وَقَدْ أُرِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِظْهَارُ مَزِيَّةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ اللَّهَ يَخُصُّ أَجْنَاسَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنْوَاعَهَا بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا لِئَلَّا يَخْلُوَ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ مِنْ وُجُودِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَبَيَانِ أَنَّ الْعَالِمَ حَقِيقٌ بِتَعْظِيمِ مَنْ حَوْلَهُ إِيَّاهُ وَإِظْهَارِ مَا لِلنُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنَ الْخَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَبَيَانُ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْحَقِّ مِنْ
خِصَالِ الْفَضَائِلِ الْمَلَائِكِيَّةِ، وَأَنَّ الْفَسَادَ وَالْحَسَدَ وَالْكِبْرَ مِنْ مَذَامِّ ذَوِي الْعُقُولِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ (إِذْ) كَالْقَوْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠].
وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ وَلَفْظِ آدَمَ هُنَا دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرَيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ [الْبَقَرَة: ٣٢] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [الْبَقَرَة: ٣٣] لِتَكُونَ الْقِصَّةُ الْمَعْطُوفَةُ مَعْنُونَةً بِمِثْلِ عُنْوَانِ الْقِصَّةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا إِشَارَةً إِلَى جَدَارَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِأَنْ تكون قصَّة مَقْصُورَة غَيْرَ مُنْدَمِجَةٍ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ إِسْنَادِ الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ فَأُتِيَ بِهِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ وَإِذْ قُلْنا وَأَتَى بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُسْنَدًا إِلَى رَبِّ النَّبِيءِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [الْبَقَرَة: ٣٠] لِلتَّفَنُّنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ هُنَا تَضَمَّنَ أَمْرًا بِفِعْلٍ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِينَ فَنَاسَبَهُ إِظْهَارُ عَظَمَةِ الْآمِرِ، وَأَمَّا القَوْل السَّابِق بِمُجَرَّد إِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ بِمُرَادِهِ لِيُظْهِرَ رَأْيَهُمْ، وَلِقَصْدِ اقْتِرَانِ الِاسْتِشَارَةِ بِمَبْدَأِ تَكْوِينِ الذَّاتِ الْأَوْلَى مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْمُحْتَاجِ إِلَى التَّشَاوُرِ فَنَاسَبَهُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَدْبِيرِ شَأْنِ الْمَرْبُوبَيْنِ. وَأُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ أَشْرَفِ الْمَرْبُوبِينَ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
وَحَقِيقَةُ السُّجُودِ طَأْطَأَةُ الْجَسَدِ أَوْ إِيقَاعُهُ عَلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لِمُشَاهَدٍ بِالْعِيَانِ كَالسُّجُودِ لِلْمَلِكِ وَالسَّيِّدِ وَالسُّجُودِ لِلْكَوَاكِبِ، قَالَ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يُوسُف:
١٠٠]، وَقَالَ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: ٣٧] وَقَالَ الْأَعْشَى:

فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الْكَرَى سَجَدْنَا لَهُ وَخَلَعْنَا الْعَمَارَا
وَقَالَ أَيْضًا:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا
أَوْ
حُدُودُ اللَّهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَرِيبًا.
وَتَبْيِينُ الْحُدُودِ ذِكْرُهَا لِلنَّاسِ مُوَضَّحَةً مُفَصَّلَةً مُعَلَّلَةً، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِفِعْلِ يُبَيِّنُها، وَوَصْفُ الْقَوْمِ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صَرِيحٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالَّذِينَ يُدْرِكُونَ مَا فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ.
وإقحام كلمة (لقوم) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ سَجِيَّتُهُمْ وَمَلَكَةٌ فِيهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: ١٦٤].
[٢٣١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [الْبَقَرَة: ٢٣٠] الْآيَةُ عَطْفُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ، وَتَشْرِيعٍ عَلَى تَشْرِيعٍ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ الْوَصَاةِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْفُرْقَةِ، وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَوْلُهُ: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ طَلَاقًا فِيهِ أَجَلٌ.
وَالْأَجَلُ هُنَا لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ أَجَلٌ مَعْهُودٌ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَعْنِي أَجَلَ الِانْتِظَارِ وَهُوَ الْعِدَّةُ، وَهُوَ التَّرَبُّصُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَبُلُوغُ الْأَجَلِ: الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُشَارَفَةُ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْأَجَلَ إِذَا انْقَضَى زَالَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُلُوغُ عَلَى مُشَارَفَةِ الْوُصُولِ وَمُقَارَبَتِهِ، تَوَسُّعًا أَيْ مَجَازًا بِالْأَوَّلِ. وَفِي الْقَاعِدَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِالْفِعْلِ عَنْ أُمُورٍ: أَحَدُهَا، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمُتَعَارَفُ عَنْ حُصُولِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ. الثَّانِي: عَنْ مُشَارَفَتِهِ نَحْوَ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: ٢٤٠] أَيْ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ، لِأَنَّهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ.
وَالْحَفِيظُ: الْحَارِسُ وَمَنْ يُجْعَلُ إِلَيْهِ نَظَرُ غَيْرِهِ وَحِفْظُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ مَجْعُولًا لَهُ الْحِفْظُ مِنْ جَانِبِ الشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ، وَالْحَفِيظُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِ وَمِنْ جَانِبِ مُوَالِيهِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: ٦٦].
وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُنَا دَقِيقٌ، لِأَنَّ الْحَفِيظَ وَصْفٌ لَا يُفِيدُ غَيْرَهُ مُفَادَهُ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِعْلُ حَفِظَ، فَالْحَفِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ يُقَدَّرُ لَهَا فِعْلٌ مَنْقُولٌ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لَمْ يُنْطَقْ بِهِ مِثْلُ الرَّحِيمِ.
وَلَا يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ اخْتِصَاصًا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَإِنْ كَانَ الْعَلامَة التّفتازاني مَالَ إِلَيْهِ، وَسَكَتَ عَنْهُ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ وُقُوفٌ مَعَ الظَّاهِرِ. وَتَقْدِيمُ عَلَيْكُمْ عَلَى بِحَفِيظٍ لِلِاهْتِمَامِ ولرعاية الفاصلة.
[١٠٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهَا. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَنْعَام: ١٠٤] الَّتِي هِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ «قُلْ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى التَّصْرِيفِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: نُصَرِّفُ الْآياتِ.
أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦].
وَقَوْلُهُ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَقَدْ
آخِرِ رُسُلِ إِسْرَائِيلَ وَبَيْنَ عِيسَى فَإِنَّ آخِرَ رُسُلِ إِسْرَائِيلَ كَانَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِيسَى مُرْسَلًا عَلَى آثَارِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.
وَالْإِنْجِيلُ: هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهَ عَلَى عِيسَى وَكَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ سِيرَتِهِ.
وَالْإِنْجِيلُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا مُعَرَّبٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَمَعْنَى جَعْلِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَنَّ تَعَالِيمَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عِيسَى أَمَرَتْهُمْ بِالتَّخَلُّقِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فَعَمِلُوا بِهَا، أَوْ أَنَّ ارْتِيَاضَهُمْ بِسِيرَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسَخَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ وَيَسَّرَهُ عَلَيْهِمْ.
ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى بُعِثَ لِتَهْذِيبِ نُفُوسِ الْيَهُودِ وَاقْتِلَاعِ الْقَسْوَةِ مِنْ قُلُوبِهِمُ الَّتِي تَخَلَّقُوا بِهَا فِي أَجْيَالٍ طَوِيلَةٍ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٤].
وَالرَّأْفَةُ: الرَّحْمَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَفْعِ الْأَذَى وَالضُّرِّ فَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [٢].
وَالرَّحْمَةُ: الْعَطْفُ وَالْمُلَايَنَةُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
فَعَطْفُ الرَّحْمَةِ عَلَى الرَّأْفَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لْاسْتِيعَابِ أَنْوَاعِهِ بَعْدَ أَنِ اهْتَمَّ بِبَعْضِهَا.
وَالرَّهْبَانِيَّةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ الرَّاهِبُ مُتَّصِفًا بِهَا فِي غَالب شؤون دينه، وَالْيَاء فِيهَا يَاءُ النِّسْبَةِ إِلَى الرَّاهِبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ النَّسَبِ إِلَى الرَّاهِبِ الرَّاهِبِيَّةُ، وَالنُّونُ فِيهَا مَزِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النِّسْبَةِ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِمْ: شَعْرَانِيٌّ، لِكَثِيرِ الشِّعْرِ، وَلِحْيَانِيٌّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ، وَرُوحَانِيٌّ، وَنَصْرَانِيٌّ.
وَالْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ جِبْرِيلَ فِي إِرْسَالِهِ بِالْوَحْيِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ بِتَعْلِيمٍ أَوْ خَبَرٍ أَوْ نَصْرٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّاءَ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ الْآيَة [آل عمرَان: ٣٩]، أَوِ الْمُرْسَلاتِ بِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ مِثْلَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وعُرْفاً حَالٌ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلَ عُرْفِ الْفَرَسِ فِي تتَابع الشّعير بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، يُقَالُ: هُمْ كَعُرْفِ الضَّبْعِ، إِذَا تَأَلَّبُوا، وَيُقَالُ: جَاءُوا عُرْفًا وَاحِدًا. وَهُوَ صَالِحٌ لِوَصْفِ الْمَلَائِكَةِ وَلِوَصْفِ الرِّيحِ.
وَفُسِّرَ عُرْفاً بِأَنَّهُ اسْمٌ، أَيِ الشَّعَرُ الَّذِي عَلَى رَقَبَةِ الْفَرَسِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كَالْعُرْفِ فِي تَتَابُعِ الْبَعْضِ لِبَعْضٍ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَعْرُوفٌ (ضِدُّ الْمُنْكَرِ)، وَأَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالصَّلَاحِ.
فَالْعاصِفاتِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمُرْسَلاتِ، أَيْ تُرْسَلُ فَتَعْصِفُ، وَالْعَصْفُ يُطْلَقُ عَلَى قُوَّةِ هُبُوبِ الرِّيحِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُرْسَلَاتِ وَصْفُ الرِّيَاحِ فَالْعَصْفُ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُرْسَلَاتِ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ فَالْعَصْفُ تَشْبِيهٌ لِنُزُولِهِمْ فِي السُّرْعَةِ بِشِدَّةِ الرِّيحِ وَذَلِكَ فِي الْمُبَادَرَةِ فِي سُرْعَةِ الْوُصُولِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمِرُوا بِهِ.
وعَصْفاً مُؤَكِّدٌ لِلْوَصْفِ تَأْكِيدًا لِتَحْقِيقِ الْوَصْفِ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِإِرَادَةِ رَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ.
وَالنَّشْرُ: حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الطَّيِّ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِيضَاحِ وَفِي الْإِخْرَاج.
ف النَّاشِراتِ إِذَا جُعِلَ وَصْفًا لِلْمَلَائِكَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَشْرَهُمُ الْوَحْيِ، أَيْ تَكْرِيرَ نُزُولِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ النَّشْرُ كِنَايَةً عَنِ الْوُضُوحِ، أَيْ بالشرائع الْبَيِّنَة.
وَإِذا جُعِلَ وَصْفًا لِلرِّيَاحِ فَهُوَ نَشْرُ السَّحَابِ فِي الْأَجْوَاءِ فَيَكُونُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ دون الْفَاء لتنبيه عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُرْسَلاتِ لَا على فَالْعاصِفاتِ لِأَنَّ الْعَصْفَ حَالَةٌ مُضِرَّةٌ وَالنَّشْرَ حَالَةُ نَفْعٍ.
وَالْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِ نَشْراً وَتَنْوِينِهِ كَالْقَوْلِ فِي عَصْفاً.
وَالْفَرْقُ: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا كَانَ وَصْفًا لِلْمَلَائِكَةِ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْفَرْقِ
وَلَكِنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ هَذَيْنِ مَعَ طُورِ سِينِينَ وَمَعَ الْبَلَدِ الْأَمِينِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَحْمَلٌ أَوْفَقُ بِالْمُنَاسَبَةِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا تَفْسِيرُ التِّينِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْجُودِيِّ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَلَعَلَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْجَبَلِ التِّينَ لِكَثْرَتِهِ فِيهِ إِذْ قَدْ تُسَمَّى الْأَرْضُ بِاسْمِ مَا يَكْثُرُ فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَمَرْخٌ دِيَارُهُمُ أَمْ عُشَرْ
وَسُمِّيَ بِالتِّينِ مَوْضِعٌ جَاءَ فِي شِعْرِ النَّابِغَةِ يَصِفُ سَحَابَاتٍ بِقَوْلِهِ:
صُهْبُ الظّلال أتين فِي عُرُضٍ... يُزْجِينَ غَيْمًا قَلِيلًا مَاؤُهُ شَبِمَا
وَالزَّيْتُونُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ يُنْبِتُ الزَّيْتُونَ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ بِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مَعْنِيًّا بِهِمَا شَجَرُ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ، أَيِ اكْتَسَبَ نَوْعَاهُمَا شَرَفًا مِنْ بَين الْأَشْجَار يكون كَثِيرٍ مِنْهُ نَابِتًا فِي هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ الْمُقَدَّسَيْنِ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
أَتَذْكُرُ حِينَ تَصْقِلُ عَارِضَيْهَا... بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ (١)
فَدَعَا لِنَوْعِ الْبَشَامِ بِالسَّقْيِ لِأَجْلِ عُودِ بَشَامَةَ الْحَبِيبَةِ.
وَأَمَّا طُورِ سِينِينَ فَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِ «طُورِ سِينَا». وَالطُّورُ: الْجَبَلُ بِلُغَةِ النَّبَطِ وَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، وَعُرِفَ هَذَا الْجَبَلُ بِ طُورِ سِينِينَ لِوُقُوعِهِ فِي صَحْرَاءِ «سِينِينَ»، وَ «سِينِينَ» لُغَةٌ فِي سِينٍ وَهِيَ صَحْرَاءُ بَيْنَ مِصْرَ وَبِلَادِ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: سِينِينَ اسْمُ الْأَشْجَارِ بِالنَّبَطِيَّةِ أَوْ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحُسْنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ.
وَقَدْ جَاءَ تَعْرِيبُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى صِيغَةٍ تُشْبِهُ صِيغَةَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَلَيْسَ بِجمع، مجَاز فِي إِعْرَابِهِ أَنْ يُعْرَبَ مِثْلَ إِعْرَابِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ نِيَابَةً عَنِ الضَّمَّةِ، أَوِ الْيَاءِ نِيَابَةً عَنِ الْفَتْحَةِ أَوِ الْكَسْرَةِ، وَأَنْ يُحْكَى عَلَى الْيَاءِ مَعَ تَحْرِيكِ نُونِهِ بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ مِثْلِ:
صِفِّينَ وَيَبْرِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطّور: ١، ٢].
_________
(١) وَفِي رِوَايَة التبريزي فِي «شرح الحماسة» : أتنسى إِذْ توعدنا سليمى بِعُود... إِلَخ ص ٥٠ ج ١.


الصفحة التالية
Icon