فَشَمِلَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا طَوَائِفُ النَّاسِ لِوُقُوعِ (هُدًى) نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَوْلَى الْهُدَى وَأَجْدَرُهُ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ الْهُدَى الَّذِي أَتَى مِنَ اللَّهِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ بَنِي آدَمَ وَبِذَلِكَ تَهَيَّأَ الْمَوْقِعُ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ فَاللَّهُ أَخَذَ الْعَهْدَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمرَان: ٨١] الْآيَةَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَشَرَ بِمَا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الضَّلَالِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ فَأَمَّا فِي تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَا اخْتِلَافَ وَأَمَّا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى الْآتِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَعَرَفَهُ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ فَيَكُونُ خِطَابًا ثَابِتًا لَا يَسَعُ الْبَشَرَ ادِّعَاءُ جَهِلِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَقِيلَ لَا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ.
وَقَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ نَفْيٌ لِجِنْسِ الْخَوْفِ. وخَوْفٌ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَبْنَيَا عَلَى الْفَتْحِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي اسْمِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ رَوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ». وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفَتْحِ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَرَفْعُهُ مُحْتَمِلٌ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَلِنَفْيِ فَرْدٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ فَإِذَا انْتَفَى اللَّبْسُ اسْتَوَى الْوَجْهَانِ كَمَا هُنَا إِذِ الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ لِآدَمَ فَإِكْمَالُ ذِكْرِهِ هُنَا اسْتِيعَابٌ لِأَقْسَامِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ يَعُمُّ مَنْ كَذَّبَ
بِالْمُعْجِزَاتِ كُلِّهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، عَطْفٌ عَلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ، وَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ مَعَ مَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قُوَّةِ الرَّبْطِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَتُّبِ وَالتَّسَبُّبِ وَعَدَمَ الِانْفِكَاكِ قَدْ حَصَلَ بِطُرُقٍ أُخْرَى فَحَصَلَ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ بِشَارَةٌ يُؤْذِنُ مَفْهُومُهَا بِنِذَارَةِ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ فَهُوَ خَائِفٌ حَزِينٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْآيَةَ. وَأَمَّا مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَعْلِيقِ الْخَبَرِ عَلَى الْمَوْصُول وصلته المؤمي إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِانْفِكَاكِ
حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ زَوْجِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، تُوُفِّيَ عَنْهَا بِمَكَّةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ (١) وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ نِصْفِ شَهْرٍ كَمَا
فِي «الْمُوَطَّأِ»، أَوْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: «قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي إِنْ بَدَا لَكِ»
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ [٤] وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَعُمُومُ (أُولَاتِ الْأَحْمَالِ)، مَعَ تَأَخُّرِ نُزُولِ تِلْكَ السُّورَةِ عَنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَقْضِي بِالْمَصِيرِ إِلَى اعْتِبَارِ تَخْصِيصِ عُمُومِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى- يَعْنِي سُورَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطَّلَاق: ١]- بَعْدَ الطُّولَى» أَيِ السُّورَةِ الطُّولَى أَيِ الْبَقَرَةِ- وَلَيْسَ الْمُرَادُ سُورَةَ النِّسَاءِ الطُّولَى. وَعِنْدِي أَنَّ الْحُجَّةَ لِلْجُمْهُورِ، تَرْجِعُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ تَيَقُّنُ حِفْظِ النَّسَبِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْحَمْلِ أَدَلَّ شَيْءٍ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ كَانَ مُغْنِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: «أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ» يُرِيدُ أَنَّهَا لَوْ طَالَ أَمَدُ حَمْلِهَا لَمَا حَلَّتْ.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعًا بَيْنَ مُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذَا الْقَوْلِ احْتِيَاطٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَحْسَنُ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَخْذِ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ مَعْنَاهُ أَنْ يُعْمَلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا: فِي حَالَةٍ أَوْ زَمَنٍ أَوْ أَفْرَادٍ، غَيْرَ مَا أُعْمِلَ فِيهِ بِالْآخَرِ، بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ الْجَمْعِ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْمُتَعَارِضَيْنِ مَعًا، وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ الْجَمْعَ بِإِعْمَالِ النَّصَّيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِدَادِ تَحْدِيدُ أَمَدِ التَّرَبُّصِ وَالِانْتِظَارِ، فَإِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، أَبْطَلْنَا
مُقْتَضَى إِحْدَى الْآيَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا نُلْزِمُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِتَجَاوُزِ مَا حَدَّدَتْهُ لَهَا إِحْدَى الْآيَتَيْنِ، وَلَا نجد حَالَة نحقق فِيهَا مُقْتَضَاهُمَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، فَأَحْسَنُ العبارتين أَن نعبر بِالِاحْتِيَاطِ وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَعَارَضَتَا بِعُمُومٍ وَخُصُوصٍ وَجْهِيٍّ، فَعَمَدْنَا إِلَى صُورَةِ التَّعَارُضِ وَأَعْمَلْنَا فِيهَا مَرَّةً مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرَّةً مُقْتَضَى الْأُخْرَى، تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُقْتَضَيَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِمُرَجِّحِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ لَا جَمْعٌ لَكِنَّ
_________
(١) وَهُوَ الَّذِي
رُوِيَ فِي شَأْنه عَن الزُّهْرِيّ فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أمض لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة»
قَالَ الزُّهْرِيّ: يرثى لَهُ رَسُول الله أَن مَاتَ بِمَكَّة.
وَنَذَرُهُمْ عَطْفٌ عَلَى نُقَلِّبُ. فَحُقِّقَ أَنَّ مَعْنَى نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ نَتْرُكُهَا عَلَى انْقِلَابِهَا الَّذِي خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مَمْلُوءَةً طُغْيَانًا وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَكَانَتْ تَصْرِفُ أَبْصَارَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَأَصُّلِهِ فِيهِمْ وَنَشْأَتِهِمْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ حُرِمُوا لِينَ الْأَفْئِدَةِ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْخَشْيَةُ وَالذِّكْرَى.
وَالطُّغْيَانُ وَالْعَمَهُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥].
وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي طُغْيانِهِمْ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الطُّغْيَانِ بِهِمْ، أَيْ بِقُلُوبِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَنَذَرُهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى نُقَلِّبُ. وَجُمْلَةُ يَعْمَهُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُهُمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أنّ العمه ناشيء عَن الطّغيان.
وهَنِيئاً دُعَاءُ تَكْرِيمٍ كَمَا يُقَالُ لِلشَّارِبِ أَوِ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا: هَنِيئًا مَرِيئًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤].
وهَنِيئاً وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَذَلِكَ الْمَوْصُوفُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ لِقَصْدِ الدُّعَاءِ مِثْلَ: سَقْيًا وَرَعْيًا، فِي الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ، وَتَبًّا وَسُحْقًا فِي ضِدِّهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لِإِفَادَةِ تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا فِي وُقُوعِ مُتَعَلِّقِهِ، أَيْ كُلُوا وَاشْرَبُوا بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِمْ بِأَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ حَقًّا لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ
لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَخْ مَسُوقَةً إِلَيْهِمْ مَسَاقَ زِيَادَةِ الْكَرَامَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ هُوَ سُنَّتُنَا فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِذْ قَدْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَذَلِكَ جَزَاءٌ لَكُمْ نِلْتُمُوهُ بِأَنَّكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ فِي مِثْلِهِ، فَفِي هَذَا هَزٌّ مِنْ أَعْطَافِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُقَالُ لِكُلِّ مُتَّقٍ مِنْهُمْ، أَوْ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُجْتَمِعَةٍ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَلِيَعْلَمُوا أَيْضًا أَنَّ أَمْثَالَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ الْأُخْرَى لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ مِثْلَ مَا هُمْ يَنْعَمُونَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُوَجَّهَةً إِلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ لَهُمْ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْمُتَّقُونَ إِثْرَ قَوْلِهِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ إِلَخْ، قَصَدَ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِأَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ النَّعِيمِ هُمُ الَّذِينَ قَضَوْا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ أَبَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُحْسِنِينَ تَكْمِلَةً لِتَنْدِيمِهِمْ وَتَحْسِيرِهِمُ الَّذِي بُودِئُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ دُونَ أَمْثَالِكُمُ الْمُسِيئِينَ.
وَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ عَلَى كِلَا الْاعْتِبَارَيْنِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَمِنْ أَجْلِ الْإِشْعَارِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ افْتُتِحَتْ بِ إِنَّ مَعَ خُلُوِّ الْمَقَامِ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي الْخَبَرِ إِذِ الْمَوْقِفُ يَوْمَئِذٍ مَوْقِفُ الصِّدْقِ وَالْحَقِيقَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ إِنَّ مُتَمَحِضِةً لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُغْنِيَةً غِنَاءَ فَاءِ التَّسَبُّبِ وَتُفِيدُ مُفَادَ التَّعْلِيلِ
يُؤَدِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَرْأًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَنَهَاهُ عَنْهَا.
فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى بَقِيَّةِ السُّورَةِ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ نُزُولِ أَوَّلِ
السُّورَةِ حَدَثَتْ فِيهَا صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَشَا فِيهَا خَبَرُ بَدْءِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، جَرْيًا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَعَاقَبَتْ فِي النُّزُولِ إِلَّا مَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهُ بِدَلِيلٍ بَيِّنٍ، وَجَرْيًا عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى خِلَافِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ.
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى مَوْقِعُ الْمُقَدِّمَةِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: لَا تُطِعْهُ [العلق: ١٩] لِأَنَّ مَضْمُونَهُ كَلِمَةٌ شَامِلَةٌ لِمَضْمُونِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: ١٧].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو جهل ناشىء عَنْ طُغْيَانِهِ بِسَبَبِ غِنَاهُ كَشَأْنِ الْإِنْسَانِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْجِنْسِ، أَيْ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَطْغَى إِذَا أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ الِاسْتِغْنَاءَ، وَاللَّامُ مُفِيدَةٌ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ، أَيْ أَغْلَبُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ خُلُقُهُ أَوْ دِينُهُ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَحْقِيقِهِ لِغَرَابَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَشُكَّ السَّامِعُ فِيهِ.
وَالطُّغْيَانُ: التَّعَاظُمُ وَالْكِبْرُ.
وَالِاسْتِغْنَاءُ: شِدَّةُ الْغِنَى، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَاسْتقر.
وأَنْ رَآهُ مُتَعَلِّقٌ بِ «يَطْغَى» بِحَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ حَذْفَ الْجَارِّ مَعَ (أَن) كَثِيرٌ شَائِع، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْإِنْسَان ليطْغى لرُؤْيَته نَفْسِهِ مُسْتَغْنِيًا.
وَعِلَّةُ هَذَا الْخَلْقِ أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ تُحَدِّثُ صَاحِبَهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى غَيْرِهِ