دَالًّا عَلَى التَّقَضِّي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُفْعَلُ مُدَرَّجًا أَنْ يَكُونَ أَتْقَنَ. وَقَدْ أُطْلِقَ الْوَفَاءُ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ إِطْلَاقًا شَائِعًا صَيَّرَهُ حَقِيقَةً.
وَالْعَهْدُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [الْبَقَرَة:
٢٧] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْعَهْدُ هُنَا هُوَ الِالْتِزَامُ لِلْغَيْرِ بِمُعَامَلَةٍ الْتِزَامًا لَا يُفَرِّطُ فِيهِ الْمَعَاهِدُ حَتَّى يَفْسَخَاهُ بَيْنَهُمَا وَاسْتُعِيرَ الْعَهْدُ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِقَبُولِ مَا يُكَلِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الدِّينِ وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا لِقَبُولِ التَّكَالِيفِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ وَاسْتُعِيرَ الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِلْوَعْدِ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ عَهْدٍ مَجَازًا مُفْرَدًا اسْتُعْمِلَ الْعَهْدُ الْأَوَّلُ فِي التَّكَالِيفِ وَاسْتُعْمِلَ الْعَهْدُ الثَّانِي فِي الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ وَاسْتُعْمِلَ الْإِيفَاءُ مَعَ كِلَيْهِمَا فِي تَحْقِيقِ مَا الْتَزَمَ بِهِ كِلَا الْجَانِبَيْنِ مُسْتَعَارًا مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى ملائم الْمُشبه ليُفِيد تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَتِهِ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجْمُوعَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً بِأَنْ شَبَّهَ الْهَيْئَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ قَوْلِهِمْ لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْ لَا يُقَصِّرُوا فِي الْعَمَلِ وَمِنْ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّوَابِ بِهَيْئَةِ الْمُتَعَاهِدِينَ عَلَى الْتِزَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ لِلْآخَرِ وَوَفَائِهِ بِعَهْدِهِ فِي عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِهِ فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَهَذَا أَحْسَنُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ وَجْهُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَهْدِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَتُقَرِّبُهُ الْمُشَاكَلَةُ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْعَهْدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَفْعُولِ مُتَعَيِّنَةٌ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيفَاءُ إِذْ لَا يُوفِي أَحَدٌ إِلَّا بِعَهْدِ نَفْسِهِ فَإِذَا أُضِيفَ الْعَهْدُ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ أَوْفُوا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِ الْإِيفَاءِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ تَرْشِيحُ الْمَجَازِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَمَا أَشَارَ لَهُ الْمُحَقق التفتازانيّ فَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا فَأَخْلِقْ بِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِلْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا يُضَافُ بِقَيْدِ الْإِيفَاءِ إِلَى مَفْعُولِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْعَهْدِ لِلِاسْتِعَارَةِ هُنَا لِتَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ أَنَّ
ذَلِكَ خِطَابٌ لَهُمْ بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُلَقَّبُ عِنْدَهُمْ بِالْعَهْدِ لِأَنَّهَا وَصَايَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَلِذَا عُبِّرَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمِيثَاقِ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أَشَحُّ بِهِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا خَاصَّةُ أَهْلُ الدِّينِ فَمَجِيئُهُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ الْعَلَّامِ بِالْغُيُوبِ. وَالْعَهْدُ قَدْ أُخِذَ عَلَى أَسْلَافِهِمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ قَالَ تَعَالَى:
الْمُخَالَفَةَ تَرْمِي إِلَى غَرَضٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَلِيغِ فِي مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ عَلِمَ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، فَأَبَاحَ لَكُمُ التَّعْرِيضَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ، فَحَصَلَ بِتَأْخِيرِ ذِكْرِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَجَاءَ النَّظْمُ بَدِيعًا مُعْجِزًا، وَلَقَدْ أَهْمَلَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ التَّعَرُّضَ لِفَائِدَةِ هَذَا الْعَطْفِ، وَحَاوَلَ الْفَخْرُ تَوْجِيهَهُ بِمَا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ (١) وَوَجَّهَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَوْجِيهِ الْفَخْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسُ الْبَلِيغِ (٢).
فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اسْتِدْرَاكٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ صَرَاحَةً وَتَعْرِيضًا إِذْ لَا يَخْلُو ذُو عَزْمٍ مَنْ ذِكْرِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنِ الْإِذْنِ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا تُرِيدُ: إِنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ لِأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ تُؤَاخِذُهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِعْلَهُ، لَآخَذْتَهُ كَمَا قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧] هَذَا أَظْهَرُ مَا فُسِّرَ بِهِ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَقِيلَ: هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ لَا تُصَرِّحُوا وَتُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ تَعِدُوهُنَّ وَيَعِدْنَكُمْ بِالتَّزَوُّجِ.
وَالسِّرُّ أَصْلُهُ مَا قَابَلَ الْجَهْرَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ قُرْبَانِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْأَعْشَى:

وَلَا تَقَرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا عَلَيْكَ حَرَامٌ فانكحن أَو تأبدوا
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْحَيِّ أَنَّنِي كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ حَقِيقَتُهُ، فَيَكُونُ سِرًّا مَنْصُوبًا عَلَى الْوَصْفِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَيْ وَعْدًا صَرِيحًا سِرًّا، أَيْ لَا تَكْتُمُوا الْمُوَاعَدَةَ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَجَنُّبِ مُوَاعَدَةِ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ إِلَّا وَعْدًا مَعْرُوفًا، وَهُوَ التَّعْرِيضُ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنْوَاعِ
_________
(١) قَالَ الْفَخر: لما أَبَاحَ التَّعْرِيض وَحرم التَّصْرِيح فِي الْحَال قَالَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَي أَنه يعْقد قلبه على أَنه سيصرح بذلك فِي الْمُسْتَقْبل فالآية الأولى تَحْرِيم للتصريح فِي الْحَال وَالْآيَة الثَّانِيَة إِبَاحَة للعزم على التَّصْرِيح فِي الْمُسْتَقْبل.
(٢) قَالَ: فَائِدَة عطف أَوْ أَكْنَنْتُمْ الْإِشْعَار بالتسوية بَين التَّعْرِيض وَبَين مَا فِي النَّفس فِي الْجَوَاز أَي هما سَوَاء فِي رفع الْحَرج عَن صَاحبهمَا.
فَالزَّبَانِيَةُ الَّذِينَ يَزْبِنُونَ النَّاسَ، أَيْ يَدْفَعُونَهُمْ بِشِدَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ وَيُطْلَقُ الزَّبَانِيَةُ عَلَى أَعْوَانِ الشُّرْطَةِ.
وكَلَّا رَدْعٌ لِإِبْطَالِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، أَيْ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ
لِلتَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزِ.
وَكُتِبَ سَنَدْعُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ مُرَاعَاةً لِحَالَةِ الْوَصْلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلَّ وَقْفٍ وَلَا فَاصِلَةٍ.
لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ هَذَا فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق:
٩، ١٠]، أَيْ لَا تَتْرُكْ صَلَاتَكَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا تَخْشَ مِنْهُ.
وَأُطْلِقَتِ الطَّاعَةُ عَلَى الْحَذَرِ الْبَاعِثِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَفْهُ وَلَا تَحْذَرْهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ.
وَأَكَّدَ قَوْلَهُ: لَا تُطِعْهُ بِجُمْلَةِ وَاسْجُدْ اهْتِمَامًا بِالصَّلَاةِ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَاقْتَرِبْ لِلتَّنْوِيهِ بِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ جَعَلَ الْمُصَلِّيَ مُقْتَرِبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالِاقْتِرَابُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْقُرْبِ، عَبَّرَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالتَّطَلُّبِ، أَيِ اجْتَهَدَ فِي الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ بِالصَّلَاةِ.


الصفحة التالية
Icon