بَيْنِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ أَمْثَلُ أُمَّةٍ ذَاتِ كِتَابٍ مَشْهُورٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَهُمُ الْأَوْحِدَاءُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّاكِنِينَ الْمَدِينَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَهُمْ أَيْضًا الَّذِينَ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْعِنَادُ وَالنِّوَاءُ لِهَذَا الدِّينِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَدْعُ الْيَهُودَ إِلَى تَوْحِيدٍ وَلَا اعْتِرَافٍ بِالْخَالِقِ لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَلَكِنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى تَذَكُّرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِلَى مَا كَانَتْ تُلَاقِيهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ مُكَذِّبِيهِمْ، لِيَذْكُرُوا أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ وَلِيَرْجِعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِثْلِ مَا كَانُوا يُؤَنِّبُونَ بِهِ مَنْ كَذَّبَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِبِشَارَاتِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ بِنَبِيٍّ يَأْتِي بَعْدَهُمْ.
وَلِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ جَادَلَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ بِمَا تَعَارَفُوهُ مِنْ أَحْوَالِ الرُّسُلِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ لَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّدْقِ بِدَلَالَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [الْبَقَرَة: ٢٦] فَكَانَ خِطَابُهُمْ هُنَا بِالدَّلَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَبِحُجَجِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ لِيَكُونَ دَلِيلُ صِدْقِ الرَّسُولِ فِي الِاعْتِبَارِ بِحَالِهِ وَأَنَّهُ جَاءَ عَلَى وِفَاقِ أَحْوَالِ إِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ السَّابِقِينَ.
وَقَدْ أَفَاضَ الْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ وَتَدَرَّجَ فِيهِ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى أُخْتِهَا بِأُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فِي مُجَادَلَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَأَفَادَ فِيهِ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ١٩٧] فَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَئِذٍ مَعْرِفَةَ التَّشْرِيعِ وَمَعْرِفَةَ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَحْوَالِ الْعَالَمَيْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مَعَ الْوِصَايَاتِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، فَبِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يَفُوقُونَ الْعَرَبَ وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَتِ الْعَرَبُ تسترشدهم فِي الشؤون وَبِهِ امْتَازَ الْيَهُودُ عَلَى الْعَرَبِ فِي بِلَادِهِمْ بِالْفِكْرَةِ الْمَدَنِيَّةِ.
وَكَانَ عِلْمُ عَامَّةِ الْيَهُودِ فِي هَذَا الشَّأْنِ ضَعِيفًا وَإِنَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ فَجَاءَ الْقُرْآنُ فِي هَاتِهِ الْمُجَادَلَاتِ مُعْلِمًا أَيْضًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُلْحِقًا لَهُمْ بِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى تَكُونَ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَضُمُّونَ هَذَا الْعِلْمَ إِلَى عُلُومِهِمُ اللِّسَانِيَّةِ وَنَبَاهَتِهِمُ الْفِكْرِيَّةِ فَتُصْبِحَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مُسَاوِيَةً فِي الْعِلْمِ لِخَاصَّةِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَهَذَا مَعْنًى عَظِيمٌ مِنْ مَعَانِي تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ وَالْإِلْحَاقِ فِي مُسَابَقَةِ التَّمُدْيُنِ. وَبِهِ تَنْكَشِفُ لَكُمْ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ تَعَرُّضِ
الْقُرْآنِ لِقِصَصِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الْعِبْرَةِ تَعْلِيمًا اصْطِلَاحِيًّا. وَلَقَدْ نَعُدُّ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّهُ شَرَحَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَخَاصَّتُهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى كِتْمَانِهِ الاستئثار بِهِ
بِاللَّيْلِ وَتَمَسَحَهُ بِالنَّهَارِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَفْتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ امْرَأَةً حَادًّا اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلِ الْجِلَاءِ بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحَهُ بِالنَّهَارِ، رُوِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي «الْمُوَطَّأِ»، قَالَ مَالك: «وَإِن كَانَتِ الضَّرُورَةُ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ» : وَلِذَلِكَ حَمَلُوا نَهْيَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْهُ أُمَّهَا أَنْ تَكْتَحِلَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْمُعْتَدَّةِ أَنَّهَا أَرَادَتِ التَّرَخُّصَ، فَقَيَّضَتْ أُمَّهَا لِتَسْأَلَ لَهَا.
وَأَمَّا مُلَازَمَةُ مُعْتَدَّةِ الْوَفَاةِ بَيْتَ زَوْجِهَا فَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ التَّرَبُّصَ تَرَبُّصٌ بِالزَّمَانِ لَا يدل عَلَى مُلَازَمَةِ الْمَكَانِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْجُمْهُورَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [الْبَقَرَة: ٢٤٠] فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِلَّا حِفْظُ الْمُعْتَدَّةِ، فَلَمَّا نُسِخَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَانَ النَّسْخُ وَارِدًا عَلَى الْمُدَّةِ وَهِيَ الْحَوْلُ، لَا عَلَى بَقِيَّةِ الْحُكْمِ، عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ أَوْلَى بِالسُّكْنَى مِنْ مُعْتَدَّةِ الطَّلَاقِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١] وَجَاءَ فِيهَا أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ [الطَّلَاق: ٦] وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ: ثَبَتَ وُجُوبُ مُلَازَمَةِ الْبَيْتِ بِالسُّنَّةِ،
فَفِي «الْمُوَطَّأ» و «الصِّحَاح» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ ابْنَةِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ، أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا:
«امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَقَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ، وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ، وَكَانَتْ تُفْتِي بِالْخُرُوجِ، فَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهَا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَالْوَرَعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ.
وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ تَخْرُجُ لِلضَّرُورَةِ، وَتَخْرُجُ نَهَارًا لِحَوَائِجِهَا، مِنْ
وَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ إِلَى وَقْتِ هُدُوئِهِمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَلَا تَبِيتُ إِلَّا فِي الْمَنْزِلِ، وَشُرُوطُ ذَلِكَ وَأَحْكَامُهُ، وَوُجُودُ الْمَحَلِّ لِلزَّوْجِ، أَوْ فِي كِرَائِهِ، وَانْتِظَارُ الْوَرَثَةِ بَيْعَ الْمَنْزِلِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَحُكْمُ مَا لَوِ ارْتَابَتْ فِي الْحَمْلِ فَطَالَتِ الْعِدَّةُ،
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي وُضُوحِ الدِّلَالَةِ وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَلَامٍ يَسْمَعُونَهُ عَقِبَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةَ حَدِيثٍ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَالْمُرَادُ بِالْبُعْدِيَّةِ:
تَأَخَّرُ الزَّمَانِ، وَيُقَدَّرُ مَعْنَى بَالِغٍ أَوْ مَسْمُوعٍ بَعْدَ بُلُوغِ الْقُرْآنِ أَوْ سَمَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَدِيثًا مَوْجُودًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، أَوْ حَدِيثًا يُوجَدُ بَعْدَ الْقُرْآنِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثٍ جَاءَ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَخْبَارِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثٍ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَيْهِمْ كَلَامٌ أَوَضَحُ دَلَالَةً وَحُجَّةً مِنَ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مُتَعَلِّقًا بِ يُؤْمِنُونَ فَهُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ وَيَبْقَى لَفْظُ حَدِيثٍ مَنْفِيًّا بِلَا قَيْدِ وَصْفِ أَنَّهُ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ الْقُرْآنِ بِكُلِّ حَدِيثٍ.
وَضَمِيرُ بَعْدَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِيَكُونَ مُعَادًا لِلضَّمِيرِ وَلَكِنَّهُ اعْتُبِرَ كَالْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ مَلْحُوظٌ لِأَذْهَانِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِهِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بَعْدَهُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: ٤٨] فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِالرُّكُوعِ الَّذِي هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ كَانَ بأقوال الْقُرْآن.
الْجُزْء الثَّلَاثُونَ
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَحُذِفَ مَفْعُولَا فِعْلِ الرُّؤْيَةِ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الَّذِي يَنْهى [العلق:
٩] عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَدَلَالَةِ يَنْهى عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا.
وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ شِدَّةُ التَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى بِحَيْثُ يُشْبِهُ تَمَكُّنُ الْمُسْتَعْلِي عَلَى الْمَكَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [لُقْمَان: ٥].
فَالضَّمِيرَانِ الْمُسْتَتِرَانِ فِي فِعْلَيْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى عَائِدَانِ إِلَى عَبْداً وَإِنْ كَانَتِ الضَّمَائِرُ الْحَافَّةُ بِهِ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: ٩، ١٠] فَإِنَّ السِّيَاقَ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ «رَأَيْتَ» مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: ١٤] أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَنْهى الْمُتَقَدِّمَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ.
وَجَوَابُ: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيَنْهَاهُ أَيْضًا.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ التَّكْرِيرِ لِأَنَّ فِيهَا تَكْرِيرَ التَّعْجِيبِ مِنْ أَحْوَالٍ عَدِيدَةٍ لشخص وَاحِد.
[١٣، ١٤]
[سُورَة العلق (٩٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي، أَيْ إِذَا كَذَّبَ بِمَا يُدْعَى إِلَيْهِ وَتَوَلَّى أَتَظُنُّهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.
فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ «رَأَيْتَ» مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي يَنْهى [العلق: ٩] وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ إِنْ كَذَّبَ... إِلَى آخِرِهِ.
وَجَوَابُ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هُوَ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كَذَا قَدَّرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَلَمْ يَعْتَبِرْ وُجُوبَ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً. وَصَرَّحَ الرَّضِيُّ بِاخْتِيَارِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ وَنَظَرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: ٤٧] فَأَمَّا قَوْلُ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» فَهُوَ وُجُوبُ الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ