وَالرَّغَدُ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ أَكْلًا رَغَدًا، وَالرَّغَدُ الْهَنِيءُ الَّذِي لَا عَنَاءَ فِيهِ وَلَا تَقْتِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: حَيْثُ شِئْتُما ظَرْفُ مَكَانٍ أَيْ مِنْ أَيِّ مَوَاضِعَ أَرَدْتُمَا الْأَكْلَ مِنْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ مَشِيئَتُهُمَا لَا تَنْحَصِرُ بِمَوَاضِعَ اسْتُفِيدَ الْعُمُومُ فِي الْإِذْنِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، وَفِي جَعْلِ الْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرِ مِنْ أَحْوَالِ آدم وزوجه بَين إِنْشَائِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الِاقْتِيَاتَ جِبِلَّةً لِلْإِنْسَانِ لَا تَدُومُ حَيَاتُهُ إِلَّا بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يَعْنِي بِهِ وَلَا تَأْكُلَا مِنَ الشَّجَرَةِ لِأَنَّ قُرْبَانَهَا إِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ الْأَكْلِ مِنْهَا فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُرْبَانِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ لِأَنَّ الْقُرْبَ من الشَّيْء ينشىء دَاعِيَةً وميلا إِلَيْهِ
فَفِيهِ الْحَدِيثِ «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ: (إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَتَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا قِيلَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ) اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ فَإِنَّ قَرُبَ وَقَرِبَ نَحْوَ كَرُمَ وَسَمِعَ بِمَعْنَى دَنَا، فَسَوَاءٌ ضَمَمْتَ الرَّاءَ أَوْ فَتَحْتَهَا فِي الْمُضَارِعِ فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الدُّنُوِّ إِلَّا أَنَّ الدُّنُوَّ بَعْضُهُ مَجَازِيُّ وَهُوَ التَّلَبُّسُ وَبَعْضُهُ حَقِيقِيُّ وَلَا يَكُونُ لِلْمَجَازِيِّ وَزْنٌ خَاصٌّ فِي الْأَفْعَالِ وَإِلَّا لَصَارَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ خَصَّ الْمَجَازِيَّ بِبَعْضِ التَّصَارِيفِ فَتَكُونُ تِلْكَ الزِّنَةُ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً لِلْمَجَازِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ فُرُوقِ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلُ تَخْصِيصِ بَعِدَ مَكْسُورِ الْعَيْنِ بِالِانْقِطَاعِ التَّامِّ وَبَعُدَ مَضْمُومِ الْعَيْنِ بِالتَّنَحِّي عَنِ
الْمَكَانِ وَلِذَلِكَ خُصَّ الدُّعَاءُ بِالْمَكْسُورِ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُسَافِرِ لَا تَبْعِدْ، قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَحْجَمِ الْخُزَاعِيَّةُ:
إِخْوَتِي لَا تَبْعَدُوا أَبَدًا | وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا |
وَالْإِشَارَة بِهَذِهِ إِلَى شَجَرَةٍ مَرْئِيَّةٍ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ، وَالْمُرَادُ شَجَرَةٌ مِنْ نَوْعِهَا أَوْ كَانَتْ شَجَرَةً وَحِيدَةً فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقَصَصِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْكَرْمَةُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا شَجَرَةُ التِّينِ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ إِبْهَامُهَا وَعُبِّرَ عَنْهَا بِشَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَلِلْأَمْزِجَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ أَيْضًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلَيْنِ لِلْوَلَدِ الَّذِي يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَهَكَذَا بِزِيَادَةِ كُلِّ شَهْرٍ فِي الْبَطْنِ يَنْقُصُ شَهْرٌ مِنْ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ حَتَّى يَكُونَ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَاف: ١٥]، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْزَعٌ إِلَى تَحْكِيمِ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا تَنْقُصُ مُدَّةُ مُكْثِهِ فِي الْبَطْنِ، تَنْقُصُ مُدَّةُ نُضْجِ مِزَاجِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَأَنَّ الْحَوْلَيْنِ غَايَةٌ لِإِرْضَاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ. وَأَخَذُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الرَّضَاعَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَا يُجَابُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْوَالِدِ بِالْمَوْلُودِ لَهُ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ الْحَقِيقُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ مَنَافِع الْوَلَد منجرة إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا حق بِهِ وَمُعْتَزٌّ بِهِ فِي الْقَبِيلَةِ حَسَبَ مُصْطَلَحِ الْأُمَمِ، فَهُوَ الْأَجْدَرُ بِإِعَاشَتِهِ، وَتَقْوِيمِ وَسَائِلِهَا.
وَالرِّزْقُ: النَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ: اللِّبَاسُ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا تَعَارَفَهُ أَمْثَالُهُمْ وَمَا لَا يُجْحِفُ بِالْأَبِ. وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُنَا مَا تَأْخُذُهُ الْمُرْضِعُ أجرا عَن إرضاعها، مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلْمَرَاضِعِ كِسْوَةً وَنَفَقَةً، وَكَذَلِكَ غَالِبُ إِجَارَاتِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَهْلَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، بَلْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْأَشْيَاءِ، وَكَانَ الْأُجَرَاءُ لَا يَرْغَبُونَ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ كِفَايَةَ ضَرُورَاتِهِمْ، وَهِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ، وَلِذَلِكَ أَحَالَ
اللَّهُ تَقْدِيرَهُمَا عَلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَسَعَتِهِمْ، وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها.
وَجُمَلُ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها إِلَى قَول: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ مُعْتَرَضَاتٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَعَلَى الْمَوْلُودِ وَجُمْلَةِ وَعَلَى الْوارِثِ فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تُضَارَّ والِدَةٌ إِلَى آخِرِهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ أَيْضًا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ يُفِيدُ أُصُولًا عَظِيمَةً لِلتَّشْرِيعِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ.
وَالتَّكْلِيفُ تَفْعِيلٌ بِمَعْنَى جَعَلَهُ ذَا كُلْفَةٍ، وَالْكُلْفَةُ: الْمَشَقَّةُ، وَالتَّكَلُّفُ: التَّعَرُّضُ لِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَيُطْلَقُ التَّكْلِيفُ عَلَى الْأَمْرِ بِفِعْلٍ فِيهِ كُلْفَةٌ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ جَدِيدٌ.
وَالْوُسْعُ، بِتَثْلِيثِ الْوَاوِ: الطَّاقَةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَسِعَ الْإِنَاءُ الشَّيْءَ إِذَا حَوَاهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ ضِدُّ ضَاقَ عَنْهُ، وَالْوُسْعُ هُوَ مَا يَسَعُهُ الشَّيْءُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ
شُعْبَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ إِعْطَاءِ الْوَسِيلَةِ حُكْمَ الْمَقْصِدِ خَاصَّةً بِوَسَائِلِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي حَكَى الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِيهِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عُنْوَانٌ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فِي عِدَادِ الْأُصُولِ الْمَوْهُومَةِ فِي خَاتِمَةِ الْقُطْبِ الثَّانِي فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ.
وعَدْواً- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ «يَسُبُّوا» لِأَنَّ الْعَدْوَ هُنَا صِفَةٌ لِلسَّبِّ، فَصَحَّ أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّهُ فِي الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَيَانًا لِنَوْعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ عَدْواً- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ- وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْعَدْوِ.
وَوَصْفُ سَبِّهِمْ بِأَنَّهُ عَدْوٌ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ سَبَّ الْمُسْلِمِينَ أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ السَّبَّ عَدْوًا سَوَاءً كَانَ مُرَادًا بِهِ اللَّهُ أَمْ كَانَ مُرَادًا بِهِ مَنْ يَأْمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اللَّهُ تَعَالَى فَصَادَفُوا الِاعْتِدَاءَ عَلَى جَلَالِهِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ حَالٌ من ضمير فَيَسُبُّوا، أَيْ عَنْ جَهَالَةٍ، فَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ لَا يَزَعُهُمْ وَازِعٌ عَنْ سَبِّهِ، وَيَسُبُّونَهُ غَيْرَ عَالِمِينِ بِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ مَنْ أَمر محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ بِهِ فَيُصَادِفُ سَبُّهُمْ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ صِفَةً لِ عَدْواً كَاشِفَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعِظَمِ الْجُرْمِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ، أَوْ عَنْ عِلْمٍ بِذَلِكَ لَكِنَّ حَالَةَ إِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ تُشْبِهُ حَالَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ.
وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا وَرَدَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ.
الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ.
وَأَنَا أَرَى أَنَّ دَعْوَى زِيَادَةِ (لَا) لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا، وَأَنَّ بَقَاءَهَا عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا وَهُوَ النَّفْيُ مُتَعَيِّنٌ، وَتُجْعَلُ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ، أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا الْفَضْلَ وَحُرِمَ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَبَقِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي جَهْلِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ الْمُسْتَمِرَّ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ عِلْمٌ بِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونُوا يَمْلِكُونَ فَضْلَ اللَّهِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْفَضْلَ قَوْمًا آخَرِينَ وَحَرَمَهُمْ إِيَّاهُ فَيَنْسَوْنَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَحِقُّهُ بِالذَّاتِ.
وَبِهَذَا الْغُرُورِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمُ الْقَدِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ أَصْلُهَا التَّعْلِيلُ الْمَجَازِيُّ كَمَا عَلِمْتَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٨].
وَقَوْلُهُ: أَهْلُ الْكِتابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً إِنْ جُعِلَ التَّعْلِيلُ تَعْلِيلًا لِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [الْحَدِيد: ٢٧] وَقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: ٢٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْ جُعِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ عِلَّةً لِقَوْلِهِ:
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ.
وَ (أَنْ) من قَوْله: أَلَّا يَقْدِرُونَ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَكْتَرِثُوا بِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَبِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، أَيْ لَا تَكْتَرِثُوا بِجَهْلِهِمُ الْمُرَكَّبِ فِي اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِأَنَّ لَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَهُوَ خُلُقُهُمْ فَهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدَرْنا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُ فِي الرَّحِمِ إِلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحَمْلِ فَقَدَّرْنَا أَطْوَارَ خَلْقِكُمْ حَتَّى أَخْرَجْنَاكُمْ أَطْفَالًا.
وَالْفَاءُ فِي فَنِعْمَ الْقادِرُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى (قَدَّرْنَا) أَيْ تَفْرِيعِ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ، أَيْ فَدَلَّ تَقْدِيرُنَا عَلَى أَنَّنَا نِعْمَ الْقَادِرُونَ، أَيْ كَانَ تَقْدِيرُنَا تَقْدِيرَ أَفْضَلِ قَادِرٍ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ بِالْقُدْرَةِ.
والْقادِرُونَ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَدَرَ اللَّازِمِ إِذَا كَانَ ذَا قُدْرَةٍ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْكَلَامُ تَأْسِيسًا لَا تَأْكِيدًا، أَيْ فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ عَلَى الْأَشْيَاءِ.
وَعَلَامَةُ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ مِثْلَ نُونِ (قَدَّرْنَا) فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَمَّا أَتَتْ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ كَانَتْ قُدْرَةً جديرة بالمدح.
[٢٤]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : آيَة ٢٤]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
هُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ الْمُوَالِي هُوَ لَهُ.
[٢٥- ٢٧]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٧]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (٢٧)
جَاءَ هَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى سُنَنٍ سَابِقِيهِ فِي عَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ لِلتَّوْبِيخِ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خلق الأَرْض لَهُم بِمَا فِيهَا مِمَّا فِيهِ مَنَافِعُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: ٣٣].
وَمَحَلُّ الِامْتِنَانِ هُوَ قَوْلُهُ: أَحْياءً وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمْواتاً فَتَتْمِيمٌ وَإِدْمَاجٌ.
وَكِفَاتٌ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُكْفَتُ فِيهِ، أَيْ يُجْمَعُ وَيُضَمُّ فِيهِ، فَهُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعَالِ مِنْ كَفَتَ، إِذَا جَمَعَ، وَمِنْهُ سُمِّي الْوِعَاءُ: كِفَاتًا، كَمَا سُمِّيَ مَا يَعِي الشَّيْءَ وِعَاءً، وَمَا يَضُمُّ الشَّيْءَ: الضِّمَامَ.
وأَحْياءً مَفْعُولُ كِفاتاً لِأَنَّ كِفاتاً فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ كَافِتَةً أَحْيَاءً. وَقَدْ يَقُولُونَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ كِفاتاً وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التِّين: ١] فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ».