وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَّضِحُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ بِحَيْثُ يُفِيدُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا ثَانِيَ كَافِرٍ أَوْ ثَالِثَ كَافِرٍ بِسَبَبِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَأَنَّ أَوَّلَ كَافِرٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ الْمُلَازِمِ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي نَفْيِ مَوْصُوفِهِ أَنْ يُذْكَرَ الْوَصْفُ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ وَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَقِبَ هَذَا.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْقُدْوَةُ
لِقَوْمِهِمْ وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الَّذِي صَدَّهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ هُوَ خَشْيَتُهُمْ أَنْ تَزُولَ رِئَاسَتُهُمْ فِي قَوْمِهِمْ فَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِإِنْكَارِ الْقُرْآنِ لِيَلْتَفَّ حَوْلَهُمْ عَامَّةُ قَوْمِهِمْ فَتَبْقَى رِئَاسَتُهُمْ عَلَيْهِمْ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَآمَنَ بِيَ الْيَهُودُ كُلُّهُمْ».
وَالِاشْتِرَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: ١٦] وَهُوَ اعْتِيَاضُ أَعْيَانٍ بِغَيْرِهَا مِثْلِهَا أَوْ ثَمَنِهَا مِنَ النَّقْدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا كَأَوْرَاقِ الْمَالِ وَالسَّفَاتِجِ وَقَدِ اسْتُعِيرَ الِاشْتِرَاءُ هُنَا لِاسْتِبْدَالِ شَيْءٍ بِآخِرَ دُونَ تَبَايُعٍ.
وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ عَلَى الْمَنْزِلِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ قَالَ النَّابِغَةُ:

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَامَةٌ عَلَى الْحَقِّ قَالَ الْحَارِثُ ابْن حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ من الْخَيْر يَا ت ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ آيَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: ١٢] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ [الْأَعْرَاف: ٢٠٣]، وَأُطْلِقَتْ أَيْضًا عَلَى الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمرَان: ٧]
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَمَا تَكْفِيكَُُ
الطَّبَقَةُ مِنَ الْقَوْمِ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْمَالِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ.
وَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ إِيجَازًا لِظُهُورِ الْمَعْنَى، أَيْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ لَا يَحْسُنُ فِيهَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهُ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا مُتْعَةَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ إِلَّا فِي حَالَةِ عَفْوِهِنَّ أَيِ النِّسَاءِ بِأَنْ يُسْقِطْنَ هَذَا النِّصْفَ، وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْإِسْقَاطِ عَفْوًا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ حَقٌّ وَجَبَ عَلَى الْمُطَلِّقِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِمَا اسْتَخَفَّ بِهَا، أَوْ بِمَا أَوْحَشَهَا، فَهُوَ حَقٌّ وَجَبَ لَغُرْمِ ضُرٍّ، فَإِسْقَاطُهُ عَفْوٌ لَا مَحَالَةَ، أَوْ عِنْدَ عَفْوِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
وأل فِي النِّكَاحِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ مُتَبَادِرٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا سُمِّيَ عَقْدًا، فَهُوَ غَيْرُ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَلِّقِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُطَلِّقَ، لَقَالَ: أَوْ تَعْفُو بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وَلَا دَاعِيَ إِلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَقِيلَ: جِيءَ بِالْمَوْصُولِ تَحْرِيضًا عَلَى عَفْوِ الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّهُ كَانَتْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فَأَفَاتَهَا بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ إِمْسَاكِ النِّصْفِ، وَيَتْرُكَ لَهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَقَالَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا إِذْ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ وَهُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْوَلِيِّ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى حُضُورِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُمْ أَنْ يَخْطُبُوا الْأَوْلِيَاءَ فِي وَلَايَاهُمْ فَالْعَفْوُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةٌ، وَالِاتِّصَافُ بِالصِّلَةِ مَجَازٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إِذْ جَعَلَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ ذَكَرَتْ عَفْوَ الرَّشِيدَةِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا، وَنُسِبَ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْمُطَلِّقُ لِأَنَّ بِيَدِهِ عَقْدَ نَفْسِهِ وَهُوَ الْقَبُولُ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى عَليّ وَشُرَيْح وطاووس وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَمَعْنَى بِيَدِهِ
وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ ضَبْطُهَا عَلَى إِرَادَةِ الْغَالِبِ أَوْ إِرَادَةِ عَامٍ بِعَيْنِهِ.
وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا شَيْءٌ صَرِيحٌ يُرْوَى عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ تَعْيِينَهَا فِي خُصُوصِ السَّنَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ فَلَا نُطِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتَى ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهُ بِكَثِيرٍ.
وَحُفِظَتْ عَن الشَّيْخ مُحي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَ تَعْيِينَهَا بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَ فِي الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مِنْهَا قَوْلَهُ:
وَضَابِطُهَا بِالْقَوْلِ لَيْلَةَ جُمْعَةٍ تُوَافِيكَ بَعْدَ النِّصْفِ فِي لَيْلَةِ وِتْرِ
حَفِظْنَاهَا عَنْ بَعْضِ مُعَلِّمِينَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا. وَجَرَّبْنَا عَلَامَةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي صَبِيحَتِهَا فَلَمْ تَتَخَلَّفْ.
وَأَصْلُ تَنَزَّلُ تَتَنَزَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا. وَظَاهِرٌ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَجْلِ الْبَرَكَاتِ الَّتِي تَحُفُّهُمْ.
والرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ، أَيْ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ.
وَمَعْنَى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَن هَذَا التنزل كَرَامَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَنْزَلَ لَهُمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمَاعَاتٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَفِيهِمْ أَشْرَفُهُمْ وَكَانَ نُزُولُ جِبْرِيلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ الَّذِي حَصَلَ فِي مُمَاثَلَتِهَا الْأُولَى لَيْلَةَ نُزُولِهِ بِالْوَحْيِ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
وَفِي هَذَا أَصْلٌ لِإِقَامَةِ الْمَوَاكِبِ لِإِحْيَاءِ ذِكْرَى أَيَّامِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي أَصْلِ تِلْكَ الذِّكْرَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْهُ مَوْكِبُ الْبَهْجَةِ بِتِذْكَارِهَا.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ تَنَزَّلُ إِمَّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَتَنَزَّلُونَ بِسَبَبِ إِذْنِ رَبِّهِمْ لَهُمْ فِي النُّزُولِ فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ أَيْ مُصَاحِبِينَ لِمَا أَذِنَ بِهِ رَبُّهُمْ، فَالْإِذْنُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ نَحْوِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١].


الصفحة التالية
Icon