فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُفِيدُ الْمُسْتَثْنَى الِاتِّصَافَ بِنَقِيضِ الْمَحْكُومِ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ لَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ وَلَا مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ جُمْلَةُ أَبى وَاسْتَكْبَرَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ بَيَانًا لِلْإِجْمَالِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَنْهَضُ مِنْهَا حُجَّةٌ تَقْطَعُ الْجِدَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مَعْطُوف عَلَى الْجُمَلِ الْمُسْتَأْنَفَةِ، وَ (كَانَ) لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ اتَّصَفَ بِالْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَضَى قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَفَ بِهِ قَبْلَ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَقَدْ تَحَيَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ حَمْلِهِمْ فِعْلَ (كَانَ) عَلَى الدِّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكُفْرِ فِيمَا مَضَى عَنْ وَقْتِ الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فَرِيقٌ يُوصَفُ بِالْكَافِرِينَ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَتَمَحَّلُوا بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُظْهِرًا الطَّاعَةَ مُبْطِنًا الْكُفْرَ نِفَاقًا، وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلُوا هَذَا الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] وَكُلُّ ذَلِكَ تَمَحُّلٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ يُفِيدُ مُضِيَّ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً الَّذِينَ جَعَلُوا كَانَ بِمَعْنَى صَارَ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ كَانَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: ٤٣] وَقَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة:
٥، ٦] وَقَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا | قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا |
وَالَّذِي أَرَاهُ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ فِي مَعْنَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَكَفَرَ كَمَا قَالَ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لِدَلَالَةِ (كَانَ)
الِانْفِعَالِ قَرِيبَةُ الْقَلْبِ، فَإِذَا جَاءَ مَنْعٌ فَإِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ قَبَلِ الْأَوْلِيَاءِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَرْغِيبَ النِّسَاءِ فِي الرِّضَا بِمُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ وَنَهَى الْأَوْلِيَاءَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ شَأْنِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا قَارَبَهَا، الْأَنَفَةُ مِنْ أَصْهَارِهِمْ، عِنْدَ حُدُوثِ الشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَلَايَاهُمْ، وَرُبَّمَا رَأَوُا الطَّلَاقَ اسْتِخْفَافًا بِأَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ، فَحَمَلَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ عَلَى قَصْدِ الانتقام مِنْهُم عِنْد مَا يَرَوْنَ مِنْهُمْ نَدَامَةً، وَرَغْبَةً فِي الْمُرَاجَعَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ الْبَدَّاحَ بْنَ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّ طَلَّقَ زَوْجَهُ جُمَيْلَا
- بِالتَّصْغِيرِ وَقِيلَ جُمَلَا وَقِيلَ جَمِيلَةُ- ابْنَةُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: «إِنَّكَ طَلَّقْتَهَا طَلَاقًا لَهُ الرَّجْعَةُ، ثُمَّ تَرَكْتَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ أَتَيْتَنِي تَخْطُبُهَا مَعَ الْخُطَّابِ، وَالله لَا أنكحتكها أَبَدًا» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ مَعْقِلٌ «فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَرْجَعْتُهَا إِلَيْهِ» وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلْتُ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ ابْنَةُ عَمٍّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ جَاءَ يُرِيدُ مُرَاجَعَتَهَا، وَكَانَتْ رَاغِبَةً فِيهِ، فَمَنَعَهُ جَابِرٌ مِنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ.
وَالْمُرَادُ مِنْ أَجْلَهُنَّ هُوَ الْعِدَّةُ، وَهُوَ يَعْضُدُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ «دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ» فَجَعَلَ الْبُلُوغَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، بِمَعْنَى مُشَارَفَةِ بُلُوغِ الْأَجَلِ، وَجَعْلَهُ هُنَا بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْأَجَلِ. فَجُمْلَةُ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: ٢٣١] الْآيَةَ.
وَالْخِطَابُ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ طَلَّقْتُمُ وتَعْضُلُوهُنَّ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ اخْتِلَافِ التَّوَجُّهِ، فَيَكُونُ مُوَجَّهًا إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِأَنَّ يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ إِنْ كَانَ زَوْجًا، وَيَقَعُ مِنْهُ الْعَضْلُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى مِثْلِهِ فَلَا يَكَادُ يَخْفَى فِي اسْتِعْمَالِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ، غَيْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْآخَرُ، إِذْ لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ الْعَضْلُ وَلَا الْعَكْسُ، كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يَأْخُذُ مِنِ الْخِطَابِ مَا هُوَ بِهِ جَدِيرٌ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: طَلَّقْتُمُ أَوْقَعْتُمُ الطَّلَاقَ، فَهُمُ الْأَزْوَاجُ، وَبِقَوْلِهِ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ النَّهْيُ عَنْ صُدُورِ الْعَضْلِ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ النِّسَاءِ.
وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْخِطَابَ لِلنَّاسِ عَامَّةً أَيْ إِذَا وُجِدَ فِيكُمُ الطَّلَاقُ وَبَلَغَ الْمُطَلَّقَاتُ أَجَلَهُنَّ، فَلَا يَقَعُ مِنْكُمُ الْعَضْلُ
وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِذَارَ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا [الْأَنْعَام: ١٤٨] الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠] فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ (١)، لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ كَاشِفَةٌ عَنِ الْوَاقِعِ لَا تَصْلُحُ عُذْرًا لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [الْمَائِدَة: ٤١].
وَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِشْرَاكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٥].
وَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تَذْكِيرٌ وَتَسْلِيَةٌ لِيُزِيحَ عَنْهُ كَرْبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْكَدَرِ لِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ فِي نَفْسِهِ انْكِسَارًا كَأَنَّهُ انْكِسَارُ مَنْ عُهِدَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْ حُسْنِ الْقِيَامِ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْهُ مُكْرِهًا لَهُمْ لِيَأْتِيَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا بَعَثَهُ مُبَلِّغًا
لِرِسَالَتِهِ فَمَنْ آمَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهَا.
وَالْحَفِيظُ: الْقَيِّمُ الرَّقِيبُ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْكَ رَقِيبًا عَلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ فَلَا يُهِمَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ وَعَدَمُ تَحْصِيلِ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ إِذْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْخَبَرُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ وَالتَّسْلِيَةِ، لَا مَسَاقَ الْإِفَادَةِ لِأَنَّ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَهُ حَفِيظًا عَلَى تَحْصِيلِ إِسْلَامِهِمْ إِذْ لَا يَجْهَلُ الرَّسُولُ مَا كُلِّفَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِطَرِيقَةِ التَّذْكِيرِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْغَمُّ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
_________
(١) فِي المطبوعة: (فصلت) وَهُوَ خطأ.
اللَّهِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّقْصِيرُ فِي الْتِزَامِهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ أَوِ التَّفْرِيطُ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ فَقَدِ انْتَفَى حَقُّ حِفْظِهَا.
وحَقَّ رِعايَتِها مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ رِعَايَتَهَا الْحَقَّ.
وَحَقُّ الشَّيْءِ: هُوَ وُقُوعُهُ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِ نَوْعِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ
الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ.
وَالْمَعْنَى: مَا حفظوا شؤون الرَّهْبَانِيَّةِ حِفْظًا كَامِلًا فَمَصَبُّ النَّفْيِ هُوَ الْقَيْدُ بِوَصْفِ حَقَّ رِعايَتِها.
وَهَذَا الِانْتِفَاءُ لَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ اللَّوْمِ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا الْتَزَمُوهُ أَوْ نَذَرُوهُ، وَذَلِكَ تَقَهْقُرٌ عَنْ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْمُتَّقِي أَنْ يَكُونَ مُزْدَادًا مِنَ الْكَمَالِ.
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ»
. وَقَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ إِلَى آخِرِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَيْ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَجْرَهُمْ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَخْلِطُوا مُتَابَعَتَهُمْ إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهَا مِثْلُ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بُنُوَّتَهُ لِلَّهِ، وَنَحْوُهُمْ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ أَدْخَلُوا فِي الدِّينِ مَا هُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوَاعِدِهِ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى كَمَا قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ: الْكُفْرُ وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِمَّنْ مَضَوْا مِنَ النَّصَارَى قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهَا إِلَى النَّصَارَى، وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا فِي الصُّورَةِ وَالَّذِينَ أَفْسَدُوا إِيمَانهم بِنَقْض حُصُوله هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ الْتَزَمُوا دِينَهُ
كَانَتْ تَنْتَظِرُهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ» اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يُقَالُ: وُقِّتَ بِمَعْنَى أُحْضِرَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَسَلَّمَهُ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَعْنًى مَغْفُولٌ عَنْهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ أَوْ مَطْوِيٌّ بِخَفَاءٍ فِي بَعْضِهَا.
وَيَجِيء على الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اسْتِئْنَافًا، وَتُجْعَلُ (أَيٌّ) اسْمَ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ لِلتَّهْوِيلِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ صَرَّحُوا وَلَمْ يُجْمِلُوا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ تَكُونَ (أَيٌّ) مَوْصُولَةً دَالَّةً عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَتَكُونُ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (أَيٌّ) وَتَقْدِيرُهُ:
لِيَوْمٍ أَيِّ يَوْمٍ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. وَيَكُونُ مَعْنَى أُقِّتَتْ حَضَرَ مِيقَاتُهَا الَّذِي وُقِّتَ لَهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ جُمِعَتْ، وَفِي «اللِّسَان» على الْفَرَّاءِ: أُقِّتَتْ جُمِعَتْ لِوَقْتِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَة: ١٠٩] وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١].
وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ جُمِعَتْ لِأَجْلِ الْيَوْمِ الَّذِي أُجِّلَتْ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُجِّلَتْ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ لِظُهُورِهِ، أَيْ أُجِّلَتْ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ بَدَلٌ مِنْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: ١١٤] أَيْ أُحْضِرَتِ الرُّسُلُ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ وَالْبَدَلَ دَلِيلَانِ عَلَى جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ إِلَخْ، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا حَصَلَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فَذَلِكَ وُقُوعُ مَا تُوعَدُونَ.
وَجُمْلَةُ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا الْوَجْهَ الْوَجِيهَ فِي مَعْنَاهَا.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَهَا مَقُولَ قَوُلٍ مَحْذُوفٍ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.
والْفَصْلِ: تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ بِالْقَضَاءِ وَالْجَزَاءِ إِذْ بِذَلِكَ يَزُولُ الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ وَالتَّمْوِيهُ الَّذِي كَانَ لِأَهْلِ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا فَتَتَّضِحُ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ.
وَاقْتَصَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى أَسْبَابِ الزَّجِّ فِي ضَلَالَتِهِمَا، وَأَشَدُّ إِلْحَاحًا عَلَى وَلَدِهِمَا.
وَلَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تَفْسِيرِ التَّقْوِيمِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمِ فَقَصَرُوا التَّقْوِيمَ عَلَى حُسْنِ الصُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى اسْتِقَامَةِ الْقَامَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَلَى الشَّبَابِ وَالْجَلَادَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَلَا يُلَائِمُ مَقْصِدَ السُّورَةِ إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ بِأَنَّ ذَلِكَ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ عَكَسَ الْإِنْسَانُ شُكْرَهَا فَكَفَرَ بِالْمُنْعِمِ فَرُدَّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، سِوَى مَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ (١) أَنَّهُ قَالَ: «تَقْوِيمُ الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ اللَّذَانِ زَيَّنَاهُ بِالتَّمْيِيزِ» وَلَفْظَهُ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَعَ زِيَادَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ وَمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ عَنِ الْأَصَمِّ (٢) أَنَّ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَكْمَلُ عَقْلٍ وَفَهْمٍ وَأَدَبٍ وَعِلْمٍ وَبَيَانٍ».
وَتُفِيدُ الْآيَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَى الْخَيْرِ وَأَنَّ فِي جِبِلَّتِهِ جَلْبَ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ لِنَفْسِهِ وَكَرَاهَةَ مَا يَظُنُّهُ بَاطِلًا أَوْ هَلَاكًا، وَمَحَبَّةَ الْخَيْرِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْأَفْعَالِ لِذَلِكَ تَرَاهُ يُسَرُّ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَيَنْصَحُ بِمَا يَرَاهُ مَجْلَبَةً لِخَيْرِ غَيْرِهِ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ وَيُعَامِلُ بِالْحُسْنَى، وَيَغَارُ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَيَشْمَئِزُّ مِنَ الظُّلْمِ مَا دَامَ مُجَرَّدًا عَنْ رَوْمِ نَفْعٍ يَجْلِبُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ إِرْضَاءِ شَهْوَةٍ يُرِيدُ قَضَاءَهَا أَوْ إِشْفَاءِ غَضَبٍ يَجِيشُ بِصَدْرِهِ، تِلْكَ الْعَوَارِض الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
فِطْرَتِهِ زَمَنًا، وَيَهَشُّ إِلَى كَلَامِ الْوُعَّاظِ وَالْحُكَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُكْرِمُهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ وَيَوَدُّ طُولَ بَقَائِهِمْ.
فَإِذَا سَاوَرَتْهُ الشَّهْوَةُ السَّيِّئَةُ فَزَيَّنَتْ لَهُ ارْتِكَابَ الْمَفَاسِدِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهَا عَنْ نَفْسِهِ انْصَرَفَ إِلَى سُوءِ الْأَعْمَالِ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ نُصْحُ النَّاصِحِينَ، وَوَعْظُ الْوَاعِظِينَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ بِمِقْدَارِ تَحَكُّمِ الْهَوَى فِي عَقْلِهِ.
_________
(١) لم أَقف على تَعْيِينه وَلَيْسَ يبعد أَن يكون هُوَ الْأَصَم.
(٢) الْأَصَم لقب أبي بكر عبد الرَّحْمَن بن كيسَان من أَصْحَاب هِشَام الفوطي من الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ ابْن حجر فِي «لِسَان الْمِيزَان» : إِنَّه كَانَ من طبقَة أبي الْهُذيْل العلاف المعتزلي.