[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
كُرِّرَتْ جُمْلَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا فَاحْتَمَلَ تَكْرِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ رَبْطِ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَكْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ آدَمُ فَيَكُونُ هَذَا التَّكْرِيرُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مَا تَعَلَّقَ بِمَدْلُولِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا [الْبَقَرَة: ٣٦] وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦] وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. إِذْ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٧] فَإِنَّهُ لَوْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً لَمْ يَرْتَبِطْ كَمَالَ الِارْتِبَاطِ وَلَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ فَلِدَفْعِ ذَلِكَ أُعِيدَ قَوْلُهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفُ قُلْنَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا شِبْهَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ لِتَنَزُّلِ قَوْلِهِ: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لِيَحْصُلَ شَيْءٌ مِنْ تَجَدُّدِ فَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ لِكَيْ لَا يَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا مُجَرَّدَ تَوْكِيدٍ وَيُسَمَّى هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ بِالتَّرْدِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: ١٨٨] وَإِفَادَتُهُ التَّأْكِيدَ حَاصِلَةٌ بِمُجَرَّدِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ (١).
وَقِيلَ هُوَ أَمر ثَانِي بِالْهُبُوطِ بِأَنْ أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أُهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ فَتَكُونُ إِعَادَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْهُبُوطِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَرَاحِلَ وَالْمَسَافَاتِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَ الْمُسَافِرِ وَلِأَنَّ ضَمِيرَ مِنْها الْمُتَعَيَّنَ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجنَّة لتنسق الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [الْبَقَرَة:
٣٥]
_________
(١) أردْت بِهَذَا أَن أنبه على أَن مَا وَقع فِي «الْكَشَّاف» أَن اهبطوا الثَّانِي تَأْكِيد أَرَادَ بِهِ مَا يُقَارب التَّأْكِيد وَهُوَ أَنه يحصل من مُجَرّد إِعَادَة اللَّفْظ. تَقْرِير لمدلوله فِي الذِّهْن وَإِن لم يكن الْمَقْصُود من ذكره
إِذِ الْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ لَا حَقَّ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا، فَلَا تُرْضِعُ لَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا. مَا لَمْ يَعْرِضْ فِي الْحَالَيْنِ مَانِعٌ أَوْ مُوجِبٌ، مِثْلُ عَجْزِ الْمَرْأَةِ فِي الْعِصْمَةِ عَنِ الْإِرْضَاعِ لِمَرَضٍ، وَمِثْلُ امْتِنَاعِ الصَّبِيِّ مِنْ رَضَاعِ غَيْرِهَا، إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً بِحَيْثُ يُخْشَى عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَا يُرْضِعُ مِثْلُهَا وَهِيَ ذَاتُ الْقَدْرِ، قَدْ عَلِمَ الزَّوْجُ حِينَمَا تَزَوَّجَهَا أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُرْضِعُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا حَقُّ الْإِرْضَاعِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، إِذِ الْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عُرْفًا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ وَتَقَرَّرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَرَى فِي كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ: أَنَّ مَالِكًا خَصَّصَ عُمُومَ الْوَالِدَاتِ بِغَيْرِ ذَوَاتِ الْقَدْرِ، وَأَنَّ الْمُخَصَّصَ هُوَ الْعُرْفُ، وَكُنَّا نُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنِّي الْآنَ لَا أَرَى ذَلِكَ مُتَّجِهًا وَلَا أَرَى مَالِكًا عَمَدَ إِلَى التَّخْصِيصِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَسُوقَةٍ لِإِيجَابِ الْإِرْضَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ إِلَى الْمَرَاضِعِ أُجُورَهُنَّ.
فَالْمُرَادُ بِمَا آتَيْتُمُ: الْأَجْرُ، وَمَعْنَى آتَى فِي الْأَصْلِ دَفَعَ لِأَنَّهُ مُعَدَّى أَتَى بِمَعْنَى وَصَلَ، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ إِذَا أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ، لَمْ يَلْتَئِمْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فِعْلِ آتَيْتُمْ الْمَاضِي.
وَتَأَوَّلَ فِي «الْكَشَّافِ» آتَيْتُمْ بِمَعْنَى: أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٦] تَبَعًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، وَالْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمْتُمْ أُجُورَ الْمَرَاضِعِ بِالْمَعْرُوفِ، دُونَ إِجْحَافٍ وَلَا مَطْلٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ آتَيْتُمْ بِتَرْكِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا جِئْتُمْ، أَيْ مَا قَصَدْتُمْ، فَالْإِتْيَانُ حِينَئِذٍ مَجَازٌ عَنِ الْقَصْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: ٨٤] وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَذْيِيلٌ لِلتَّخْوِيفِ، وَالْحَثِّ عَلَى مُرَاقَبَةِ مَا شَرَعَ اللَّهُ، مِنْ غَيْرِ محاولة وَلَا مكابدة، وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيره آنِفا.
فَإِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ يُشْعِرُكُمْ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّنَا نَأْتِيكُمْ بِآيَةٍ كَمَا تُرِيدُونَ.
وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفَاتٍ تَكَلَّفَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ طَمِعُوا فِي إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَتَمَنَّوْا مَجِيئَهَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى جَعْلِ مَا يُشْعِرُكُمْ مُسَاوِيًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لِقَوْلِهِمْ مَا يُدْرِيكَ.
وَرَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّها مَعْنَاهُ لَعَلَّهَا، أَيْ لَعَلَّ آيَةً إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ: تَأَتَّى (أَنْ) بِمَعْنَى لَعَلَّ، يُرِيدُ أَنَّ فِي لَعَلَّ لُغَةً تَقُولُ: لِأَنَّ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ هَمْزَةً وَإِبْدَالِ اللَّامِ الْأَخِيرَةِ نُونًا، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَحْذِفُونَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا كَمَا يَحْذِفُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ: عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ، فَتَصِيرُ (أَنَّ) أَيْ (لَعَلَّ). وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، كَمَا ادَّعَوْا زِيَادَتَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥].
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ جَعَلَ أَنَّها تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ أَي لَا
تأتيهم بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ كِنَايَةً عَنْ مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّها- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُشْعِرُكُمْ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ آيَةٌ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ- بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ-. فَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ خَلَفٍ الَّذِي قَرَأَ إِنَّهَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-، أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ أَنَّها إِذا جاءَتْ
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ويَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ خَبَرٌ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ لَا يَنْطِقُونَ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمُ، أَيْ هُوَ يَوْمٌ يُعْرَفُ بِمَدْلُولِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَعَدَمُ تَنْوِينِ يَوْمُ لِأَجْلِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ كَمَا يُضَافُ (حِينَ) وَالْأَفْصَحُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَنَحْوَهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ لَا النَّافِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا، وَهُوَ لُغَةُ مُضَرَ الْعُلْيَا، وَأَمَّا مُضَرُ السُّفْلَى فَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى الْفَتْحِ دَائِمًا.
وَعَطْفُ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَنْطِقُونَ، أَيْ لَا يُؤْذَنُ إِذْنًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ اعْتِذَارُهُمْ، أَيْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ. فَالِاعْتِذَارُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ، وَجَعَلَ نَفْيَ الْإِذْنِ لَهُمْ تَوْطِئَةً لِنَفْيِ اعْتِذَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فَيَعْتَذِرُونَ مَرْفُوعا وَلم يَجِيء مَنْصُوبًا عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الْإِذْنِ وَتَرَتَّبَ نَفْيُ اعْتِذَارِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْإِذْنِ لَهُمْ إِذْ لَا مَحْصُولَ لِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَصْبُ فَيَعْتَذِرُونَ مُسَاوِيًا لِلرَّفْعِ بَلْ وَلَا جَائِزًا بِخِلَافِ نَحْوِ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: ٣٦] فَإِنَّ نَفِيَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْعَذَابِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ اسْتِمْرَارٌ فِي عَذَابِهِمْ ثُمَّ أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ لَمَاتُوا، أَيْ فَقَدُوا الْإِحْسَاسَ، فَمَعْنَى الْجَوَابِيَّةِ هُنَالِكَ مِمَّا يَقْصِدُ. وَلِذَا فَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مَا ادَّعَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ فَيَعْتَذِرُونَ اسْتِئْنَافٌ تَقْدِيرُهُ: فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ، وَلَا إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ: إِنَّهُ يُنْصَبُ لأجل تشابه رُؤُوس الْآيَاتِ، وَبَعْدُ فَإِنَّ مَنَاطَ النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ جَعْلَ الْفِعْلِ جَوَابًا لِلنَّفْيِ لَا مُجَرَّدَ وُجُودِ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بَعْدَ فِعْلٍ مَنْفِيٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مَا يَقْضِي أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: ١١] لِأَنَّ وَقْتَ انْتِفَاءِ نُطْقِهِمْ يَوْمُ الْفَصْلِ.
وَأَمَّا نُطْقُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ فَذَلِكَ صُرَاخُهُمْ فِي جَهَنَّمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَبِنَحْوِ هَذَا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ حِينَ قَالَ نَافِعٌ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ اللَّهُ: وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١]، وَقَالَ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٢٧] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَتَسَاءَلُونَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَتَسَاءَلُونَ حِينَئِذٍ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَالَّذِي يَجْمَعُ الْجَوَابَ عَنْ
وَالْكَرَمُ: التَّفَضُّلُ بِعَطَاءِ مَا يَنْفَعُ الْمُعْطَى، وَنِعَمُ اللَّهِ عَظِيمَةٌ لَا تُحْصَى ابْتِدَاءً مِنْ نِعْمَةِ الْإِيجَادِ، وَكَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ، وَالْإِمْدَادِ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَوَصْفُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ الْوُجُودَ وَالْوَحْدَانِيَّةَ، وَوَصْفُ الَّذِي خَلَقَ وَوَصْفُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَقْتَضِيَانِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْقَرِيبِ عَلَى ثُبُوتِ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَوْصُولِيَّةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الَّذِي يُذْكَرُ مَعَهَا. وَوَصْفُ الْأَكْرَمُ يَتَضَمَّنُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالتَّنْزِيهَ عَنِ النَّقَائِصِ.
وَمَفْعُولَا عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ: بِالْقَلَمِ وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ الْكَاتِبِينَ أَوْ عَلَّمَ نَاسًا الْكِتَابَةَ، وَكَانَ الْعَرَبُ يُعَظِّمُونَ عِلْمَ الْكِتَابَةِ وَيَعُدُّونَهَا مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ
وَيَتَفَاخَرُ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ بِعِلْمِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَعَلَّمْتُ بَاجَادَ وَآلَ مُرَامِرٍ وَسَوَّدْتُ أَثْوَابِي وَلَسْتُ بِكَاتِبِ
وَذُكِرُ أَنَّ ظُهُورَ الْخَطِّ فِي الْعَرَبِ أَوَّلَ مَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَأَدْخَلَ الْكِتَابَةَ إِلَى الْحِجَازِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ تَعَلَّمَهُ مِنْ أَسْلَمَ بْنِ سِدْرَةَ وَتَعَلَّمَهُ أَسْلَمُ مِنْ مُرَامِرِ بْنِ مُرَّةَ وَكَانَ الْخَطُّ سَابِقًا عِنْدَ حِمْيَرَ بِالْيَمَنِ وَيُسَمَّى الْمُسْنَدَ.
وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الصِّلَةِ بِالذِّكْرِ وَجَعْلِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِزَالَةِ مَا
خَطَرَ بِبَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْكِتَابَةَ فَكَيْفَ الْقِرَاءَةُ إِذْ
قَالَ لِلْمَلَكِ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»
اعْتِذَارٌ عَنْ تَعَذُّرِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ: اقْرَأْ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ وَالْقِرَاءَةَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَكَ الْقِرَاءَةَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ الْكِتَابَةَ.
وَالْقَلَمُ: شَظِيَّةٌ مِنْ قَصَبٍ تُرَقَّقُ وَتُثَقَّفُ وَتُبْرَى بِالسِّكِّينِ لِتَكُونَ مَلْسَاءَ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَيُجْعَلُ طَرَفُهَا مَشْقُوقًا شَقًّا فِي طُولِ نِصْفِ الْأُنْمُلَةِ، فَإِذَا بُلَّ ذَلِكَ الطَّرَفُ


الصفحة التالية
Icon