وَوَصَفَ ثَمَناً بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْيِيدَ بِحَيْثُ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ عِوَضٍ قَلِيلٍ دُونَ أَخْذِ عِوَضٍ لَهُ بَالٌ وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مُلَازِمٌ لِلثَّمَنِ الْمَأْخُوذِ عِوَضًا عَنِ اسْتِبْدَالِ الْآيَاتِ فَإِنَّ كُلَّ ثَمَنٍ فِي جَانِبِ ذَلِكَ هُوَ قَلِيلٌ فَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ مَقْصُودٌ بِهِ تَحْقِيرُ كُلِّ ثَمَنٍ فِي ذَلِكَ فَهَذَا النَّفْيُ شَبِيهٌ بِنَفْيِ الْقُيُودِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمُقَيَّدِ لِيُفِيدَ نَفْيَ الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ مَعًا كَمَا فِي الْبَيْت الْمَشْهُور لامرىء الْقَيْسِ:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ إِذَا سَافَهُ الْعُودُ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرَا
أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ لَازِمٌ لِلْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
لَا يُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضبّ بهَا بنجحر
أَيْ لَا أَرْنَبَ بِهَا حَتَّى يَفْزَعَ مِنْ أَهْوَالِهَا وَلَا ضَبَّ بِهَا حَتَّى يَنْجَحِرَ، وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ أَيْ عَيْنًا لَمْ تَرْمَدْ حَتَّى تُكْحَلَ لِأَنَّ التَّكْحِيلَ لَازِمٌ لِلْعَيْنِ الرَّمْدَاءِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
وَقَدْ وَقَعَ ثَمَناً نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَهُوَ كَالنَّفْيِ فَشَمِلَ كُلَّ عِوَضٍ، كَمَا وَقَعَتِ الْآيَاتُ جَمْعًا مُضَافًا فَشَمِلَتْ كُلَّ آيَةٍ، كَمَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَشَمِلَ كُلَّ اشْتِرَاءٍ إِذِ الْفِعْلُ كَالنَّكِرَةِ.
وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَ أَنَّ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ وَقِصَصَهُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمَمِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ والاتعاظ فَنحْن محذرون مِنْ مِثْلِ مَا وَقَعُوا فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّنَا أَوْلَى بِالْكِمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَمَا قَالَ بَشَّارٌ:
الْحُرُّ يُلْحَى وَالْعَصَا لِلْعَبْدِ وَكَالْبَيْتِ السَّائِرِ:
الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةْ
فَعُلَمَاؤُنَا مَنْهِيُّونَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمَا نُهِيَ عَنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّدْفِ عَن الْحق لأعراض الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كَانَتْ سِيرَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنْ هُنَا فُرِضَتْ مَسْأَلَةٌ جَعَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ مُتَعَلِّقَةً بِهَاتِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِهَا ضَعِيفًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا أَخْذُ الْأُجْرَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَعَلَىُُ
هَذَا الدَّاءِ بِدَوَاءَيْنِ، أَحَدُهُمَا دُنْيَوِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، الْمُذَكِّرُ بِأَنَّ الْعَفْوَ يُقَرِّبُ إِلَيْكَ الْبَعِيدَ، وَيُصَيِّرُ الْعَدُوَّ صَدِيقًا وَإِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ فَيُوشِكُ أَنْ تَقْتَرِفَ ذَنْبًا فَيُعْفَى عَنْكَ، إِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْفَضْلَ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصْبحُوا لَا يتنازلون عَنِ الْحَقِّ.
الدَّوَاءُ الثَّانِي أُخْرَوِيٌّ رُوحَانِيٌّ: وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ مُعِينَةً عَلَى التَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، حَثَّ اللَّهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَمَّا طَالَ تَعَاقُبُ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ تَشْرِيعَاتٍ تَغْلُبُ فِيهَا الْحُظُوظُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُكَلَّفِينَ، عُقِبَّتْ تِلْكَ التَّشْرِيعَاتُ بِتَشْرِيعٍ تَغْلِبُ فِيهِ الْحُظُوظُ الْأُخْرَوِيَّةُ، لِكَيْ لَا يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِدِرَاسَةِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ التَّشْرِيعِ عَنْ دِرَاسَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «أُمِرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي تَضَاعِيفِ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ، لِئَلَّا يُلْهِيَهُمُ الِاشْتِغَالُ بِشَأْنِهِمْ عَنْهَا».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «لَمَّا ذَكَرَ حُقُوقَ النَّاسِ دَلَّهُمْ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ» وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِي الْعِنَايَةِ بِالصَّلَوَاتِ أَدَاءَ حَقِّ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَجَّهَ إِلَيْنَا مِنْ عِنَايَتِهِ بِأُمُورِنَا الَّتِي بِهَا قِوَامُ نِظَامِنَا وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٣٩] أَيْ مِنْ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَاتِ النِّظَامِيَّةِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ جُمْلَةُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ مُعْتَرِضَةً وَمَوْقِعُهَا وَمَعْنَاهَا مِثْلُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ٤٥] بَيْنَ جُمْلَةِ يَا
بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
[الْبَقَرَة: ٤٠]. وَبَيْنَ جُمْلَةِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: ١٢٢] وَكَمَوْقِعِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة:
١٥٣] بَيْنَ جُمْلَةِ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [الْبَقَرَة: ١٥٠] الْآيَةَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [الْبَقَرَة: ١٥٤] الْآيَةَ.
وحافِظُوا صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ اسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَوْقَاتِهَا مِنْ أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْهَا وَالْمُحَافَظَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا حَقٌّ عَظِيمٌ يُخْشَى التَّفْرِيطُ فِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَايَةِ إِفَادَةُ أَنَّ جَمِيعَ أَحْيَانِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَعْمُورَةٌ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالسَّلَامَةِ، فَالْغَايَةُ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِ لَيْلَةِ [الْقدر: ١] لِأَنَّ اللَّيْلَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَمَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
، أَيْ مَنْ قَامَ بَعْضَهَا، فَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا. يُرِيدُ شَهِدَهَا فِي جَمَاعَةٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ شَهِدَ، فَإِنَّ شُهُودَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ حَتَّى لِإِدْخَالِ الْغَايَةِ لِبَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَمْتَدُّ بَعْدَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ بِحَيْثُ
إِنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُعْتَبَرُ وَاقِعَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نِهَايَتَهَا كَنِهَايَةِ الْفِطْرِ بِآخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَهَذَا تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي امْتِدَادِ اللَّيْلَةِ إِلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ غَايَةِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، أَنَّ تِلْكَ غَايَةُ اللَّيْلَةِ وَغَايَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التَّابِعَةِ لِكَوْنِهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَغَايَةُ السَّلَامِ فِيهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَطْلَعِ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ طُلُوعُ الْفَجْرِ، أَيْ ظُهُورُهُ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى زَمَانِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.


الصفحة التالية
Icon