أَوِ الْإِلْهَامِ. وَلَهُمْ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ رِوَايَاتٌ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِقِلَّةِ جَدْوَى الِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ آدَمُ الْكَلِمَاتِ فَتِيبَ عَلَيْهِ فَلْنَهْتَمَّ نَحْنُ بِمَا يَنْفَعُنَا مِنَ الْكَلَامِ الصَّالِحِ وَالْفِعْلِ الصَّالِحِ.
وَلَمْ تُذْكَرْ تَوْبَةُ حَوَّاءَ هُنَا مَعَ أَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى نَحْوُ قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَاف: ٢٣] لِظُهُورِ أَنَّهَا تَتْبَعُهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ أَرْشَدَهَا إِلَى مَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَكْرِيمِ آدَمَ وَجَعْلِهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِذِكْرِ تَقَلُّبَاتِهِ هُوَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ.
وَأَصْلُ مَعْنَى تَابَ رَجَعَ وَنَظِيرُهُ ثَابَ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ رُجُوعًا مِنَ التَّائِبِ إِلَى الطَّاعَةِ وَنَبْذًا لِلْعِصْيَانِ وَكَانَ قَبُولُهَا رُجُوعًا مِنَ الْمَتُوبِ إِلَيْهِ إِلَى الرضى وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وُصِفَ بِذَلِكَ رُجُوعُ الْعَاصِي عَنِ الْعِصْيَانِ وَرُجُوعُ الْمَعْصِيِّ عَنِ الْعِقَابِ فَقَالُوا تَابَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَتَابَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا الثَّانِيَ مَعْنَى عَطْفٍ وَرَضًى فَاخْتِلَافُ مُفَادَيْ هَذَا الْفِعْلِ بِاخْتِلَافِ الْحَرْفِ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ وَكَانَ أَصْلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُشَاكَلَةِ.
وَالتَّوْبَةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ الذَّنَبِ وَالْحَالُ هُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَيُسَمَّى نَدَمًا، وَالْعَمَلُ هُوَ التَّرْكُ لِلْإِثْمِ وَتَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ فَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»
قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، قُلْتُ: أَيْ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ لِأَنَّ أَحَدَ الْجُزْءَيْنِ غَيْرُ مَعْرِفَةٍ.
ثمَّ التَّعْبِير بتاب عَلَيْهِ هُنَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ أَكْلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ خَطِيئَةٌ إِثْم غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيئَةَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا جَزَاءُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ وَلَا نَقْصٌ فِي الدِّينِ وَلَكِنَّهَا أَوْجَبَتْ تَأْدِيبًا عَاجِلًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَئِذٍ فِي طَوْرٍ كَطَوْرِ الصِّبَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ ارْتِكَابُهَا بِقَادِحٍ فِي نُبُوءَةِ آدَمَ عَلَى أَنَّهَا لَا يَظْهَرُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ بَلْ قِصَارُهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْأَمْرِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَفِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَيْنَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَهِيَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّ نُبُوءَةَ آدَمَ فِيمَا يَظْهَرُ
كَانَتْ بَعْدَ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عِصْمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ إِذِ الْعِصْمَةُ عِنْدَ النُّبُوءَةِ.
وَعِنْدِي- وَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ- أَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ بَلْ عَالَمَ تَرْبِيَةٍ فَقَطْ فَتَكُونُ خَطِيئَةُ آدَمَ وَمَعْصِيَتُهُ مُخَالَفَةً تَأْدِيبِيَّةً وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعُقُوبَاتِ التَّأْدِيبِيَّةِ بِالْحِرْمَانِ مِمَّا جَرَّهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِطْلَاقُ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّوْبَةِ وَظُلْمِ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَعْرُوفِ بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ
وَالْفِصَالُ: الْفِطَامُ عَنِ الْإِرْضَاعِ، لِأَنَّهُ فُصِلَ عَنْ ثَدْيِ مُرْضِعِهِ. وَعَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ تَراضٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَرَادَا أَيْ إِرَادَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّرَاضِي، إِذْ قَدْ تَكُونُ إِرَادَتُهُمَا صُورِيَّةً أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُرْغَمًا عَلَى الْإِرَادَةِ، بِخَوْفٍ أَوِ اضْطِرَارٍ.
وَقَوْلُهُ: وَتَشاوُرٍ هُوَ مَصْدَرُ شَاوَرَ إِذَا طَلَبَ الْمَشُورَةَ. وَالْمَشُورَةُ قِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَشَاوِرِينَ يُشِيرُ بِمَا يَرَاهُ نَافِعًا فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُسْتَشِيرُ لِمَنْ يَسْتَشِيرُهُ: بِمَاذَا تُشِيرُ عَلَيَّ كَأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ يُشِيرُ لِلْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ النَّفْعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ النَّاصِحَ الْمُدَبِّرَ كَالَّذِي يُشِيرُ إِلَى الصَّوَابِ وَيُعِينُهُ لَهُ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، ثُمَّ عُدِّيَ بِعَلَى لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّدْبِيرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَلَ إِذا استخرجه، وأيا مَا كَانَ اشْتِقَاقُهَا فَمَعْنَاهَا إِبْدَاءُ الرَّأْيِ فِي عَمَلٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ مَنْ يُشَاوِرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩]، وَعَطَفَ التَّشَاوُرَ عَلَى التَّرَاضِي تَعْلِيما للزوجين شؤون تَدْبِيرِ الْعَائِلَةِ، فَإِنَّ التَّشَاوُرَ يُظْهِرُ الصَّوَابَ وَيَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي.
وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ حَقَّ إِرْضَاعِ الْحَوْلَيْنِ مُرَاعًى فِيهِ حَقُّ الْأَبَوَيْنِ وَحَقُّ الرَّضِيعِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ الرُّضَعَاءِ جَعَلَ
اخْتِلَافَ الْأَبَوَيْنِ دَلِيلًا عَلَى تَوَقُّعِ حَاجَةِ الطِّفْلِ إِلَى زِيَادَةِ الرَّضَاعِ، فَأَعْمَلَ قَوْلَ طَالِبِ الزِّيَادَةِ مِنْهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا تَشَاوَرَ الْأَبَوَانِ وَتَرَاضَيَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْفِصَالِ كَانَ تَرَاضِيهُمَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا مِنْ حَالِ الرَّضِيعِ مَا يُغْنِيهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّمَالُؤُ عَلَى ضُرِّ الْوَلَدِ، وَلَا يُظَنُّ إِخْفَاءُ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ تَشَاوُرِهِمَا، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا حَالُ وَلَدِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ انْتِقَالٌ إِلَى حَالَةِ إِرْضَاعِ الطِّفْلِ غَيْرُ وَالِدَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُهُ، لِمَرَضِهَا، أَوْ تَزَوُّجِهَا أَوْ إِنْ أَبَتْ ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ لَهَا الْإِبَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الْإِرْضَاعَ لِأَوْلَادِكُمْ فَلَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ.
وَالْمُخَاطَبُ بِأَرَدْتُمْ: الْأَبَوَانِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَبَوَيْنِ فِي الْأُمَّةِ وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصَ الرِّجَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا سَبَقَ وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِحَالَةِ تَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِ الْأُمِّ، وَبِحَالَةِ فَقْدِ الْأُمِّ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنَّ حَالَةَ التَّرَاضِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا، لِأَنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ مُؤْذِنٌ بِتَوَقُّعِهِ،
فَهَذَا بَيَانُ الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، وَإِنَّمَا الْعُقْدَةُ فِي وُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَا يُشْعِرُكُمْ بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا يُدْرِيكُمْ، وَمُعْتَادُ الْكَلَامِ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الدِّرَايَةِ فِيهِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَظُنَّ الْمُخَاطَبُ وُقُوعَهُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُظَنُّ وُقُوعُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَسَمُهُمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ فَلَمَّا جعل متعلّق فعل الشُّعُورِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا غَرِيبًا بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي اسْتِعْمَالِ نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي خَصَائِصِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَفُرُوقِهِ أَنْ لَا يُقَاسَ قَوْلُهُ: وَما
يُشْعِرُكُمْ
عَلَى مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَا يُدْرِيكَ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ مَا يُدْرِيكَ شَاعَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِاسْتِعْمَالٍ خَاصٍّ لَا يَكَادُونَ يُخَالِفُونَهُ كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْأَمْثَالِ أَنْ لَا تُغَيَّرَ عَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (مَا) فِيهِ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ يُدْرِيكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ. فَلَوْ قِسْنَا اسْتِعْمَالَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ (مَا يُدْرِيكُمْ) لَكَانَ وُجُودُ حَرْفِ النَّفْيِ مُنَافِيًا لِلْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ مُثَارُ تَرَدُّدِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِي مَحْمَلِ لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا حِينَ نَتَطَلَّبُ وَجْهَ الْعُدُولِ فِي الْآيَةِ عَنِ اسْتِعْمَالِ تَرْكِيبِ (مَا يُدْرِيكُمْ) وَإِلَى إِيثَارِ تَرْكِيبِ مَا يُشْعِرُكُمْ فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ لِمُرَاعَاةِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَعْدُولِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ لَيْسَ مُتَّبَعًا فِيهِ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَلِذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَسْمَحُ بِهِ الْوَضْعُ وَالنَّظْمُ فِي اسْتِعْمَالِ الأدوات وَالْأَفْعَال ومفاعليها وَمُتَعَلِّقَاتِهَا (١).
_________
(١) اعْلَم أَن قَوْلهم مَا يدْريك لَهُ ثَلَاثَة استعمالات. أَحدهَا: أَن يكون مرَادا بِهِ (الرَّد) على الْمُخَاطب فِي ظن يَظُنّهُ فَيُقَال لَهُ مَا يدْريك أَنه كَذَا فَيجْعَل مُتَعَلق فعل الدِّرَايَة هُوَ الظَّن الَّذِي يُرِيد الْمُتَكَلّم رده على الْمُخَاطب وَهَذَا الِاسْتِعْمَال يجْرِي فِيهِ تركيب مَا يدْريك وَمَا أَدْرَاك وَمَا تصرف مِنْهُمَا مجْرى الْمثل فَلَا يُغير عَن اسْتِعْمَاله، وَيكون الِاسْتِفْهَام فِيهِ إنكاريا، وَيلْزم أَن يكون مُتَعَلق الدِّرَايَة على نَحْو ظن الْمُخَاطب من إِثْبَات أَو نفى نَحْو مَا يدْريك أَنه يفعل وَمَا يدْريك أَنه لَا يفعل.
ثَانِيهَا: أَن يرد بعد فعل الدِّرَايَة حرف الرَّجَاء نَحْو: مَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى، إِذا كَانَ الْمُخَاطب غافلا عَن ظَنّه وَهُوَ الِاسْتِعْمَال الَّذِي على مثله خرج الْخَلِيل قَوْله تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَاء على ترادف فعل يشعركم وَفعل يدريكم. ثَالِثهَا: نَحْو وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة، مِمَّا وَقع بعده (مَا) الاستفهامية لقصد التهويل.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِمَالَاتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ فَهُوَ جَمْعُ جِمَالَةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِم وَخلف جِمالَتٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ وَهُوَ جَمْعُ جَمَلٍ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ.
وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ جَمْعَ جُمَالَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ حَبْلٌ تُشَدُّ بِهِ السَّفِينَةُ، وَيُسَمَّى الْقَلْسُ (بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ) وَالتَّقْدِيرُ:
كَأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا جُمَالَةٌ، وصُفْرٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نعت ل جِمالَتٌ أَوْ لِ (شَرَرٍ).
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ (يَعْنِي الْمَعَرِّي) فِي صِفَةِ نَارِ قَوْمٍ مَدَحَهُمْ بِالْكَرَمِ:

حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى تَرْمِي بِكُلِّ شَرَارَةٍ كَطِرَافِ
شَبَّهَ الشَّرَارَةَ بِالطِّرَافِ وَهُوَ بَيْتُ الْأَدْمِ فِي الْعِظَمِ وَالْحُمْرَةِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِخُبْثِهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تَشْبِيهِ الْقُرْآنِ وَلِتَبَجُّحِهِ بِمَا سُوِّلَ لَهُ مِنْ تَوَهُّمِ الزِّيَادَةِ جَاءَ فِي صَدْرِ بَيْتِهِ بِقَوْلِهِ: «حَمْرَاءَ» تَوْطِئَةً لَهَا وَمُنَادَاةً عَلَيْهَا وَتَنْبِيهًا لِلسَّامِعِينَ عَلَى مَكَانِهَا، وَلَقَدْ عَمِيَ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ عَمَى الدَّارِينَ عَنْ قَوْلِهِ عِزَّ وَعلا: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كَبَيْتٍ أَحْمَرَ وَعَلَى أَنَّ فِي التَّشْبِيهِ بِالْقَصْرِ وَهُوَ الْحِصْنُ تَشْبِيهًا مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْعِظَمِ وَمِنْ جِهَةِ الطُّولِ فِي الْهَوَاءِ فَأَبْعَدَ اللَّهُ إِغْرَابَهُ فِي طِرَافِهِ وَمَا نَفَخَ شِدْقَيْهِ مِنِ اسْتِطْرَافِهِ اهـ.
وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ ظَنُّ سُوءِ بِالْمَعَرِّي لَمْ يُشَمَّ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ نَبْزِهِ وَمَلَامِهِ، زَادَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي طُنْبُورِ أَصْحَابِ النِّقْمَةِ، لِنَبْزِ الْمَعَرِّي وَلَمْزِهِ نَغْمَةٌ.
قَالَ الْفَخْرُ: كَانَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ (أَيْ لِأَنَّهُ ظن سوءا بِلَا دَلِيلٍ).
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِ الْمَعَرِّي: أَنَّ الْكَلَامَ بِآخِرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ الشَّرَارَةَ: أَوَّلًا حِينَ تَنْفَصِلُ عَنِ النَّارِ بِالْقَصْرِ فِي الْعِظَمِ، وَثَانِيًا حِينَ تَأْخُذُ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْبِسَاطِ فَتَنْشَقُّ عَنْ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا بِالْجِمَالَاتِ فِي التَّفَرُّقِ
وَخُصَّ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّهُ الْمُطَّرِدُ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ إِذْ لَا يَغْفُلُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخْطُرَ لَهُ خَاطِرُ الْبَحْثِ عَنِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الْوَحْدَانِيَّةِ قَائِمٌ فِي أَنْفُسِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ عَلَقٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْطَوِي فِي أَصْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَدِيعِ الْأَطْوَارِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي جَعَلَتْهُ سُلْطَانَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَالْعَلَقُ: اسْمُ جَمْعِ عَلَقَةٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنَ الدَّمِ الْغَلِيظِ الْجَامِدِ الْبَاقِي رَطْبًا لَمْ يَجِفَّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا لَهَا بِدُودَةٍ صَغِيرَةٍ تُسَمَّى عَلَقَةً، وَهِيَ حَمْرَاءُ دَاكِنَةٌ تَكُونُ فِي الْمِيَاهِ الْحُلْوَةِ، تَمْتَصُّ الدَّمَ مِنَ الْحَيَوَانِ إِذَا عَلِقَ خُرْطُومُهَا بِجِلْدِهِ وَقَدْ تَدْخَلُ إِلَى فَمِ الدَّابَّةِ
وَخَاصَّةً الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ فَتَعْلَقُ بِلَهَاتِهِ وَلَا يَتَفَطَّنُ لَهَا.
وَمَعْنَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أَنَّ نُطْفَةَ الذَّكَرِ وَنُطْفَةَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ وَمُضِيِّ مُدَّةٍ كَافِيَةٍ تَصِيرَانِ عَلَقَةً فَإِذَا صَارَتْ عَلَقَةً فَقَدْ أَخَذَتْ فِي أَطْوَارِ التَّكَوُّنِ، فَجُعِلَتِ الْعَلَقَةُ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَلَمْ تُجْعَلِ النُّطْفَةُ مَبْدَأَ الْخَلْقِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ اشْتُهِرَتْ فِي مَاءِ الرَّجُلِ فَلَوْ لَمْ تُخَالِطْهُ نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ لَمْ تَصِرِ الْعَلَقَةُ فَلَا يَتَخَلَّقُ الْجَنِينُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ عَلَقٍ ثُمَّ مَصِيرَهُ إِلَى كَمَالِ أَشُدِّهِ هُوَ خَلْقٌ يَنْطَوِي عَلَى قُوًى كَامِنَةٍ وَقَابِلِيَّاتٍ عَظِيمَةٍ أَقْصَاهَا قَابِلِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ.
وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ ذِكْرُ الْعَلَقَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْعِلْمِ الْآنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَلَّقُ مِنْ بُوَيْضَةٍ دَقِيقَةٍ جِدًّا لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِرْآةِ الْمُكَبِّرَةِ أَضْعَافًا تَكُونُ فِي مَبْدَأِ ظُهُورِهَا كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ سَابِحَةً فِي دَمِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّخَلُّقَ حَتَّى تُخَالِطَهَا نُطْفَةُ الرَّجُلِ فَتَمْتَزِجَ مَعَهَا فَتَأْخُذَ فِي التَّخَلُّقِ إِذَا لَمْ يَعُقْهَا عَائِقٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الْحَج: ٥]، فَإِذَا أَخَذَتْ فِي التَّخَلُّقِ وَالنُّمُوِّ امْتَدَّ تَكَوُّرُهَا قَلِيلًا فَشَابَهَتِ الْعَلَقَةَ الَّتِي فِي الْمَاءِ مُشَابَهَةً تَامَّةً فِي دِقَّةِ الْجِسْمِ وَتَلَوُّنِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ الَّذِي هِيَ سَابِحَةٌ فِيهِ وَفِي كَوْنِهَا سَابِحَةً فِي سَائِلٍ كَمَا تَسْبَحُ الْعَلَقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.


الصفحة التالية
Icon