[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣٥]

وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
عَطْفٌ عَلَى قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [الْبَقَرَة: ٣٤] أَيْ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى ذَلِكَ قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. وَهَذِهِ تَكْرِمَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا آدَمَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ بِكَرَامَةِ الْإِجْلَالِ مِنْ تِلْقَاءِ الْمَلَائِكَةِ.
وَنِدَاءُ آدَمَ قَبْلَ تَخْوِيلِهِ سُكْنَى الْجَنَّةِ نِدَاءُ تَنْوِيهٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِأَنَّ نِدَاءَهُ يَسْتَرْعِي إِسْمَاعَ أَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَيَتَطَلَّعُونَ لِمَا سَيُخَاطَبُ بِهِ، وَيُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَالِمَ جَدِيرٌ بِالْإِكْرَامِ بِالْعَيْشِ الْهَنِيءِ، كَمَا أُخِذَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ.
وَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: اسْكُنْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْوِيلِ وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُ بِأَنْ يَسْعَى بِنَفْسِهِ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّعْيِ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ.
وَضَمِيرُ (أَنْتَ) وَاقِعٌ لِأَجْلِ عَطْفِ وَزَوْجُكَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي اسْكُنْ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ عَطْفِ اسْمٍ، عَلَى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ مَرْفُوعِ الْمَحَلِّ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَهُ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ زِيَادَةَ إِيضَاحِ الْمَعْطُوفِ فَتَحْصُلُ فَائِدَةُ تَقْرِيرِ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ لِئَلَّا يَكُونَ تَابِعَةُ
الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَبْرَزَ مِنْهُ فِي الْكَلَامِ، فَلَيْسَ الْفَصْلُ بِمِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ مُقَيَّدًا تَأْكِيدًا لِلنِّسْبَةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالضَّمِيرِ لَازِمٌ لَا خِيرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى حَالٍ وَلَا يَعْرِفُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُرِيدٌ بِهِ تَأْكِيدًا وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ تَقْرِيرِ مَعْنَى الْمُضْمَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ.
وَالزَّوْجُ كُلُّ شَيْءٍ ثَانٍ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا تَقَارُنٌ فِي حَالٍ مَا. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ لِأَنَّ جَمِيعَ تَصَارِيفِهِ فِي الْكَلَامِ مُلَاحَظٌ فِيهَا مَعْنَى كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ مُمَاثِلَ غَيْرِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ فِي حَالٍ مَا يُسَمَّى زَوْجًا لِلْآخَرِ قَالَ تَعَالَى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى: ٥٠] أَيْ يَجْعَلُ لِأَحَدِ الطِّفْلَيْنِ زَوْجًا لَهُ أَيْ سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ شَفْعٍ.
وَسُمِّيَتِ الْأُنْثَى الْقَرِينَةُ لِلرَّجُلِ بِنِكَاحٍ زَوْجًا لِأَنَّهَا اقْتَرَنَتْ بِهِ وَصَيَّرَتْهُ ثَانِيًا، وَيُسَمَّى الرَّجُلُ زَوْجًا لَهَا لِذَلِكَ بِلَا فَرْقٍ، فَمِنْ ثَمَّ لَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَةً بِهَاءِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ اسْم وَلَيْسَ بوصفه. وَقَدْ لَحَّنُوا الْفَرَزْدَقَ فِي قَوْلِهِ:
دُونَ تَفْصِيلٍ بِكَيْفِيَّةِ هَذَا التَّزَوُّجِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رِضَا الْمَرْأَةِ بِالزَّوْجِ هُوَ الْعَقْدُ الْمُسَمَّى بِالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ لِذَلِكَ دُونَ جَبْرٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ إِسْنَادُ النِّكَاحِ إِلَيْهِنَّ، أَمَّا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي شَأْنِ الْأَيَامَى وَلَا جَبْرَ عَلَى أَيِّمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، وَإِفْرَادُ الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ جَمَاعَةٌ، رَعْيًا لِتَنَاسِي أَصْلِ وَضْعِهَا مِنِ الْخِطَابِ إِلَى مَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ مِنْ مَعْنَى بُعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَقَطْ، فَإِفْرَادُهَا فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي قَوْلِهِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ فَتَجْدِيدٌ لِأَصْلِ وَضْعِهَا.
وَمَعْنَى أَزْكَى وَأَطْهَرُ أَنَّهُ أَوْفَرُ لِلْعِرْضِ وَأَقْرَبُ لِلْخَيْرِ، فَأَزْكَى دَالٌّ عَلَى النَّمَاءِ وَالْوَفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْضُلُونَهُنَّ حَمِيَّةً وَحِفَاظًا عَلَى الْمُرُوءَةِ مِنْ لَحَاقِ مَا فِيهِ شَائِبَةُ الْحَطِيطَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ عَدَمَ الْعَضْلِ أَوْفَرُ لِلْعِرْضِ لِأَنَّ فِيهِ سَعْيًا إِلَى اسْتِبْقَاءِ الْوُدِّ بَيْنَ الْعَائِلَاتِ الَّتِي تَقَارَبَتْ بِالصِّهْرِ وَالنَّسَبِ فَإِذَا كَانَ الْعَضْلُ إِبَايَةً لِلضَّيْمِ، فَالْإِذْنُ لَهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ حِلْمٌ وَعَفْوٌ وَرِفَاءٌ لِلْحَالِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ إِبَايَةِ الضَّيْمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَطْهَرُ فَهُوَ مَعْنَى أَنْزَهُ، أَيْ أَنَّهُ أَقْطَعُ لِأَسْبَابِ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ وَالْأَحْقَادِ بِخِلَافِ الْعَضْلِ الَّذِي قَصَدْتُمْ مِنْهُ قَطْعَ الْعَوْدِ إِلَى الْخُصُومَةِ، وَمَاذَا تَضُرُّ الْخُصُومَةُ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ يَعْقُبُهَا رِضَا مَا تَضُرُّ الْإِحَنُ الْبَاقِيَةُ وَالْعَدَاوَاتُ الْمُتَأَصِّلَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُحْرَقَةُ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَزْكى بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، نَاظِرًا لِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَطَهْرُ بِمَعْنَى فِيهِ السَّلَامَةُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ، فَيكون أطهر مسلوب الْمُفَاضَلَةِ، جَاءَ عَلَى صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ قَوْلِهِ أَزْكى.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ وَإِزَالَةٌ لِاسْتِغْرَابِهِمْ حِينَ تَلَقِّي هَذَا الْحُكْمِ، لِمُخَالَفَتِهِ لِعَادَاتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَمَا اعْتَقَدُوا نفعا وصلاحا وإباء عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ النَّافِعَ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا، فَمَفْعُولُ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ كَمَالُ زَكَاتِكُمْ وَطَهَارَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تعلمُونَ ذَلِك.
الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فَحَّاشًا وَلَا سَبَّابًا لِأَنَّ خُلُقَهُ الْعَظِيمَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ تَرْكَهُ مِنْ وَحْيِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِغَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ رُبَّمَا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَفَرَطَتْ مِنْهُمْ فُرُطَاتٌ سَبُّوا فِيهَا أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ». وَهَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفَقُهُ بِنَظْمِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ ضَعِيفٌ وَلَهُ مُنْكَرَاتٌ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ بِلَفْظِ وَلا تَسُبُّوا وَكَانَ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَجْهَرُوا بِسَبِّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَثَلًا. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ١١٠]. وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَانْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ سَادَتِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَاطَبُوهُ بِمَا رَامَوْا،
فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يُرِيدُونَ أَنْ تَدَعَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ، وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ.
وَلَمْ يَقِلِ السُّدِّيُّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
قَالَ الْفَخر: هَاهُنَا إِشْكَالَانِ هُمَا: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ
أَجْرَيْ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَيَشْرَحُ هَذَا
حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» الَّذِي فِيهِ «مَثَلُ الْمُسلمين وَالْيَهُود والنصار كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لَهُ، فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ، ثُمَّ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ، قَالَ فِيهِ: وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا»
، أَيِ اسْتَكْمَلُوا مِثْلَ أَجْرِ الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ أَخَذُوا ضِعْفَ كُلِّ فَرِيقٍ.
وَتَقْوَى اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالِاعْتِقَادِ، وَبِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ (وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُتَأَهِّلِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦].
وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا هُوَ وَسِيلَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ:
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ.
وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ جُمْلَةُ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ إِلَخْ الْمَجْزُومُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ يُؤْتِكُمْ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ وَجَزَاءً فِي الدُّنْيَا فَجَزَاءُ الْآخِرَةِ قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَجَزَاءُ الدُّنْيَا قَوْلُهُ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ.
وَالْكِفْلُ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ: النَّصِيبُ. وَأَصْلُهُ: الْأَجْرُ الْمُضَاعَفُ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الحبشية كَمَا قَالَه أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَيْ يُؤْتِكُمْ أَجْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَكُلُّ أَجْرٍ مِنْهُمَا هُوَ ضِعْفُ الْآخَرِ مُمَاثِلٌ لَهُ فَلِذَلِكَ ثُنِّيَ كِفْلَيْنِ كَمَا يُقَالُ: زَوْجٌ، لِأَحَدِ الْمُتَقَارِبَيْنِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الْأَحْزَاب: ٦٨] وَقَوْلِهِ: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَة يوتون أُجُورَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكتاب آمن بنبيئه وآمن بِي، وَاتَّبَعَنِي، وَصَدَّقَنِي فَلَهُ أَجْرَانِ»
الْحَدِيثَ.
وَيَتَعَلَّقُ مِنْ رَحْمَتِهِ بِ يُؤْتِكُمْ، وَ (من) ابتدائية مجازيا، أَيْ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ، وَهَذَا فِي جَانِبِ النَّصَارَى مَعْنَاهُ لِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ جَمِيعُ الَّذِينَ كذبُوا الرُّسُل وَمَا جاءوهم بِهِ، وَبِذَلِكَ الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ، فَخُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ.
[١٦]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : آيَة ١٦]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦)
اسْتِئْنَافٌ بِخِطَابٍ مُوَجَّهٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ الْمُخَاطَبِ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي الْمَحْشَرِ.
وَيَتَضَمَّنُ اسْتِدْلَالًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِيَوْمِ الْبَعْثِ مِنَ الْأُمَمِ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ لِيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْمَوْصُوفُونَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَيِّ السَّبْقِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا يُقِرُّ بِهِ كُلُّ جِيلٍ مِنْهُمْ مَسْبُوقٍ بِجِيلٍ كَفَرُوا.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَوَّلِينَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ جَمِيعُ أُمَمِ الشِّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُشْرِكِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِعْدَامُ وَالْإِمَاتَةُ. وَإِهْلَاكُ الْأَوَّلِينَ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ غَيْرُ اعْتِيَادِيَّةٍ تَنْشَأُ عَنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِهْلَاكُ الِاسْتِئْصَالِ مِثْلَ إِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودٍ، وَحَالَةٌ اعْتِيَادِيَّةٌ وَهِيَ مَا سَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ حَيَاةٍ وَمَوْتٍ.
وَكِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادًا هُنَا، فَأَمَّا الْحَالَةُ غَيْرُ الِاعْتِيَادِيَّةِ فَهِيَ تَذْكِيرٌ بِالنَّظَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ.
وَأَمَّا الْحَالَةُ الِاعْتِيَادِيَّةُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنِ الَّذِي أَحْيَا النَّاسُ يُمِيتُهُمْ فَلَا يَتَعَذَّرُ أَنْ يُعِيد إحياءهم.
أَوْ مَنْ يَحْسِبُ الزَّمَانَ إِلَهًا وَيُسَمِّيهِ الدَّهْرَ، أَوْ مَنْ يَجْحَدُ وُجُودَ الصَّانِعِ وَهُوَ يُشَاهِدُ مَصْنُوعَاتِهِ وَيُحِسُّ بِوُجُودِ نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
فَإِنْ مِلْتَ إِلَى جَانِبِ الْأَخْلَاقِ رَأَيْتَ الْإِنْسَانَ يَبْلُغُ بِهِ انْحِطَاطُهُ إِلَى حَضِيضِ التَّسَفُّلِ، فَمِنْ مَلَقٍ إِذَا طَمِعَ، وَمِنْ شحّ إِذا شجع، وَمِنْ جَزَعٍ إِذَا خَافَ، وَمِنْ هَلَعٍ، فَكَمْ مِنْ نُفُوسٍ جُعِلَتْ قَرَابِينَ لِلْآلِهَةِ، وَمِنْ أَطْفَالٍ مَوْءُودَةٍ، وَمِنْ أَزْوَاجٍ مَقْذُوفَةٍ فِي النَّارِ مَعَ الْأَمْوَاتِ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَهَلْ بَعْدَ مِثْلِ هَذَا مِنْ تَسَفُّلٍ فِي الْأَخْلَاقِ وَأَفْنِ الرَّأْيِ.
وَإِسْنَادُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ يُكَوِّنُ الْأَسْبَابَ الْعَالِيَةَ وَنِظَامَ تَفَاعُلِهَا وَتَقَابُلِهَا فِي الْأَسْبَابِ الْفَرْعِيَّةِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُبَاشِرَةِ عَلَى نَحْوِ إِسْنَادِ مَدِّ وَقَبْضِ الظِّلِّ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً [الْفرْقَان: ٤٥، ٤٦] وَعَلَى نَحْوِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِ النَّاسِ: بَنَى الْأَمِيرُ مَدِينَةَ كَذَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلَ سافِلِينَ ظَرْفًا، أَيْ مَكَانًا أَسْفَلَ مَا يَسْكُنُهُ السَّافِلُونَ، فَإِضَافَةُ أَسْفَلَ إِلَى سافِلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الظَّرْفِ إِلَى الْحَالِّ فِيهِ، وَيَنْتَصِبُ أَسْفَلَ بِ رَدَدْناهُ انْتِصَابَ الظَّرْفِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَذَلِكَ هُوَ دَارُ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٥] فَالرَّدُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْجَعْلِ فِي مَكَانٍ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِسْنَادُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقِيقِيٌّ.
وَأَحْسِبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ انْتَزَعَ مِنْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: قَالَ مَالِكٌ: أَقْبَلَ عَلَيَّ يَوْمًا رَبِيعَةُ فَقَالَ لِي: مَنِ السَّفِلَةُ يَا مَالِكُ؟ قُلْتُ: الَّذِي يَأْكُلُ بِدِينِهِ، قَالَ لِي: فَمَنْ سَفِلَةُ السَّفِلَةِ؟
قُلْتُ: الَّذِي يَأْكُلُ غَيْرُهُ بِدِينِهِ. فَقَالَ: (زِهْ) (١) وَصَدَرَنِي (أَيْ
_________
(١) (زه) بِكَسْر الزَّاي وهاء سَاكِنة كلمة تدل على شدَّة الِاسْتِحْسَان وَهِي معربة عَن الفارسية، وَمِنْهَا تَحت لفظ الزهرة. أَي الِاسْتِحْسَان لِأَن (زه) تقال مكررة غَالِبا.


الصفحة التالية
Icon