَّهُ لِمَا فِي بَيْضَاءَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ابْيَضَّتْ لِلنَّاظِرِينَ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِالْمُشْتَقِّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّامِ هُوَ مَا سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ تَعْدِيَةً خَاصَّةً (لَا مُطْلَقَ التَّعْدِيَةِ أَيْ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ الْقَاصِرِ إِلَى مَا لَا يَتَعَدَّى لَهُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ حُرُوفِ الْجَرِّ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْدِيَةً خَاصَّةً لَمْ يُبَيِّنْ حَقِيقَتَهَا. وَقَدْ مَثَّلَ لَهَا فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: ٥] وَجَعَلَ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ»
هَذَا الْمِثَالَ مِثَالًا لِمَعْنَى شِبْهِ الْمِلْكِ، وَاخْتَارَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْ يُمَثَّلَ لِلتَّعْدِيَةِ بِنَحْوِ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو.
وَلَمْ يُفْصِحُوا عَنْ هَذِهِ التَّعْدِيَةِ الْخَاصَّةِ بِاللَّامِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا عَمَلٌ لَفْظِيٌّ مَحْضٌ، أَيْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى جُزْئِيًّا كَمَعَانِي الْحُرُوفِ، فَتَحَصَّلَ أَنَّهُمْ فِي ارْتِبَاكٍ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَحْسُنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ لِكَوْنِ اللَّامِ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَنْ نُفَسِّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ تَقْرِيبُ الْمُتَعَلِّقِ بِكَسْر اللَّام لمتعلّق بِفَتْحِ اللَّامِ تَقْرِيبًا لَا يَجْعَلُهُ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ.
وَإِنْ شِئْتَ إِرْجَاعَ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَشْهُورَةِ لِلَّامِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ مَعْنَى شِبْهِ الْمِلْكِ كَمَا اقْتَضَاهُ جَعْلُ ابْنِ مَالِكٍ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مِثَالًا لِشِبْهِ الْمِلْكِ.
وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَيَكُونَ مُفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَنَّهَا بَيْضَاءُ بَيَاضًا مُسْتَقِرًّا فِي أَنْظَارِ النَّاظِرِينَ وَيَكُونُ الظَّرْفُ مُسْتَقِرًّا يُجْعَلُ حَالًا مِنْ ضمير يَده.
[١٠٩- ١١٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٠٩ إِلَى ١١٢]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
جَرَتْ جُمْلَةُ: قالَ الْمَلَأُ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ لِأَنَّهَا جَرَتْ فِي طَرِيق المحاورة الْجَارِيَةِ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَإِنَّهُ حِوَارٌ وَاحِدٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَأِ آنِفًا فِي الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ، فَمَلَأُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ وَمَشُورَتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ مُوسَى أَوَّلَ الْأَمْرِ قَاصِرَةً عَلَى
وَذِكْرُ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ: يَضْرِبُونَ جَمِيعَ أَجْسَادِهِمْ. فَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ وَهُوَ مَا دَبَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: ٤٥].
وَكَذَلِكَ الْوُجُوهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أَقْبَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ضَرَبْتُهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، كِنَايَةً عَمَّا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ أَيْ ضَرَبْتُهُ فِي جَمِيع جسده.
و «الذَّوْق» مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ، بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ.
وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْحَرِيقِ مِنْ إِضَافَةِ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ، لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيْ عَذَابًا هُوَ الْحَرِيقُ، فَهِيَ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ.
والْحَرِيقِ هُوَ اضْطِرَامُ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جَهَنَّمُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ عَجَّلَ بِأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّارِ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْوِينِ، أَيْ: يُذِيقُونَهُمْ، أَوْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشَفِّي، أَوِ الْمُرَادُ بقول الْمَلَائِكَة وَذُوقُوا إِنْذَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَذُوقُونَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الذَّوْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِنْذَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إِبْرَاهِيم: ٣٠] بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ يُؤْذِنُ بِشَيْءٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ التَّمَتُّعِ مُضَادٌّ لِمَا بِهِ التَّمَتُّعُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إِلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَجِيءَ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِتَعْظِيمِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ التَّنْكِيلِ وَالتَّشَفِّي. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ، مَعَ الْمَجْرُورِ، خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَمَعْنَى قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِيمَا مَضَى، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَفُرُوعِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ.
وَذِكْرُ الْأَيْدِي اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، وَهِي مَا صدق بِما قَدَّمَتْ بِمَا يَجْتَنِيهِ الْمُجْتَنِي مِنَ الثَّمَرِ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنَ الْأَثْمَانِ، تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَذُكِرَ رَدِيفُ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْأَيْدِي الَّتِي هِيَ آلَةُ الِاكْتِسَابِ، أَيْ: بِمَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيكُمْ لَكُمْ.
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: ٧٤] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا. وَأَوَّلُ التَّوْبَةِ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ إِقْلَاعٌ عَنِ الشِّرْكِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَتَابَ مِنْهُ. وَبِذَلِكَ فَارَقَ النَّعْتُ الْمَنْعُوتَ وَهُوَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: ١١١].
والْعابِدُونَ: الْمُؤَدُّونَ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
والْحامِدُونَ: الْمُعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الشَّاكِرُونَ لَهُ.
والسَّائِحُونَ: مُشْتَقٌّ مِنَ السِّيَاحَةِ. وَهِيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ بِهِ سَيْرٌ خَاصٌّ مَحْمُودٌ شَرْعًا. وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي فِيهِ قُرْبَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، مِثْلُ سَفَرِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ أَوِ السَّفَرِ لِلْحَجِّ أَوِ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ. وَحَمْلُهُ هُنَا عَلَى السَّفَرِ لِلْجِهَادِ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ وَأَشْمَلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ بِخِلَافِ الْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ.
والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ: هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ، إِذِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ
لَا تَخْلُو مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَيَأْبَاهُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دُونَ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ وَتَرْكُهُ فِي الْأَخْبَارِ وَنَحْوِهَا جَائِزَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي عَطْفِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ:
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِقْلَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. ثُمَّ لَمَّا ذُكِرَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِمَّنْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَانَتْ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ رُكُوعًا فَقَطْ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤]، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ سُجُودًا فَقَطْ كَبَعْضِ صَلَاةِ النَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمرَان: ٤٣]. وَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَانَا صِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عُطِفَتَا بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِبَارُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَالْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُمَا وَهُمَا الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ فَالْوَاوُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّوْبَة: ١١٢].
وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُفَارِقُ، أَيْ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ جَمَاعَةٍ أُخْرَى فِي عَمَلٍ أَوْ نِحْلَةٍ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨١].
شَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ الْوَاضِحَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِحَالِ الْأَعْمَى، وَشُبِّهُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ بِحَالِ مَنْ هُوَ أَصَمُّ.
وَشَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْبَصَرِ، سَلِيمَ السَّمْعِ فَهُوَ فِي هُدًى وَيَقِينٍ مِنْ مُدْرَكَاتِهِ.
وَتَرْتِيبُ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا فِي الذِّكْرِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا تقدم ينبىء بِالْمُرَادِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَالتَّرْتِيبُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ بالأعمى والأصم هُوَ الْفَرِيقُ الْمَقُولُ فِيهِمْ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [هود: ٢٠].
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَصَمِّ للْعَطْف على كَالْأَعْمى عَطَفَ أَحَدَ الْمُشَبَّهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمِيعِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْبَصِيرِ.
وَأَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرِ فَهِيَ لِعِطْفِ التَّشْبِيهِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّشْرُ بَعْدَ اللَّفِّ. فَهِيَ لِعَطْفِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ بِهَا لِلتَّقْسِيمِ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَقَدْ يَظُنُّ النَّاظِرُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ تَرْكُ عَطْفِ صِفَةِ الْأَصَمِّ على صفة كَالْأَعْمى كَمَا لَمْ يُعْطَفْ نَظِيرَاهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨] ظَنًّا بِأَنَّ مَوْرِدَ الْآيَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ. وَذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ حَوَاشِي الْكَشَّافِ بِأَنَّ
أَرْضِ كَنْعَانَ، فَأَمَّا سُؤَالُ الْعِيرِ فَسَهْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَرْيَةِ فَيَكُونُ بِالْإِرْسَالِ أَوِ الْمُرَاسَلَةِ أَوِ الذَّهَابِ بِنَفْسِهِ إِنْ أَرَادَ الاستثبات.
[٨٣]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٨٣]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
جُعِلَتْ جُمْلَةُ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ فِي صُورَةِ الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَقَّنَهُ أَخُوهُمْ
عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ فَقَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي لَقَّنَهُ إِيَّاهُمْ (رُوبِينُ) قَالَ أَبُوهُمْ: بَلْ سَوَّلَتْ... إِلَخَّ.
وَقَوْلُهُ هُنَا كَقَوْلِهِ لَهُمْ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَهُوَ تُهْمَةٌ لَهُمْ بِالتَّغْرِيرِ بِأَخِيهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَنَّ بِهِمْ سُوءًا فَصَدَقَ ظنّه فِي زعمم فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَا ظَنَّهُ فِي أَمْرِ بِنْيَامِينَ، أَيْ أَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ بِهِمْ فِي قَضِيَّةِ (بِنْيَامِينَ)، وَمُسْتَنَدُهُ فِي هَذَا الظَّنِّ عِلْمُهُ أَنَّ ابْنَهُ لَا يَسْرِقُ، فَعَلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ مَكِيدَةً. فَظَنُّهُ صَادِقٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا تُهْمَتُهُ أَبْنَاءَهُ بِأَن يَكُونُوا تمالؤوا عَلَى أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ فَهُوَ ظَنٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي قَضِيَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّهُ كَانَ قَالَ لَهُمْ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ سُورَة يُوسُف [٦٤]. وَيَجُوزُ عَلَى النَّبِيءِ الْخَطَأُ فِي الظَّنِّ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ تَرْكِ إِبَّارِ النَّخْلِ.
وَلَعَلَّهُ اتَّهَمَ رُوبِينَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اخْتَفَى لِتَرْوِيجِ دَعْوَى إِخْوَتِهِ. وَضَمِيرُ بِهِمْ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِنْيَامِينَ وَرُوبِينَ. وَهَذَا كَشْفٌ مِنْهُ إِذْ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تَعْلِيلٌ لِرَجَائِهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَوَاقِعُهُمُ الْمُتَفَرِّقَةُ. حَكِيمٌ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَسْبَابِ جَمْعِهِمْ بعد التَّفَرُّق.
وَالْحَكِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٦٩] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
وَ «الْعَلِيمُ» الْمَوْصُوفُ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ، أَيِ الْمُحِيطُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٠].
وَقَدْ أُكِّدَتْ جُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الشَّدِيدِ لِلْحَشْرِ. وَقَدْ أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بشأن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْبَعْثِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سُورَة سبأ: ٧- ٨] أَيْ فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِجَزَائِهِ مُكَذِّبِيكَ إِذا حشرهم.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
تَكْمِلَةٌ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَجْنَاسِ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَمِنْهُ يَتَخَلَّصُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُخَامِرُهَا مِنْ وَسْوَاسِهِ بِمَا يُرْدِيهِمْ. جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَإِنَّ أَهَمَّ الْإِحْيَاءِ هُوَ إِيجَادُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَمَوْعِظَةٍ وَذِكْرَى. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يَيْبَسَ فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ صَلْصَالٌ وَهُوَ شِبْهُ الْفَخَّارِ إِلَّا أَنَّ الْفَخَّارَ هُوَ مَا يَبِسَ بِالطَّبْخِ بِالنَّارِ. قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [سُورَة الرَّحْمَن: ١٤].
الَّتِي يَهْدِي إِلَى سُلُوكِهَا أَقْوَمَ مِنَ الطَّرَائِقِ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَاحِدَةً.
وَهَذَا وَصْفٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَعْنَى هِدَايَتِهِ إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لَوْ أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ لَاقْتَضَى أَسْفَارًا، وَحَسْبُكَ مِثَالًا لِذَلِكَ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي سَدِّ مَسَالِكِ الشِّرْكِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا مِنَ التَّخْلِيطِ بَيْنَ التَّقْدِيسِ الْبَشَرِيِّ وَبَيْنَ التَّمْجِيدِ الْإِلَهِيِّ، فَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِحَالٍ، فَمَحَلُّ التَّفْضِيلِ هُوَ وَسَائِلُ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ مِنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَلَيْسَ مَحَلُّ التَّفْضِيلِ تِلْكَ الْغَايَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَاوَتُ.
وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِجَهَنَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَجْرِ وَالْعَذَابِ، فَيَشْمَلَ أَجْرَ الدُّنْيَا وَعَذَابَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَعَادَةِ عَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشَقَائِهِ، فَجَعَلَ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ فِيهِمَا مَوْعِظَةً لِحَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِشَارَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ عَذَابَ الْعَدُوِّ بِشَارَةٌ لِمَنْ عَادَاهُ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ لِمُنَاسَبَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِسْرَاءِ فَلَا غَرَضَ فِي الْإِعْلَامِ بِحَالِ أهل الْكتاب.
[١١]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١١]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَامِضٌ، وَانْتِزَاعُ الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِهَا وَأَلْفَاظِهَا أَيْضًا، وَلَمْ يَأْتِ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ بِمَا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ
خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ
وَالنَّارُ تَأْكُلُ نَفْسَهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ
لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَجِدُوا مَا اعْتَادُوهُ مِنْ غَزْوِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ رَجَعَ قَوِيُّهُمْ عَلَى ضَعِيفِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١).
تَخَلُّصٌ مِنْ أَغْرَاضِ الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْقِصَّةِ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَيْدِي مَنِ اخْتَارَهُ اللَّهُ لِإِقَامَتِهَا مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، إِلَى غَرَضِ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ تَخَلُّصٌ يُؤْذِنُ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَمَوُّجِهِمْ بِحَالِ تَمَوُّجِ النَّاسِ فِي الْمَحْشَرِ، تَذْكِيرًا لِلسَّامِعِينَ بِأَمْرِ الْحَشْرِ وَتَقْرِيبًا بِحُصُولِهِ فِي خَيَالِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى جَمْعِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ وَرَاءَ هَذَا السَّدِّ، بِفِعْلِ مَنْ يَسَّرَهُ لِذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ، هُوَ الْأَقْدَرُ عَلَى جَمْعِ الْأُمَمِ فِي الْحَشْرِ بِقُدْرَتِهِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ أَعْجَبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتَ
الْبَعْثِ. وَاسْتُعْمِلَ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّوَرِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ تَشْبِيهًا لِحَالِ الدَّاعِي الْمُطَاعِ وَحَالِ الْمَدْعُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ السَّرِيعِ الْإِجَابَةِ، بِحَالِ الْجُنْدِ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ أَمْرَ الْقَائِدِ بِالنَّفِيرِ فَيَنْفُخُونَ فِي بُوقِ النَّفِيرِ، وَبِحَالِ بَقِيَّةِ الْجُنْدِ حِينَ يَسْمَعُونَ بُوقَ النَّفِيرِ فَيُسْرِعُونَ إِلَى الْخُرُوجِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصُّوَرُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْآخِرَةِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ- بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِإِبْطَالِ تَعَدُّدٍ خَاصٍّ، وَهُوَ التَّعَدُّدُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْيُونَانِ الزَّاعِمِينَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَبَائِلِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَكَذَا مَا اعْتَقَدَهُ الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْفُرْسِ الْمُثْبِتِينَ إِلَهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْخَيْرِ وَالْآخِرِ لِلشَّرِّ أَوْ أَحَدِهِمَا لِلنُّورِ وَالْآخِرِ لِلظُّلْمَةِ- هُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا نَحَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ مِنْ أَصْلِهِ بِالنِّسْبَةِ لِإِيجَادِ الْعَالَمِ وَسَمُّوهُ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ كَمَا قَالَ سعد الدَّين التفتازانيّ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ». وَقَالَ فِي «الْمَقَاصِدِ» :«وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ لَا يَخْفَى».
وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إِيجَادِ الْعَالَمِ يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنَ الْحَكِيمَيْنِ أَوِ الْحُكَمَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا بِقِيَاسِ الْآلِهَةِ عَلَى الْمُلُوكِ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ قِيَاسٌ إِقْنَاعِيٌّ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ أَنَّ جَانِبَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ هُوَ فَرْضُ أَنْ يَتَمَانَعَ الْآلِهَةُ، أَيْ يَمْنَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ، وَالْخَوْضُ فِيهِ مَقَامُنَا غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُنَا هُوَ لُزُومُ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ خَارِجَةٍ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ الدَّلِيلُ بِهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩١].
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْرِيرِهِ طَرِيقَتَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ «الْمَوَاقِفِ».
الْأُولَى: طَرِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِلُزُومِ التَّمَانُعِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَتَقْرِيرُهَا:
أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقُدْرَةِ،
وَعَطْفُ مَقَالَةِ نُوحٍ عَلَى جُمْلَةِ إِرْسَالِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَدَائِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِالْفَوْرِ مِنْ أَمْرِهِ وَهُوَ شَأْنُ الِامْتِثَالِ.
وَأَمْرُهُ قَوْمَهُ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَنْ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ (وَدٍّ، وَسُوَاعَ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ) حَتَّى أَهْمَلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَسُوهَا.
وَكَذَلِكَ حُكِيَتْ دَعْوَةُ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بِأَصْلِ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ عِبَادَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَهُمْ مُثْبِتُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ أَخَصُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ، وَهُوَ أَوْقَعُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ لِاقْتِضَائِهِ مَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَالْمَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَهُوَ إِلَهُكُمْ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْعِبَادَةَ فَلَا تَعْبُدُوا أَصْنَامَكُمْ مَعَهُ.
وغَيْرُهُ نَعْتٌ لِ إِلهٍ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ الْمَنْعُوتِ بِ (غَيْرِ) لِأَنَّ الْمَنْعُوتَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ الزَّائِدِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى عَدَمِ اتِّقَائِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ خُولِفَتْ فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ تَرْكُ الْعَطْفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]. فَعُطِفَ هُنَا جَوَابُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُوَجِّهُوا الْكَلَامَ إِلَيْهِ بَلْ تَرَكُوهُ وَأَقْبَلُوا عَلَى قَوْمِهِمْ يُفَنِّدُونَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ.
وَالثَّانِي: لِيُفَادَ أَنهم أَسْرعُوا بتكذيبه وَتَزْيِيفِ دَعْوَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ. وَوَصْفُ الْمَلَأِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَهُمْ
وَهَذَا الِامْتِدَادُ يَكْثُرُ عَلَى حَسَبِ مُقَابَلَةِ الْأَشِعَةِ لِلْحَائِلِ فَكُلَّمَا اتَّجَهَتِ الْأَشِعَةُ إِلَى الْجِسْمِ مِنْ أَخْفَضِ جِهَةٍ كَانَ الظِّلُّ أَوْسَعَ، وَإِذَا اتَّجَهَتْ إِلَيْهِ مُرْتَفِعَةً عَنْهُ تَقَلَّصَ ظِلُّهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْأَشِعَةُ مُسَامِتَةً أَعْلَى الْجِسْمِ سَاقِطَةً عَلَيْهِ فَيَزُولَ ظِلُّهُ تَمَامًا أَوْ يَكَادُ يَزُولُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ غَيْرَ مُتَزَايِدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدُّ الظِّلِّ يُشْبِهُ صُورَةَ التَّحَرُّكِ أُطْلِقَ عَلَى انْتِفَاءِ الِامْتِدَادِ اسْمُ السُّكُونِ بِأَنْ يُلَازِمَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَا يَنْقُصُ وَلَا يَزِيدُ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً فِي سَمْتٍ وَاحِدٍ تِجَاهَ أَشِعَةِ الشَّمْسِ فَلَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ ظَلِّ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَتَلْزَمُ ظِلَالُهَا حَالَةً وَاحِدَةً فَتَنْعَدِمُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ.
وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ بِقَوْلِهِ لَجَعَلَهُ ساكِناً عَلَى حَالَةٍ مَطْوِيَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهِيَ حَالَةُ عُمُومِ الظِّلِّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ حَالَةُ الظُّلْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتِ اتِّجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ التَّوْرَاةِ «وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ظُلْمَةٌ» ثُمَّ قَالَ «وَقَالَ اللَّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ... » وَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ (إِصْحَاحُ وَاحِدٍ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ)، فَاسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ بِالظِّلِّ أَجْدَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِجَمَالِهَا بِخِلَافِ الظِّلِّ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ فَكِلَا دَلَالَتَيْهِ وَاضِحَةٌ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الظِّلِّ مِنَّةً.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ وَأَفَادَتْ ثُمَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مُتَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَأْنَ ثُمَّ إِذَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَنَّهَا أَبْعَدُ اعْتِبَارًا، أَيْ أَنَّهَا أَرْفَعُ فِي التَّأْثِيرِ أَوْ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّمْسِ هُوَ عِلَّةُ وُجُودِ الظِّلِّ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّبَبُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْمُسَبَّبِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَدَّ الظِّلَّ بِأَنْ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَى مَقَادِيرِ امْتِدَادِهِ. وَلَمْ
يُفْصِحِ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِفْصَاحًا شَافِيًا.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَا لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ
تَعْمَلُونَ.
فَحَرْفُ أَمْ فِيهِ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلِانْتِقَالِ وَمُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ
تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تُوقِنُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي مُدَّةِ تَكْرِيرِ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا.
وَمِنْ لَطَائِفَ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْمُعَادِلِ الْأَوَّلِ مُصَرَّحًا بِهِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْهُمْ فَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَحَذَفَ مُعَادِلَهُ الْآخَرَ تَنْبِيهًا عَلَى انْتِفَائِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ مَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ أَمْ حَدَثَ حَادِثٌ آخَرُ، فَجُعِلَ هَذَا الْمُعَادِلُ مُتَرَدَّدًا فِيهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اسْتِفْهَامٍ. وَهَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ» :«وَمِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِرَاعِيكَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ رَاعِي سُوءٍ: أَتَأْكُلُ نَعَمِي أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، فَتَجْعَلُ مَا ابْتَدَأْتَ بِهِ وَجَعَلْتَهُ أَسَاسَ كَلَامِكَ هُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ أَكْلِهِ وَفَسَادِهِ وَتَرْمِي بِقَوْلِكَ: أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، مَعَ عِلْمِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا إِلَّا الْأَكْلَ لِتَبْهَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاسْتِفْهَام تقريريا وَتَكُونُ أَمْ مُتَّصِلَةً وَمَا بَعْدَهَا هُوَ مُعَادِلُ الِاسْتِفْهَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تَتَّبِعُوا آيَاتِي».
وَجُمْلَةُ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَذَّبْتُمْ دُونَ أَنْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ تُحِيطُوا، أَيْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُكُمْ بِهَا، فَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ الْإِحَاطَةِ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى إِسْنَادِهَا إِلَى ذَوَاتِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَقَعَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَالِ فِي الْإِسْنَادِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بِالتَّمْيِيزِ.
وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْآيَاتِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بهَا وَهَذَا تعيير لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ قَبْلَ التدبر فِيهَا.
وأَمَّا ذَا اسْتِفْهَامٌ وَاسْمُ إِشَارَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا).
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْجُمْلَةَ صَارَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قُوَّةِ مَوْصُولٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) وَ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ يَكُونُ بِمَعْنَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَهُوَ بَيَانُ مَعْنًى لَا بَيَان وضع.
ثُمَّ تَطَرَّقَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَجْهِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا تَغُوصُ أَفْهَامُهُمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِالْأَحْدَاثِ وَلَا فِي أَسْبَابِ نُهُوضِ وَانْحِدَارِ الْأُمَمِ مِنَ الْجَانِبِ الرَّبَّانِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ إِهْمَالُهُمِ النَّظَرَ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِهَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ الْبَعْثِ. وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ وَلِوَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى بِدَلَائِلَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي
تَكْوِينِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَنِظَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ حَضَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَنَظَّرَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ وَبَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَرَذَائِلِهِمْ، وَضَرَبَ أَمْثَالًا لِإِحْيَاءِ مُخْتَلَفِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنْهَا وَلِإِحْيَاءِ الْأُمَمِ بَعْدَ يَأْسِ النَّاسِ مِنْهَا، وَأَمْثَالًا لِحُدُوثِ الْقُوَّةِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَبِعَكْسِ ذَلِكَ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدِهِ بِالنَّصْرِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَنِ ابْتَغَى غَيْرَهُ دِينًا فَقَدْ حَاوَلَ تَبْدِيلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَنَّى لَهُ ذَلِك.
[١]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَخَاصَّةً فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إِحْدَى ثَلَاثِ سُوَرٍ مِمَّا افْتُتِحَ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي الْمُقَطَّعَةِ غَيْرِ مُعَقَّبَةٍ بِمَا يُشِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ مَرْيَمَ.
[٢- ٥]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : الْآيَات ٢ الى ٥]
غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)
غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ.
قَوْلُهُ غُلِبَتِ الرُّومُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ بِأَنَّ الرُّومَ غُلِبَتْ، فَلَا يَهِنْكُمْ ذَلِكَ وَلَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَى رَسُولِنَا وَأَوْلِيَائِنَا فَإِنَّا
سَاقَهُ مَسَاقَ التَّعَجُّبِ الْمَشُوبِ بِغَضَبٍ.
وَعَلَى الثَّانِي فَانْتِصَابُ سُنَّةَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْفِعْلُ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ أَوْ نَائِبُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّتَهُ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعٌ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ اتِّبَاعًا لِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ كَمَا فَرَضَ لَهُمْ، أَيْ أَبَاحَ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ خَلَوْا: الْأَنْبِيَاءُ بِقَرِينَةِ سِيَاق لفظ النبيء، أَيِ الَّذِينَ خَلَوْا من قبل النبوءة، وَقَدْ زَادَهُ بَيَانًا قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ، فَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا مُتَزَوِّجِينَ وَكَانَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ عِدَّةُ أَزْوَاجٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِمْ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِهِنَّ.
فَإِنْ وَقْفَنَا عِنْدَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَيَّنَتْهُ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ فَالْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَإِنْ تَلَقَّيْنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْإِغْضَاءِ بَعْضَ الْآثَارِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي أُلْصِقَتْ بِقِصَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِبْرَةً بِالْخُصُوصِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَاتٌ وَكَانَ قَدْ أَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوْجَةَ (أُورْيَا) وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ لَهَا مَثَلًا بِالْخَصْمِ الَّذِينَ تُسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ وَتَشَاكَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَسَتَأْتِي فِي سُورَةِ ص، وَقَدْ ذُكِرَتِ الْقِصَّةُ فِي «سِفْرِ الْمُلُوكِ». وَمَحَلُّ
التَّمْثِيلِ بِدَاوْدَ فِي أَصْلِ انْصِرَافِ رَغْبَتِهِ إِلَى امْرَأَةٍ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لَهُ فَصَارَتْ حَلَالًا لَهُ، وَلَيْسَ مَحِلُّ التَّمْثِيلِ فِيمَا حَفَّ بِقِصَّةِ دَاوُدَ مِنْ لَوْمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص: ٢٤] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي قِصَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً مُعْتَرضَة بَين الْمَوْصُول وَالصِّفَةِ إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ صِفَةً لِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أَوْ تَذْيِيلٌ مِثْلَ جُمْلَةِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الْأَحْزَاب: ٣٧] إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا سَيَأْتِي، وَالْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِينِ، وَاللَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَاكِمَ إِلَّا بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر وَاحِد».
[٥٥- ٥٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ
الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ:
فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ
وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ عُتْبَةَ. فَقُلْنَا:
الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ، وَقُلْنَا: مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ عُتْبَةَ وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِنَ فَافْتَتَنَ فَكُنَّا نَقُولُ بِالْمَدِينَةِ: هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ افْتَتَنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَةً. وَكَانُوا هُمْ يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إِلَى قَوْله: مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] قَالَ عُمَرُ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَى هِشَامٍ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طَوَى فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهـ. فَقَوْلُ عُمَرَ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَأَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ عُمَرُ إِذْ كَانَ فِي شَاغِلِ تَهْيِئَةِ الْهِجْرَةِ فَمَا سَمِعَهَا إِلَّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ عُمَرَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ تَمْهِيدٌ بِإِجْمَالٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤]. وَبَعْدَ هَذَا فَعُمُومُ «عِبَادِيَ» وَعُمُومُ صِلَةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشْمَلُ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تُفَرَّغُ فِي قَوَالِبٍ تَسَعُهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ثُبُوتِ الْيَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلَّذِينَ أَسْرَفُوا وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَكُلُّهُمْ مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ إِثْبَاتُ (يَا) الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِمْ زِيَادَةَ تَصْرِيحٍ بِعَلَامَةِ التَّكَلُّمِ تَقْوِيَةً لِنِسْبَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣]. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِ- (عَلَى) لِأَنَّ
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْل: ١٧] وَقَالَ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: ٢٠] وَقَالَ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الْحَج: ٧٣]. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْلَاغِهِ إِلَى مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي إِفَادَةِ الْحُكْمِ، وَكَانَتْ إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ بِهَا حَاصِلَةً مِنْ مَوْقِعِهَا عَقِبَهَا، وَلَوْ أُرِيدَ التَّعْلِيلُ ابْتِدَاءً لَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلم تعطف.
[١٠]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٠]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَكْمِلَةً لِلِاعْتِرَاضِ فَيَكُونَ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مُتَّصِلًا بَقَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذَا الْكَلَامِ لِمُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ضَمَائِرَ رَبِّي، وتَوَكَّلْتُ، وأُنِيبُ ضَمَائِرُهُ، وَتِلْكَ الضَّمَائِرُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا حَظَّ فِي سِيَاقِ الْوَحْيِ إِلَى أَحَدٍ سوى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلِ أَمْرٍ بِقَوْلٍ يَقُوله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ فِعْلَ أَمْرٍ بِالْقَوْلِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ لِأَنَّ مَادَّةَ الِاخْتِلَافِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ وَحَالَةَ الْفَرِيقَيْنِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْكَافِرُونَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنَّفْعِ وَالْإِضْرَارِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا، أَيْ أَيُّ شَيْءٍ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، وَالْمُرَادُ: مِنْ أَشْيَاء الدّين وشؤون اللَّهِ تَعَالَى.
وَضَمِيرُ فَحُكْمُهُ عَائِدٌ إِلَى مَا اخْتَلَفْتُمْ عَلَى مَعْنَى: الْحُكْمُ بَيْنَكُمْ فِي شَأْنِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَّضِحُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ حِينَ يَرَوْنَ الثَّوَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعِقَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ.
دَرَجَاتٌ، أَيْ مَرَاتِبُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْخَبَرِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ جَزَاءِ الْخَيْرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَدَرَكَاتٌ فِي الشَّرِّ لِأَهْلِ الْكُفْرِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ بِالدَّرَجَاتِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ الدَّرَجَةَ مَرْتَبَةٌ فِي الْعُلُوِّ وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ إِنَّمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَ الْخَيْرِ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ السُّفْلَى فَهِيَ الدَّرَكَةُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٥]. وَوَجْهُ التَّغْلِيظِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ أَهْلِ الْخَيْرِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلُوا تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمرَاد ب مِمَّا عَمِلُوا جَزَاءُ مَا عَمِلُوا فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ. وَالدَّرَجَاتُ: مَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَضِدُّهُ الَّتِي يَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى وَفْقِهَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً، وَمَا عَمِلُوا نَفْسَ الْعَمَلِ فَلَا يُقَدَّرُ مُضَافٌ وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَرَاتِبُ الْجَزَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ تَتَفَاوَتُ بِالْكَثْرَةِ وَبِالسَّبْقِ وَبِالْخُصُوصِ، فَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ هُوَ دُونَ دَرَجَةِ الَّذِي بَادَرَ بِالْإِسْلَامِ وَبِرِّ وَالِدَيْهِ وَمَا يَعْقُبُ إِسْلَامَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الدَّرَجَاتِ.
وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلِنُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ هُوَ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَتَقْدِيرُهُ: قَدَّرْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ دَرَجَاتِهِمْ لِنُوَفِّيَهُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ نُجَازِيهِمْ تَامًّا وَافِيًا لَا غَبْنَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِنُوَفِّيَهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ مُرَادًا بِهِ الْعَوْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ احْتِرَاسٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَوْفِيَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعُقُوبَةِ لِئَلَّا يُحْسَبَ أَنَّ التَّوْفِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ أَشَدَّ مِمَّا تَقْتَضِيه
أَعْمَالهم.
الْإِطْلَاقِ أَلَّا يَقِيَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَحَدٌ بِشَفَاعَةٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ.
وَزِيدَتْ مِنْ فِي النَّفْيِ لِتَحْقِيقِ عُمُومِ النَّفْيِ وَشُمُولِهِ، أَيْ نَفْيُ جِنْسِ الدَّافِعِ.
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُكَلِّمَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ فَدُفِعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ وَالطُّورِ إِلَى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقْوَمَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ بِي الْعَذَاب».
[٩- ١٢]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٢]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)
يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ بقوله: لَواقِعٌ [الذاريات: ٧] عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ فَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تَفْرِيعًا عَلَى الْجُمْلَةِ كُلِّهَا وَيَكُونُ الْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الذاريات: ٧]، فَيَكُونَ يَوْمَ مُتَعَلِّقًا بِالْكَوْنِ الَّذِي بَيْنَ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، فَلَمَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الَّتِي تُقَدَّمُ عَلَى عَوَامِلِهَا فَلِذَلِكَ قُرِنَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ بِالْفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ حَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ فَوَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُرِيدُ بِهِ التَّأْكِيدُ لِلظَّرْفِ فَحَصَلَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ
بِطَرِيقَيْنِ طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَطَرِيقِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً الْآيَةَ، تَصْرِيحٌ بِيَوْمِ الْبَعْثِ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ تَضَمُّنًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَأْكِيدُهُ أَيْضًا.
وَالْمَوْرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ: التَّحَرُّكُ بِاضْطِرَابٍ، وَمَوْرُ السَّمَاءِ هُوَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ دُونَ مَنْ يَضُمُّهُ الْمَجْلِسُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ النَّاشِزِينَ مِنْكُمْ فَاسْتَحْضَرُوا بِالْمَوْصُولِ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِأَجْلِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ الْقَائِلِ انْشُزُوا وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لِإِيمَانِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ الِامْتِثَالَ مِنْ إِيمَانِهِمْ لَيْسَ لِنِفَاقٍ أَوْ لِصَاحِبِهِ امْتِعَاضٌ.
وَعَطَفَ «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْهُمْ» عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ غِشْيَانَ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَتَعْلِيمِهِ، أَيْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ لِأَحَدٍ بِالْقِيَامِ مِنَ الْمَجْلِسِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِجْلَاسِهِمْ، وَذَلِكَ رَفْعٌ لِدَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَمَكُّنُهُمْ أَجْمَعَ لِلْفَهْمِ وَأَنْفَى لِلْمَلَلِ، وَذَلِكَ أَدْعَى لِإِطَالَتِهِمُ الْجُلُوسَ وَازْدِيَادِهِمُ التَّلَقِّيَ وَتَوْفِيرِ مُسْتَنْبَطَاتِ أَفْهَامِهِمْ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِقَامَةُ الْجَالِسِينَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَجْلِ إِجْلَاسِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَلَعَلَّ الْبَدْرِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ قِصَّتِهِمْ كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ بَعْضًا مِنَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِيَامِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأُقِيمَ لِأَجْلِ رُجْحَانِ فَضِيلَةِ الْبَدْرِيِّينَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِي الْوَعْدِ لِلَّذِي أُقِيمَ مِنْ مَكَانِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ اسْتِئْنَاسٌ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ رَافِعُ دَرَجَتِهِ.
هَذَا تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قُوَّةُ إِيجَازِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْإِفْصَاحِ عَنِ
اسْتِفَادَةِ الْمَعْنَى مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ مَذَاهِبَ كَثِيرَةً وَمَا سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ مِنْهَا.
وَانْتَصَبَ دَرَجاتٍ، عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ مَكَانٍ يَتَعَلَّقُ بِ يَرْفَعِ أَيْ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا رَفْعًا كَائِنًا فِي دَرَجَاتٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَرْفَعِ لِأَنَّهَا دَرَجَاتٌ مِنَ الرَّفْعِ، أَيْ مَرَافِعَ.
أَنْ يَدُلُّواْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ تَعْيِينَ أَحَدٍ لِذَلِكَ إِلَّا إِذَا سَلَكُواْ طَرِيقَ الْبُهْتَانِ وَمَا هُمْ بِسَالِكِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا لِافْتِضَاحِ أَمْرِهِ.
وَهَذَا الْكَلَام ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْملك: ١٦] الْآيَةَ فَهُوَ مِثْلُهُ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ حُجَجِ الْاسْتِدْلَالِ.
وَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَالْأَكْثَرُ أَن يكون مُقَدرا فَإِذَا صُرِّحَ بِهِ كَمَا هُنَا فَأَوْضَحُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْاسْتِفْهَامَ يُقَدَّرُ بَعْدَهَا وَلَوْ كَانَ يَلِيهَا اسْتِفْهَامٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فَيُشْكِلُ اجْتِمَاعُ اسْتِفْهَامَيْنِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَنِ التَّعْيِينِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْانْتِفَاءِ، وَالْإِشَارَةُ مُشَارٌ بِهَا إِلَى مَفْهُومِ جُنْدٌ مَفْرُوضٍ فِي الْأَذْهَانِ اسْتُحْضِرَ لِلْمُخَاطِبِينَ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ يُشَاهِدُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَيَطْلُبُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ تَعْيِينَ قَبِيلَةٍ بِأَنْ يَقُولُواْ: بَنُو فُلَانٍ. وَلَمَّا كَانَ الْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجُنْدَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ كَائِنٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَنَحْوُهُ.
وَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَإٍ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَمَّنْ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهُمَا مِيمُ (أَمْ) وَمِيمُ (مَنْ) الْمُدْغَمَتَيْنِ بِجَعْلِهِمَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا كُتِبَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَلَا تُقْرَأُ إِلَّا بِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ إِذِ الْمُعْتَبَرُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الرِّوَايَةُ دُونَ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ.
والَّذِي هُوَ جُنْدٌ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ ولَكُمْ صِفَةٌ لِ جُنْدٌ ويَنْصُرُكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جُنْدٌ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ جُنْدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمُ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ جُنْدًا فَمَنْ هُوَ حَتَّى يَنْصُرَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَتَكُونُ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: ٣١] فِي
وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَفِعَّالُ فَعَّلَ كُلُّهُ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ.
وَانْتُصِبَ كِذَّاباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ تكذيبهم بِالْآيَاتِ.
[٢٩]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٢٩]
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ جملَة فَذُوقُوا [النبأ: ٣٠] وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاض الْمُبَادرَة بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَدَعُ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ إِلَّا يُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ هُنَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَفَعَلُوا مِمَّا عَدَا ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْصِيٌّ عِنْدَنَا.
وَنُصِبَ كُلَّ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَحْصَيْناهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ بِضَمِيرِهِ.
وَالْإِحْصَاءُ: حِسَابُ الْأَشْيَاءِ لِضَبْطِ عَدَدِهَا، فَالْإِحْصَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّبْطِ وَالتَّحْصِيلِ.
وَانْتُصِبَ كِتاباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ أَحْصَيْناهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِحْصَاءَ كِتَابَةٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَكْتُوبَةَ مَصُونَةٌ عَنِ النِّسْيَانِ وَالْإِغْفَالِ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِنَايَةً عَنِ الضَّبْطِ جَاءَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ل (أحصينا).
[٣٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٣٠]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا، وَلَمَّا غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِطَابُ تَهْدِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُفَرَّعُ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ (ذُوقُوا) الَّذِي لَا يُقَالُ إِلَّا يَوْمَ الْجَزَاءِ،


الصفحة التالية
Icon