وَمِنْهَا:
وَقَدْ رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعُتَقِيِّ | فِيمَا اخْتَصَرْتُ كَلَامًا أَوْضَحَ السُّبُلَا |
مَا إِنْ تُرَدُّ شَهَادَةٌ لِتَارِكِهَا | إِنْ كَانَ بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى قَدِ احْتَفَلَا |
نَعَمْ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَعْلَيْنَ مَنْزِلَةً | مِنْ جَانِبِ الْجُمَعِ وَالْجُمُعَاتِ وَاعْتَزَلَا |
كَمَالِكٍ غَيْرَ مُبْدٍ فِيهِ مَعْذِرَةً | إِلَى الْمَمَاتِ وَلَمْ يُسْأَلْ وَمَا عُذِلَا |
هَذَا وَإِنَّ الَّذِي أَبْدَاهُ مُتَّجِهًا | أَخْذُ الْأَئِمَّةِ أَجْرًا مَنْعَهُ نَقَلَا |
وَهَبْكَ أَنَّكَ رَاءٍ حِلَّهُ نَظَرًا | فَمَا اجْتِهَادُكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ وَلَا |
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِير فِي الأولى بِارْهَبُونِ وَفِي الثَّانِي بِاتَّقُونِ لِأَنَّ الرَّهْبَةَ مُقَدِّمَةٌ التَّقْوَى إِذِ التَّقْوَى رَهْبَةٌ مُعْتَبَرٌ فِيهَا الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ بِخِلَافِ مُطْلَقِ الرَّهْبَةِ فَإِنَّهَا اعْتِقَادٌ وَانْفِعَالٌ دُونَ عَمَلٍ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَأْمُرُهُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَنَاسَبَهَا أَنْ يُخَوَّفُوا مَنْ نَكْثِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ
بِالْقُرْآنِ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْهُ بَقِيَّةُ دَهْمَائِهِمْ فَنَاسَبَهَا الْأَمْرُ بِأَنْ لَا يَتَّقُوا إِلَّا اللَّهَ. وَلِلتَّقْوَى مَعْنًى شَرْعِيٌّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أَخَصُّ لَا مَحَالَةَ مِنَ الرَّهْبَةِ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ هُنَا.
وَالْقَوْلُ فِي حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى قُصِدَ إِخْفَاؤُهَا لِيُحَافِظَ النَّاسُ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهَا بِاللَّامِ وَوَصَفَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْمُعَرَّفَيْنِ غَيْرَ مَفْهُومٍ وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى سَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَدْ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الْإِبْهَامِ وَصَحَّتِ الْآثَارُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا يُعْرَضُ هُنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أَمْرٌ بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِخُضُوعٍ، فَالْقِيَامُ الْوُقُوفُ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُتْرَكُ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَأَمَّا الْقُنُوتُ: فَهُوَ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ قَالَ تَعَالَى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيم: ١٢] وَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [النَّحْل: ١٢٠] وَسُمِّيَ بِهِ الدُّعَاءُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي يُدْعَى بِهِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ،
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ الرَّجُلَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. فَلَيْسَ قانِتِينَ هُنَا بِمَعْنَى قَارِئِينَ دُعَاءَ الْقُنُوتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إِنَّمَا سُمِّيَ قُنُوتًا اسْتِرْوَاحًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْوُسْطَى بِصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا
فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «دَعَا النَّبِيءُ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ شَهْرًا وَذَلِكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ وَمَا كُنَّا نقنت».
[٢٣٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَة: ٢٣٨] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ لَا تَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهَا عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لِلَّهِ قَانِتِينَ، فَأَفَادَ
هَذَا التَّفْرِيعُ غَرَضَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِصَرِيحِ لَفْظِهِ، وَالْآخَرُ بِلَازِمِ مَعْنَاهُ.
وَالْخَوْفُ هُنَا خَوْفُ الْعَدُوِّ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَرْبَ بِأَسْمَاءِ الْخَوْفِ فَيَقُولُونَ الرَّوْعُ وَيَقُولُونَ الْفَزَعُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَتَحْمِلُنَا غَدَاةَ الرَّوْعِ جُرْدُ الْبَيْتِ.
مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْصِيلًا يُنْتَزَعُ مَنْ لَفْظِهَا وَنَظْمِهَا، فَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ الْبَسِيطِ» لَهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْفَخْرُ: «ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا.
وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنهم منفكون عماذا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ إِذِ الْمُرَادُ
هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ اللَّذَيْنِ كَانُوا عَلَيْهِمَا فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ حَصَلَ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ» اهـ كَلَامُ الْفَخْرِ.
يُرِيدُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْبَيِّنَةُ وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ مُنْفَكِّينَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ صِلَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنَّ حَرْفُ الْغَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ هِيَ نِهَايَةُ انْعِدَامِ انْفِكَاكِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَعِنْدَ إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ يَكُونُونَ مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] فَإِنَّ تَفَرُّقَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى تَفَرُّقِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ازْدِيَادٌ فِي الْكُفْرِ إِذْ بِهِ تَكْثُرُ شُبَهُ الضَّلَالِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي دِينِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي أَصْلِ الْكُفْرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَيِّنَة: ٤] إِلَخْ كَلَامًا مُتَّصِلًا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَلَنَا فِي ذَلِكَ كَلَامٌ سَيَأْتِي.
وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَخْرُ مِنْ وَجْهِ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَا، وَأَنَّ نَصْبَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ حَتَّى يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ بَعْدَ حَتَّى فَيَقْتَضِي أَنَّ إِتْيَانَ الْبَيِّنَةِ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ فُسِّرَتْ بِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَإِتْيَانُ الرَّسُولِ وَقَعَ قَبْلَ